فنون الفيلم السينمائي والمسرح وكتابة القصة والكاريكاتير
فنون الفيلم السينمائي
وفن المسرح وتاريخه
وفن كتابة القصة + مجموعة قصص قصيرة للطاهر مكي وفن رسم الكاريكاتير 




"=استخدام مفردات علم الفراسة وتعزيز الملامح للتدليل على وجهة نظر الرسام بشكل كوميدي لنقد السلوك او الميكانزمات الخاصة بتلك الرسوم وهو نظير للهجاء في الشعر ولكن بطريقة تعبيرية أخرى" ====اما كقطاع فهو من باب البدع "اجتهاد ووسيلة تعليمية" فإن كانت لترويض وتأهيل المجتمع لحل مشاكل وقضايا فهنا يصبح من الأمور الترفيهية وان أستخدم بغرض تربوي فهو من الأمور التحسينية وإن كشف عوار الفساد وكيفية درءها فهو أداء لشهادة وتقديم النصيحة وإن قدم حلول وجلب مصالح ونفع للناس فهو أصبح من الأمور الحاجية وتعد بدعة واجبة كسائر العلوم الآلية والمتون الآلية









الفيلم السينمائي
الفيلم السينمائي
المقدمة
المبحث الأول: نشأة السينما وتطورها في العالم
المبحث الثاني: نشأة السينما العربية وتطورها
المبحث الثالث: الفيلم السينمائي أنواعه، وأهميته، وخصائصه
المبحث الرابع: اقتصاديات الفيلم السينمائي وعناصره
المصطلحات الفنية
الملاحق
الصور
المراجع والمصادر
…المقدمة
السينما، فن طلع على العالم من أوروبا، واجتاز مرحلة تطورية طويلة، اشتركت فيها القارة الأمريكية، أو بعبارة أدق الولايات المتحدة الأمريكية مع بعض دول أوروبية، في مقدمتها فرنسا وإنجلترا.
والفيلم Film، مصطلح شامل يطلق على أي صفحة، أو شريحة من مادة بلاستيكية شفافة مثل خلات، أو نترات السليولوز مطلية بمستحلب حسَّاس للضوء، يستعمل لعمل سلبيات أو شفافيات في التصوير الفوتوغرافي أو الضوئي، كما أنه يعني كذلك، فيلم سينمائي - تليفزيوني، يُصوَّر أو يخرج سينمائيًا، طبقة رقيقة جدًا، شريط يحمل طبقة رقيقة جدًا أقل من ميكرون Micron، من مادة ممغنطة، والميكرون هو جزء من مليون من المتر.
كما يعني مصطلح فيلم أيضًا الفيلم الخام، والفيلم الخام صورة وصوت عبارة عن شريط مثقوب الجانب، كان يصنع قديمًا من نترات السليولوز، وهي مادة قابلة للاشتعال، ثم أصبح اليوم يصنع من خلات السليولوز، وهي مادة غير قابلة للاشتعال، ويغطى بعجينة فوتوغرافية أي من مادة شديدة الحساسية، تتأثر بالضوء إذا تعرضت له، ومقاسات الأفلام هي 8 مللم، 16 مللم، 35 مللم، 70 مللم.
والفيلم السينمائي Motion Pictures، وسيلة من وسائل التعبير الفني، تقوم على تسجيل الصور المتحركة على شريط حساس، وإعادة عرضها خلال أجهزة ومعدات خاصة، والواقع أن كل صورة على حدة، هي صورة ثابتة لا تتحرك، وتتابع الصور واستمرار عرضها هو الذي يوهم المشاهد بالحركة.
ويلاحظ أن لفظ الفيلم بشكل عام، يطلق على الفيلم السينمائي قبل التقاط الصورة وبعدها، وقبل تحميضه وبعده، وبعد طبعه وإعداده للعرض.
يُعِّرف المخرج السينمائي المصري الراحل، صلاح أبو سيف الفيلم بأنه: قصة تُحكى على جمهور في سلسلة من الصور المتحركة. ويمكن تمييز ثلاثة عناصر في هذا التعريف:
1. القصة: وهي ما يُحكَى.
2. الجمهور: وهو من تُحكَى له القصة.
3. سلسلة من الصور المتحركة: وهى الوسيلة التي تنقل بها القصة إلى الجمهور.
ورغم إطلاق وصف الفن السابع على السينما في العشرينيات من القرن العشرين، إلا أن السينما نفسها، لم تحظ بالاحترام، والاعتراف بها كشكل فني إلا بعد فترة طويلة، وبعد أن استقرت أصولها وقواعدها نتيجة لمساهمات عديدة من فنانين ونقاد حاولوا وضع الأسس النظرية لفن الفيلم.
والسينما مصطلح واسع شديد العمومية، وهو يضم تحت عباءته كل ما به علاقة بفن الفيلم من تاريخ، واتجاهات، ونظريات، وحرفيات، ونقد، ويضم كذلك أنواعها الروائية، والتسجيلية، وأفلام- تحريك الرسوم المتحركة-وغير ذلك مما يتعلق بهذا الفن الجميل.
والسينما تجارة مربحة، وهي زاد ثقافي، وترفيهي، لجماهير عريضة على مستوى العالم كله. وهي بحكم كونها فنًا سمعيًا وبصريًا تصل إلى كافة المستويات، الثقافية والاجتماعية، ولذا فهي أداة هامة من أدوات التغيير الاجتماعي، وتنمية الوعي الثقافي، أو العكس، فيمكن استخدامها كسلاح مدمّر، وأداة طيِّعة من أدوات الإعلام غير الصادق، وتصبح قوة خطيرة ومضللة تعمل على غرس مشاعر ومعايير سلوكية تحارب الجهود الرامية إلى التخلص من النواقص الاجتماعية، وإرساء الخلق الاجتماعي الصحيح.
والواقع أن رواد دور العرض السينمائي لا يفكرون كثيراً في الآلات والتجهيزات المستخدمة، بل إن الكثير ممن يشاهدون الأفلام السينمائية، ويرون الأشخاص يتحركون، والأشياء تحدث كما هي في الحياة العادية، لا يعرفون أن هذه الصور، وهذه الأحداث، والأشياء إنما هي صور ثابتة مصورة على فيلم ملفوف حول بكرة.
ولكي نحصل على فيلم سينمائي لا بد من توافر المعدات الأساسية التالية وهي:
1. آلة لالتقاط الصور، وهي كاميرا التصوير، أو آلة التصوير السينمائي.
2. فيلم دعامته مرنة، ومحسس للضوء لالتقاط الصور عليه.
3. آلة لعرض هذا الفيلم، أو الشريط.
المبحث الأول
نشأة السينما وتطورها في العالم
يرجع البعض بدايات السينما، أو بتعبير أدق ما قبل البدايات إلى ما دوَّنه الفنان والمهندس والعالم الإيطالي، ليوناردو دافنشي Leonardo da vinci من ملاحظات ذكرها جيوفاني باتستا دي لابورتا، في كتابه السحر الطبيعي Natural Magic عام 1558، فقد لاحظ دافنشي أن الإنسان إذا جلس في حجرة تامة الظلام، بينما تكون الشمس ساطعة خارجها، وكان في أحد جوانبها ثقب صغير جدًا في حجم رأس الدبوس، فإن الجالس في الحجرة المظلمة، يمكنه أن يرى على الحائط الذي في مواجهة هذا الثقب الصغير ظلالاً أو خيالات لما هو خارج الحجرة، مثل الأشجار، أو العربات، أو الإنسان الذي يعبر الطريق، نتيجة شعاع من الضوء ينفذ من الثقب الصغير.
أما البداية الحقيقية لميلاد صناعة السينما، فتعود إلى حوالي عام 1895 م، نتيجة للجمع بين ثلاثة مخترعات سابقة هي اللعبة البصرية، والفانوس السحري، والتصوير الفوتوغرافي، فقد سجل الأخوان أوجست ولويس لوميير Auguste & Louis Lumiere اختراعهما لأول جهاز يُمكِّن من عرض الصور المتحركة على الشاشة في 13 فبراير 1895 في فرنسا، على أنه لم يتهيأ لهما إجراء أول عرض عام إلا في 28 ديسمبر من نفس العام، فقد شاهد الجمهور أول عرض سينماتوغرافي في قبو الجراند كافيه Grand Café، الواقع في شارع الكابوسين Capucines بمدينة باريس. لذلك فالعديد من المؤرخين يعتبرون لويس لوميير المخترع الحقيقي للسينما، فقد استطاع أن يصنع أول جهاز لالتقاط وعرض الصور السينمائية، ومن هذا التاريخ أصبحت السينما واقعاً ملموساً. وقد شاهدت نيويورك في أبريل 1895، عرضاً عاماً للصور المتحركة. ثم ما لبث آرمان وجينكينز، أن تمكنا من اختراع جهاز أفضل للعرض، استخدماه في تقديم أول عرض لهما في سبتمبر من السنة نفسها- الأمر الذي حدا بتوماس إديسون Thomas Edison لدعوتهما للانضمام إلى الشركة التي كان قد أسسها لاستغلال الكينيتوسكوب Kinetoscope. وفي العام التالي تمكن إديسون من صنع جهاز للعرض يجمع بين مزايا الجهازين، وأقام أول عرض عام له في أبريل 1896 فلقي نجاحاً كبيراً.
ويقسم الناقد والمؤرخ السينمائي الأمريكي فيليب كونجليتون، المراحل التي مرَّ بها تطور الفيلم السينمائي من منظور التأثر بنمو السوق إلي العصور التالية:
1. عصر الريادة: 1895 - 1910:
في هذا العصر بدأت صناعة الفيلم، الكاميرا الأولى، الممثل الأول، المخرجون الأول كانت التقنية جديدة تماماً، ولم تكن هناك أصوات على الإطلاق، ومعظم الأفلام كانت وثائقية، خبرية، وتسجيلات لبعض المسرحيات، وأول دراما روائية كانت مدتها حوالي خمسة دقائق، وبدأت تصبح مألوفة حوالي عام 1905 مع بداية رواية الفنان الفرنسي جورج ميلييه Georges Melies، رحلة إلى القمر A Trip to the Moon عام 1902، (اُنظر صورة من فيلم رحلة إلى القمر)، وكانت الأسماء الكبيرة في ذلك الوقت هي إديسون، لوميير، وميلييه بأفلامه المليئة بالخدع. وعند مشاهدة هذه الأفلام يؤخذ في الاعتبار أنها كانت تشكل المحاولات الأولى، وأن السينما كانت وما تزال أداة اتصال جديدة، فلا يجب أن يُنظر إليها على أنها تافهة، ربما تكون حقاً بدائية، ولكن يجب إدراك أن الطاقة والعمل الذي بذل لإنتاج هذه الأفلام كان مبهراً، وأن أخذ المنتجين على عاتقهم مهمة إنتاج هذه الأفلام كان أمراً متميزاً.
2. عصر الأفلام الصامتة: 1911 - 1926:
ويتميز هذا العصر عن سابقه بكثرة التجريب في عملية مونتاج الأفلام، فلم تكن هذه المرحلة صامتة بالكامل، فقد كانت هناك استخدامات لطرق ومؤثرات صوتية خاصة، بينما لم يكن هناك حوار على الإطلاق حتى المرحلة التالية، فاختلف الشكل، واختفت التسجيلات المسرحية لتحل محلها الدراما الروائية، ويعد هذا أيضاً بداية لمرحلة الأفلام الشاعرية ذات الطابع التاريخي الأسماء الشهيرة في هذه المرحلة ضمت شارلي شابلن Charles Chaplin، ديفيد جريفيث David Griffith وغيرهم. وتكلفَّت أفلام هذه المرحلة أموالاً أكثر، وبدأت مسألة نوعية وجودة الفيلم تثير جدلاً، كما صنعت أنواع مختلفة من الأفلام في هذه المرحلة.
3. عصر ما قبل الحرب العالمية الثانية: 1927 - 1940:
يتميز هذا العصر بأنه عصر الكلام أو الصوت، ولكن فيليب كونجليتون يرى، أن هذا التصنيف غير دقيق، فذلك يعني أن هناك مرحلتين في تاريخ الفيلم: الصمت والكلام.
ويبدأ هذه العصر بإنتاج أول فيلم ناطق بعنوان "مغني الجاز" عام 1927، بالإضافة إلي أفلام ناطقة أخرى متنوعة أنتجت في هذه المرحلة، كما شهدت أفلام الثلاثينيات استخداماً أكثر للألوان، وبدأت الرسوم المتحركة، وفي هذه المرحلة أيضاً ظهرت العروض النهارية للأفلام، وبدأت تتنامى في المسارح مع موجة الكوميديا، وبروز نجوم لفن السينما انتشرت أسماؤهم في ذلك الحين.
وقد ضمَّت أسماء هذه المرحلة أسماء مثل كلارك جابل Clark Gable، فرانك كابرا Frank Capra، جون فورد John Ford، والممثلان اللذان استمرا إلى المرحلة الناطقة بعد ذلك، وهما ستان لوريل Stan Laurel، وأوليفر هاردي Oliver Hardy. وفي هذه المرحلة أيضاً بدأت نوعية الفيلم تزداد أهميتها مع ظهور جوائز الأوسكار، وحب الجمهور للسينما. من هنا أصبح يُنظر للفيلم في هذه المرحلة كمراهق بدأ ينضج، ويمكن التمييز بين الأفلام التي كلّفت أموالاً كثيرة عن الأفلام التي لم تكلِّف كثيراً، وبالرغم من أن التقنية المستخدمة في صناعة الفيلم كانت ما تزال بدائية، لكنها بهرت العديد من رواد السينما.
4. العصر الذهبي للفيلم: 1941 - 1954:
أحدثت الحرب العالمية الثانية كل أنواع التغيرات في صناعة الفيلم، فخلال وبعد الحرب ازدهرت الكوميديا بشكل ملحوظ، وتربَّعت الأفلام الموسيقية على عرش السينما، كما انتشرت أفلام الرعب، ولكن باستخدام ضئيل للمؤثرات الخاصة بسبب ارتفاع تكاليف الإنتاج، فقد صنعت نفقات الإنتاج فرقاً ملحوظاً بين الميزانيات الكبيرة والصغيرة للأفلام، ولجأت استوديوهات السينما لاستخدام ميزانيات صغيرة لإنتاج أفلام غير مكلِّفة للعامة، وذلك لجذب الجماهير. لذلك ظهرت الأفلام الجماهيرية في هذه المرحلة والتي يمكن تصنيفها إلى أفلام استخبارات، أفلام غابات، والأفلام الاستغلالية. أما أفلام الخيال العلمي فقد ظهرت حوالي عام 1950. والأسماء الكبيرة القليلة التي ظهرت في هذه المرحلة هي كاري جرانت Cary Grant، همفري بوجارت Humphrey Bogart، أودري هيبورن Audrey Hepburn، هنرى فوندا Henry Fonda، فريد أستير Fred Astaire.
5. العصر الانتقالي للفيلم: 1955 - 1966:
يُسمي فيليب كونجليتون هذه المرحلة بالعصر الانتقالي، لأنه يمثل الوقت الذي بدأ فيه الفيلم ينضج بشكل حقيقي، فقد ظهرت في هذا العصر التجهيزات الفنية المتطورة للفيلم من موسيقى، وديكور، وغير ذلك. وفي هذا العصر بدأت الأفلام من الدول المختلفة تدخل إلى الولايات المتحدة الأمريكية من خلال حوائط هوليوود السينمائية، وبدأت الأفلام الجماهيرية تستبدل بأفلام رخيصة، كما بدأت الاستوديوهات الكبيرة تفقد الكثير من قوتها في مجال التوزيع. كما ظهر لصناعة الفيلم عدو جديد يسمى التليفزيون، مما أبرز المنافسة حول نوعية المنتج وجودته. وبدأت السينما تقتحم موضوعات اجتماعية أكثر نضجاً، وانتشرت الأفلام الملوَّنة لتصبح الأغلبية بجوار الأبيض والأسود، وضمت الأسماء الكبيرة في سينما هذه المرحلة ألفريد هتشكوك Alfred Hitchcock، مارلين مونرو Marilyn Monro، وإليزابيث تايلور Elizabeth Taylor.…
وبدأت الحرب الباردة لتغير وجه هوليوود، وظهرت المؤثرات الخاصة، وبرزت الفنون الأخرى المصاحبة كالديكور والاستعراضات.
6. العصر الفضي للفيلم: 1967 - 1979
يرى بعض المؤرخين أن هذه الفترة بالفعل، هي مرحلة الفيلم الحديث، وكانت مرحلة جديدة وقتها ويبدأ العصر الفضي للسينما بإنتاج فيلميَ الخريج و بوني وكلايد عام 1967.
وقد ظهرت عدة أفلام خالية من الصور المتحركة. وكان من جراء انتشار هذه النوعية من الأفلام الناضجة، الخارجة عن الأخلاق العامة، أن ظهرت أنظمة جديدة للرقابة وتكوَّنت الأسماء الشهيرة التي حكمت هذا العصر أمثال فرانسيس كوبول Francis Coppola، وداستن هوفمان Dustin Hoffman، ومارلون براندو Marlon Brando. انخفضت نسبة أفلام الأبيض والأسود إلى 3% من الأفلام المنتجة في هذه الفترة. فأصبحت هوليوود تعرف حقاً كيف تصنع أفلاماً، وأصبح هناك فارقٌ كبيرٌ بين الميزانيات الكبيرة والضئيلة للأفلام، كما يمكن أيضاً مقارنة الجوانب الأخرى الغير مادية للفيلم، لذا لا يجب أن ينظر للأفلام ذات الميزانية الضئيلة على أنها رديئة.
7. العصر الحديث للفيلم: 1980 - 1995
بدأ هذا العصر عام 1977، عندما أنتج فيلم "حروب النجوم" Star Wars، الذي ُيعد أول إسهام للكمبيوتر والتقنية الحديثة في تصميم المؤثرات الخاصة. لكن فيليب كونجليتون يبدأ هذا العصر عام 1980، لأنه يعتبر أن فيلم "الإمبراطورية تقاوم" نقطة البداية. ففي هذه المرحلة بدأ انتشار الكمبيوتر والفيديو المنزلي، التليفزيون السلكي. واعتمدت هذه المرحلة اعتماداً كبيراً على الميزانية الضخمة بدلاً من النص والتمثيل، ولكنها احتفظت بالقدرة على إنتاج نوعية جيدة من أفلام التسلية الممتعة.
ظهور الرقابة على الفيلم السينمائي
السينما فن جماهيري لا يمكن قصره على الخاصة، أو على عدد قليل من الناس، ومشاهدوها ينتمون إلى كل الفئات، وجمهورها لا يمكن انتخابه إلا بالنسبة لبعض الأفلام الخاصة قليلة العدد. وجمهور المشاهدين يمثل جميع المستويات الثقافية، والشخصية، والطبقية مختلطة بعضها ببعض. فنرى المصاب بالأعصاب جالساً إلى جانب الإنسان الصحيح، والطفل إلى جانب الشيخ المسن. ولكن من الملاحظ أن أغلب جمهور السينما من الشبان، تأكيداً للرأي المسبق الذي يؤكد أن السينما هي قبل كل شئ وسيلة لتسلية الشباب. وغني عن البيان أن هذا الجمهور الشبابي، يكون أكثر تأثراً بالسينما، فهي قادرة على أن تفرض على عشاقها نمطاً من الحياة. ولغة السينما سلاح ذو حدين، لأنها قادرة على التعبير عن كل شئ: الطيِّب والسيّء. فهناك أفلام مقويّة، ومنشطة، ومثقفة، ونافعة، كما توجد أفلام مؤذية، ومفسدة، ومحزنة، وهناك أفلام تحث على العنف وعلى الكراهية، وعلى التأثر، وعلى الإباحية، وعلى كل رذيلة أو على الأقل، تعرض كل هذه الموبقات على أنها من طبيعة الإنسان الذي لا يستطيع التخلص منها.
وبسبب ذلك التأثير الوجداني العاطفي الذي تملكه السينما كوسيلة اتصال، وإعلام، وإعلان، وتثقيف، وأيضاً إمتاع، وتعليم، وتوجيه، ودعاية، ظهر جهاز يتتبعها قبل، وأثناء، وبعد إنتاج مادتها الفنية على الشريط السينمائي عرف بالرقابة السينمائية.
وكان أول ظهور لجهاز الرقابة في روسيا القيصرية عام 1908، ثم السويد عام 1911، وبريطانيا عام 1912، وفرنسا عام 1916، ومن المعروف أن لكل نظام سياسي مفاهيمه ومحاذيره الرقابية التي تمنح، وتسمح بما يتواءم مع معاييره الدينية، والسياسية، والأخلاقية، وأيضاً الآداب والعرف العام.
وفي الولايات المتحدة الأمريكية، ظهر أول تشريع للرقابة على الأفلام السينمائية في 1915. واعتبرت المحكمة الدستورية العليا، أن أفلام هذه الفترة عبارة عن عمل بسيط ونقي، واقتصرت رخصة الأفلام السينمائية على حقوق الإنتاج، والعرض، والتوزيع مثل الترخيص لمحلات الخمور والمأكولات.
وعلى الرغم من أهمية الدور الذي تقوم به الرقابة، إلا أنه مازال لها مؤيدين ومعارضين، فالبعض يقول إن وظيفتها سلبية، وإنه من الأفضل تشجيع الإنتاج الجيِّد، ويؤكد معارضو الرقابة على أنها تحد من حرية التعبير، ويذهب البعض الآخر إلى القول، بأن منع الطفل الذي يصحبه والده من دخول السينما، يعني تجريد الآباء من مسؤولياتهم الطبيعية، واتهامهم بأنهم يهملون في تربية أولادهم بتركهم يشاهدون أي فيلم، بيد أن هذه الحجج واهية، ولا يمكن أن تقنع هؤلاء الذين يسهرون على الأخلاق والآداب العامة دون تزمت. إن عدداً كبيراً من الآباء ليسوا على مستوى المسؤولية، ولا يهتمون بتربية أولادهم، فلمن نترك هؤلاء الأولاد؟ أليست الدولة، في هذه الحالة، مسؤولة عنهم؟.
ويحمل العديد من النقاد على الرقابة السينمائية ولجانها، ويطالب البعض بإلغاء الرقابة السينمائية، كما حدث في فرنسا في أواخر الستينيات، عندما أجرت استفتاء بين شخصيات من السينما، والصحافة، والفن، والأدب حول الرقابة، وكادت الآراء تجمع على ضرورة إلغائها.
وفي المقابل لا بد من تربية الجمهور، فالسينما ليست فن السهولة، كما يتصور أغلب الناس، زد على ذلك أن ثمة تعارض بين الفن والسهولة، غير أن الجمهور في مجموعه ينتظر من السينما أن تسليه، وأن تنسيه همومه، ولو لبعض الوقت، فضلاً عن أن الميل إلى السهولة شئ لا يمكن مقاومته عند الجمهور، ولكن ربما كان هذا الميل مجرد عادة، فالسينما كأي فن آخر، في حاجة إلى من يشرحها ويعلّمها، لكي يفهم جمهورها ما تريد أن تعطيه، ولكي يحصل من مشاهدتها على أكبر قدر من السعادة الروحية والعقلية. وهذا لا يتأتى إلا بفهم الناس لغتها، وطرقها، وإمكاناتها، ورسالتها في عالمنا هذا. ويذهب البعض إلى المطالبة بتعليم السينما في المدارس، وعلى أربع مراحل، حسب سن التلاميذ، وهكذا يُعد لهذا الفن السابع الإعداد الكافي ليفهموا السينما على حقيقتها من أجل خير الجميع، المنتجون والمشاهدون.
التكنولوجيا الحديثة والفيلم السينمائي
تقدَّم الفيلم السينمائي خطوة خطوة، من الرسوم، إلى الصور الفوتوغرافية، إلى الصور المطروحة على شاشة، إلى الصوت، إلى اللون، إلى الشاشة العريضة، إلى شاشة الأبعاد الثلاثة، بل ما تزال التجارب العلمية جارية لإضافة حاسة الشم للتجربة الفيلمية بإطلاق عطور أثناءها.
وشهد العقدين العقدان الأخيران تصاعداً في العلاقة بين صناعة السينما، وبين أحدث وسائط المعلومات والاتصال، وهي شبكة الإنترنت. بدأت العلاقة بين السينما والإنترنت، بشكل تقليدي حيث استغلت السينما الشبكة الوليدة كوسيلة للنشر العلمي والتقني عام 1982، وتصاعدت العلاقة حتى أصبحت الإنترنت وسيلة لنشر، أو لعرض الأفلام السينمائية، إضافة إلى تسويقها أو الدعاية لها. ففي عام 1982 نشر الناقد الأمريكي إليوت ستاس المقال النقدي الأول على الإنترنت حول فيلم "غاندي"، Gandhi عبر شبكة Compuserve. وفي عام 1990 أطلق كول نيدهام قاعدة بيانات السينما على الإنترنت Internet Movie Database التي أصبحت مصدراً مهماً حول السينما، ولم تكن النسخة الأولى موقعاً حقيقياً بل مجرد برنامج يتيح لمستخدمي الإنترنت البحث عن المقالات المنشورة على منتدى rec.arte.com.
وشهد عام 1992، انطلاق أول حملة تستعمل الإنترنت للدعاية لفيلم سينمائي هو Les experts، وكذلك إطلاق أول موقع خاص بالأفلام السينمائية من خلال فيلمي talrek و Stargate.
وفي عام 1995، بدأ العرض التجاري للفيلم الأمريكي The Net، وهو أول فيلم من هوليوود يتخذ الإنترنت موضوعاً رئيسياً لأحداثه. وفي عام 1996، أُطلق موقع سيني - فبل، وهو أول موقع يوضح مواقيت عمل صالات العرض السينمائي في كل من فرنسا، وسويسرا، وبلجيكا. وفي العام نفسه أُطلق موقع Aint cool news الخاص بالأخبار، والشائعات، والمقالات النقدية للأفلام قبل خروجها للقاعات.
وفي عام 1997 وبمناسبة بداية تسويق برنامج المعلومات ريال- فيديو في فبراير، أُعلن عن موقع تصاحبه ثلاثة أشرطة قصيرة من توقيع سيابك لي. وشهد عام 1998 بث الوصلات الإعلانية لفيلم حروب النجوم. كما عُرض عام 1997، فيلم تيتانيك Titanic (انظر صورة من فيلم تيتانيك) في صالات العرض السينمائي بعد أن تكلّف إنتاجه أكبر ميزانية في تاريخ السينما في العالم، تراوحت من 250 إلى 300 مليون دولار إنتاجاً وتوزيعاً.
وفي عام 1998، أنتج فيلم "وصلتك رسالة" You've Got Mail، بطولة ميج رايان Meg Ryan وتوم هانكس Tom Hanks في شهر ديسمبر، حيث يقع البطلان في الحب بفضل البريد الإلكتروني لشركة أمريكا أون لاين AOL.
وقد أضاف الكمبيوتر إمكانات مذهلة في عملية الإنتاج السينمائي أتاحت لصانعي الأفلام إضافة كائنات غير موجودة في الطبيعة، لتلعب أدواراً مهمة في الأحداث تشارك الممثلين الحقيقيين، وتمثل معهم، وقد تحدث بينهم مطاردات واشتباكات، كما جعل الممثلين الحقيقيين يأتون بأعمال خارقة ومثيرة لم تحدث، ولا يمكن أن تحدث. ومن خلال أحد تطبيقات الكمبيوتر أيضاً، أتيحت الفرصة للمستخدم، أن يشاهد ما يود مشاهدته من أفلام، من خلال قائمة موجودة لديه، فما عليه إلا أن يطلب ذلك من جهاز الكمبيوتر، فيبادر بتلبية رغبته، ويظهر الفيلم المطلوب على شاشة الجهاز.
ولعل السينما الإلكترونية، مجرد خطوة على طريق التزاوج بين تقنيات السينما والتقنيات الإلكترونية.
آفاق الثورة الجديدة في تكنولوجيا السينما:
ساهمت الثورة التقنية الإلكترونية في مجال صناعة السينما، في مواجهة مشكلة ارتفاع تكاليف الإنتاج، حيث وصلت الميزانية المتوسطة لإنتاج فيلم في الولايات المتحدة، إلى حوالي 60 مليون دولار، وفقا لتقديرات أواخر التسعينيات؛ وذلك من خلال ظهور موجة من المخرجين الجدد، يعتمدون بشكل أساسي في إنجاز الأفلام، على تقنية كاميرات الفيديو الرقمية، التي توفر الكثير من نفقات الإنتاج.
ولم يتوقف تأثير هذا الاتجاه الجديد على المخرجين الشباب؛ بل بدأ بعض المخضرمين في هوليود، في إدراك ملامح المستقبل القادم.
وهناك عامل آخر يفرض نفسه؛ هو سهولة التوزيع حيث تتيح هذه التكنولوجيا، عرض الأفلام على شبكة الإنترنت دون القتال من أجل عرض الأفلام الصغيرة في عدة دور سينمائية محدودة.
وتقدم العديد من الشركات خدمات التوزيع عبر الإنترنت لمنتجي الأفلام، ومع استمرار الجهود نحو زيادة كفاءة وسرعة نقل البيانات عبر الشبكة، فإن النتائج في المستقبل يتوقع أن تكون مذهلة.
أشهر عشر خدع في تاريخ السينما العالمية:
قبل التطور المذهل الذي حققته السينما من خلال توظيفها الحاسبات الآلية، خلال السنوات الماضية، عرفت السينما العالمية العديد من أساليب الخدع البصرية، واستخدمتها في أفلام كثيرة أبهرت الملايين من مشاهدي السينما.
وحدد النقاد أبرز هذه الأفلام في عشرة أفلام هي:
* رحلة إلى القمر، 1902.
* فاوست، 1926.
* كينج كونج، 1933.
* لص بغداد، 1940.
* متروبولس، 1926.
* 20 ألف فرسخ تحت الماء، 1954.
* رحلة السندباد السابعة، 1958.
* أوديسا الفضاء 2001، 1968.
* حرب الكواكب، 1977.
* المدمر 2، 1991.
معالم في طريق تطور السينما:
1. جورج ميلييه:
ظلت الأفلام في سنوات عمرها الأولى لا تتعدى مجرد التسجيل الإخباري للأحداث الواقعية، ولم تكن هناك استديوهات. وكانت الأفلام تلتقط في الشوارع، والحدائق، والشواطئ، والمصانع. وكان إعداد الفيلم كله متروكاً لقدرة المصوِّر الذي كان يقوم بمهام المخرج، والمصور، والمدير الفني، وخبير التحميض، والطبع. وكان المصورون السينمائيون في ذلك الوقت يعدون على أصابع اليد، ومن هؤلاء المصورين خرج الرواد العظام الذين لعبوا دوراً مهماً في تطوير فن السينما، ومنهم يبرز اسم جورج ميلييه، الذي يرجع إليه الفضل في إخراج السينما من إطار التسجيل الإخباري للأحداث الواقعية إلى إطار آخر، هو محاولة سرد قصة، مستعملاً مصادر فن آخر هو المسرح، فدفع السينما إلى طريقها المسرحي المشهدي على حد تعبيره هو شخصياً، وبذلك دخلت السينما في أول طريق الأفلام الروائية.
استطاع ميلييه أن يكشف السر العظيم الكامن في آلة التصوير السينمائي، وهو أول من قدم سينما الفرجة، وأول من أخرج، وهو مَن بنى أول استديو، وكتب أول سيناريو، ورسم أول ديكور، كما ساعدته المصادفة في أن يقدم أول الخدع السينمائية.
2. إدوين بورتر Edwin Porter:
بعد جورج ميلييه، وما حققه من إنجازات مهمة في نشأة فن السينما يأتي مصور آخر هو إدوين بورتر، الذي تناول الشعلة ليكمل المسيرة. كان بورتر يعمل مصوراً في شركة إديسون، ثم أصبح بعد ذلك من كبار المخرجين الأوائل. وفي عام 1902 أخرج فيلمه الأول "حياة رجل مطافئ أمريكي"، وبعده وفي عام 1903 يأتي فيلم بورتر التالي، الذي يعتبر بداية مرحلة جديدة على طريق تطور فن السينما، وهو فيلم سرقة القطار الكبرى The Great Train Robbery الذي أكَّد فيه بورتر خطوته الأولى نحو خلق فن سينمائي حقيقي. ففي هذا الفيلم وضع بورتر يده بحق على العناصر السينمائية التي قام المخرجون من بعده بتهذيبها وتطويرها باعتبارها عناصر خاصة بفن السينما.
3. ديفيد جريفيث David Griffith:
وفي عام 1909 أخرج جريفيث فيلم الفيلا الوحيدة، وقدم فيه لأول مرة فكرة اللقطات المتقاطعة، وهو ما يعرف الآن بالمونتاج المتوازي، وذلك لبيان الأحداث التي تقع في أكثر من مكان في نفس الوقت كالآتي: اللصوص يحاصرون امرأة وأطفالها، الزوج يحاول إنقاذهم، ويشتد التوتر في ذروة الفيلم بين مشهد الزوجة وأطفالها واللصوص، والزوج يقوم بالإنقاذ. وقد سميت هذه الحيلة باسم طريقة جريفيث للإنقاذ في آخر لحظة.
بعد ذلك قدم جريفيث تحفته الكبرى "مولد أمة" The Birth of a Nation عام 1915، عن الحرب الأهلية الأمريكية، وقام خلال هذا الفيلم بتطوير استخدام العديد من الأساليب الفنية التي نأخذها الآن كأمور مسلم بها، فجاء مولد أمة يضم 1375 لقطة بين لقطات كبيرة جداً، ومثل عين تنظر من خلال ثقب باب، أو زهرة، أو مسدس، أو سنبلة قمح، ولقطات بعيدة صوَّرت لمساحات شاسعة من الريف والمناطق المهجورة. كما استخدم الكاميرا المتحركة، واستخدم أيضاً وببراعة أكبر طريقته في القطع المتداخل، أو المتوازي بين المطارد، والطريد لخلق الإثارة المتصاعدة.
وفي عام 1916 قدم جريفيث رائعته الثانية في شكل فيلم ملحمي يضم أربعة موضوعات مختلفة وهي، فيلم "التعصب" Intolerance، (اُنظر صورة من فيلم التعصب)، الذي قدم فيه جريفيث بشكل متواز أربعة أمثلة للتعصب، تجمعها وحدة الموضوع، وهى التعصب في بابل القديمة، وآلام السيد المسيح، ومذابح البروتستانت في القرن السادس عشر في فرنسا، والتعصب في أمريكا.
4. شارلي شابلن:
إذا كانت الفترة ما بين 1920 - 1940 قد شهدت أوج النضوج للفيلم الصامت، فقد شهدت الفترة السابقة لها، والتي تحكمت فيها سنوات الحرب بدء أعمال بعض المخرجين من أمثال توماس إنس Thomas Ince، وماك سينيت Mack Sennett، وأبل جانس Abel Gance، الذين وسعوا من أفق السينما، كما شهدت عمل رجل من عباقرة السينما هو شارلي شابلن.
فبينما بدأ جريفيث يوسع لغة التعبير السينمائي كان شارلي شابلن يستقصي إمكانات السينما من أجل الكوميديا، ويخرج فيلماً كل بضعة أيام، وكانت إيحاءاته وحركاته تُعبر بأكثر مما تنطق به كلمات الممثلين اليوم، وكانت شخصية شارلو التي ابتكرها، هي التي قادته إلى الصفوف الأولى في تاريخ السينما، فلم تلبث هذه الشخصية الأسطورية أن تبلورت واشتهرت في كل أنحاء العالم.
بلغت عبقرية شارلي شابلن القمة فيما بين 1920 - 1930. ونمت مواهبه الطبيعية كمقلّد ومهرّج في الساحات الموسيقية، ومن ثم تعلم كيف يستغل فطرته الفريدة للهزليات في الفيلم الصامت، تلك الهزليات التي وضع أساسها ماك سينيت، الذي كان يوظف المونتاج لإحداث الأثر الهزلي.
نضجت شخصية شارلي شابلن الحقة بعد ذلك، وابتعد عن الضحك الرخيص، وتطور منه إلى مزج رائع من الضحك والعواطف الإنسانية، وظهرت مواهبه الدرامية الخالصة في فيلمه ذي الطابع الجدي "امرأة من باريس" Woman Of Paris 1923. ذلك الفيلم الذي كتبه وأخرجه بنفسه، وكان له الأثر البعيد في أفلامه الهزلية التي توالت بعد ذلك، حيث ظهرت له روائع سينمائية مثل "البحث عن الذهب" The Gold Rush 1925، و"السيرك" The Circus 1928، و"أضواء المدينة" City Lights 1931، (انظر صورة من فيلم أضواء المدينة). وانتقل شارلي شابلن بعد ذلك إلى معالجة القضايا الاجتماعية في أفلامه، وجعل من البؤس لوحة مؤثرة تفيض بالحب العميق للإنسانية كلها، ثم اتخذ موقفا اجتماعياً أكثر وضوحاً وصراحة في فيلم "الأزمنة الحديثة" Modern Times 1936، و"ملك في نيويورك" A King In New York 1957.
اتسمت أفلام شابلن على الدوام بطابع البساطة الفنية، فالديكورات اللازمة لأفلامه متواضعة، واستخدامه للكاميرا ليس بذي مهارة محسوسة، كما أن المناظر الخلفية تحوي الضروري فقط. فعبقريته التصويرية التي كان هو مبدعها الوحيد تكمن في حركته هو بالذات، وفي فكرته التنفيذية بالنسبة لكل فيلم رئيسي، فمنظر شارلي كما نعرفه الذي تحول فيما بعد وصار هتلر Hitler، ثم تغير بأكمله وأصبح فيردو وكالفيرو، لهو المنظر الذي يتركز عليه كل اهتمامنا في النهاية. ولما كان شارلي يصوّر الكثير مما في نفوسنا حينما يتجاوب مع عوامل السرور التي تكنها قلوبنا، والأفراح التي نتمناها، فإن العالم كله تقبَّله بصورة لم تتيسر لأية شخصية أخرى خلقت في عالم السينما. واستطاع عن طريق التوزيع العالمي للأفلام السينمائية دون غيرها، أن يكون معروفاً في كل مكان بأسماء مشتركة الأصل، منبثقة عن إعزاز عالمي لصاحب الاسم. فهو معروف بأسماء تشارلوت Charlot، وكارلينو Carlino، وكارلوس Carlos ، وكارليتوس Carlitos.
5. روبرت فلاهرتي Robert Flaherty:
في الوقت الذي كان فيه شارلي شابلن يثرى السينما بأفلامه الكوميدية ذات الأبعاد الإنسانية، ظهر شخص مهم آخر في عالم السينما الأمريكية، هو روبرت فلاهرتي، الجوالة الملهم الذي كان يحمل كاميراته لتصوير حياة الناس اليومية في الأصقاع النائية، ففي فيلم "نانوك ابن الشمال" Nanook of The North 1922، درس حياة الإسكيمو، وفي فيلمه "موانا" درس حياة السكان في البحار الجنوبية. وقد حققت أفلامه نجاحاً كبيراً في أمريكا وأوروبا، ورحّب بها نقاد السينما، وكتبوا عنها الكثير.
كان فيلم نانوك ابن الشمال بداية مرحلة جديدة بالنسبة للفيلم التسجيلي الذي كان إنتاجه متعثراً، نظراً لاتجاه رأس المال إلى الفيلم الروائي طمعاً في الربح السريع. فعلى أثر النجاح الذي حققه الفيلم، ظهرت حركة نشطة للفيلم التسجيلي في أمريكا وأوروبا، كان من أهم أقطابها جون جريرسون John Grierson في إنجلترا، وهو من أبرز رواد الفيلم التسجيلي وواضع قواعده ونظرياته.
واتسعت حركة السينما التسجيلية بعد ذلك، وامتد أثرها إلى المدارس، والمعاهد، والجامعات، والكنائس كما بدأت تتسع مجالات تأثيرها من النطاق المحلي إلى النطاق العالمي.
6. سيرجى ايزنتشتاين Sergey Eisenstien:
وفي الاتحاد السوفيتي ـ السابق ـ راح ايزنتشتاين يطبق نظرياته السينمائية في مشهد مذبحة مدرجات أوديسا، في فيلمه "المدرعة بوتمكين" The Battleship Potemkin، (انظر صورة من فيلم المدرعة بوتمكين) وهو أسلوب في المونتاج لا يزال مدهشاً حتى اليوم بقدر ما كان مدهشاً يوم عرضه لأول مرة عام 1925.
وراح ايزنتشتاين يطور تجاربه في أفلامه الأخرى مثل "أكتوبر" October، المدرعة بوتمكين، بينما انصرف معاصروه من المخرجين الروس إلى تقصي مسالك أخرى غزيرة النتائج في مونتاج الفيلم وبنائه الفني مثل المخرج فيسفولود بودفكين Vsevolod Pudofkin، في أفلام "الأم" Mother ، و"نهاية سان بطرسبرج" The End of St. Petersburg . والمخرج ألكسندر دوفجنكو Aleksandr Dovzhenko مخرج فيلم "الأرض" Earth الذي وجدت فيه السينما أول شعرائها الحقيقيين.
7. روبرت واين Robert Wiene:
لم يكن المخرجون الروس هم وحدهم المجددين في ذلك الوقت، فقد نشأ تيار جديد في السينما الألمانية كذلك في نهاية العقد الثاني من القرن العشرين، واستمر وازدهر طوال العقد الثالث منه، وهو تيار السينما التعبيرية الذي بدأ بفيلم "خزانة الدكتور كاليجاري" Das Kabinett des Dr. Caligari، (انظر صورة من فيلم خزانة الدكتور كاليجاري)، 1919 للمخرج الألماني روبرت واين.
8. فرانسيسكو دي روبرتس:
ظهرت اتجاهات جديدة في فن السينما تحاول التأقلم مع الظروف الاقتصادية، فاتجه السينمائيون الشباب في بعض الدول الأوروبية إلى البساطة في الإنتاج كطريق جديد وقوى، وكان على رأس هذه الدول إيطاليا التي ابتكر مخرجوها مدرسة الواقعية الجديدة التي تعتمد على التصوير في الشوارع دون استخدام نجوم. كانت إرهاصات هذه المدرسة قد ظهرت قبل الحرب، ثم وجدت بعد الحرب الظروف المواتية لأن تسود، ففي عام 1933 نشر الكاتب الإيطالي لوبولد نجانتس مقالا جاء فيه: "يجب علينا أن نخرج أفلاماً بسيطة، ومن الواقع المباشر على قدر الإمكان. يجب أن ننطلق إلى الشوارع، والحواري، والبيوت، والمحطات نحمل كاميراتنا لتسجل الحقيقة، ونقف في أي مكان نلاحظ ما يدور بعيون يقظة لكي نخرج فيلماً إيطالياً حقيقياً".
كان السيناريست الإيطالي فرانسيسكو دي روبرتس، أول من ترجم في الأفلام هذه الأفكار التي بشّرت بالواقعية الجديدة في السينما الإيطالية، كما عرفها العالم في الأربعينيات بعد الحرب العالمية الثانية، ويصف بعض النقاد دي روبرتس بأنه هو الذي أوقد شعلة الواقعية الجديدة، وأضاء الطريق لرائدها الأول المخرج روبرتو روسيلليني Roberto Rossellini، ليقدم أول أفلامها "روما مدينة مفتوحة" Roma, Citta Aperta عام 1945، ثم قدم في عام 1952 فيلم أوروبا آه.
9. فيتوريو دى سيكا Vittorio De Sica:
يدخل إلى الميدان المخرج فيتوريو دى سيكا، فيخرج فيلم "سارقي الدراجة" Ladri di Biciclette عام 1948، ويقدم لوكينو فيسكونتي Luchino Visconti فيلمي "الأرض ترتعد" عام 1948، و"الليالى البيضاء" Le Notti Bianche عام 1957، وفيدريكو فيلليني Federico Fellini، فيلمي "الطريق" La Strada عام 1954، و"لذة الحياة" La Dolce Vita عام 1960.
لم تكن حركة الواقعية الجديدة التي أنجزت في إيطاليا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية لتظهر إلا بفضل الشباب السينمائيين من خريجي المعهد العالي للسينما في روما- شيت شيتا، الذين ظلت مشاعرهم مكبوتة، وكانوا ملمين بكل قواعد العمل السينمائي، ولم تتح لهم فرصة استغلال معارفهم ومواهبهم.
ظهر في أفلام تلك المرحلة رجل الشارع الإيطالي بصورة فيها درجة من الحيوية والإنسانية لم يسبق لها مثيل في أفلام أية دولة أخرى، وكان غريباً أن جماهير السينما الإيطاليين لم يتقبلوا هذه الأفلام استقبالاً طيباً في بادئ الأمر، فقد كان تأثير الأفلام الأمريكية مسيطراً عليهم بما فيه من بريق، ولمعان، وخيال، وإبهار، ولكن عندما لقيت الأفلام الأولى لروسيلليني ودى سيكا اهتماماً كبيراً من النقاد في الصحف الإيطالية الكبرى بدأ الإيطاليون ينتبهون إلى قيمة هذه الأفلام، وإلى قيمة ما أصبحت تقدمه لهم السينما الوطنية، وبدءوا يقبلون على الأفلام التي أخذت تحقق نجاحاً كبيراً في إيطاليا كما حققت نجاحاً كبيراً في أنحاء العالم حتى في أمريكا نفسها.
10. جان لوك جودار Jean-Luc Godard :
إذا كانت الواقعية الجديدة في السينما الإيطالية قد قامت على أكتاف السينمائيين الشباب من خريجي المعهد العالي بمدينة روما، فقد قامت في فرنسا كذلك حركة سينمائية أخرى سميت بالموجة الجديدة، صنعها شباب النقاد السينمائيين الذين جمعتهم نوادي السينما، ومجلة آر الأسبوعية، ومجلة كراسات سينمائية الشهرية. وقد ذهبت هذه الموجة إلى هدم القيم المتوازنة في السرد الروائي والعمل على تقديم تصور جديد للعلاقة بين الشكل والمضمون، وذلك بخلق جو درامي خاص لا يعتمد على السرد التقليدي عن طريق تتابع الأحداث في خط أفقي تتتابع فيه الأسباب والمسببات، وإنما يعتمد على إيقاع تتابع الصور الفيلمية وما تؤدي إليه من تداعيات أكثر من الاعتماد على الحوار والحبكة.
وكان الرائد الأول لهذه الموجة هو المخرج الفرنسي جان لوك جودار الذي قدم لجماهير السينما في فرنسا، وفي العالم مجموعة من الأفلام التي لاقت إعجاباً شديداً من النقاد ومن الجمهور، ومنها أفلام "حتى آخر نفس" A Bout de Souffle عام 1960، و"المرأة هي المرأة" Une Femme est une Femme عام 1961، و"امرأة متزوجة" Une Femme Mariee عام 1964.
11. الآن رينيه Alain Resnais:
من المخرجين الذين برزت أعمالهم في إطار حركة الموجة الجديدة أيضاً الآن رينيه، الذي يذكره النقاد والجمهور في فيلمه الشهير "هيروشيما حبيبتي" Hiroshima mon Amour، الذي تعرض فيه لواحدة من أكثر المشاكل اضطراباً في وقت إنتاج الفيلم، وهي قنبلة هيروشيما الذرية، وقد قدم بعد ذلك فيلم "العام الماضي في مارينباد" L'Annee Derniere a Marienbad عام 1961، و"ميريل، أو زمن العودة" Muriel, ou le Temps d'un Retour عام 1963. وظهر كذلك المخرج ألكسندر استروك "الشتاء القرمزي" عام 1953، و"لقاءات سيئة" عام 1955. كما ظهر المخرج فرانسوا تريفو Francois Truffaut بأفلام "400 ضربة" Les Quatre Cents Coups عام 1959، و"جول وجيم" Jules et Jim عام 1962، و"الجلد الناعم" La Peau Douce عام 1964، و"451 فهرنهايت" Fahrenheit 451 عام 1966.
12. كيروساوا أكيرا Kurosawa Akira:
في هذه الفترة أيضاً فوجئ العالم باكتشاف الفيلم الياباني، ودهش الجميع بالبراعة الفنية والعناصر الإبداعية المتميزة في أعمال مخرجين لم يسبق أن سمع عنهم أحد مثل ميزوجوتشي كينجي Mizoguchi Kenji ، وكيروساوا أكيرا.
وقد كان كيروساوا أول من قدَّم إنتاج بلاده إلى أوروبا وأمريكا من خلال المهرجانات السينمائية، وذلك بفيلمه "راشومون" Rashomon عام 1950، وفيلم "إيكيرو" Ikiru عام 1963، أي العيش، وفي هذا الفيلم قدم كيروساوا قصة موظف متقدم في السن مصاب بمرض السرطان اللعين الذي يقضي عليه رويداً رويداً، وإذا بهذا العجوز يضع لنفسه هدفا في الأشهر الأخيرة من عمره. وقد علَّق بعض النقاد على هذا الفيلم بقولهم: "إن الكثير من أفلام الغرب تبدو تافهة سطحية إذا ما قورنت بهذا الفيلم".
13. ساتياجيت راي Satyajit Ray:
جاءت من الهند أفلام ساتياجيت راي، لتلفت أنظار الغرب إلى السينما الهندية الناهضة من خلال ثلاثيته العظيمة "آبو" The Apu Trilogy، التي تصور نمو الإنسان، وبلوغه، ونضجه، وقد شبهها النقاد بثلاثية مكسيم جوركي التي أخرجها المخرج الشاعر الروسي ألكسندر دوفنجكو.
المبحث الثاني
نشأة السينما العربية وتطورها
1. السينما في مصر:
كانت مصر من أوائل بلاد العالم التي عرفت الفن السينمائي عام 1896، بالإسكندرية، وفي العام نفسه، قدم أول عرض سينمائي في حديقة الأزبكية بالقاهرة.
وقد أرسلت دار لوميير الفرنسية عام 1897 مبعوثاً لها إلى مصر ليقوم بتصوير أول شرائط سينمائية عن بعض المناظر في الإسكندرية، والقاهرة، والمناطق الأثرية على نيل مصر، وبلغ عدد هذه الشرائط 35 شريطاً عرضت في جميع دول العالم.
وأقيم أول عرض سينمائي في مصر في ديسمبر 1897، بمدينة الإسكندرية بواسطة أحد أجهزة لوميير، على أنه ما لبث أن توقف العرض حتى عام 1900، عندما أقيمت أول صالة للعرض يملكها م. س كونجولينوس بالمدينة نفسها.
أما في القاهرة فلم يبدأ عرض الأفلام السينمائية إلا في أبريل 1900 في صالة قهوة سانتي بجوار الباب الشرقي لحديقة الأزبكية، بواسطة فرانشسكو بونفيلي وزوجته. وكانت أسعار الدخول تتراوح بين قرش واحد وثلاثة قروش، وأحدث ذلك العرض دهشة عظيمة ولقي نجاحاً كبيراً، مما نبه إلى عظم ما يمكن أن يدره الاستغلال السينمائي من أرباح. وهكذا بدأ تأسيس دور خاصة للعرض السينمائي. وشهد عام 1905 وجود ثلاثة دور للعرض في القاهرة. ويتألف جمهور السينما في ذلك الوقت أساساً من عامة الشعب، فضلاً عن التلاميذ، والطلاب الذين أقبلوا عليها لكونها تسلية رخيصة الثمن، علاوة على حداثة اختراعها. أما المثقفون والأوساط المحافظة فلم تبد عليها إقبالاً يذكر.
بدأ أول تصوير سينمائي مصري قامت به محلات عزر ودوريس بالإسكندرية عام 1907، وجرى التحميض والطبع في معاملها، وقامت بعرض باكورة إنتاجها بالإسكندرية.
تكونت عام 1917 بالإسكندرية شركة سيتشيا السينمائية الإيطالية، بهدف إنتاج أفلام روائية نظراً لاعتدال الطقس وسطوع الشمس معظم أوقات السنة، إذ لم تكن الإضاءة الصناعية قد تقدمت في ذلك الوقت، وقام بتمويل رأس المال بنك روما بمبلغ 20 ألف جنيه، وكان أول إنتاجها الفيلم الروائي القصير "نحو الهاوية".
وفي عام 1917 تكونت الشركة السينمائية المصرية بالإسكندرية، من مصور يدعى أمبرتو دوريس بالاشتراك مع بعض الإيطاليين، وبنك روما، وأنتجت فيلمين قصيرين هما الزهور المميتة وشرف البدوي. وعرض الفيلمان لأول مرة في عام 1918 بسينما سانت كلير في الإسكندرية. وقد أفلست الشركة بعد عرض الفيلمين بستة أشهر بسبب الخسارة الكبيرة التي تكبدتها بسببهما. وفي نفس العام أخرج لارتشي، فيلماً قصيراً باسم مدام لوريتا قامت بتمثيله فرقة فوزي الجزايرلي. وفي عام 1922 أقدمت فرقة فوزي منيب على تمثيل فيلم "الخاتم المسحور"، وقدمت في العام التالي فرقة علي الكسَّار فيلم "العمة الأمريكانية".
وفي عام 1920، فكر بعض رجال الأعمال المصريين، وفي مقدمتهم طلعت حرب في وضع حجر الأساس لبناء مصر الصناعية، فأسسوا بنك مصر برأسمال قدره 80 ألف جنيه. ومما لا شك فيه أن بنك مصر قام بدور فعّال في نشر سياسة التصنيع، وفي حث الأمة على الإقبال على الصناعة.
وتمّ إنتاج أول فيلم روائي طويل عام 1923، وهو فيلم "في بلاد توت عنخ آمون"، وكان تنفيذه وتصويره في مصر، وعرض بالخارج، ويحكي قصة اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون، وبلغت تكاليف الفيلم 1900 جنيه، وتوالى بعد ذلك عرض الأفلام الروائية الطويلة المنتجة في مصر، فقد عرض فيلم "ليلى" من إنتاج عزيزة أمير في نوفمبر 1927، وبلغت التكلفة الإجمالية حوالي ثلاثة آلاف جنيه، وقد عرض الفيلم بدار عرض سينما متروبول بالقاهرة.
تأسست شركة مصر للتمثيل والسينما عام 1925 برأسمال 15 ألف جنيه، بعد أن كانت قسماً للسينما تابعاً لشركة مصر للإعلانات كأحد شركات بنك مصر، الذي أسسه طلعت حرب ليكون ركناً من أركان النهضة الاقتصادية المصرية، وقد طالب في ذاك الوقت محمد كريم بتمصير صناعة السينما، وبضرورة إنشاء شركة قومية للسينما برأسمالٍ مصري.
وكانت نقطة التحول في هذه الصناعة، تشييد استوديو مصر عام 1934، حيث توالى إنتاج الأفلام المصرية، وكثر عدد المشتغلين في هذا الحقل الجديد. ويعتبر استوديو مصر المدرسة الأولى التي تخرَّج منها كافة العاملين في الحقل السينمائي. كما أرسى قواعد العمل السينمائي، ومثل مرحلة تطور هامة في تاريخ صناعة السينما وسحبها من أيدي الأجانب وتركيزها في يد المصريين، كما أرسلت بعثات السينمائيين المصريين للتدريب في الخارج ليكونوا نواة لهذه الصناعة.
وأنشأ يوسف وهبي أول استوديو أقامه فنان مصري، وفقاً لأحدث المواصفات الفنية، وهو استوديو رمسيس، وقد كان نجاح استوديو مصر حافزاً لإنشاء استوديوهات جلال ولاما بحدائق القبة، وناصيبيان بالفجالة، والأهرام بالجيزة، وتوجو مزراحي بالقاهرة والإسكندرية، واستوديو شبرا، كذلك أنشئ معمل بالظاهر للطبع والتحميض.
يكاد يجمع المشتغلون بالسينما في مصر على أن فيلم ليلى الذي أنتجته عزيزة أمير وعرض في 16 نوفمبر 1927 في دار سينما متروبول بالقاهرة، أول الأفلام المصرية الطويلة إنتاجاً. ذلك أنه على الرغم من أن فيلم "قبلة في الصحراء"، قد سبق فيلم ليلى في العرض، حيث عرض في أواخر فبراير 1927. إلا أنه قد تولى إنتاجه اثنان من الأجانب هما إبراهيم وبدر لاما اللذان وفدا على مصر من شيلي بأمريكا الجنوبية، ومعهما بعض الأموال، وأجهزة التصوير السينمائي، واستقرا في الإسكندرية حيث كونا شركة كوندور فيلم. وعلى أي حال فقد تعاقبت بعد ذلك المحاولات لإنتاج الأفلام الطويلة، وكثر المشتغلون بهذه الصناعة الوليدة من منتجين، وفنيين، وفنانين سواء من المصريين أو من الأجانب. ومع ذلك فلم يلبث إدخال الصوت في الأفلام في أواخر الثلاثينيات أن تمخض عن إصابة الصناعة المصرية الناشئة بخسارة فادحة، وإن لم يثبط ذلك من عزيمة السينمائيين المصريين الذين عمدوا إلى تحويل جهودهم نحو إنتاج الأفلام الناطقة، ولكن عدم وجود أجهزة لتسجيل الصوت في مصر، وصعوبة استيرادها أدى إلى تسجيل الصوت في باريس، الأمر الذي كان يكبد المنتجين نفقات باهظة، وخاصة بسبب اضطرارهم إلى نقل معظم الفنانين والفنيين إلى هناك.
وتهيأت للمصريين منذ البداية، في منافسة الأفلام الأجنبية في الأسواق العربية، ميزة تولَّدت عن إدخال الصوت في صناعة الأفلام، ألا وهي نطق الأفلام المصرية باللغة العربية التي يتكلم بها سكان الشرق العربي قاطبة. وكان فيلم "أنشودة الفؤاد" الذي أنتجته شركة "النحاس فيلم" بالاشتراك مع "إخوان بهنا" أول الأفلام الناطقة. وسجل الصوت في استوديوهات جومونت بفرنسا، وعرض الفيلم في عام 1931. وتلاه فيلم "أولاد الذوات" الذي أخرجه محمد كريم لحساب يوسف وهبي، وسجل الصوت في استوديوهات توبيس كلانج في باريس. ولقي الفيلم الأخير نجاحاً كبيراً عند عرضه في سينما رويال في القاهرة. وأمعن المنتجون المصريون في تزويد أفلامهم بالأغاني، وهكذا أنتجت شركة بيضافون عام 1933، أول فيلم ظهر فيه الفنان محمد عبدالوهاب وهو "الوردة البيضاء"، فنجح نجاحاً كبيراً، وفي عام 1935 ظهرت أم كلثوم في باكورة أفلامها "وداد" الذي أنتجته شركة مصر للتمثيل والسينما.
وأنتج أول فيلم مصري - أجنبي مشترك عام 1933 مع شركة جومونت الفرنسية هو فيلم "ياقوت أفندي". وفي عام 1947 ظهر الإنتاج المشترك بين مصر والعراق بفيلم "القاهرة - بغداد"، وبالاشتراك مع إيطاليا عام 1950 بفيلم "الصقر".
وتعتبر مرحلة الأربعينيات مرحلة انتعاش الفيلم المصري، حيث ارتفع معدل الإنتاج السينمائي من تسعة أفلام في الموسم 38/ 1939 حتى وصل إلى 16 فيلماً في الموسم 44/ 1945، ويرجع ذلك نتيجة لدخول رؤوس أموال أغنياء الحرب العالمية الثانية، والحرب الكورية، إلى ميدان صناعة السينما مع زيادة القوة الشرائية في نفس الوقت لدى المواطنين والمترددين على دور العرض السينمائي. وارتفع متوسط إنتاج الأفلام في الفترة من عام 1945 إلى عام 1951 من 20 - 50 فيلماً سنوياً، وبلغ عدد الأفلام المنتجة 241 فيلماً، أي نحو ثلاثة أضعاف الأفلام المصرية المنتجة منذ عام 1927. ووصل عدد دور العرض السينمائي إلى 244 داراً للعرض عام 1949، كما وصل عدد الاستوديوهات إلى 5 استوديوهات بها 11 ساحة للتصوير.
ولعب الفيلم المصري دوراً مهماً في ربط المجتمع العربي والتعريف بمصر، وعمل أكثر من أي أسلوب آخر على نشر اللهجة المصرية، وبهذا حظي الفيلم المصري العربي وقتئذ على مكانة عالية. وتأثرت هذه المنزلة بما كان يطرأ على العلاقات العربية من موجات تُدعِّم هذه العلاقات أحياناً، وتوهن عراها في أحيان أخرى، مما أدى إلى حدوث مد وجزر في توزيع الفيلم المصري في البلاد العربية، وبدأت مقاطعة الفيلم المصري في فترات متقطعة في الخمسينيات.
تعتبر فترة الستينيات مرحلة القطاع العام في السينما المصرية، وشهدت تلك المرحلة إنشاء المؤسسة العامة للسينما عام 1962، وفيها اضطربت صناعة السينما في مصر نتيجة عدم وضوح موقف الدولة من السينما، حيث لم تؤمم الاستوديوهات، والمعامل، ودور العرض السينمائي، لكنها في الوقت نفسه لم تعد في أيدي أصحابها. وتعددت في تلك المرحلة أشكال الملكية المؤسسة لهذه المنشآت، كما تعددت أشكال الهياكل الإدارية، وأشكال الإنتاج والتمويل، ولم تستقر لمدة عامين متتاليين، وكنتيجة لذلك انخفض متوسط عدد الأفلام من 60 إلى 40 فيلماً في السنة، وبلغ مجموع أفلام المرحلة حتى عام 1971 حوالي 416 فيلماً، منها 50% من إنتاج القطاع العام، وحوالي 40% من إنتاج القطاع الخاص، وكان تمويله من القطاع العام. وحوالي 10% من إنتاج القطاع الخاص مُموِّل من شركات التوزيع العربية. وانخفض كذلك عدد الأفلام الأجنبية المستوردة في متوسط 500 فيلم في السنة إلى 250 فيلماً في السنة.
بدأ بث التليفزيون المصري، لأول مرة، في الستينيات، ولمدة ثلاث ساعات يومياً في المتوسط في 21 يولية 1960، ووصل متوسط ساعات الإرسال للقنوات التليفزيونية الثلاث إلى 20 ساعة يومياً عام 1963، وبدخول الخدمة التليفزيونية في مصر أصبحت لصناعة السينما المصرية منافساً جديداً إضافة إلى منافسة الفيلم الأجنبي.
وتوقف القطاع العام عن الإنتاج السينمائي عام 1971 نتيجة خسائر مالية قدِّرت بحوالي 8 ملايين جنيه نتيجة لمشاكل إدارية. وبعد ذلك انتهى دور القطاع العام في مجال الإنتاج السينمائي، حيث صدر القرار في عام 1971 بتحويل المؤسسة العامة للسينما إلى هيئة عامة بعد ضم المسرح والموسيقى إليها، لتصبح الهيئة العامة للسينما، والمسرح، والموسيقي، ورغم توقف القطاع العام عن الإنتاج السينمائي إلا أن متوسط إنتاج الأفلام السنوي ظل كما هو حتى عام 1974، ثم ارتفع إلى 50 فيلماً عامي 1975، 1976، كذلك ارتفع عدد دور العرض السينمائي إلى 296 دار عرض عام 1972، وارتفع عدد الأفلام الأجنبية المستوردة إلى 200 فيلم سنوياً.
وأنتجت الغالبية من الأفلام المصرية الطويلة في ظل القطاع الخاص منذ عام 1971، على حين أنتج القليل من هذه الأفلام بضمان القطاع العام للقرض المصرفي، وهو النظام الذي اتبعه القطاع العام منذ توقفه عن الإنتاج. وبعد أن كانت غالبية الأفلام من إنتاجه، أو تمويله طوال فترة الستينيات. هذا وقد انتعش إنتاج الأفلام المصرية طوال فترة السبعينيات لعدة أسباب، أهمها، تحسن مستوى المعيشة في القاهرة، التي تعتبر المحك الرئيسي لنجاح الأفلام أو فشلها، وإقبال الجمهور على الأفلام المصرية، وتحرير السوق من بيروقراطية القطاع العام، وارتفاع أسعار الأفلام في دول منطقة الخليج.
وتشهد الثمانينيات انتعاشاً في السينما المصرية، لا يلبث أن يستمر حتى منتصف التسعينيات، ليستمر بعد ذلك الانخفاض في إعداد الأفلام المنتجة، نتيجة لارتفاع أجور الفنانين ومنافسة التليفزيون، ثم الفيديو، وأخيراً القنوات الفضائية، الأمر الذي انعكس على الإنتاج السينمائي.
وخلال التسعينيات تحدث تطورات مهمة في صناعة السينما في مصر، على مستوى اقتصاديات إنتاج وتوزيع الفيلم السينمائي، على الرغم من ظاهرة الانخفاض الحاد في عدد الأفلام المنتجة.
وخلال هذه الفترة لوحظ ارتفاع عدد دور عرض الدرجة الأولى، من 20 إلى 100 دار، وارتفاع متوسط نفقات إنتاج الفيلم من ربع مليون جنيه، لتصل إلى مليون جنيه، كما ترتفع متوسطات إيرادات الفيلم، حيث بلغ أعلى متوسط إيراد للفيلم خلال الثمانينيات مليون جنيه، ارتفعت إلى 20 مليون في التسعينيات. وخلال التسعينيات فاز المخرج يوسف شاهين عام 1997، بجائزة اليوبيل الذهبي لمجمل أعماله في مهرجان كان Cannes السينمائي.
وفي عام 1999 نالت الأفلام المصرية 42 جائزة عالمية في مهرجانات سينمائية دولية.
2. السينما في لبنان:
يعود تاريخ صناعة السينما في لبنان إلى عام 1930، والأفلام المنتجة في هذه الفترة تعتبر محاولات فردية لم يحالفها النجاح، وبدأ الإنتاج السينمائي اللبناني يرسخ في عام 1952. ويمكن تقسيم تاريخ السينما في لبنان إلى مرحلتين: الأولى بدأت عام 1929، وانتهت عام 1952، والمرحلة الثانية بدأت عام 1952 إلى أحداث عام 1975.
وأول فيلم لبناني كان كوميدياً قام بإنتاجه أحد الهواة الإيطاليين عام 1929، وكان الفيلم صامتاً، وأنشئ أول أستوديو في لبنان عام 1933، وأُنتج فيه أول فيلم لبناني ناطق، واقتصر نشاط هذا الأستوديو بعد ذلك على إنتاج الأفلام الإخبارية، والأفلام التسجيلية. وكان معظم العاملين في صناعة السينما في ذلك الوقت من الفنيين الأجانب، وتوقف نشاط هذا الأستوديو عام 1938، وتوقف معه النشاط السينمائي خلال الحرب العالمية الثانية وحتى عام 1952.
استأنفت السينما نشاطها في لبنان عام 1952، بإنشاء استوديوهين للسينما، وقد أنتج أحدهما فيلم "عذاب الضمير" ناطقاً باللغة العربية الفصحى، فلم يُقْبِل عليه الجمهور، ذلك أن اللغة الفصحى لا تتقبلها الجماهير بسهولة، وهذا هو الفارق بين السينما والمسرح، فالفصحى في المسرح مقبولة بل مرغوبة، أما السينما فلأنها وسيلة اتصال جماهيرية نجد أن اللغة العامية تناسبها أكثر. وكان الفيلم الثاني "قلبان وجسد" أوفر حظاً من سابقه، فقد حقق أرباحاً طيبة ووزع في البلاد العربية، والبرازيل، واستراليا حيث توجد جاليات عربية.
ولفت فيلم "إلى أين"، الذي أنتج في عام 1957، أنظار النقاد في أوروبا عندما عرض في مهرجان كان، فقد حكى الفيلم قصة عائلة فلاح لبناني هاجر إلى أمريكا، وعاد إلى الوطن فقيراً معدماً كما كان. ونتيجة للنجاح الذي أحرزه هذا الفيلم اللبناني فقد تضاعفت رؤوس الأموال المستثمرة في صناعة السينما، وأنشئت استوديوهات جديدة زوِّدت بأحدث معدات التصوير، والإضاءة، والتحميض، والطبع.
وحتى عام 1960، كان العاملون في السينما اللبنانية من هؤلاء الذين تعلموا الصناعة عن طريق المحاولة والخطأ، أما بعد تلك السنة فقد أصبحت صناعة السينما في هذا البلد في أيدي مجموعة من الشباب اللبناني الذي درس فن الإخراج في المعاهد المتخصصة في أوروبا وأمريكا. ومما يؤخذ على الفيلم اللبناني المعاصر اهتمامه الشديد بالقصة التي تُسلي، وتُلهي، ولا تثقف، ومع ذلك فقد عرضت بعض الأفلام الهادفة التي من شأنها توعية الجماهير بواقعها وحثها على رفض هذا الواقع، والعمل بجدٍ ونشاطٍ من أجل التخلص من الحالة التي تعيشها.
وفي عام 1964، أسست الحكومة اللبنانية المركز الوطني للسينما، ومهمته جمع الوثائق والمعلومات عن النواحي القانونية، والمالية، والتقنية، والسياسية لهذه الوسيلة الإعلامية، وتقديم المقترحات من أجل تحسين هذه الصناعة وتنميتها. وأنشئ في هذا المركز، في الحقبة الواقعة بين أواخر الستينيات وبداية الحرب الأهلية في أبريل 1975، عدد كبير من الاستوديوهات، وشركات التوزيع. وركزت الاستوديوهات على إنتاج برامج التليفزيون، وأفلام الدعاية والإعلام، وأصبح لبنان في هذا الحقل في مقدمة الدول العربية.
…
[1] الميكساج: هو عملية دمج جميع أشرطة الفيلم الصوتية، حوار وموسيقى ومؤثرات صوتية، على شريط واحد.
3. السينما في سورية:
كانت حلب أول مدينة سورية تعرف فن السينما، وكان ذلك عام 1908. وبعد أربع سنوات من هذا التاريخ أي عام 1912، قام صاحب مقهى في دمشق بعرض بعض الأفلام السينمائية القصيرة، وفي عام 1916، افتتح الأتراك داراً للسينما سرعان ما شب فيها حريق التهمها بكاملها. وفتحت بعد ذلك دور للسينما خلال الحرب العالمية الأولى. وبعد انتصار الحلفاء في الحرب انقطع ورود الأفلام الألمانية وحلَّت محلها الأفلام الأمريكية والفرنسية أثناء الانتداب الفرنسي. ويعود إنتاج أول فيلم سوري إلى عام 1928، وكان عنوانه "المتهم البريء"، وقد تكللت هذه المحاولة الأولى بالنجاح، وعرض الفيلم في لبنان ونال النجاح نفسه، وهو عبارة عن قصة من قصص المغامرات أنتجته شركة حرمون فيلم. أما الفيلم الثاني فاسمه "تحت سماء دمشق"، وقد عرض عام 1932، ولما كان فيلماً صامتاً، فإنه لم يصمد أمام الفيلم المصري الناطق والغنائي "أنشودة الفؤاد"، وهكذا سقط الفيلم.
وأول فيلم سوري إخباري كان من إنتاج نور الدين الرفاعي، وكان هذا الفنان مصوراً فوتوغرافياً مولعاً بالسينما، فقد سجل الأحداث الوطنية المهمة مثل اجتماعات البرلمان السوري الأول عام 1932، والمظاهرات والإضرابات التي نُظمت ضد سلطات الانتداب الفرنسي. وكان منتجه نور الدين يضطر إلى التوجه إلى بيروت ليحصل على موافقة الرقابة الفرنسية التي كانت تقص أكثر من نصف الفيلم أحياناً، ولكن هذه الرقابة الشديدة لم تفت في عضده، فقد واصل إنتاج هذا النوع من الأفلام حتى قيام الحرب العالمية الثانية، وانقطاع ورود الأفلام الخام.
ومن الأفلام السورية التي أنتجت قبل الحرب العالمية الثانية، "نداء الواجب" إخراج أيوب بدري، الذي أخرج كذلك فيلماً عن ثورات العرب في فلسطين ضد الانتداب البريطاني، كما أخرج فيلماً باسم "الصداقة". وإن كانت هذه المحاولات الأولى لم تنجح، فذلك لأنها لم تقم على أسس علمية وفنية راسخة، هذا بالإضافة إلى أن السلطة الأجنبية الحاكمة لم تكن تشجع هذه المحاولات.
وفي خلال الحرب العالمية الأولى استطاع بعض التجار السوريين تكوين ثروات ضخمة، ولما ترامى إلى سمع أصحاب هذه الثروات أخبار النجاح التجاري الضخم الذي حققه الفيلم المصري بادر بعضهم إلى تكوين شركة أفلام في مدينة حلب، ولكن بدلاً من أن تقوم هذه الشركة بإنتاج أفلام سورية، اتجهت نحو مصر. غير أن باكورة أفلامها "ليلى العامرية"، إخراج نيازي مصطفي، لم ينجح، وواصلت الشركة نشاطها، ولكن في لبنان هذه المرة، حيث أنشأت استوديو زودته بأحدث المعدات، غير أن هذا الاستوديو ظل مغلقاً من عام 1951 إلى عام 1959 أي حتى إفلاس الشركة السورية، مما يثبت أن المال ليس كل شئ في العمل السينمائي، وهكذا ظلت المحاولات في سورية فردية ومتخلفة. وتمّ إنتاج فيلم "نور الظلام" في هذه الفترة ولكنه لم ينجح تجارياً. كذلك لم يحالف التوفيق فيلمين آخرين هما "عابر سبيل" و"الوادي الأخضر". وقدمت في الفترة نفسها بعض الأفلام التسجيلية عن دمشق واللاذقية، وعدد من الأفلام الروائية مثل لمن تشرق الشمس، وفي الدار غريبة، وقد امتاز الأخير بقصته الجيِّدة وبإخراجه الفني الذي يدل على نضوج مخرجه يوسف فهدة، وقد برهن هذا الجهد المستمر، وهذه المثابرة على أن هناك إرادة عنيدة لخلق سينما وطنية قادرة على إظهار الصفات التي يتحلّى بها سكان هذا الجزء من الوطن العربي، كما برهن على رفض الهزيمة، وهو ما يمتاز به العمل السينمائي السوري.
وفي فترة ما بعد الاستقلال بدأت الدولة تهتم بالسينما، ولكن في حدود ضيقة. فضمَّت الوزارات أقساماً للسينما، وكانت وزارة الزراعة الأولى في هذا المضمار حيث اشترت عام 1946 - 1947 وحدة متحركة، وأفلام زراعية، وأخذت تنتج بعض الأفلام المحلية إلا أنها كانت ضعيفة المستوى في غالبيتها. وتلتها وزارة الصحة بإنشائها استوديو، وقسماً للسينما يعمل فيه مصور سينمائي. وتزود منظمة الصحة العالمية هذه الوزارة بالأفلام التي تنشر الوعي الصحي. وفي وزارتي التربية والشؤون الاجتماعية والعمل قسم للسينما، أما وزارة الدفاع فلديها قسم للسينما أنشأته القيادة العليا للجيش عام 1951، وكان هذا القسم يقوم بإنتاج جريدة سينمائية كل نصف شهر توزع نسخها على المدن، ولم يلبث نشاط هذه الجريدة أن امتد إلى العالم الخارجي حيث جرى تبادلها مع غيرها من الجرائد التي من نوعها، ولكن هذا النشاط خبا بعد ذلك ليقتصر على الأخبار الداخلية، وبعد عام 1961، ألحق هذا القسم بإدارة الشؤون والإرشاد، ولعب دوراً مهماً في تطوير صناعة السينما في سورية.
واهتمت وزارة الثقافة والإرشاد بعد إنشائها عام 1958 بتأسيس إدارة للسينما، هدفها نشرة الثقافة السينمائية، وإنشاء مكتبة للأفلام، وإنتاج الأفلام السينمائية. وتعاقدت الوزارة مع خبراء سوريين وأجانب أنتجوا عدداً وفيراً من الأفلام القصيرة عن سورية، وآثارها، وفنونها الشعبية، ونهضتها الاقتصادية، والاجتماعية.
وفي عام 1963 بدأت المؤسسة العامة للسينما السورية تبعث إلى الخارج بعدد من الشباب ليتعلموا الفن السينمائي في أشهر معاهد السينما في العالم. وعاد هؤلاء الشبان من بعثاتهم ليدفعوا الفن السينمائي في بلادهم إلى الأمام، بل ليبدأوا فناً سينمائياً جديداً يختلف عما كان عليه قبل هذا التاريخ.
وبداية من عام 1969، تقرر أن تقوم المؤسسة العامة للسينما السورية دون غيرها باستيراد الأفلام الأجنبية، وأنشأت هذه المؤسسة، لنشر الوعي السينمائي بين الشعب السوري، أندية للسينما في المدن السورية الكبرى. وكان باكورة إنتاج هذه المؤسسة فيلم "سائق الشاحنة"، إلا أن مخرجه كان أجنبياً، فلم يتمكن من إعطائه الطابع المحلي. أما الفيلم الثاني الذي أنتجته هذه المؤسسة فهو "إكليل الشوك"، إخراج نبيل المالح المخرج السوري المعروف، وهو فيلم سياسي يحكي مأساة الفلسطينيين الذين يعيشون في المخيمات، وأنتجت المؤسسة بعد ذلك فيلم "كفر قاسم" للمخرج برهان علوية، وهو فيلم سياسي يعرض قضية الشعب الفلسطيني ويصور مذبحة كفر قاسم. وقد فاز هذا الفيلم بالجائزة الذهبية في مهرجان قرطاج الخامس.
وأنتجت المؤسسة كذلك "رجال تحت الشمس" الذي قام بإخراجه ثلاثة مخرجين سوريين هم: نبيل المالح، ومروان مؤذن، ومحمد شاهين. وهو فيلم متفائل على الرغم من مرارة الواقع الذي يصوره ويتناول فلسطين بقضيتها وشعبها. والفيلم عبارة عن ثلاث قصص انفرد كل مخرج بإخراج واحدة منها.
وإذا انتقلنا إلى "المخدوعون" الذي أخرجه السينمائي المصري توفيق صالح، عن قصة غسان كنفاني، فإننا نجده فيلماً يتناول جانباً من المشكلة الفلسطينية، وهي مشكلة اللاجئين الذين يبحثون عن عمل في دولة عربية. وفاز هذا الفيلم في مهرجان قرطاج السينمائي أيضاً، ونال الجائزة الذهبية الأولى.
كما قدمت السينما في سورية تجربتين جديدتين من خلال فيلم "الحياة اليومية في قرية سورية"، إخراج عمر أميرالاي، وفيلم "اليازرلي" قصة حنا مينا.
4. السينما في تونس:
عرفت تونس السينما قبل غيرها من البلاد العربية، فبعد أن أعلن الفرنسيون الحماية على تونس عام 1881، قام عام 1896 أحد معاوني الأخوة لوميير بتصوير اثني عشر فيلماً تسجيلياً عن تونس. وفي عام 1897، نظم ألبير سماما شيكلي، والمصور سولي، حفلات العرض السينمائية الأولى في مدينة تونس. وفي عام 1905 قام فيلكس مسجيش، لحساب الأخوة لوميير أيضاً، بتسجيل أفلامٍ تسجيليةٍ عن تونس.
أما أول قاعة عرض سينمائية دائمة أقيمت في مدينة تونس، فهي التي أسستها شركة أوميا باتيه عام 1907.
وقام ألبير سماما، بتصوير بعض المناظر من منطاد قاده فالير لوكونت عام 1909. وفي السنة التالية قام المصور نفسه بالتقاط مناظر تحت البحر من غواصة تابعة للأسطول الفرنسي، بالقرب من شواطئ صفاقس. وبمناسبة زيارة الرئيسي الفرنسي أرمان فاليير Armand Fallieres لتونس عام 1911، صُورت أول جريدة سينمائية في تونس، وحمضت وطبعت محلياً.
وبعد الحرب العالمية الأولى، وفي عام 1919، قام لويتز مورا بتصوير فيلم "الأسياد الخمسة الملعونون"، وهو أول فيلم طويل يصوَّر في أفريقيا. ويعتبر ابن كملا أول مدير مالك لدار سينمائية في تونس، بعد أن اشترى في عام 1920 دار أومنيا باتي.
وفي عام 1912 صُور فيلم "معروف" لطيب بلخيريا، وهو أول فيلم بسيناريو فرنسي. وفي العام التالي صور ألبير سماما شيكلي أول فيلم كتب له سيناريو، وكان اسم الفيلم "زهرة"، ولعبت ابنته هايدي دور بطلة الفيلم. وفي عام 1924 صور سماما أول فيلم طويل، تونسي مائة في المائة، واسمه "عين الغزال". وكان ممثلوه تونسيين جميعاً. وأمر الباي بصرف إعانة لمنتجيه.
وتأسست عام 1928 شركة الأفلام التونسية، وفي العام نفسه صور ديكونكلوا "أسطورة كربوس"، كما صور "سر فاطمة".
وعرفت تونس السينما الناطقة لأول مرة عام 1929، حين عرض فيها فيلم "مغني الجاز" لآلان كروسلاند، إنتاج شركة إخوان وارنر. وفي العام نفسه عرفت كذلك أول مجلة سينمائية، وكان اسمها "أفلام المجلة السينماتوغرافية الأفريقية الشمالية".
ويصوِّر عبدالعزيز حسين في عام 1935 فيلماً بعنوان "تارجي"، قامت بالدور الأول فيه المطربة حسيبة رشدي. ولكن الفيلم ظل محفوظاً، ولم يعرض على الجمهور. أما أول فيلم تونسي غنائي ناطق، بترجمة فرنسية على الفيلم ذاته فهو "مجنون قيروان" لمحيي الدين مراد.
وفي 13 يونية 1946، صدر مرسوم بإنشاء مركز سينماتوغرافي تونسي، اتخذ فيما بعد اسم استوديوهات أفريكا.
وظلت تونس بلا إنتاج سينمائي محلى زهاء ثلاث سنوات حين قام ألبير لاموريس، عام 1949، بتصوير فيلمه "بيم الحمار الصغير" في جزيرة جربة التونسية. وفي العام التالي أنشئ الاتحاد التونسي لأندية السينماتوغرافية في تونس. أما في عام 1952، فقد قام جورج رينين بتصوير "رحلة عبدالله"، وظهر فيه لأول مرة على الشاشة الممثل علي بن عايد الذي أصبح في الستينيات الممثل الأول في المسرح التونسي.
وأنشئت في عام 1953 الأخبار السينمائية التونسية، وهي جريدة نصف شهرية كانت تنتج في استوديوهات أفريكا. وفي عام 1954 عرض لأول مرة في تونس السينماسكوب والسينما البارزة. ويصور سليم دريجا، في السنة نفسها فيلم "شبح للزواج"، ولكن هذا الفيلم لم يعرض لأن منتجه لم يستكمله. أما أول شركة إنتاج سينمائي في تونس فقد تأسست عام 1955 باسم العهد الجديد.
وفي عام 1955 اعترفت فرنسا بالحكم الذاتي في تونس. وفي 29 ديسمبر صدر مرسوم بإنشاء جمعية تأسيسية. وتأثرت الحياة الثقافية والفنية في تونس بهذين الحدثين التاريخيين. ففي عام 1956 أنشئ مكتب للسينما في وزارة الشؤون الثقافية والإعلام. وتطور هذا المكتب ليصبح قسماً خاصاً عام 1962 وفرعاً للسينما عام 1970.
تأثرت السينما التونسية بهذه الأحداث المهمة، ففي عام 1958 أصدر طاهر الشريعة مجلة نوادي السينما في صفاقس، وصوَّر جاك بارتيه فيلم "جحا"، الذي أعطى اسمه بعد ذلك للمجلة التونسية السينمائية الوحيدة التي تصدر في تونس الآن. وأُنشئت في العام نفسه، منظمة أصدقاء مكتبة الأفلام برئاسة السيدة صوفي الجوللي، التي تحولت عام 1970 إلى مكتبة الأفلام التونسية.
وفي عام 1959 أُنشئت الشركة المساهمة التونسية للإنتاج السينماتوغرافي، كما ألحقت مكتبة الأفلام بالدولة. وتأسست جمعية تنمية الفنون للمسرح والسينما، وهي أول جمعية لهواة التمثيل والسينما.
وصدر عام 1960 قانون صناعة السينما، وإنتاج الفيلم، وأسس في العام التالي 1961 الاتحاد التونسي للسينمائيين الهواة.
وسارت حركة التحرر في تونس جنباً إلى جنب مع الحركات الفنية والثقافية. ففي عام 1962 تأسست جمعية السينمائيين التونسيين الشبان.
وأنشئ عام 1964 مهرجان في قليبيا التونسية، لسينما الهواة، كما أنشئ مركز للتدريب، للسينماتوغرافي.
وبدأ التليفزيون في تونس إرساله عام 1966، وفي العام نفسه صور أول فيلم طويل أنتجته تونس بعد الاستقلال، واسمه "الفجر"، إخراج عمر خليفي. وفي العام نفسه كذلك، استحدثت أيام قرطاج السينمائية، وهي مهرجان سينمائي سنوي.
وتلاحق النشاط السينمائي في تونس فافتتح عام 1968، المجمع السينماتوغرافي. كما أخرج صدوق بن عيشة فيلم "مختار أو الضائعون". وأخرج حمودة بن حليمة خليفة فيلم "الأقرع"، كما صور فريد بوغدير وكلود دانا فيلم "الموت يقلق".
وقام عبداللطيف بن عمار، عام 1969 بتصوير فيلم "قصة غاية في البساطة"، وصوَّر علي عبدالوهاب فيلم "أم عباس"، ولعبت زوجته زهرة فايزة المطربة التونسية الدور الأول في هذا الفيلم، وحصلت الشركة المساهمة التونسية للإنتاج والاستغلال السينماتوغرافي على امتياز استغلال الأفلام، وتوزيعها بمقتضى المرسوم الصادر في 31 يناير 1969.
وصوَّر عمر خليفي "الفلاجة" في عام 1970. وتأسست جمعية السينمائيين التونسيين والاتحاد الأفريقي للسينمائيين في العام نفسه. واشترك عام 1971، حمودة بن حليمة، وهادي بن خليفة، وفريد بوغدير، في إخراج فيلم "في بلاد الترزاني"، وهو فيلم يتكون من ثلاثة أجزاء مقتبسة من ثلاث قصص لعلي دواجي، الكاتب الفكاهي التونسي. وأخرج إبراهيم باباي، في العام نفسه فيلم "وغدا؟ ". كما أخرج أحمد خشين فيلم "تحت أمطار الخريف" الذي لم يُسمح بعرضه.
وأدى نجاح أمي تراكي الوجه المشهور في التليفزيون التونسي، إلى قيام المخرج حمامي بتقديمه سينمائياً عام 1972، وفي العام التالي أخرج عمر خليفي فيلم "الصياح".
واهتمت الحكومة التونسية بالثقافة السينمائية، فافتتحت عام 1974 مكتبة الأفلام التونسية الجديدة، في حين أخرج عبداللطيف بن عمار فيلم "سجنان"، الذي كان قد أطلق عليه من قبل "الأب".
وهكذا سار الفيلم التونسي في درب يختلف إلى حد كبير عن الدرب الذي تسير فيه صناعة السينما في بلاد عربية أخرى، فأغلب الأفلام التونسية لا تهدف إلى الربح بل إلى عرض القضايا الاجتماعية، والسياسية التي يحاول التونسيون إيجاد حل لها.
5. السينما في المغرب:
نالت المغرب استقلالها عن الاستعمار الفرنسي عام 1956، إلا أنّ قطاع السينما فيها ظل يفتقر إلى كثير من مقومات إثبات الوجود والتقدم، باستثناء بعض محاولات السينمائيين الشباب في السنوات الأخيرة.
وقد جرى تصوير العديد من الأفلام السينمائية في المغرب، ولكن هذه الأفلام كانت أفلاماً أجنبية، ويرجع سبب تصويرها في المغرب إلى مناخ المغرب المعتدل، وجمال الطبيعة فيه، والموقع الجغرافي القريب من أوروبا، بالإضافة إلى قلة أجور الأيدي العاملة، أما عن دور العرض، فهناك حوالي 250 داراً تعرض حوالي 500 فيلم أجنبي في العام.
وأنشئ المركز السينمائي المغربي عام 1944، أي في ظل الاستعمار، وعلى الرغم من أنه استمر بعد الاستقلال إلا أنه لم يتمكن من النهوض بالسينما الوطنية المغربية. وهو ينتج عدداً قليلاً من الأفلام القصيرة، بالإضافة إلى الجريدة السينمائية.
وإلى جانب هذا المركز يقوم قسم السينما التابع لوزارة الإعلام بصناعة السينما من حيث الإنتاج، والتوزيع، والاستثمار.
والمركز السينمائي المغربي الذي أسس تحت رعاية المقيم الفرنسي في مطلع الأربعينيات، صار بعد الاستقلال مؤسسة عامة تتبع وزارة الإعلام والسياحة، والفنون الجميلة، ومقره مدينة الرباط، ويهتم هذا المركز بتطبيق القوانين التي تنظم صناعة السينما في المغرب، والتي تقوم على كاهل القطاع الخاص. ونظراً للميزانية المتواضعة للمركز، فإنه لم ينتج حتى عام 1963 سوى الجريدة السينمائية، وأشرطة قصيرة، وثائقية وتربوية، وبعض المشاهد السياحية في البلاد.
وتوزع الجريدة السينمائية الأخبار المغربية كل يوم جمعة على مختلف دور العرض في المغرب، ويكون التعليق على الأنباء باللغة العربية، أو الفرنسية، أو الأسبانية.
وينتج المركز في السنة حوالي ثمانية أشرطة 16 - 35 ملليمتر أبيض وأسود، أو ملوّن، وذلك بناء على طلب المؤسسات الحكومية المختلفة. ويخرج هذه الأنشطة فنيون محليون أو أجانب متعاقد معهم، كما يقوم المركز بتقديم المساعدات والتسهيلات للمنتجين الأجانب الذين يريدون تصوير بعض المشاهد السياحية، أو الاجتماعية في المغرب، بغية التعريف على التراث المغربي.
وأول شريط ناطق بالعربية أنتج في عام 1946 تحت اسم الباب السابع، وكان هذا الشريط في الأصل ناطقاً بالفرنسية، وقام بالتمثيل فيه ممثلون مغاربة، وتم عرض هذا الفيلم في جميع أنحاء المغرب، وكذلك على المشاهدين العرب في فرنسا.
أما القطاع الخاص، فهو الذي يهتم بإنتاج وتوزيع أشرطة السينما في المغرب التي تعرض نسخها بالعربية في معظم مدن المغرب، كما تعرض النسخة الفرنسية في بعض دور السينما التي يؤمها الأجانب، وبصورة خاصة الفرنسيون، كما تعرض نسخاً باللغة الأسبانية في الريف المغربي حيث يجيد الأهالي اللغة الأسبانية، وتمر هذه الأشرطة على الرقابة، ويشترط فيها ألا تتعارض مع الدين الإسلامي، أو عادات وتقاليد البلد، وألا تسئ إلى سياسة البلد.
6. السينما في الجزائر:
تتميز السينما في الجزائر من حيث الولادة، والهدف، والمسار عن جميع تجارب السينما في الوطن العربي، ومن خلال هذا التميز كانت تتخذ دائماً مكانة القدوة على الرغم من أنها بدأت متأخرة نسبياً من حيث التجارب عن السينما في كل من مصر، وسورية، ولبنان، والعراق.
فقد ولدت السينما في الجزائر ولادة سليمة، وسارت بخطوات مدروسة، وبهذا استطاعت أن تخرج بالسينما العربية إلى المستوى العالمي، وأن تقدم أفلاماً ممتازة على الرغم من أن ولادتها كانت صعبة، إذ إنها ولدت في قلب معركة التحرير.
وقبل حرب التحرير، وحتى عام 1946، لم يكن في الجزائر سوى مصلحة فوتوغرافية واحدة، وفي عام 1947، أنشأ الفرنسيون مصلحة سينمائية أنتجت عدداً من الأفلام الصغيرة عرضت وترجمت في غالبيتها إلى لغتين، وهذه الأفلام تقسم إلى أفلام تتعلق بالآداب، والعادات الجزائرية، أفلام ثقافية، ووثائقية، وأفلام حول التربية الصحية، وأفلام عن الزراعة، وأفلام عن الدعاية السياسية.
ومن بين هذه الأفلام، "قيصرية" 1949 لـ: ج هويزمان، "الإسلام" 1949، "العيد غير المنتظر" 1959، "أغنى ساعات أفريقيا الرومانية"، "هيبون الملكية"، "رعاة الجزائر".
أخرجت جميع هذه الأشرطة القصيرة في الجزائر، أما عمليات التظهير والتركيب فنفذت في استوديوهات باريس. وفي عام 1948 شُكلت مصلحة الإذاعة السينمائية، وكانت هذه المصلحة تضم مجموعة من القوافل، لتحمل إلى الواحات البعيدة في جنوب الجزائر أفلاماً مسليَّة.
ولعل ما يميز مسيرة السينما في الجزائر أمران هما، تأميم قاعات العرض، واحتكار شبكة توزيع الأفلام، إذ إن هاتين الخطوتين الهامتين والمكملتين لمسيرة السينما مكنتا الأفلام الجزائرية المنتجة من دخول الـ 350 قاعة الموجودة في الجزائر، كما حررتا وسائل الإنتاج السينمائي للسينما من الاحتكار والمتاجرة.
كانت السينما إحدى المعطيات التي أفرزتها حرب التحرير، بل إن مجموعة من السينمائيين استشهدوا في هذه الحرب، نذكر منهم: فاضل معمر زيتوني، عمان مرابط، مراد بن رايس، صلاح الدين السنوسي، فرذلي الغوتي مختار، عبدالقادر حسنية، سليمان بن سمعان، علي جنادي.
فقد كانت الحاجة ملحة لإيجاد سينما تواكب مسيرة حرب التحرير التي بدأت في أكتوبر 1954، وكان لا بد لهذه السينما أن تنطلق من منطلق علمي مدروس، ولا تكون مجرد مغامرة، ولهذا وفي عام 1957 فتحت مدرسة للتكوين السينمائي، وكان مديرها رونيه فوتييه، وهو فرنسي التحق بصفوف جيش التحرير الوطني، أما الذين انتسبوا إليها فكانوا خمسة مقاتلين، استشهد أغلبهم في ساحات الشرف.
وهذه المدرسة كانت البداية، وإذ تقوم بمهمة تعليم وإعداد سينمائيين، كما كانت تنتج عدة عروض تليفزيونية وزّعت على شبكات تليفزيون البلدان الاشتراكية في تلك الفترة. عملت هذه المدرسة فترة قصيرة لا تتعدى الشهور الأربعة، ولهذا وجدت السينما أن لا بد لها من تطوير وتنظيم نفسها، فكان عام 1960 - 1961 بداية هذه الخطوة الأساسية، وذلك بإنشاء لجنة للسينما مرتبطة بالحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، ثم بتأسيس مصلحة السينما للحكومة المؤقتة، وأخيراً بإقامة مصلحة للسينما تابعة لجيش التحرير الوطني.
7. السينما في السودان:
أنشئت أول وحدة لإنتاج الأفلام في السودان في عام 1949، وهي مكتب الاتصالات العام للتصوير السينمائي الذي اقتصر إنتاجه على الأفلام الدعائية، وجريدة نصف شهرية، وكان هذا الإنتاج خاضعاً لسلطات الاستعمار البريطاني.
وعندما استقل السودان عام 1956، كان عدد دور العرض 30 داراً، وبعد ثورة 25 مايو 1969، آلت عملية الاستيراد والتوزيع إلى الدولة، وأنشئت مؤسسة للسينما باسم مؤسسة الدولة للسينما، تتبع وزارة الإعلام والثقافة، ولكن التأميم لم يشمل دور العرض التي وصل عددها إلى 55 داراً.
كما امتلكت المؤسسة سيارة سينما، ووحدتين للوسائل السمعية البصرية بوزارتي التربية والتعليم، والزراعة والري، وحتى الآن اقتصر إنتاج المؤسسة على الأفلام التسجيلية والقصيرة، بمتوسط عشرة أفلام في السنة.
ويلاحظ أن الأفلام التي أنتجت منذ بداية الخمسينيات حتى الآن، ليس من بينها سوى فيلمين أو ثلاثة تنطوي على محاولات جادة، فالسينما تربية للنشئ، ومعالجة لمشاكل الناس.
وجرى التركيز على السينما التسجيلية دون الروائية، ومن المحاولات التسجيلية الجادة في السينما السودانية فيلم "الطفولة المشرّدة" الذي يعالج مشكلة الأطفال الذي ينزحون من الريف إلى المدينة، ويجدون أنفسهم غير قادرين على الانسجام معها، فيقعون فريسة الانحرافات كالسرقة وغيرها، وأخرجه محمد إبراهيم، وتمّ إخراجه بعد الاستقلال أي بين عامي 1956 و 1957، ثم أُخرج فيلمٍ آخر في هذا الاتجاه هو فيلم "المنكوب"، وصوره المصور السينمائي السوداني جاد الله جبارة. ولكن أكثر الأفلام التسجيلية كانت عن النشاط الحكومي الرسمي وإنجازاته دون أن تحمل أية معالجة سينمائية فنية متميزة، بدليل أن المخرج إبراهيم شنات الذي تخرج عام 1964 بعد أن درس السينما في ألمانيا الديموقراطية، حاول إنتاج أفلامٍ تسجيلية خارج هذا الإطار الرسمي ففشل بسبب التعقيدات الروتينية.
كان السينمائيون السودانيون الجدد قد بدأوا يطرحون بعد عام 1967 شعار إحلال الفكر محل الإثارة، وفي تلك المرحلة بدأ نشاط ثقافي واسع في جامعة الخرطوم، حيث تشكَّل مسرح سمي بجماعة المسرح الجامعي، وأسس ناد سينمائي وفرق للفن الشعبي، مما شجع عدداً آخر من الشبان السودانيين على السفر إلى الخارج ودراسة السينما والمسرح دراسة متخصصة، ومن هؤلاء: سامي الصاوي الذي درس في معهد الفيلم البريطاني في لندن، ومنار الحلو، والطيب مهدي، اللذان درسا التصوير في رومانيا، وسليمان نور، الذي درس على يد السينمائي التسجيلي الكبير رومان كارمن، وتخرج من معهد السينما في موسكو عام 1979. وكانت لدى هؤلاء الشباب إرادة صنع سينما تسجيلية حقيقية مرتبطة بحياة الناس.
ومن هنا بدأت تبرز مسألة سينما جديدة، أو بالأحرى بداية جادة لسينما تسجيلية، ولكن ما جعل هذه المحاولة ناقصة هو الروتين بين العاملين بين قسم السينما، وبين الإنتاج السينمائي، الذي يمتلك الإمكانات الفنية، بالإضافة إلى تعدد الجهات التي تتحدث باسم السينما.
وقد جرت أول محاولة لإنتاج فيلم روائي طويل عام 1970، وهو فيلم "آمال وأحلام" إنتاج إبراهيم ملاسي، وقام بالمحاولة الثانية أنور هاشم الذي تخرج في المعهد العالي للسينما بالقاهرة عام 1971 عندما أنتج وأخرج فيلم "شروق" عام 1974.
أما قسم السينما في وزارة الثقافة فقد أنتج فيلمين فقط خلال السبعينيات، وهما فيلم "دائر على حجر" من إخراج سامي الصَّاوي، ويتناول حرفة يدوية في طريقها إلى الانقراض، وهي صناعة حجر الطاحون. وفيلم "أربع مرات للأطفال" من إخراج الطيب مهدي، ويعالج مشكلة الأطفال المعوقين.
وفي السودان مجلة سينمائية دورية تصدر كل أربعة أشهر، وتهتم بشكل خاص بالمادة السينمائية السودانية، بالإضافة إلى موضوعات السينما في الوطن العربي وفي العالم. ومن الأفلام السودانية التي نالت جوائز في المهرجانات فيلم "ومع ذلك فالأرض تدور" للمخرج سليمان النور، الذي نال إحدى جوائز مهرجان موسكو الحادي عشر في مسابقة الأفلام التسجيلية، وللمخرج نفسه فيلم آخر مميز باسم "أفريقيا".
…
[1] الميكساج: هو عملية دمج جميع أشرطة الفيلم الصوتية، حوار وموسيقى ومؤثرات صوتية، على شريط واحد.
8. السينما في ليبيا:
في ديسمبر 1951 استقلت ليبيا عن إيطاليا، ومع ذلك ظل سوق العروض السينمائية فيها تابعاً لإيطاليا على نحو لا نجد له مثيلاً إلا في الدول الواقعة تحت الحكم الاستعماري. ففي كل عام كانت دور العرض التي يبلغ عددها حوالي ثلاثين داراً، تعرض حوالي خمسين فيلماً مصرياً وأربعين فيلماً إيطالياً، وعشرة أفلام أو أكثر من الأفلام الأمريكية، وغيرها من أفلام الدول الغربية. وكانت الأفلام الإيطالية تعرض باللغة الإيطالية دون ترجمة عربية، وفي دور عرض مخصصة للأجانب فقط. كما فرض آنذاك على جميع دور العرض أن تعرض يوم الأحد أفلاماً إيطالية.
ففي عام 1966 مثلاً، كان في طرابلس 13 داراً للعرض منها تسعة للأجانب، وأربعة للمواطنين. وحتى قيام ثورة الفاتح من سبتمبر 1969 لم تعرف ليبيا الإنتاج السينمائي القومي عدا الجريدة التي كانت تصدرها الحكومة منذ عام 1955.
ظهرت السينما الليبية وتطورت خلال مرحلتين أساسيتين: الأولى منهما تقع خلال الفترة التي بدأت عام 1963 تقريباً، حتى بداية تاريخ إنشاء المؤسسة العامة للخيالة الليبية في عام 1973، حيث بدأت المرحلة الثانية. كانت الأشرطة المنتجة خلال المرحلة الأولى من نوع الأفلام التسجيلية مقاس 35 مم، بعضها أبيض وأسود، والبعض الآخر ملوّن، وقد أنتجت بجهود بعض الشباب الليبي المتحمس والهاوي لهذا الفن، ولم يكن يزيد عددهم خلال بداية تلك المرحلة عن عدد أصابع اليدين. ويقدَّر عدد الأشرطة التي أنتجت خلال المرحلة الأولى بحوالي سبعين شريطاً تسجيلياً مختلفاً، صادف بعضها نجاحاً فنياً مرموقاً.
مع بداية عام 1970 بُدئ في إنتاج مجموعة من الأشرطة السينمائية التعليمية بلغ عددها ستة أشرطة تعليمية، وفي عام 1971، أي بعد قيام ثورة الفاتح من سبتمبر، بدأ تطور كبير في مجال النشاط الخيالي عندما أنشأت أمانة الإعلام والثقافة إدارة الإنتاج السينمائي، وجُهزت بأحدث الآلات، والأجهزة، والمعدات اللازمة للإنتاج، فضلاً عن إنشاء معمل حديث لتحميض وطبع أشرطة الخيالة مقاس 35 مم، 16 مم أبيض وأسود، أما الأشرطة الملونة فكان يجري تحميضها وطبعها بالخارج. وكان من إنجازات تلك الإدارة قيامها بإنشاء وتجهيز مكتبة وسجل خاص للأشرطة السينمائية، جمعت فيه بعض الأشرطة التسجيلية التاريخية التي صورت في ليبيا إبان الاحتلال الإيطالي بواسطة بعض شركات السينما الأجنبية. ويرجع تاريخ تصوير هذه الأشرطة إلى عام 1911، وقد أفادت هذه الأشرطة كثيراً في إنتاج بعض الأفلام التسجيلية الناجحة، يذكر منها شريط "كفاح الشعب الليبي ضد الاستعمار" الذي انتج عام 1973.
قفزت صناعة السينما في الجماهيرية قفزتها الكبرى في طريق النمو والارتقاء بصدور قانون إنشاء المؤسسة العامة للخيالة في 13 ديسمبر 1973، لتنتقل السينما الليبية بذلك إلى مرحلتها الثانية، التي تعد نقطة التحول والانطلاق إلى عالم السينما الرحب، حيث أنشأت المؤسسة العامة للخيالة معملاً حديثاً للصوت مجهزاً بأحدث الأجهزة والمعدات اللازمة للتسجيلات الصوتية 35 مم، 16 مم ضوئي، ومغناطيس، وقاعة حديثة للميكساج، [1] والعرض، فضلاً عن أجهزة المونتاج والتوليف للصورة والصوت، وأحدث معداتٍ وأجهزةٍ للتصوير، والإضاءة.
في خلال الفترة من أبريل 1974 إلى أبريل 1979، أُنتج حوالي 134 شريطاً تسجيلياً متنوعاً، إلى جانب بعض أعداد من مجلة الخيالة المصورة. كما أُنتج كذلك 7 أشرطة روائية طويلة بعضها إنتاج مشترك، وحصل بعضها على جوائز دولية.
في يونية 1979، بُدئ في إنتاج أول شريط روائي طويل على مستوى الإنتاج العالمي بأيدٍ عربية ليبية خالصة.
وفي 21 يولية 1979، صدر قرار اللجنة الشعبية العامة بالجماهيرية بإنشاء الشركة العالمية للخيالة، لتصبح الجهة المختصة والمسؤولة عن كل ما يتعلق بالنشاط الخيالي من إنتاج، وعروض، واستيراد، وتوزيع، وتسويق الأشرطة، وقد ضم إليها جميع دور العرض بالجماهيرية.
9. السينما في العراق:
عُرض أول أفلام السينماتوغراف في 26 يولية 1909، ولا أحد يعرف من الذي جاء بهذه الأفلام أو الألعاب كما وصفت من قبل تلك الجمهرة المبهورة من البغداديين الذين شاهدوها، ويبدو أن هذا الفن قد راق لتجار تلك الفترة، إذ قرروا اختيار مكان عام يرتاده الأهالي وسط بستان لمشاهدة الألعاب الخيالية بموجب بطاقات.
ذكر إعلانٌ نشرته جريدة صدرت في بغداد في سبتمبر 1911، "يبتدي أول تمثيل بالسينماتوغراف في يوم الثلاثاء مساء في البستان الملاحق للمباخانة، وهذا التمثيل يكون بالأشكال اللطيفة التهذيبية المبهجة الآتية:
1 صيد الفهد، 2 الرجل الصناعي، 3 بحر هائج، 4 التفتيش عن اللؤلؤة السوداء، 5 سباق مناطيد، 6 طيور مفترسة في أوكارها، 7 خطوط حية متحركة، 8 تشييع جنازة إدوارد السابع في إنجلترا، وهو مشهد نفيس"، وجاء في الإعلان كذلك "وفي كل جمعة مساء يتغير بروجرام هذه المشاهد بغيرها".
والقول هذا مقتبس من إحدى الصحف الصادرة في عام 1911، "إن ذلك المكان - البستان الذي عرضت فيه الأفلام الثمانية، هو نفسه الذي دعي فيها بعد بسينما بلوكي، نسبة إلى تاجر مستورد للآلات، كان معروفاً في العراق، وبذلك تكون بلوكي هي أول دار عرض تفتتح في بغداد. وبعدها تعددت دور العرض مثل عيسائي، وأوليمبيا، وسنترال سينما، والسينما العراقي، والسينما الوطني .. الخ".
في العشرينيات، أكثرت الصحف من نشر الأخبار والتعليقات حول الأفلام السينمائية، وكذلك قامت بعثات أجنبية بزيارة بغداد، وتصوير الأحداث الجارية في العراق وعرضها في دور السينما ببغداد.
وفي الثلاثينيات، وأثر اتساع العروض، وتكاثر الدور، وازدياد اهتمام الصحافة بالسينما جرت عدة محاولات لإنتاج أفلام في العراق، واحدة منها في عام 1930، وأخرى في منتصف هذا العقد أقدمت عليها شركة أجنبية. إلا أن كل هذه المحاولات التي أشرنا إليها وغيرها قد أجهضت قبل أن يوفق أصحابها إلى تصوير اللقطات الأولى لأفلامهم.
ومن جانب آخر، فإن عدداً من هواة السينما قد ظهر في عدة أفلام مصرية وسورية خلال عقد الثلاثينيات، نذكر منهم نزهت العراقية التي شاركت في فيلم "العزيمة" الذي أخرجه كمال سليم.
ومع مطلع الأربعينيات، وحين كانت حضارة العالم عرضة للدمار، شرع بعض أصحاب الأموال وأثرياء الحرب في تكوين الشركات السينمائية، وكانت أولاها هي شركة أفلام بغداد المحدودة التي أجيزت في أواخر عام 1942، والتي لم توفق أيضاً إلى النجاح في إنتاج أي فيلم.
وفي عام 1946 أُنتج أول فيلم في العراق من قبل شركة أفلام الرشيد العراقية - المصرية، وهو فيلم "ابن الشرق"، الذي أخرجه المخرج المصري الراحل نيازي مصطفي، ومثَّل فيه عدد كبير من الفنانين العرب، وخاصة من مصر، مثل بشارة واكيم، ومديحة يسري، ونورهان، وأمال محمد. أما من العراق فشارك في الفيلم كل من عادل عبدالوهاب، وحضيري أبو عزيز، وعزيز علي. وعرض "ابن الشرق" خلال أيام عيد الأضحى في أواخر عام 1946، الذي شهد أيضا إنتاج الفيلم الثاني "القاهرة بغداد"، الذي أنتجته شركتان هما شركة أصحاب سينما الحمراء، وشركة اتحاد الفنيين المصرية.
ومع الفيلمين "ابن الشرق" و"القاهرة بغداد"، شرع في عام 1946 بتصوير الفيلم الثالث "عليا وعصام"، الذي أخرجه الفرنسي أندريه شوتان. ومثَّل فيه كل من: إبراهيم جلال، وسليمة مراد، وجعفر السعدي، وعبدالله العزاوي، ويحيى فايق، وفوزي محسن الأمين وغيرهم.
وبعد نجاح فيلم "عليا وعصام" قام منتجه، استوديو بغداد، بإنتاج فيلم جديد هو "ليلى في العراق"، الذي أخرجه أحمد كامل مرسي من مصر، ومثل فيه المطرب محمد سلمان من لبنان، وشارك في الفيلم من العراق إبراهيم جلال، وعفيفة إسكندر، وعبدالله العزاوي، وجعفر السعدي. وقد عرض ليلى في العراق في سينما روكسي خلال ديسمبر 1949.
أصيب القطاع الخاص بخمول بعد عرض فيلم ليلى في العراق، ولم يجرؤ أحد على إنتاج فيلم يستهل به عقد الخمسينيات.
إن تفسيرات مختلفة طرحت عن أسباب هذا الركود الذي ساد مطلع الخمسينيات، والذي كسرته مبادرة محمودة قام بها بعض الشباب الطموح، كان في مقدمتهم ياس علي الناصر، الذي أسس شركة دنيا الفن في عام 1953، والتي دخلت ميدان الإنتاج معتمدة على قدرات عراقية خالصة، فكان فيلمها الأول فتنة وحسن، الذي أخرجه حيدر العمر، وجرى عرضه في عام 1955.
ثم تتابع ظهور الشركات، وافتتاح المكاتب التي كانت تتسابق وتتعجل الإنتاج، واختلطت الأسماء أمام الجمهور، وكان محصّلة الصّراع أفلاماً رديئة فنيا، وهزيلة في معالجتها للمضامين التي تعطى، وكانت هناك أفلام قليلة جداً تلوح كومضات.
وتأسست عام 1960، أول مؤسسة رسمية تعني بالسينما، بعد أن ظل إسهام الدولة في الإنتاج السينمائي غائباً خلال الأعوام السابقة، وبعد أن كان هذا الإنتاج حكراً على القطاع الخاص، ففي هذا العام جرى إنشاء مصلحة السينما والمسرح التي بدأت نشاطها بإنتاج الأفلام الوثائقية، إضافة إلى تقديمها التسهيلات للعاملين في القطاع الخاص. أما في مجال الفيلم الروائي، فإن المصلحة لم تقدم على هذه الخطوة إلا بعد بضع سنوات. حيث شرع في عام 1966 تصوير فيلم "الجابي"، من إخراج جعفر علي، وبعد عرضه تتابعت أفلام المصلحة فكان "شايف خير" لمحمد شكري جميل، و"جسر الأحرار" لضياء البياتي. وفي عام 1973 أُنتج فيلم "الظامئون" الذي يعتبر علامة مميزة في مسيرة الأفلام العراقية، وهو من إخراج محمد شكري جميل.
توقف دور القطاع الخاص كمستورد وموزع للأفلام، وانتهى، إثر صدور قرار لمجلس قيادة الثورة في الأول من أبريل 1973 الذي قرر استيراد وتوزيع الأفلام بالدولة. وتتولى هذه المهمة الآن مديرية استيراد الأفلام التابعة للمؤسسة العامة للسينما والمسرح. أما دور القطاع الخاص في ميدان الإنتاج فلم يصدر أي قرار بشأنه، أو يتعارض مع هذا القطاع الذي لم يوفق إلى بناء صناعة سينمائية في العراق.
10. السينما في الكويت:
الحديث عن السينما في الكويت يقود إلى الحديث عن التجارب المتقدمة التي حققها المخرج الكويتي، خالد الصديق في هذا المجال. ونجد ذلك في فيلمي "بس يا بحر"، وفيلم "عرس الزين". ولعل احتكاك المخرج خالد الصديق بالعديد من السينمائيين العالميين، وخصوصاً أثناء دراسته في الولايات المتحدة الأمريكية، كانت دافعاً قوياً إلى استمراريته، حين قدم فيلمه الروائي الثاني عن قصة الأديب السوداني الطيب صالح عرس الزين.
كان ولا يزال تليفزيون الكويت، ومراقبة السينما بالذات، صاحبة اليد العليا في دعم الحركة السينمائية الوليدة في الكويت، وذلك حينما أتاحت الفرصة أمام العديد من المواهب لتقديم ما لديها، فكانت تجارب الصديق، والسنعوسي، وعبدالوهاب سلطان، وعبدالله المحيلان التي تحمل أعماله الكثير من القلق والرغبة والتوق للعطاء.
وهناك بعض الاجتهادات الفردية، التي تدعو إلى التفاؤل، ولكنها تبقى اجتهادات فردية بحاجة ماسة إلى التأكيد والدعم، مثل الفيلم الروائي الكويتي الثاني "الصمت"، للمخرج هاشم محمد، عن قصة عبدالرحمن الضويحي، وبطولة مجموعة من نجوم المسرح، والفيلم يتحدث عن الكويت في فترة الأربعينيات.
11. السينما في الإمارات:
شهدت دولة الإمارات العربية المتحدة، نهضة كبيرة بعد تأسيسها عام 1971، فهناك حركة مسرحية متطورة ومهرجان للمسرح يقام في إمارة الشارقة، كما توجد استديوهات تليفزيونية في إمارة عجمان تنتج لتليفزيون الإمارات الذي بدأ عام 1969، ولغيره من القنوات التليفزيونية العربية.
ويصل عدد دور العرض السينمائي في الإمارات إلى 14 داراً، وبعد نجاح نادى الكويت للسينما، ثم نادى البحرين تأسس عام 1981 نادى دبي، وعام 1982 نادى الشارقة، وفي عام 1988 شهدت الإمارات إنتاج أول فيلم روائي في الدولة، وخامس فيلم على مستوى دول الخليج بعد أفلام خالد الصديق الثلاثة، وفيلم هاشم محمد، وهو فيلم عابر سبيل إخراج على العبدول.
والفيلم من إنتاج شركة أفلام اليمامة التي تأسست عام 1979 مع المجموعة الفنية المكونة من عارف إسماعيل، وسعيد بوميان، ومحمد سعيد، وإسماعيل النوبي، وعلى العبدول، وعبدالله المناعي، ورشا المالح، وتدور أحداث الفيلم المأخوذ عن قصة لمحمد مرى في الخمسينيات، حيث تقع أسرة بوناصر ضحية المشعوذين المطاوعة الذين كانوا يقومون بدور الأطباء، وينتهي الفيلم بالانتصار للعلم ضد الشعوذة.
12. السينما في السعودية:
لا توجد دور للعرض السينمائي في المملكة العربية السعودية، ولكن هناك سوق كبير لشرائط الفيديو. وتُنتج في السعودية أفلامٌ تسجيلية وأفلامٌ قصيرة، ولكن عددها محدود للغاية، ورغم وجود نشاط تمثيلي في المسرح والتليفزيون إلا أن أول فيلم روائي سعودي لم ينتج بعد.
أول مخرج سينمائي سعودي هو عبدالله المحيسن، الذي درس في لندن عام 1974، وأسس شركة في الرياض عام 1975، وأخرج ثلاثة أفلام تسجيلية الأول عن مدينة الرياض بعنوان "تطوير الرياض" عام 1976، والثاني "اغتيال مدينة" عام 1977، والثالث "الإسلام جسر المستقبل" عام 1982، وهو فيلم تسجيلي طويل مدته 90 دقيقة.
وأهم شركات السينما السعودية هي شركة محمد القزاز، التي أنتجت عدداً من المسلسلات التليفزيونية للكبار والصغار، والأفلام التسجيلية، والمسرحيات الأجنبية للتليفزيون، ومنها ست مسرحيات للكاتب الفرنسي موليير Moliere.
13. السينما في قطر:
كانت دور العرض السينمائي في قطر منذ عام 1952 حتى عام 1960 قاصرة على دور عرض 16 مم، داخل شركات البترول العاملة في الدولة. وفي الستينيات وُجدت بعض دور العرض السينمائي الصيفية مثل دور الأندلس، وأمير، والأهلي. ولكن تغير الموقف تماما مع حلول عام 1970، حيث بدأ إرسال التليفزيون، وتأسست فرقة المسرح الوطني، والتي تضم ممثلين وممثلات، مثل الممثلة وداد الكوارى. كما تأسست شركة قطر للسينما وتوزيع الأفلام وهى شركة حكومية تتولى الإشراف على دور العرض القائمة، وبناء دور عرض جديدة، وبعد انتشار الفيديو ابتداء من نهاية السبعينيات، ونظراً لعدم وجود قانون لحقوق الفيديو، أصبحت دور العرض تقتصر على عرض الأفلام الأجنبية فقط.
وتتولى الرقابة على المصنفّات الفنية في قطر لجنة تابعة لوزارة الإعلام تضم حوالي 30 رقيبا، كما أُنشئت في وزارة الإعلام في أول يوليّه 1981، وحدة الأفلام التسجيلية والقصيرة أشرف عليها إسماعيل خالد، وهو أول مخرج قطري تخرَّج في المعهد العالي للسينما بالقاهرة عام 1978. واستهدفت تلك الإدارة إنتاج أفلام تسجيلية ووثائقية، ودراسة المشروعات المقدمة من مؤسسات أجنبية لإنتاج أو تصوير أفلام في قطر، ومتابعة إنتاج أو تصوير الأفلام الأجنبية، وإنشاء مكتبة أفلام، وإنتاج أفلام مشتركة مع وعن دول الخليج، إضافة إلى إنتاج جريدة قطر الناطقة.
والمحاولة الأولى لإنتاج فيلم روائي قطري جرت عام 1983، حين قام المركز الخليجي لتنسيق التدريب الإذاعي والتليفزيون في الدوحة، بإنتاج فيلم "حارس الفنار"، تحت إشراف المخرجَين المصريين كمال أبو العلا، وفهمي عبدالحميد، والذي اشترك في إخراجه عدد كبير من مخرجي التليفزيون في الخليج، منهم غافل فاضل، وعامر الزهيري من الكويت، وعبدالحسن مصطفي من السعودية، وعبدالغنى المنصوري، وحمد بريك عمر من الإمارات، وأحمد الشيباني، وراشد الخاطر، وعلي الحمادي، وعليى الجاعوني، وخليفة المناعي، وعبدالله ميرزا من قطر. وتدور أحداث الفيلم في فنار يعيش فيه حارس الفنار مع ابنه في عزلة تامة، وأثر زيارة قام بها الابن للمدينة يعقره كلب ضال، فيصاب بمرض الكلب، ويضطر الأب إلى قتل ابنه في النهاية.
14. السينما في عُمان:
توجد في سلطنة عُمان 10 من دور العرض السينمائي، تعرض حوالي مائة فيلم في السنة، 70% منها هندية، 15% مصرية، 14% أمريكية، 1% باكستانية.
وهناك دائرة للفنون تابعة لوزارة الإعلام والثقافة تختص من بين ما تختص بالسينما، وتملك هذه الدائرة سيارتان لعرض الأفلام، ويقوم مندوبها باستلام الأفلام من الجمارك، وعرضها على دائرة الرقابة.
15. السينما في البحرين:
رغم وجود حركة أدبية بارزة في البحرين. ورغم وجود حركة مسرحية، ورغم أن عدد التذاكر المباعة في دور العرض السينمائي تتزايد، وتصل إلى حوالي مليوني تذكرة سنويا حسب إحصاء عام 1983، ورغم وجود التليفزيون منذ عام 1973، إلا أن الإنتاج السينمائي في البحرين لا يتجاوز عشرين فيلمًا قصصيًا وتسجيليًا على أقصى تقدير.
تحتكر شركة البحرين للسينما التي تأسست عام 1968، دور العرض البالغ عددها ستة دور، كما تحتكر استيراد الأفلام الأجنبية، وتوزيعها، وعرضها، وتصل إلى حوالي 300 فيلم في السنة، منها 70% أفلام هندية، و 25% أفلام أمريكية، و 5% من دول أخرى أوروبية، وقد توقفت شركة البحرين عن بناء دور عرض جديدة، وتحولت إلى إنتاج وتوزيع شرائط الفيديو للأفلام الأجنبية.
وفي عام 1980 تأسس نادي البحرين للسينما. وبفضل مجموعة المثقفين من قيادات هذا النادي مثل أمين صالح، وخليل يوسف، وعبدالمنعم إبراهيم، ومحمد فاضل، ونادر المسقطي، ورشيد المعراج، وعبدالقادر عقيل، ويوسف فولاذ تمكن نادي البحرين من إصدار مجلة أوراق سينمائية، صدر منها ثمانية أعداد من عام 1981 إلى عام 1987، ويتميز نادي البحرين للسينما بأن من أهدافه خلق حركة سينمائية محلية.
ويعتبر خليفة شاهين الذي ولد عام 1939، أول مخرج سينمائي في البحرين. وقد تخرج شاهين في مدرسة للفنون في لندن عام 1965، وأنتج وأخرج أول جريدة سينمائية عام 1966، وأول فيلم تسجيلي بعنوان كشمير تنادى عام 1967. وفي عام 1971 أسس شاهين شركته الخاصة. ومن بين الأفلام التي أخرجها لشركته "اليوم القومي" 1973، "صور جزيرة" 1975، و"أناس في الأفق" 1976، و"الموجة السوداء" عام 1977.
16. السينما الفلسطينية:
ولدت السينما الفلسطينية في فترة مبكرة من بداية الثلاثينيات من هذا القرن على يد بعض الشغوفين لهذا الفن، ومنهم إبراهيم حسن سرحان الذي صَّور الملك عبدالعزيز آل سعود خلال مجيئه إلى فلسطين عام 1935، وقد عرض هذا الفيلم ومدته عشرون دقيقة في سينما أمير في تل أبيب. ومن أفلامه الأخرى "شمس وقمر"، و"صراع في جرش". كما قام بصنع فيلم "أحلام تحققت" بمساعدة جمال الأصفر. وأنشأ إبراهيم حسن سرحان ستديو فلسطين، وأسس مع شخص آخر شركة للإنتاج السينمائي، وشرعا في إنتاج فيلم بعنوان "ليلة العيد" إلا أن الفيلم لم يستكمل.
وهناك محمد صالح الكيالي الذي صنع شريطاً قصيراً أو أكثر قبل أن ينزح عام 1948، كما تمكن من إخراج فيلم روائي طويل عام 1969 في سورية بعنوان "ثلاث عمليات في فلسطين".
في عام 1969، بدأ نشاط سينمائي بسيط ضمن إطار قسم التصوير الذي خُص بمكان، ومُنح بعض الإمكانيات المادية، وكانت تستخدم آلة تصوير سينمائي مقاس 16 مم، لتسجيل كل ما يمكن تسجيله من دون خطة عمل محددة، وتسجّل ما يدور من أحداث ليكون بعد سنوات مادة وثائقية نادرة توضع في متناول السينمائيين والمؤرخين والباحثين.
وفي عام 1969 وبعد تحديث قسم التصوير أُنجز أول فيلم سينمائي وثائقي بعنوان "لا للحل السلمي"، وأتبعته وحدة أفلام فلسطين في العام 1970، بإنجاز فيلم "بالروح بالدم" لمصطفي أبو علي، وهو أول فيلم هام للوحدة، وكان هذا الفيلم بمثابة المؤشر للطريق الذي سارت فيه السينما الفلسطينية.
وقد قامت وحدة أفلام فلسطين بإنتاج 15 فيلماً كان منها المتوسط والقصير. وفي العام 1973، ساعدت وحدة أفلام فلسطين في إنشاء وتأسيس جماعة السينما الفلسطينية التي انضمت إلى مركز الأبحاث الفلسطينية، وكانت نتاجاً لتجارب السينما من خلال التنظيمات الفلسطينية، وقد شملت هذه الجماعة أعضاء كافة التنظيمات، والسينمائيين التقدميين العرب، وانطلقت من هدف تجميع الجهود من أجل سينما فلسطينية ترافق نضال شعب فلسطين. وأنتجت هذه الجماعة فيلماً واحداً هو "مشاهد الاحتلال في غزة"، ثم توقفت عن الإنتاج لأسباب تنظيمية. ولكن الحقيقة التي يجب ذكرها هي أن الجماعة كانت امتداداً فعلياً لعمل وحدة أفلام فلسطين، ومع توقف عمل الجماعة تابعت الوحدة العمل باسم أفلام فلسطين مؤسسة السينما الفلسطينية، ضمن إطار الإعلام الموحد لمنظمة التحرير الفلسطينية.
ويعني البعض بالسينما الفلسطينية الأفلام التي تناولت الموضوعات الفلسطينية، والتزمت بالقضية الفلسطينية، وآمال وطموحات الشعب الفلسطيني، وثورته المسلحة ضد الاغتصاب الصهيوني.
وعادة ما تقسم السينما الفلسطينية إلى الفئات التالية:
أ. إنتاج المنظمات الفلسطينية.
ب. إنتاج الدول العربية.
ج. إنتاج أصدقاء الثورة الفلسطينية من غير العرب.
وقد عبَّرت السينما الفلسطينية، ضمن إطار منظمة التحرير الفلسطينية، عن نضال الشعب الفلسطيني في سبيل إعادة وطنه المغتصب، وإصراره على هزيمة العدو الصهيوني لإقامة الدولة الديموقراطية على كامل تراب فلسطين، إضافة إلى تسجيل النشاطات العسكرية للثورة الفلسطينية على الساحة الأردنية والسورية واللبنانية التي تسجل جانباً مهماً من جوانب الحرب التحريرية على الجبهة الفلسطينية في جنوب لبنان.
…
[1] الميكساج: هو عملية دمج جميع أشرطة الفيلم الصوتية، حوار وموسيقى ومؤثرات صوتية، على شريط واحد.
المبحث الثالث
الفيلم السينمائي أنواعه، وأهميته، وخصائصه
يعرف الفيلم السينمائي بأنه عبارة عن سلسلة من الصور المتوالية الثابتة، عن موضوع، أو مشكلة، أو ظاهرة معينة، مطبوعة على شريط ملفوف على بكرة، تتراوح مدة عرضه عادة من 10 دقائق إلى ساعتين، حسب موضوعه والظروف التي تحيط به. والأفلام السينمائية تعد وسيلة هامة من وسائل الاتصال التي يمكن استخدامها لتوضيح، وتفسير التفاعلات، والعلاقات المتغيرة في مجالات كثيرة، ومع فئات وأعمار مختلفة؛ وتستخدم الأفلام السينمائية في مجالات عديدة، ولأغراض متعددة حيث تستخدم في المجالات التعليمية، والإرشادية، والزراعية، والصناعية، وتتراوح أغراضها بين الإعلام والإرشاد، والتثقيف وغير ذلك من الأغراض الأخرى كالترفيه مثلاً.
1. فريق العمل أو طاقم الفيلم السينمائي The Film Crew:
الطاقم الأساسي للفيلم السينمائي يتماثل في مكوناته، ولكن يختلف عدد العاملين فيه، وفقاً لميزانية الفيلم، وحجم الإنتاج. ويضم الفيلم السينمائي ما يلي:
أ. طاقم الإخراج:
1 - المخرج
2 - المخرج المنفذ
3 - مساعدو المخرج
ب. طاقم آلة التصوير:
1 - مدير التصوير
2 - المصور
3 - المختص بالتركيز البؤري
4 - المسؤول عن دفع العربة
5 - مساعد التصوير
ج. طاقم الصوت:
1 - المختص بمزج الأصوات
2 - المختص بذراع الميكروفون
3 - رجال الكابلات
د. طاقم الإضاءة:
1 - كبير العمال
2 - المساعدون
3 - المسؤول عن مولِّد الكهرباء
هـ. قسم المكملات/ الإكسسوارات:
1 - رئيس القسم
2 - المساعدون
و. قسم الملابس
ز. قسم الماكياج
ح. السائقون، والمصورون الفوتوغرافيون، مدربو الحيوانات .. الخ.
2. أنواع الفيلم السينمائي:
هناك تصنيفات عديدة للفيلم السينمائي من بينها هذا التصنيف الذي يقسم الفيلم السينمائي إلى الأنواع التالية:
* مغامرات… Adventure
* كوميديا Comedy
* كوميديا درامية… Dramatic Comedy
* كوميديا موسيقية… Musical Comedy
* رسوم متحركة Animated
* أفلام قصيرة Short Films
* أفلام وثائقية… Documentary Films
* دراما Drama
* نفسية… Psychological
* الجاسوسية… Espionage
* أفلام خيالية وعجائب Fantasy
* أفلام موسيقية Musical Films
* أفلام سياسية Political Films
* أفلام استعراضية… Spectacles
* حروب… Wars
* بوليسية… Police
* رعب Horror
* رعاة بقر Western
* أفلام تعليمية.… Educational Films
يفضل البعض إطلاق كلمة Genre، التي تعني ضرب أو نوع أو جنس بدلا من كلمة Kind على النوعيات المختلفة للأفلام، ومن هؤلاء ستانلي جيه سولومون، في كتابه أنواع الفيلم الأمريكي عام 1976، وفيه يعِّرف مفهوم النوع بالنسبة للفيلم Film Genre ، بأنه الترتيب الواضح لقوالب الحكي Narrative Patterns، بهدف إنتاج خبرات معينة ترتبط من فيلم إلى آخر. ويقول إن الشعبية المتواصلة لأنواعٍ سينمائية معينة، كأفلام الغرب، والأفلام الموسيقية، والحربية، والتي استمرت لعقود عديدة، وعبر طرز متغيرة، وإحساسات جديدة، لهو أمر يوحي بأن هذه القوالب نفسها تعتمد على أحداث، أو أنشطة حركية Actions متميزة الخصائص، وذات تميز أزلي، وذلك في نظر أنماط عديدة من الجمهور العريض، ويضيف أنه لا عجب أن يحاول من يكتبون عن الأفلام في السنوات الأخيرة، تعليل الاستساغة الكبيرة التي تحققها الأنواع لدى الجمهور، وذلك من خلال مسحهم الشامل لتفاصيل الرموز، والصور Images، والمحتوى الاجتماعي، والتطورات التاريخية للأفلام النوعية.
ويفضل سي كونجليتون تقسيم الأفلام السينمائية إلى الأنواع التالية:
* أفلام الحركة Action: الأفلام التي تعرض متاعب الإنسان في الحياة بأسلوب سريع منتظم.
* أفلام المغامرات Adventure: أفلام تعرض رحلاتً لأماكن مختلفة.
* أفلام الرسوم المتحركة Animated: أفلام تعتمد على الرسوم المتحركة.
* أفلام هزلية أو كوميدية Comedy: أفلام تعرض مواقف هزلية.
* أفلام الجريمة Crime: وتبنى حبكتها على أعمال إنسانية غير قانونية.
* أفلام تسجيلية Documentary: أفلام تقدم تقريراً عن موضوع، ليس قصة أو دراما روائية.
* أفلام مأساوية أو درامية Drama: أفلام تتناول مشاعر إنسانية قوية.
* أفلام عائلية Family: أفلام يتناسب موضوعها مع مختلف الأعمار.
* أفلام خيالية Fantasy: أفلام تتعامل مع المغامرات الأسطورية، أو تعالج موضوعات عن العصور القديمة.
* أفلام الرعب Horror: أفلام بها مشاهد مخيفة ومرعبة.
* أفلام موسيقية Musical: أفلام تعتمد على الموسيقى والرقص كعنصر أساسي.
* أفلام الخيال العلمي Science Fiction: أفلام تعتمد على مغامرات خيالية تحدث في الفضاء الخارجي مثلاً، أو خارج كوكب الأرض، ولا يستطيع العقل البشري تصورها.
* أفلام الإثارة Suspense: الأفلام التي تخفي بعض الحقائق والأحداث عن الجمهور، وتكشفها تدريجياً بأكثر الطرق مهارة.
* أفلام الحروب War: الأفلام التي تعتمد علي الحروب التي حدثت في التاريخ الإنساني المسجل.
* أفلام الغرب Western: أفلام تعتمد على استغلال بيئة الغرب الأمريكي خلال القرن التاسع عشر والعشرين.
ويصنِّف الناقد السينمائي ريتشارد ميريام برسام الإنتاج السينمائي بشكل عام إلى قطاعين:
القطاع الأول: ويتسم بالطابع الخيالي، ويشمل الفيلم الروائي أو الخيالي، وهو الفيلم الذي يعتمد في سرده السينمائي على بناء روائي مبتكر، يجري وضعه من قبل مؤلفه، ويستعين بالممثلين المحترفين لتجسيد شخصياته وتمثيل أحداثه ومواقفه. ويصور عادة داخل الاستوديو، حيث يكون الديكور عنصراً أساسياً من عناصر البناء الفيلمي، بجانب بقية العناصر.
ويندرج تحت قائمة الأفلام الروائية أو الخيالية: الأفلام الروائية الطويلة والقصيرة، والمسلسلات المصورة سينمائياً لتعرض على شاشة التليفزيون.
…ويمر الفيلم الروائي بمراحل إنتاج طويلة معقدة تأخذ من الوقت الكثير، ومراحل توزيع ذات نظام دقيق، والهدف منها في أغلب الأحيان تحقيق الربح المادي لمنتجيها، فالأفلام الروائية أو بمعنى آخر السينما الروائية صناعة قائمة على الربح والخسارة.
القطاع الثاني: وهو نقيض القطاع الأول من حيث إنه يرتبط بالواقع، ولا يهدف إلى الربح المادي السريع المباشر، ويطلق عليه برسام، الفيلم الواقعي، أو غير الخيالي وغير الروائي. وهو لا يعتمد في سرده على بناء روائي من إعداد صانعه، ولا يستخدم الديكورات المصنعة، ولا يلجأ إلى الاستديوهات والممثلين المحترفين، بل يجري تصويره في مواقع الأحداث نفسها، وبعناصرها الحقيقية الطبيعية من أشخاص وأماكن.
وفيما يلي نتعرض لبعض أنواع الفيلم.
أ. الفيلم التسجيلي:
المتتبع لتاريخ السينما في العالم يلاحظ أنها قد بدأت بداية تسجيلية أو توثيقية، فصوّرت فعلاً مضارعاً لفاعله، حين صوّر الأخوان لوميير خروج عمال من المصنع، وصبياً يلتهم تفاحة.
وبعد عقدين صوّر المخرج محمد بيومي الذي يعد الرائد الأول للسينما التوثيقية المصرية عودة الزعيم سعد زغلول وصحبه من المنفي. ومع تراكم الخبرات، أدرك المصور السينمائي إمكانية السينما التعبيرية حين أيقن أنها وسيلة فعّالة للتعبير عن وجهة نظره، فتحوّلت السينما من مجرد حرفة إلى فن، وارتقت الأفلام التوثيقية إلى التسجيلية.
تنوَّعت الأفلام التسجيلية، ليس فقط في موضوعاتها، بل في مناهجها وتوجهاتها، وعُرِضت أفلامٌ وصفية وتحليلية، إضافة إلى أفلام عن الإعلام، وأخرى عن البسطاء. وعُرضت أفلام عن التنمية، وأخرى في النقد الاجتماعي، وفي الوقت نفسه ترسّخت للأفلام التسجيلية خصائص عامة، بداية من منهجها في المعايشة والملاحظة، ثم الإبقاء، وانتهاءً باكتشاف الجنس البشري، مروراً بميدانها، وهو الحياة الواقعية، ومادتها حياة الإنسان. يلتقط المخرج فكرة، يصيغها في نسق من مفردات الواقع، يشكلها في بناء فيلمي يعبِّر عن وجهة نظره، يراعي وحدتي الحدث والزمان بأسلوب فني خلاَّق.
1 - مفهوم الفيلم التسجيلي:
يعني في الاصطلاح الفرنسي Film Documentaire، أن الفيلم وثيقة عن المكان، أو الحدث، أو الشخص الذي يتناوله، ولهذا يفضل البعض ترجمته إلى الفيلم الوثائقي بدلاً من الفيلم التسجيلي.
أما المفهوم الإنجليزي لهذا النوع من الأفلام التسجيلية الوثائقية Documentary Film فلا يكتفي الفيلم بتسجيل الحقيقة وحدها، وإنما يضيف إليها الرأي أيضاً.
أصدر الاتحاد الدولي للسينما التسجيلية في عام 1948، تعريفاً شاملاً للفيلم التسجيلي جاء فيه: "كافة أساليب التسجيل على فيلم لأي مظهر للحقيقة، يعرض إما بوسائل التصوير المباشر، أو بإعادة بنائه بصدق، وذلك لحفز المشاهد إلى عمل شئ، أو لتوسيع مدارك المعرفة والفهم الإنساني أو لوضع حلول واقعية لمختلف المشاكل في عالم الاقتصاد، أو الثقافة، أو العلاقات الإنسانية".
وكان أول من استخدم مصطلح الفيلم التسجيلي هم الفرنسيون حين أطلقوه على الأفلام السياحية. وفي عام 1926 قام رائد السينما التسجيلية في العالم، جون جريرسون باستخدام مصطلح السينما التسجيلية، وهو يستعرض فيلم "موانا"، الذي أخرجه شاعر السينما التسجيلية روبرت فلاهرتي، الجوالة السينمائي الذي حمل كاميراته لتصوير حياة الناس اليومية في الأصقاع النائية، فقدم دراسات كاملة بالكاميرا عن حياة الإسكيمو، وعن حياة السكان في البحار الجنوبية.
وقد حدَّد جون جريرسون للفيلم التسجيلي ثلاث خصائص، لا بد من توافرها لكي يصبح الفيلم تسجيلياً حقيقياً وهي:
أ- اعتماد الفيلم التسجيلي على التنقل، والملاحظة، والانتقاء من الحياة نفسها، فهو لا يعتمد على موضوعات مؤلفة وممثلة في بيئة مصطنعة كما يفعل الفيلم الروائي، وإنما يصوِّر المشاهد الحيةّ، والوقائع الحقيقية.
ب- أشخاص الفيلم التسجيلي ومناظره يختارون من الواقع الحي، فلا يعتمد على ممثلين محترفين، ولا على مناظر صناعية مفتعلة داخل الأستديو.
ج- مادة الفيلم التسجيلي تختار من الطبيعة رأساً، دون ما تأليف، وبذلك تكون موضوعاته أكثر دقة وواقعية من المادة المؤلفة والممثلة.
2 - سمات الفيلم التسجيلي:
الفيلم التسجيلي هو شكل مميز من الإنتاج السينمائي يتميز بما يلي:
أ- يعتمد أساساً على الواقع في مادته وفي تنفيذه، بمعنى أن يكون تسجيلاً واقعياً لأحداث وقعت بالفعل، لا تحتاج إلى ممثلين لأداء أدوار معينة، ولكن من نفس الواقع التي تقع فيه الأحداث.
ب- لا يهدف إلى الربح المادي، بل يهتم بالدرجة الأولى بتحقيق أهداف خاصة في النواحي التعليمية، والثقافية، أو حفظ التراث، أو التاريخ.
ج- يختلف عن الفيلم الروائي من حيث هدفه المادي، فالأفلام التسجيلية غالباً ما تنتجها الدول لمعرفتها بأهمية إنتاج مثل هذه الأفلام التي بالرغم من أهميتها، فهي لا تدر أرباحاً على منتجيها، بخلاف الأفلام الروائية التي يكون أغلب إنتاجها هدفه تحقيق أكبر قدر ممكن من الأرباح.
د- يتسم عادة بقصر زمن العرض، حيث يتطلب درجة عالية من التركيز أثناء مشاهدته، ومن الملاحظ دائماً أن يكون إنتاج الأفلام التسجيلية لا يزيد في أغلبها عن 20 - 30 - 45 دقيقة على أكثر تقدير، وذلك نظراً لأن إنتاج مثل هذه الأفلام يكون موجهاً إلى نوعية معينة من الجماهير، يحمل لها الأهداف الخاصة.
هـ- يخاطب في العادة فئة أو مجموعة مستهدفة من الجماهير، وأثناء الإعداد لإنتاج فيلم من الأفلام التسجيلية يُحدد الجمهور المستهدف لهذا الفيلم، وعلى أساس خصائصهم يكون أسلوب المعالجة، وحجم ونوعية المعلومات، وكيفية تناولها، وتقديمها، والمستوى اللغوي للتعليق المصاحب للفيلم، أو للحوار القائم بين شخصياته.
و- يتسم بالجديّة وعمق الدراسة التي تسبق إعداده، وشعار الفيلم التسجيلي، "السينما رسالة، وفن، وعلم".
3 - المجلة السينمائية:
تعتبر المجلة السينمائية أحد أشكال الفيلم التسجيلي، ومن الممكن أن تتناول موضوعات تعليمية أو تثقيفية، في مجال أو أكثر من مجالات التعليم.
قد تكون المجلة السينمائية ذات موضوع واحد، وقد تكون ذات موضوعات متعددة، فالمجلة السينمائية قد يكون موضوعها عبارة عن قضية أو مشكلة في المجال التعليمي يجري تناولها من زوايا مختلفة بغية التوصل إلى حلول لها، أو جلاء الغموض الذي يكتنف جوانبها، وقد تتناول عدداً من القضايا والمشكلات كل منها على حدة.
وتتميز المجلة السينمائية بالتنوع، وهذا التنوع له مظاهر متعددة: التنوع في المواد الخام التي تقوم عليها المجلة، من صوت، وصورة، وضوء، وحركة، ومؤثرات صوتية. التنوع في القوالب والأشكال. من جهة أخرى فإن المجلة السينمائية من الممكن استخدامها بشكل تعليمي مباشر سواء كان ذلك من خلال وقت المجلة كله أو من خلال بعض فقراتها.
ب. أفلام الرسوم المتحركة:
الرسوم المتحركة اسم يطلق على نوع من الأفلام تعتمد في تنفيذها على الرسوم، فتكون أشخاصها، وكل مرئياتها من رسوم، يجري تحريكها على الشاشة، أي أنها تعتمد على تحريك الرسوم، لذلك يطلق عليها البعض أفلام التَّحريك.
ارتبطت أفلام الرسوم المتحركة في أذهان رواد السينما، باسم والت ديزني Walt Disney، فناّن الرسوم المتحركة الأمريكي، ومخترع أشهر شخصية للرسوم المتحركة، وهي شخصية ميكي ماوس، ويعتبر من أشهر نجوم الرسوم المتحركة، حتى أن بعض الناس قد درجوا على إطلاق اسمه على أي فيلم رسوم متحركة.
1 - كيف تتحرك الرسوم؟
الرسوم المتحركة عبارة عن رسوم كارتونية ثابتة، يمثل كل منها مرحلة من الحركة، وتُصور على فيلم عادي، ويكون الفرق بين أي صورة والصورة التي تليها، هو حركة بسيطة لا تتعدى 1/ 24 من الثانية من زمن الحركة الطبيعي، وإذا عرضنا هذه الصور بعد ذلك بالسرعة العادية لآلة العرض، وهي 24 صورة في الثانية الواحدة، يحدث عند المتفرج إيهام بالحركة، لظهور هذه الصور متصلة طبقًا لنظرية استمرار الرؤية.
ومن ثم فإننا إذا أخذنا مثالاً لفيلم مدته عشر دقائق، وبفرض أن كل ثانية من زمن الفيلم تعطي 24 صورة، فإن الصور المطلوبة للفيلم الذي مدته عشر دقائق تصل إلى 15 ألف صورة على الأقل، يضاف إلى ذلك الخلفيات التي تمثل الديكورات، وقد يضطر الرسام لظروف العمل إلى رسم الأجزاء الثابتة من الكائنات، سواء كانت أشخاصاً أو حيوانات في لوحة رسم الأجزاء المتحركة في لوحات أخرى، مما يضاعف عدد الصور. والواقع يقول إن الفيلم القصير الذي لا تتجاوز مدته أكثر من عشر دقائق، يحتاج إلى ما لا يقل عن 30 ألف صورة.
ترسم الرسوم عادة على لوحات من السليوليد الشفاف، لا يزيد مقاسها عن 24×34 سم، هذا بالنسبة للكائنات المتحركة في الفيلم، أما بالنسبة للديكورات والخلفيات، فإنها ترسم على لوحات أكبر ليتمكن المصور من تحريكها يميناً ويساراً، وأعلى وأسفل بحسب مقتضيات حركة الرسوم.
ونظرًا لأن أفلام الرسوم المتحركة تتكون من آلاف الصور المرسومة والثابتة، فإن الأمر يقتضي تصويرها صورة صورة بالتتابع، لذلك فإن كاميرا الرسوم المتحركة لابد وأن تختلف في عملها عن كاميرا السينما العادية، بحيث تستطيع أن تقوم بالتصوير المتقطع إطاراً تلو الآخر، وذلك لإمكان تصوير الرسوم صورة صورة، ولكنها لا تختلف في ميكانيكية عملها عن أية كاميرا أخرى من كاميرات السينما، لأن عمل كل منهما واحد، هو التسجيل المتقطع لقطاعات سريعة من الحياة، ولكن كاميرا الرسوم المتحركة تحتاج إلى مطالب معينة تختص بها خضوعًا لمتطلبات تصوير الرسوم.
2 - أسلوب الرسوم المتحركة:
تتميز الرسوم المتحركة بإمكانية تمثيل الواقع المجرد، الذي قد يصعب إدراكه بالحواس تمثيلاً حياً ملموساً، كما تتميز بسعة الخيال الذي لا تقيده القوانين الطبيعية المألوفة.
كما تتميز الرسوم المتحركة أيضًا، بالقدرة على التغلب على بعض مشكلات إخراج التمثيل الحي، فيمكن أن تُهد مدينة كاملة، ثم يُعاد بناؤها بالرسوم المتحركة، بينما يصعب تصوير ذلك بالحيل السينمائية التي تأخذ وقتاً وجهداً كبيراً.
ويجوز الجمع بين الرسوم المتحركة والتمثيل الحي في مشهد واحد، وبذلك نجمع بين الواقعية وسعة الخيال بأسلوب يساعد على نقل المعنى بوضوح يجذب الانتباه.
3 - الكمبيوتر والرسوم المتحركة:
أدرك فن السينما أن التحريك Animation ، وهو جوهر سينما الرسوم المتحركة، هو الروح التي تنبعث في الصور الجامدة الثابتة، فتبعث فيها الحركة على الشاشة، سواء في السينما التي تعتمد على تسجيل الواقع، أو تلك التي تخلق هذا الواقع. وسواء كانت الشخصيات لبشر حقيقيين أو رسومٍ على الورق. وعلى الرغم من أن فن التحريك، بمعناه التقليدي، يعتمد على اللوّحات المرسومة، أو الأشياء الجامدة التي صُورت إطارًا وراء إطار، فإن الغاية الجمالية في معظم أفلام التحريك، ولا نقول كلّها هي الإيحاء بقدر هائل من الواقعية، حيث نجد الشخوص التي تستمد جذورها من عالم الحيوانات، أو حتى الجمادات مثل قطع الصلصال، أو علب الكبريت تحاكي البشر في سماتهم، وسلوكهم، ومنطق حياتهم، لتأخذ المتفرج ليعيش معها في ذلك العالم الخيالي الذي يضع قدماً ثابتة على أرض الواقع.
ومن خلال اكتساب هذه الشخوص للصفات البشرية، يتحطم الحاجز بين الخيال والواقع، ويكتسي عالم هذه الأفلام بطابع الحياة الإنسانية. وهو ما جعل فن التحريك ينتقل من مجرد كونه وسيلة لتسلية الصغار في أغلب الأحوال، إلى أن يكون وسيطاً فنياً يجمع في أبعاده أهدافاً سياسية، واجتماعية، وتعليمية، وجمالية، وهو ما عرفته على الأخص مدرستا التحريك في زغرب Zagreb في يوغسلافيا، وبراج Prague في تشيكوسلوفاكيا خلال الخمسينيات والستينيات. وها هو فن التحريك في صناعة السينما الأمريكية مثل كل أنماطها السينمائية، يتعلم كيف يستوعب ويحتوي تلك المدارس الفنية، ويضيف إليها تطوراته التقنية، لتقوم شركة بيكسار بصنع أول فيلم تحريك روائي ثلاثي الأبعاد بالكمبيوتر من بدايته إلى نهايته، وهو فيلم "قصة لعبة" Toy Story عام 1995، ولتنضم إليها شركة والت ديزني ليصنعا معاً فيلم حياة حشرة 1998، وليظهر منافس قوي مجسَّداً في شركة دريم وركس، وأهم شركائها ستيفن سبيلبرج بفيلمها "عالم النمل" 1998.
…
3. أهمية الفيلم السينمائي:
انتبه الكثيرون منذ أول عهد لظهور السينما إلى أهميتها، وخطورة الدور الذي يمكن أن تلعبه في توجيه سلوك الناس، وتعديل قيمهم الاجتماعية، والأخلاقية، وتغيير أسلوب الحياة الذي اعتادوا عليه، بل هناك من اعتبرها أبعد الفنون أثراً وفاعلية في تشكيل العقل البشري، والثقافة الإنسانية بوجه عام.
أ. الأهمية الاجتماعية للفيلم السينمائي:
تلعب السينما الآن دوراً بالغ الخطورة على نطاق واسع، في نقل معطيات الفكر والحياة بلغةٍ قوامها فهم مشترك، وبأدواتٍ أكثر نفاذا وفاعلية في تشكيل فكر ووجدان الجماهير. لذلك أصبحت السينما أداة مؤثرة في إحداث التغيير الاجتماعي، وفي التنمية الثقافية.
والسينما أداة من أدوات الثقافة والمعرفة، ووسيلة من الوسائل التعليمية الفعَّالة التي تهدف إلى الارتقاء بالمجتمع، كما تلعب دوراً بارزاً في تشكيل قيم المجتمع، وعاداته، وفنونه، علاوة على استخدامها كوسيلة للتوجيه والإرشاد والتنوير الثقافي، وإثارة الرغبة في تحسين المستوى الاجتماعي، والنمو والتقدم المادي لدى المشاهد، وتحفيز القدرات الكامنة لدى المواطن. فالسينما تعطي المشاهد القدرة على التحرك من مكان إلى آخر عن طريق ما يشاهده ومقارنته بما هو عليه، الأمر الذي يثير فيه الرغبة في تحسين مستواه، حيث يقرّب الفيلم من المشاهد طرق حياة أخرى مختلفة. فقد أصبحت السينما في الوقت الحاضر قوة تأثيرية لا يستهان بها، وقد صاحبت التقدم التقني في المجتمعات الإنسانية.
وتعتبر السينما من أهم وسائل الإعلام، والإعلان، والتوجيه العام، والدعاية، هذا إلى جانب دورها الهام في النواحي الترفيهية، والتربوية، والثقافية، وأهدافها التي لا يمكن حصرها في المجالات الاجتماعية، والدينية، والسياسية، وغيرها.
ب. التأثير التربوي للفيلم:
السينما واحدة من القوى التربوية العامة داخل المجتمع، شأنها شأن وسائل الإعلام الأخرى، وسائر مؤسسات المجتمع، ذلك إذا تعاملنا مع التربية بمفهومها الواسع، كما يرى الدكتور حامد عمار. وتشير معطيات الواقع إلى وجود زيادة ملحوظة في القدرة التربوية لوسائل الاتصال، والإعلام، حتى إنها استطاعت المساهمة في تشكيل البيئة بصورة واضحة، في الوقت الذي أخذ فيه التعليم النظامي يفقد احتكاره لهذه المهمة، وما يتصل بها من معرفة.
ومما يزيد من التأثير التربوي للسينما، أنها كما يقول أحد النقاد الإيطاليين، لا تقدم لنا أفكار الإنسان كما فعلت الرواية من قبل، بل تقدم لنا سلوكه، وتقترح علينا مباشرة ذلك الأسلوب الخاص.
ج. الفيلم السينمائي وسيلة من وسائل الاتصال الحضاري والثقافي:
السينما تمثل جسور لقاء بين الشعوب بعضها البعض، ويعتبرها البعض ركناً أساسياً من الحضارة والفكر، ولها دور مهم في عكس روح العصر، وإدانة التخلف، وفتح عيون المشاهد ليرى في الصورة المرئية واقعه، وظروفه، وحقيقته.
فالأفلام السينمائية بحكم انتشارها وتوزيعها على المستوى الدولي، وتجاوزها حواجز اللغة من خلال الترجمة، واعتمادها على الصورة كوسيلة للتعبير، وتركيزها على القضايا المختلفة ذات الطابع الإنساني، تشكل وسيلة من وسائل اتصال ثقافة، أو حضارة بثقافة أخرى، بغض النظر عن مستوى الثقافة أو درجة التطور الحضاري في المتصل أو المتصل به. ومفهوم الثقافة في هذا المجال هو اعتبارها أسلوب ومنهج حياة، باعتبارها المناخ العام والشامل لحضارة من الحضارات. والسينما تشارك وسائل وأنشطة أخرى في هذا الاتصال الحضاري والاتصال الثقافي مثل السياحة، الحروب، الكتاب، الإذاعات الموجهة، التجارة، اللغة، الهجرات، ونضيف إليها الآن؛ الإرسال التليفزيوني المباشر عبر الأقمار الصناعية، وشبكة الإنترنت.
د. الفيلم وسيلة للاتصال الترفيهي:
اعترف جميع علماء الاتصال والباحثين فيه، بأن الترفيه، أو التسلية والإمتاع، تُعد إحدى الوظائف الرئيسية للاتصال، وأن الاستمتاع والاسترخاء، والهرب من مشاكل الحياة يعد هدفاً في ذاته، يسعى إليه الجمهور المتلقي في العملية الاتصالية، في الوقت الذي يمثل فيه الترفيه عن الجماهير، وتخفيف أعباء الحياة عنهم، هدفاً من أهداف القائم بالاتصال، أي أن أهداف طرفي العملية الاتصالية تلتقي وتتفاعل حول عمليات الاتصال الترفيهي.
وعليه فإن التسلية والإمتاع هي نمط اتصالي مهم لأي إنسان، حتى ولو كان على مستوى الاتصال الذاتي، حيث يتذكر الإنسان بعض الحوادث السعيدة في حياته فيستعيدها في ذاكرته، ويعيشها مرة أخرى.
ويرى البعض أن وسائل الاتصال الشفهية المصورّة مثل السينما والتليفزيون، تهتم بعنصر الترفيه بصفة أساسية، وأن الجماهير تتأثر بالصور التي تتحرك على الشاشة وتبدو وكأنها حقيقة ملموسة، مما يدفع الجماهير إلى التفاعل القوي معها. وعلى الرغم من إقبالهم على الاتصال الترفيهي أكثر من غيره، فإن رغبتهم قد تستيقظ شيئاً فشيئاً على عالم جديد تعيشه، وهذا بدوره قد يجذب آخرين إلى استخدامات جديدة لوسائل الاتصال، ومن هنا يجب اعتبار وسائل الترفيه هذه أداة للتعليم والتطوير.
إن السينما تعتبر من أيسر الطرق لتوصيل المعلومات والمعارف إلى طالب العلم والمعرفة. وهى أبلغ تأثيراً على العقول والنفوس من الكلمة المسموعة أو المكتوبة. فالصورة المتحركة لها تأثير كبير على الإنسان مهما كانت ثقافته، أو حضارته، أو نشأته. ويعبِّر المثل الصيني القديم عن ذلك بأن الصورة الواحدة تعادل عشرة آلاف كلمة.
هـ. الفيلم كأداة لدعم التعليم النظامي:
يتسم الفيلم السينمائي بعدة خصائص لها انعكاساتها على الدور التعليمي، ويمكن إيجازها في الخصائص التالية:
1 - إمكانية عرض الفيلم وقتما نشاء، وبالتالي إمكانية عرضه أكثر من مرة، سواء على نفس المجموعة من المشاهدين، أو على غيرهم.
2 - إمكانية إيقاف الفيلم أثناء العرض، وبالفترة الزمنية التي نريدها، الأمر الذي يتيح الفرصة لمناقشة وتمحيص أي فكرة أو قضية يتضمنها هذا الفيلم، ربما استعصى فهمها أو استيعابها على المشاهد.
3 - وجود الصورة على الشاشة أثناء عرض الفيلم يعطي الفرص للشرح والاستيضاح بصورة أفضل.
4 - تعتبر مساحة الشاشة السينمائية كبيرة بالدرجة التي تسمح لها بتكبير الأجسام والصور المعروضة عليها، الأمر الذي يجعل الصورة السينمائية تفصح عن دقائق يصعب إدراكها على الشاشة التليفزيونية.
5 - اللون في السينما عنصر أساسي وفعّال في زيادة تأثير دورها التعليمي، بل في بعض الموضوعات التعليمية التي يتناولها الفيلم يكون ضرورة لا غنى عنها.
6 - تمتاز السينما بقدرتها على تجسيم الصورة المتحركة، واستخدام الصوت المجسَّم الذي يمكن استخدامه لخدمة التعليم.
7 - يمكن للسينما أن تخلق جواً ملائماً للاكتشافات العلمية، وأن تثير الرغبة في المعرفة، وأن تنشر نوعاً من الإرشاد الخاص في مجالات الصحة العامة والزراعة كنوع من التعليم. ويستخدم هذا الشكل من التعليم خاصة في البلاد النامية، حيث لا يوجد العدد الكافي من المرشدين الزراعيين والصحيين، ففي هذه الحالة يصبح الفيلم ضروريًا لنشر المعارف العلمية.
8 - تستطيع السينما أن ترفع من نوعية التعليم في المدارس، وذلك بعرض أفلام تستطيع أن تضفي الكثير من المعلومات الجديدة على الطلاب.
9 - يمكن للسينما أن تسهم في تأهيل المعلمين، وأن تتيح إدخال مواد جديدة، وطرق تعليمية جديدة، تساعد في تدعيم قدرتهم التعليمية تجاه الطلاب.
10 - يمكن للسينما أن تلعب دوراً في تعليم الطلاب تقنيات ومهارات جديدة، بل وتعيد توجيه سلوكهم الاجتماعي.
11 - يمكن للسينما أن تُوجد أساليب جديدة في التفكير والسلوكيات، وأن تثير الرغبة في الاكتشافات، والتعليم لدى الجماهير.
و. السينما والتنمية:
تُعد السينما من وسائل الإعلام التي تستخدمها العديد من الحكومات لدعم جهودها من أجل التنمية. وقبل السينما استخدمت الحكومات الكلمة المكتوبة بواسطة الصحافة، والمطبوعات على اختلاف أنواعها، والكلمة المسموعة بواسطة الإذاعة.
تلجأ الحكومات إلى هذه الوسائل من أجل دعم الوحدة الوطنية، أو من أجل إعداد الرأي العام لقبول السياسة التي تنتهجها لإجراء التغيير المطلوب، فوسائل الإعلام تتيح للقادة السياسيين الاتصال بكل فئات المجتمع. وفي البلاد المتعددة اللغّات تعمل وسائل الإعلام على نشر اللغة المشتركة بين كل الأقاليم ونشرها مما يساعد على الوحدة الوطنية، كما أن مشاركة المواطنين في الحياة السياسية سواء على الصعيد القومي، أو على الصعيد المحلى، تتطلب تياراً منتظماً من الأخبار يصل إلى الجميع.
باستطاعة السينما أن تقدم طرق الإعلام التي لا غنى عنها لتطور الدولة العصرية، وهي ضرورية لمشاركة الجماهير في العمل الحكومي، وباستطاعتها الحث على المساهمة في عمليات التحديث، وإيجاد أساليب جديدة في التفكير.
ز. الأهمية الاقتصادية لصناعة السينما:
تخلق صناعة السينما فرص عمل للقوى العاملة الماهرة، وغير الماهرة، فهي تحتاج إلى تخصصات من الفنيين الذين تتوافر لديهم المهارات اللازمة لأداء أعمال معينة، كما تتطلب بعض العاملين الذين لا تتوافر لديهم أي مهارات خاصة.
وتعتمد صناعة السينما على مجموعة كبيرة من الصناعات، والحرف الأخرى التي يعددها البعض بحوالي 75 حرفة ومهنة، من هذه الصناعات صناعة الفيلم الخام، والأجهزة، والمواد الكيماوية، ومواد البناء، وجميع لوازم الديكور، وأدوات الكهرباء، والنجارة، وغيرها، وعلى ذلك فإن الأثر الفعلي الذي تضيفه الصناعة على تشغيل الأيدي العاملة يربو بكثير على الأثر الذي يستخلص بالنظر إلى عدد العاملين بالصناعة ذاتها.
ح. الإسلام وأهمية الفيلم السينمائي:
يقول محمد قطب في كتابه منهج الفن الإسلامي: "أما السينما ففي اعتقادي أنها آخر فن يمكن أن يدخل في نطاق الفن الإسلامي، لا لأن السينما في ذاتها محرمة، ولكن لأنها بصورتها الحالية الهابطة العارية المنحلة، بعيدة جداً عن الجو الإسلامي، ولكنها ككل فن أخر تستطيع أن تكون إسلامية حين تتبع مفاهيم الفن الإسلامي".
ويقول أيضاً في الكتاب نفسه: "من هنا يتضح أن الفنون الجسدية كلها تصبح إسرافاً في التعبير، وخللاً يفسد الجمال الأكبر في حياة الإنسان. الرقص، والنحت، والصور العارية، والشعر المكشوف، والقصة التي تتحدث عن فوران الجسد، والموسيقى الصاخبة، والسينما العارية التي تعرض كل هؤلاء، كلها إسرافاً من ناحية تجسيمها للجسد، وعرضه معرض الفتنة، أو معرض العبادة والتقديس".
والفن الإسلامي ليس بالضرورة هو الفن الذي يتحدث عن الإسلام، إن السينما الإسلامية هي التي تقدم صوراً سينمائية للوجود من زاوية التصور الإسلامي.
ويرى حسان أبو غنيمة، أن تحديد مواصفات السينما الإسلامية يستدعي العودة إلى الأصول، واستنباط لغة خاصة بالسينما الإسلامية، بالعودة إلى جذور الفن الإسلامي بدلاً من الاعتماد على الفنون المستحدثة، بالعودة إلى أصل هذه الجذور ألا وهي مبادئ الفلسفة الإسلامية القائمة على الإيمان، وتشغيل العقل.
ويرى محمد وليد جداع، أن السينما الإسلامية هي السينما التي تلتقي بمفهومات الإسلام عن الله، والكون، والحياة، والإنسان، التقاء كلياً يتحدد على ضوئه مدى إسلاميتها، وعلى هذا فقد نجد في السينما اليوم أفلاماً تقترب كثيراً أو قليلاً من السينما الإسلامية. والسينما الإسلامية قابلة للوجود أيضاً، عندما يتوفر لها المسلمون الذين يملكون التصور الإسلامي، ومستلزمات العمل الإسلامي ومفرداته.
ويرى الناقد السينمائي هاشم النحاس، أن الثقافة الإسلامية، أو الإسلام كثقافة، هو ما يمثل البعد الأساسي المطلق في تحديد ملامح الهوية العربية. ومن المسلم به أن بقاء اللغة العربية حية حتى الآن يرجع إلى أنها لغة القرآن، فقد حافظ عليها القرآن، كما حافظت هي على إحياء تعاليمه وسهولة استيعابها.
ويضيف هاشم النحاس، أن هذه الثقافة الإسلامية تكاد تنعكس في كل الأفلام، إلا فيما ندر منها، وذلك من خلال ما تحمله من دعاوى أخلاقية، وأقوال مأثورة مما لا يخلو منها أحد الأفلام.
غير أن هناك من الأفلام ما يجعل من هذه الثقافة نفسها مادته المباشرة التي يستمد منها موضوعه، وتنقسم هذه الأفلام إلى أربعة أقسام:
1 - أفلام دينية مباشرة منها: "ظهور الإسلام" إخراج إبراهيم عز الدين عام 1951، "بيت الله الحرام" لأحمد الطوخي عام 1957، "هجرة الرسول" لإبراهيم عمارة عام 1964، "فجر الإسلام" لصلاح أبو سيف عام 1971.
2 - أفلام عن شخصيات إسلامية منها: "بلال مؤذن الرسول" لأحمد الطوخي عام 1948، "خالد ابن الوليد" لحسين صدقي عام 1958، "رابعة العدوية" لنيازي مصطفي عام 1963، "الشيماء أخت الرسول" لحسام الدين مصطفي عام 1972.
3 - أفلام تتناول التاريخ العربي الإسلامي، أو شخصيات عربية إسلامية، نذكر منها: "شجرة الدر" لأحمد جلال عام 1935، "صلاح الدين الأيوبي" لإبراهيم لاما عام 1941، "الناصر صلاح الدين" ليوسف شاهين عام 1963، "فارس بني حمدان" لنيازي مصطفي عام 1966.
4 - أفلام تتناول قيمًا دينية: وهو ما لا يمكن حصره، ولكن تكفي الإشارة إلى بعض الأفلام التي تؤكد على تناولها، ويتضح ذلك من عناوينها وحدها مثل: "وخز الضمير" لإبراهيم عمارة عام 1931، "الزلة الكبرى" لإبراهيم عمارة عام 1945، "الدنيا بخير" لحلمي رفلة عام 1946، "عدل السماء" لأحمد كامل مرسي عام 1948، "قسمة ونصيب" لمحمود ذو الفقار عام 1950، "الإيمان" لأحمد بدر خان عام 1952، "المال والبنون" لإبراهيم عمارة عام 1954، "الله معنا" لأحمد بدر خان عام 1955، "معجزة السماء" لعاطف سالم عام 1956، "رحمة من السماء" لعباس كامل عام 1958، "الله أكبر" لإبراهيم السيد عام 1959، "طريق الشيطان" لكمال عطية عام 1963، "الراهبة" لحسن الإمام عام 1965، "قنديل أم هاشم" لكمال عطية عام 1968، "يا رب توبة" لعلي رضا عام 1975، "وبالوالدين إحسانًا" حسن الإمام عام 1976، "يمهل ولا يهمل" لحسن حافظ عام 1979.
ويرى هاشم النحاس، أن هذه الأفلام وإن استغلت اتجاهات الجماهير الدينية، وتأصل الثقافة الإسلامية لديهم، فإنها لم تستطع في أغلبها توظيف المفاهيم الإيجابية لهذه الثقافة في تدعيم وجودها، بحل مشاكلها.
4. خصائص الفيلم السينمائي كشكل إبداعي
الفيلم السينمائي كشكل للتعبير يماثل الوسائط الفنية الأخرى، لأن الخواص الأساسية لهذه الوسائط منسوجة في صميم قماشته الوثيرة. فالفيلم يوظف العناصر التكوينية للفنون البصرية كالخط، والشكل، والكتلة، والحجم، والتركيب. وعلى غرار الرسم الزيتي، والتصوير الفوتوغرافي، يستغل الفيلم التفاعل الدقيق بين الظل والنور، وعلى غرار النحت يتناول الفيلم ببراعة المكان بأبعاده الثلاثة، ولكنه شأن التمثيل الإيمائي Pantomime، يركز على الصور المتحركة، وهذه الصور المتحركة لها إيقاع موزون، وتشبه الإيقاعات المركبة في الفيلم تلك الكائنة في الموسيقى والشعر. كما أن الفيلم شأن الشعر على وجه الخصوص، يعبّر من خلال التصور الذهني، والاستعارة المجازية، والرمز، وعلى غرار الدراما، فالفيلم يعبر بصريًا ولفظياً، بصرياً من خلال الفعل والإشارة، ولفظياً من خلال الحوار. وأخيراً، على غرار القصة، يبسط الفيلم أو يضغط الزمان والمكان، بالارتحال إلى الأمام وإلى الوراء بحرية في نطاق حدودهما الرحيبة.
والفيلم غير محدد، ليس فحسب في اختياره مادة الموضوع، بل أيضاً في مدى معالجته لتلك المادة، إذ يمكن أن يراوح طابع فيلمٍ من الأفلام ومعالجته لموضوعه، فيما بين القصيد الغنائي والملحمي، ويمكنه أن يركز على الحقائق السطحية والأمور الحسيّة الخالصة، أو يغوص في أعماق النظر الفكري أو الفلسفي. كما يمكن لأي فيلم أن يرنو إلى الماضي، أو يسبق آفاق المستقبل، ويمكنه أن يجعل بضع ثوان تبدو كأنها ساعات، أو يضغط قرناً من الزمان في دقائق، وأخيراً، يمكن للفيلم أن يضرب على أوتار الشعور جميعًا من أرق العواطف، وأرهفها، وأجملها إلى أقساها ضراوة، وعنفًا، وتنفيراً.
أ. القدرة على التخيُّل:
إذا كان الفيلم يملك القدرة على استحضار الواقع بكل تفاصيله وجزئياته - فإنه يملك القدرة نفسها على بلوغ أبعد آفاق الخيال، كما نجد في أفلام الرسوم المتحركة التي بلغت قمتها في الإبداع الخيالي على يدي والت ديزني. فالمتفرج يشاهد بعينيه على الشاشة ما قد لا يصل إليه في أحلامه وأوهامه، فهو يرى بالفعل البساط السّحري طائراً محلّقا فوق مدن الشرق القديم، في حين تدب الحياة في الكائنات التي لم نسمع عنها إلا في الأساطير مثل ميكي ماوس، والأقزام السبعة. وتتحرك أمامنا عجائب الطبيعة، مثل العجائز البالغين من العمر ألف عام، والعمالقة في مواجهة الأقزام ... الخ، كذلك فإن المعاني المجرَّدة يمكن أن تتحول إلى شخصيات متجسّدة، والأصوات إلى أشكال ملموسة، وبهذا يمكن للفيلم أن يحيل العجائب إلى وقائع، وأن يسجل الواقع الراهن، ويجعل منه جزءاً من الوجدان الإنساني على مر العصور.
ب. القدرة على تغيير قوانين الزمان والمكان:
الفيلم الروائي يشبه الرواية والمسرحية في اعتماده على شخصيات وحبكة، ويشبه مخرج الفيلم كاتب الرواية في قدرته على تغيير المنظر في لحظة من الزمن، لكن المخرج يغيّر المنظر دون حاجة إلى تفسير مثل هذا التغيير، لأن المتفرج يعي سبب التغيير، أما الروائي الذي يتبع هذا المنهج بنفس السرعة، فإن القارئ قد يضل طريقه إذا لم يكن في يقظته الكاملة.
أما السينما فتوفر على المتفرج كل هذا العناء، لأن الصور المتتابعة تتعامل مع العين أكثر من تعاملها مع الخيال، هنا تكمن قدرة السينما على التلاعب الحر بقوانين الزمان والمكان، ذلك التلاعب الذي يمنحها جمالياتها الفنية الخاصة بها، فمن خلال القطع، يستطيع المخرج أن يختار الصورة التي تتمشى مع السياق الفيلمي الذي وضعه في ذهنه مسبقا، وهذا الاختيار لا تحده أية اعتبارات زمانية أو مكانية، ومن ثمّ يتحوّل مضمون الفيلم ومادته إلى عالم مادي قائم بذاته، وخاضع لأوامر المخرج لتشكيله من جديد. فالمخرج يختار منه المناظر والأصوات التي تخدم فكرته الرئيسية، ثم يربط صوره بدلالات حسية وانفعالية، بحيث يؤدي التتابع بين الصورة والصورة التي تليها، إلى خلق معنى أكبر وأشمل مما تحويه كل صورة على حدة من مكونات مرئية.
ج. القدرة على فتح عالم جديد:
يوضح أحد الكتاب أن الفنان السينمائي يعرض العالم لا كما يبدو موضوعياً فحسب، بل ذاتيا أيضاً، إنه يخلق عوالم راقصة جديدة، يستطيع فيها مضاعفة الأشياء ويدير حركاتها وأفعالها إلى الوراء أو يعجلها، إنه يبرز إلى الوجود عوالم سحرية حيث تختفي قوة الجاذبية، وتعود الأشياء المكسورة سليمة، إنه ينشئ قناطر رمزية بين الأحداث والأشياء، بين المواقف والشخصيات التي لم يكن بينها صلة في الواقع، إنه يدخل في تكوين الطبيعة أشباحاً مرتجفة مفككة الأجسام، وأماكن ملموسة، إنه يوقف تقدم العالم والأشياء ويغيرها إلى حجارة، إنه يبعث نسيم الحياة في الحجر ويمنحه الحركة، إنه يخلق من المكان غير المنظم، وغير المحدد صوراً جميلة الشكل عميقة الدلالة، ذاتية ومعقدة مثلما يحدث في الفن التشكيلي.
د. الفيلم السينمائي والفنون التشكيلية:
السينما هي أكثر الفنون تركيباً، لأنها تستخدم بقية الفنون الأخرى، ولذلك تسمى أحياناً فن الفنون الممزوجة، بالإضافة إلى تدخل الصناعة في كل مراحلها.
يقول توبليتز، عميد الاتحاد الدولي لأرشيفات السينما: "لقد ترك كل فرع من فروع الفنون التقليدية بصماته على الفيلم، كما أسهم في تحديد قواعد تكوينه، فإلى جانب الرسم التقليدي، هناك الرسم السينمائي على الشاشة، وإلى جانب الأدب المكتوب، هناك الأدب المرئي والمسموع، وإلى جانب العرض المسرحي، هناك العرض على الشاشة، وأخيراً إلى جانب الموسيقى التقليدية، هناك موسيقى تحكم تركيب العمل السينمائي".
ويميل بعض المفكرين إلى اعتبار السينما لوناً جديداً من ألوان الفنون التشكيلية، لأن الصورة تقوم فيها بالدور الرئيسي.
والحق أن الفن التشكيلي يقوم بدور رئيسي في العمل السينمائي. فمنذ نشأة السينما، وهي تعتمد على الفنانين التشكيليين في تصميم وتنفيذ ديكوراتها ومناظرها.
والتصوير السينمائي نفسه، سواء كان ملوناً أو غير ملون، أصبح يرقى في عدد قليل من الأفلام إلى مستوى الإبداع التشكيلي الخلاق.
…
المبحث الرابع
اقتصاديات الفيلم السينمائي وعناصره
السينما فن وصناعة وتجارة، وهي مثلث له ثلاثة أضلاع يجب أن تحظى بأهمية متساوية، فالشق الاقتصادي للصناعة لا يقل أهمية عن الشق الفني، ضماناً لاستمرار الصناعة وازدهارها فنياً.
1. دراسة الجدوى
ترشيد الإنفاق في مجال إنتاج الأفلام السينمائية، ويتم ذلك من خلال الاهتمام بأن تكون هناك دراسة جدوى مسبقة قبل المشروع، أو قبل تقرير الدخول في إنتاج فيلم سينمائي جديد حيث ينظر إلى هذه الدراسة المسبقة على أنها مرحلة أولى، وأساسية من مراحل إنتاج الأفلام الهوائية كصمام أمان، يساهم في الحد من حجم المخاطرة على الأموال المستثمرة في مجال إنتاج الأفلام الروائية ـ حيث تساعد مرحلة الدراسة المسبقة، بداية وقبل المضي في إنفاق أي مصروف إنتاجي على الفيلم من الحكم عما إذا كان هناك جدوى أو منفعة اقتصادية، وفنية، متوقعة من وراء إنتاج هذا الفيلم أم لا، لذلك فهي تساعد على بث الطمأنينة وتحقق الحماية المسبقة لأموال منتجي الأفلام الروائية.
وفيما يلي استعراض لمجموعة من الاعتبارات العملية والعلمية من مرحلة الدراسة المسبقة، والتي يتعين مراعاتها عند الاتجاه لإنتاج فيلم روائي جديد:
أ. الاعتبار الرقابي:
يتعين على شركات الإنتاج السينمائي، التحقق بداية وقبل اتخاذ أي خطوة من الخطوات التنفيذية لإنتاج الفيلم موضوع السيناريو المقدم لها من أن هذا السيناريو لا يتضمن أي محظورات أو موانع رقابية تمس النظام العام للدولة، أو القيم الدينية، والإنسانية، والعادات، والتقاليد، والآداب العامة للمجتمع.
ب. الاعتبار التسويقي:
بعد التأكد من عدم وجود مانع رقابي لتصوير الفيلم الجديد، يتعين على القائمين على شركات الإنتاج السينمائي التحقق عما إذا كان هناك قبول تسويقي متوقع للفيلم المزمع إنتاجه. بمعنى أنه يجب على شركة الإنتاج السينمائي التحقق عما إذا كان الفيلم الجديد من المتوقع أن يحقق إقبالاً جماهيرياً أم لا ـ وذلك سواء استندا إلى عوامل الخبرة الذاتية للمسئولين عن الإنتاج في ضوء المعايشة والمتابعة الدقيقة والمستمرة لأحوال واتجاهات السوق السينمائية ومتطلباتها، وحسب موضوع الفيلم الذي قد يتعرض لقضية، أو موضوع هام، من الموضوعات التي تشغل الرأي العام، أو من خلال الاسترشاد بنتائج الدراسات الميدانية للاتجاه العام لرغبات وميول المشاهدين بالسوق السينمائية، والتي قد يقوم بها مستقبلاً أحد المراكز البحثية المتخصصة في دراسة رغبات وميول فئات المشاهدين، وما يطرأ عليها من تغيرات.
ج. الاعتبار التمويلي:
بعد التأكد من عدم وجود موانع رقابية، والتحقيق من أن هناك قبولاً تسويقياً متوقعاً للفيلم الجديد. فإنه يتعين عدم البدء في اتخاذ أي إجراءات تنفيذية لتصوير الفيلم باستخدام الحصة المخصصة كتمويل ذاتي من جانب شركة الإنتاج السينمائي إلا قبل التحقق من إمكانية تدبير باقي متطلبات السيولة المالية اللازمة للإنتاج حسب الميزانية التقديرية للفيلم، وطبقاً للدفعات التي تحدد حسب البرنامج التنفيذي لتصوير الفيلم.
2. عناصر التكاليف الإنتاجية للفيلم
تتمثل من عناصر الإنفاق على كل من مجموعة الخدمات الإنسانية المتخصصة واللازمة لإتمام كافة المراحل الفنية لإنتاج الفيلم على الوجه الأكمل، حتى يصبح جاهزاً للعرض الجماهيري. وتنقسم عناصر التكاليف الإنتاجية للفيلم الروائي إلى قسمين كما يلي:
أ. عناصر التكاليف الإنتاجية المباشرة للفيلم الروائي:
تتمثل عناصر التكاليف الإنتاجية المباشرة للفيلم من مجموعة عناصر الإنفاق الإنتاجية الرئيسية المرتبطة بصفة أساسية بعملية الخلق، والإبداع الفني، وتدخل في عمليات التصنيع الفني للفيلم الروائي خلال مراحل إنتاجه.
وتتميز العناصر الإنتاجية المباشرة للفيلم، بسهولة تحديد نصيب الفيلم من كل منها بحسب قدر استفادته منها، لسهولة تخصيصها للفيلم، وكذلك لوضوح علاقة السببية والمسئولية بين هذه العناصر، والفيلم السينمائي.
ب. عناصر التكاليف الإنتاجية غير المباشرة للفيلم الروائي:
بالنسبة لعناصر التكاليف الإنتاجية غير المباشرة للفيلم الروائي، فإنها تتمثل في عناصر الإنفاق الإنتاجية المساعدة، التي لا ترتبط بصفة أساسية بعملية الخلقة والإبداع، وعملية التصنيع الفني للفيلم الروائي، خلال مراحل إنتاجه. حيث نجد أن عناصر التكاليف غير المباشرة للفيلم الروائي، لا توجد أي صعوبة في تحديد نصيب الفيلم الروائي من كل عنصر منها، وذلك لسهولة تخصيصها بالنسبة للفيلم، كما توجد علاقة سببية، ومسئولية مباشرة، وواضحة بين هذه العناصر والفيلم الروائي.
3. التبويب النوعي لعناصر التكاليف الإنتاجية للفيلم
ويقصد به تبويب عناصر التكاليف الإنتاجية للفيلم حسب نوعها أو طبيعتها طبقاً للتقسيم التالي:
أ. تكلفة عنصر الأجور:
تمثل كل ما تدفعه شركة الإنتاج السينمائي في سبيل الحصول على خدمات المهارات الإنسانية الفنية المتخصصة، على مستوى المهن السينمائية لصناعة الفيلم، سواء كانت تمثل أجوراً مباشرة أساسية، مثل أجور (المخرج ـ مدير الإضاءة ـ المصوِّر ـ مهندس الديكور ـ مصمم الملابس ـ مهندس ومسجل الصوت ـ أبطال الفيلم ـ الأدوار الثانوية ـ الكومبارس ـ الماكيير ـ الكوافير ـ مؤلف الموسيقى التصويرية ـ مخرج المعارك ـ خبير المفرقعات ـ مونتير النيجاتيف ـ مركب الفيلم ـ مونتير البوزتيف ـ مصمم الاستعراضات ـ مخرج الخدع). أو أجور غير مباشرة بالنسبة للفيلم، وتتمثل في كل ما تتحمله شركة الإنتاج السينمائي في سبيل الحصول على خدمات العمالة المساعدة المتخصصة من المهن السينمائية المختلفة، خلال المراحل الإنتاجية للفيلم، (مساعدو الإخراج ـ مدير الإنتاج ومساعده ـ مساعد المصور ـ منفذ ومساعدو الديكور والإكسسوارات ـ مساعد مسجل الصوت ـ الماكيير ومساعد الكوافير ـ عمّال الملابس)، وهؤلاء المساعدون يعملون طبقاً لتوجيهات القائمين بعمليات الإبداع الفني، على مستوى مراحل إنتاج الفيلم.
ب. تكلفة عنصر الخدمات:
وتتمثل في تكلفة الخدمات الرئيسية المستخدمة في عمليات الإنتاج، والتصنيع الفني للفيلم، مثال: خامات (الديكور ـ الملابس ـ الأفلام الخاصة صوت وصورة ـ الأطعمة، والمشروبات المستخدمة كإكسسوارات للتصوير ـ الجيلاتين والكلك ـ وكذلك تشتمل على مجموعة الخامات المساعدة التي لا تدخل بشكل مباشر في عمليات التصنيع الفني للفيلم خلال مراحل إنتاجه الفنية ـ مثال: (مشابك لتثبيت الكلك، والجيلاتين ولمبات الإضاءة ـ حبال لربط أو تعليق لمبات أو إكسسوارات ـ دبابيس ومسامير ـ شكرتون (لاصق) ـ أدوات نظافة وأدوات كهرباء ـ مطبوعات وأدوات كتابية لإدارة إنتاج الفيلم).
ج. المصروفات الخدمية الأخرى:
وتتمثل في تكلفة الخدمات الإنتاجية المكتملة، والضرورية، لإتمام مراحل الدورة الفنية للإنتاج على الوجه الأكمل، وهي بخلاف الأجور والخامات، لأنها لا تنطبق عليها صفة الأجر أو الخامات، حيث تدخل هذه الخدمات الإنتاجية للفيلم بشكل رئيسي ومباشر في العمليات، والمراحل الأساسية للتصنيع الفني للفيلم، مثال: (تكاليف خدمات الاستديو والمكياج، وإيجار البلاتوهات، والحدائق والشوارع، وحارة الأستديو ـ إيجار أماكن التصوير الخارجي ـ تكلفة شراء القصة والسيناريو ـ إيجار الإكسسوارات المتنوعة الثابتة، والمتحركة، كالسيارات للتصوير الخارجي، والحيوانات اللازمة لتصوير مشاهد الفيلم ـ إيجار كاميرات ومعدات الإضاءة والتصوير المختلفة) وكذلك تشتمل على تكلفة مجموعات الخدمات الإنتاجية غير المباشرة، التي لا تدخل بشكل مباشر وأساسي في عمليات التصنيع الفني للفيلم، خلال مراحل إنتاجه الفنية مثال: (إيجار سيارات لنقل العاملين، ولنقل أجهزة التصوير، ومعدات الإضاءة، أقساط التأمين).
4. التبويب الوظيفي لعناصر تكاليف الفيلم الروائي
يقوم التبويب الوظيفي، على أساس تبويب عناصر تكاليف الفيلم الروائي، وفقاً للأنشطة الرئيسية التي تقوم بها شركة الإنتاج السينمائي من إنتاج للفيلم، ثم عمليات تسويقية، وكذلك ممارسة النشاط الإداري الذي يخدم نشاطي إنتاج، وتسويق الأفلام.
ويهدف التبويب الوظيفي إلى حصر تكاليف كل نشاط من هذه الأنشطة على حدة، على مستوى شركة الإنتاج السينمائي.
وتقسم عناصر تكاليف الفيلم الكلية طبقاً للتبويب الوظيفي كما يلي:
أ. عناصر التكاليف الإنتاجية للفيلم:
تمثل عناصر تكاليف الإنتاج للفيلم، كافة التكاليف المتعلقة بالعمليات الإنتاجية للفيلم، سواء المباشرة مثل (الأجور، والخامات، والمصروفات الخدمية الأخرى، الإنتاجية المباشرة) أو غير المباشرة (وهي الأجور، والخامات، والمصروفات الخدمية الأخرى الإنتاجية غير المباشرة).
ب. عناصر التكاليف التسويقية للفيلم الروائي:
يشتمل النشاط التسويقي للفيلم الروائي، على كافة الجهود التسويقية التي تبذل، قبل، وأثناء، وبعد إنتاج الفيلم.
وتعرف التكاليف التسويقية للفيلم الروائي، بأنها جميع عناصر الإنفاق التي تتحملها شركة الإنتاج السينمائي لتسويق الأفلام، مثال تكاليف الدعاية والإعلان عن الفيلم، في كافة وسائل الإعلان، وعمولة توزيع الفيلم، وتكاليف ألبومات، والصور الفوتوغرافية، والمصور الفوتوغرافي، وتكاليف عمل مقدمات الفيلم، وتكاليف نقل الفيلم على شرائط فيديو.
ج. عناصر التكاليف الإدارية للفيلم:
لا يقتصر نشاط شركة الإنتاج السينمائي على عمليات إنتاج الأفلام وتسويقها، بل هناك مجموعة أخرى من الأنشطة المساعدة التي يستفيد من خدماتها، نشاط إنتاج، وتسويق الأفلام، وذلك مثل الجهود الخاصة بشئون العاملين، والعلاقات العامة، والشئون المالية، والإدارية، بشركة الإنتاج السينمائي بشكل عام، وتشتمل عناصر التكاليف الإدارية العامة بشركة الإنتاج السينمائي على قيمة مرتبات الإداريين، والإيجارات، والمياه، والنور، والتلفون، والمطبوعات، والسكرتارية، والحراسة، والنظافة، ومواد النظافة، والأدوات الكتابية، ومصروفات الصيانة، ومصروفات التدفئة، والإهلاكات، والمصروفات القضائية، وأتعاب مراجعي الحسابات.
5. عناصر الفيلم السينمائي
أ. السيناريو:
الفيلم السينمائي الجيد لا بد أن ينهض على سيناريو جيد ومن المستحيل إخراج فيلم جيد لم يكتب له السيناريو بعناية، فمهما كانت فكرة الفيلم وموضوعه على درجة عالية من النضج والفلسفة، ومهما كان تصويره ومونتاجه على أعلى مستوى من الامتياز، فإنه لابد وأن يسقط فنياً وفكرياً إذا كان السيناريو ضعيف البناء. هذا وبعض السينمائيين يعتقدون أن كتابة الكلمات التي تصل في النهاية إلى الشاشة على شكل صور مرئية، وكلمات، وأصوات تحتاج إلى مهارة فنية، قد تزيد على تلك التي تحتاجها إدارة الآلات التي تستخدم في إخراج الفيلم إلى حيز الوجود. لذلك لا يمكن البدء في تصوير فيلم وإخراجه دون أن يكون السيناريو قد اكتمل تماماً، وهذا أمر شاق يحتاج إلى كل القدرات الذهنية، والتخيلية، والفنية، حتى يمكن أن يتخيل كاتب السيناريو مقدماً ما يأمل أن يراه معروضا على الشاشة فيما بعد.
كاتب السيناريو هو، الفنان والأديب المتخصص الذي برع في كتابة القصة السينمائية وتطور نموها الدرامي، وإعداد المعالجة السينمائية الفنية، وذلك بوضع السياق المتتابع الذي يروي أحداث القصة أو الموضوع، في صورة مرئية بارعة التأثير، قوية التعبير، أي الأسلوب الفني الذي يسهل نقله إلى الشاشة. وليس من الضروري أن يكون المؤلف السينمائي صاحب الفكرة، أو الموضوع الأصلي الذي يمكن اقتباسه من قصة، أو مسرحية، أو أي مصدر أخر، ولكن المهم بعد هذا أن يصوغه في شكل مناظر ومواقف متتابعة صالحة للتصوير السينمائي، هذا هو كاتب السيناريو، الذي يعرف باسم السيناريست.
ب. الحوار السينمائي:
الحوار في الفيلم السينمائي له ما يميزه ويجعله مختلفاً عن أنواع الحوار الأخرى في الرواية الطويلة، والقصة القصيرة، والمسرحية، والتمثيلية الإذاعية، فهو عامل مساعد أو مكمل. إنه يستعمل فقط لتوضيح اللقطة أو المشهد، حيث إن الفيلم عبارة عن مجموعة من اللقطات والصور والمشاهد. الصورة هي وسيلة السيناريست، والمخرج للتعبير عن أفكارهما ووجهتي نظرهما أو رؤيتهما، ولذلك يجب أن تحمل الصورة أكبر قدر ممكن من أدوات التعبير. والحوار أداة من هذه الأدوات، وعامل مساعد لتوضيح أو تفسير ما صعب إيضاحه، لأن الحوار في الفيلم يتعاون مع باقي الوسائل الأخرى لإيضاح المعنى المطلوب، ولتعميق الأثر الذي ينشده السيناريست. وفي الفيلم يجد المؤلف نفسه في عالم يختلف تماماً عن عالم المسرح، لأن عالم الفيلم يعتبر الفنيين فيه أهم من الفنانين، أو يتساويان معاً.
وعلى هذا نجد أن الحوار في الفيلم جزء من الكل، لا معنى له بمفرده، وقد لا ندرك مغزى الحوار، في بعض المشاهد، إذا قرأناه منفرداً. وأهم ما يجب أن يتوفر للحوار في الفيلم، أن يكون مختصراً أو مختزلاً، ويحمل أكبر قدر ممكن من المعاني، بأقل الألفاظ الممكنة، كما يجب أن يكون خالياً من الصفات الأدبية، لأنه يجب أن يكون مكتوباً كما يتكلم الناس في الواقع.
والحوار يعبرِّ عن الشخصية صاحبة الكلام، ويبلورها، ويعبر عن الموقف، فيجب أن يكون بسيطاً وسلساً حتى يفهمه، ويتتبعه جميع الناس، فالفيلم يشاهده الرجال، والنساء، والأطفال، والمثقف ونصف المثقف، والأمي، فلا بد لكل من هؤلاء أن يستوعب ما يجري أمامه من كلام، وليس معنى هذا أن يكون الحوار سوقياً أو خالياً من أية قيمة، ولكن المقصود بذلك هو أن يكون خالياً من أية تعقيدات في أسلوب الأداء، أو الصياغة الأدبية.
والاتجاهات الحديثة في السينما تحاول التخلص من قيود الحوار، واختصاره إلى أكبر قدر ممكن، والاعتماد على الصورة فقط للتعبير عن الأبعاد المختلفة سواء للأحداث أو للشخصيات. فالفيلم صورة قبل أي شئ، وفي بعض الأفلام قد نجد مشاهد كاملة وكثيرة لا تتخللها أية كلمة حوارية، وهنا يعتمد السيناريست على الصورة فقط، فيحاول أن يجعلها تقوم بتوصيل المفهوم المطلوب إلى المشاهدين.
ج. الصورة وفن التصوير السينمائي:
يتكون شريط أي فيلم من سلسلة من الصور الثابتة، أو الكادرات التي تقوم بتصويرها الكاميرا السينمائية، وهذا هو شريط الفيلم منذ اختراع أول كاميرا سينمائية في معامل إديسون، وحتى أكثر الكاميرات تعقيداً. فالكاميرا السينمائية تقوم بتصوير صور فوتوغرافية منفصلة ينطبع كل منها على كادر منفصل، وعند عرض هذه الصور، واحدة تلو الأخرى بنفس السرعة التي صُورت بها، يتولَّد الشعور بحركة متصلة هي جوهر فن السينما.
ففي معظم الكاميرات السينمائية الحالية، يمر الشريط بداخلها بسرعة 24 كادرًا كل ثانية، وهو ما يعني أن كل كادر أو صورة تقف أمام العدسة لتحصل على كمية الضوء اللازم لتسجيل ملامح الصورة في زمن 1/ 48 من الثانية، وفي 1/ 48 من الثانية تغلق العدسة ليمر الشريط في الكاميرا حتى يصل الكادر التالي إلى موقعه أمام العدسة، وإذا كان الشعور بالحركة المتصلة في المخ البشري يمكن تحقيقه بعرض 12 كادراً كل ثانية أمام العين، فإن الكاميرا في السينما الصامتة قد صُممت لتصوير 16 كادراً كل ثانية، زادت إلى 24 كادراً في كاميرات السينما الناطقة، وإذا فحصنا شريطاً من السليوليد لأحد الأفلام، نرى هذه الكادرات أو الصور الفوتوغرافية المنفصلة والمتتالية الواحدة بعد الأخرى، يفصل بين كل منها مساحة ضيقة مظلمة، ولكننا لا نرى أو نلحظ وجود تلك المساحات المظلمة خلال عرض الشريط، لأن هناك باباً أمام العدسة يكون مغلقاً عند مرور هذه المساحات، ولذلك يسمى هذا الباب باسم الغالق، بينما يفتح هذا الباب عند وصول الصورة التالية في مكانها بين مصباح الضوء وعدسة آلة العرض، وهكذا فإننا لا نرى الصور المعروضة على الشاشة وكأنها تضئ ثم تنطفئ، بل إننا نراها صورة واحدة متصلة تدب فيها الحركة.
ويعتمد المصور في أداء عملية التصوير السينمائي على ثلاثة مكونات، أو أدوات أساسية هي:
* الإضاءة.
* زوايا التصوير.
* الكادر السينمائي والتكوين.
1 - الإضاءة Lighting:
هي التي تعطينا الإحساس بالزمن الذي تدور فيه الأحداث، سواء أكان هذا الزمن نهاراً أم ليلاً، شروقاً أم غروباً. وتتدخل الإضاءة في إبراز معالم الفيلم، فالفيلم البوليسي له من أشكال الإضاءة ما تختلف عنه في الفيلم الكوميدي، وأيضاً أفلام الرعب لها أسلوبها الخاص في الإضاءة، فهي تختلف تماما عن الفيلم الاستعراضي، وعلى هذا النحو فإن توصيات المخرج لمدير التصوير لها من الأهمية قدر يساعد على تحديد هوية الفيلم ونوعيته.
ويمكن للإضاءة إلى حد قليل أن تزيد من أهمية بعض الأشخاص، أو قطع الإكسسوار، أو الأشياء، إذ يمكن عرضها في ضوء كامل أو في الظل. وتغير الإضاءة يدل على أن باباً أو نافذة قد فتحت، أو أن مصباحاً قد أضئ، أو أن مصابيح سيارة تقترب، أو أن أشعة كشاف تبحث عن شخص. والإضاءة لها أهمية كبرى في خلق جو الفيلم، وإن كانت تكشف عن قدر محدود من المعلومات المباشرة في القصة.
وتلعب الإضاءة الآن عدة وظائف هامة بالنسبة للصورة، سواء في السينما، أو التليفزيون تتلخص في الآتي:
أ- إثارة الموضوع إثارة شاملة مع توزيعها توزيعاً مناسباً.
ب- تأكيد وجود الموضوع بين المرئيات وتوجيهه، أو لفت نظر المشاهدين إلى مواقع الأحداث.
ج- إضفاء القوة المعبرة، وإمكانيات التأثير في الموضوع.
د- إعطاء الجو العام، والإيحاء بالشعور المطلوب، ويدخل في ذلك إشعار المشاهدين بالوقت الذي تجري فيه الأحداث إن كان صيفًا أو شتاءً، صباحاً أو مساءً.
هـ- تحقيق جمال الصورة.
و- الإيهام بالبعد الثالث أو العمق، أي بُعد الأشياء أو قربها.
ز- التعبير عن لون القصة، موضوع الفيلم، فإذا كانت تراجيديا مثلاً فإنها تحتاج إلى أنوار وظلال متناقضة تمامًا. وإذا كانت فكاهية فإنها تحتاج إلى أنوار ناعمة بهيجة.
وللإضاءة ثلاثة أبعاد أساسية هي:
- مصدرها.
- مدى شدتها.
- نوعها، من حيث النعومة أو الخشونة.
والذي يتطلب معرفته بالنسبة للضوء هو مدى تأثيره من حيث الاتجاه، والشدة، والنّصوع، وذلك معناه أننا حين نشاهد الصورة التليفزيونية أو السينمائية، لا يهمنا أن نعرف مثلاً إن كان الاستديو مضاء بالفلورسنت، أو بغيرها من المصابيح، إنما الذي يهمنا هو معرفة تأثير أي من هذه الكشافات على اتجاه الضوء وشدته ونوعه.
وتتوقف صفات الضوء على طريقة استعماله، ويمكن تنفيذ أي نوع من أنواع الإضاءة بأي نوع من مصادر الضوء، ويأتي الخلاف فقط في طريقة الاستعمال.
وتنقسم أنواع الإضاءة إلى قسمين:
* القسم الأول خاص بإضاءة الأشخاص، وتتضمن:
. الإضاءة الرئيسية:
وهي شديدة التوجيه، وتعطي مساحات ذات قيم ضوئية عالية، كما أنها تلقي ظلالاً، وتبرز شكل الأشياء، وتزود كل المساحات في الديكور بالإضاءة، ولذلك يتحتم في أغلب الأوقات استخدام مصابيح متعددة لهذا الغرض.
. الإضاءة الخلفية:
توضع خلف الموضوع على الجانب المواجه للكاميرا، وتصوّب نحو رأس وكتف الشخص، ممثلاً أو ضيفاً أو مقدمَ برنامج، وهذا النوع من الإضاءة يحقق غرضين هما: إضفاء بريق على شكل الشخص، وفصل الموضوع عن الخلفية، أي أنها تحقق العمق أو البعد الثالث.
. الإضاءة التكميلية:
وتستعمل لملء مساحات الظلال المتبقية على الشخص، بعد ضبط النوعين السابقين من الإضاءة الرئيسية والإضاءة الخلفية، والإضاءة التكميلية دائمًا تكون ناعمة ومنتشرة، وتكون شدّتها أقل من شدة النوعين الأولين من الإضاءة.
* القسم الثاني من الإضاءة، هو الخاص بإضاءة المناظر أو الديكور:
وتستعمل إذا لم تكف إضاءة الأشخاص بأنواعها الثلاثة لإضاءة الديكور، وذلك عندما تكون بعيدة عن الخلفية، فإنه ينبغي في هذه الحالة استخدام عدة وحدات ضوء إضافية لإضاءة الخلفية، أو حوائط الديكور.
2 - زوايا التصوير:
المتفرج في المسرح لا يتاح له سوى منظر عام لما يجري على خشبة المسرح، ومن زاوية واحدة يحددها المقعد الذي اختاره بنفسه ليجلس عليه طوال المسرحية، فليس من المتاح في المسرح أن يغير المتفرج مكانه من آن لآخر، أما في السينما والتليفزيون فإن الأمر يختلف تماماً حيث إن المشاهد لا يرى المناظر مباشرة كما هو الحال في المسرح، وإنما يراها من خلال كاميرا، فتكون زاوية الرؤية بالنسبة له هي زاوية الالتقاط بالنسبة للكاميرا.
وقد تطور توظيف زوايا التصوير بما يخدم القيم الدرامية أكثر، لإتاحة التعمق في الأحداث، بحيث لم تعد الصورة مجرد تسجيل موضوعي عادي للأحداث، بل أصبحت أكثر من هذا فهي تستطيع أن تعبر عن وجهات نظر ذاتية.
وتوصف الزاوية بأنها ذاتية، إذا كانت آلة التصوير تأخذ مكان عين أحد شخصيات الحدث، وتوصف بأنها موضوعية، إذا كانت الكاميرا تعبر عن وجهة نظر المشاهد الخارجي للحدث.
ونظراً لأن اختيار زاوية التصوير قد أصبح في حد ذاته عنصراً له وظيفته التعبيرية، يجب عدم اللجوء إلى استخدام زوايا غير عادية لا يكون لاستخدامها أي مدلول أو هدف درامي، وإنما لمجرد تحقيق لقطة غريبة تثير المتفرج أو تبهره، ويعتقد بعبقرية المخرج الذي ابتدع مثل هذه اللقطة.
3 - الكادر السينمائي والتكوين:
ينقسم حيز الفيلم إلى وحدات أصغر، تنقسم بدورها إلى وحدات أكثر صغراً، ولهذا التقطيع خطورة إذ قد تتفتت هذه الأقسام الصغرى، ولذلك كان من الضروري البحث عن الوسائل التي تضمن جمع وربط هذه الأجزاء المقسمة.
التكوين بالنسبة للصورة معناه، وضع كل تفاصيل أو عناصر المنظر في علاقة متآلفة، بحيث تشكل توازنا يشعر المتفرج إزاءه بالراحة والاستحسان، والقبول، ولتحقيق هذا، فإن التكوين لا بد أن يتضمن بعض العناصر التشكيلية وهي: الشكل، ومراعاة الخطوط المكونة للأشكال، والتوزيع المناسب للضوء، والظل، والألوان، والتوزيع المتوازن للعناصر المرئية، والإيقاع، وكل هذه العناصر تسهم في إحداث الأثر الدرامي للمشهد.
وللتكوين غايات ثلاث هي: جذب انتباه المشاهد للموضوع، والتحكم في مشاعر المتفرج، وخلق الإحساس الجمالي لدى المتفرج، وتلافي مضايقته.
د. التمثيل السينمائي:
يعتمد التمثيل في الأساس على ما يطلق عليه لغة الجسد المرئية: وهي لغة ذات بريق خاص، وتنافس إلى حد كبير لغته الناطقة، أي الحوار، بل إنها تتفوق عليها في كثير من الأحيان في العطاء والتأثير.
ويمكن أن تقسم لغة الجسد إلى: لغة ملامح الوجه، وتضم إليها كل ما يتعلق برأس الإنسان مثل الشعر، ولغة الأعضاء، مثل اليد، والذراع، والكتف، والقدم، وأخيراً وضع الجسد بأكمله أو أجزاء منه.
ويرى البعض أن لغة العين هي أهم لغة، تليها لغة الشفتين، ولغة الجسد تبحث لها عن منافذ أخرى للتعبير غير العينين والشفتين، كما أنه كثيراً ما يكون التركيز على أعضاء أخرى في التعبير مع تحييد العينين والشفتين.
ومن مفردات لغة الجسد المرئية، التحركات السريعة لحدقة العين، الإشارة بطرف العين، الغمز بإحدى العينين، إرخاء العين، اتساع أو تضييق الجفون، رفع الحاجبين أو أحدهما، الابتسامة بكل درجاتها وأنواعها: السعيدة، والمرحبة، والساخرة، والصفراء .. الخ. ليّ الشفة للازدراء، أو القرف، مط أو تكوير الشفتين، أو ارتجافهما تحت وطأة الانفعال أو الضعف، تطويح الشعر، وتهدله، وتسويته، وعبث الهواء به في التصوير الخارجي، أو تحت تأثير مروحة كهربائية. هز الرأس بالموافقة، أو الرفض، أو إبداء الأسف، أو الإعجاب. إمالة الرقبة بإيحاءاتها وأغراضها المختلفة، هز الأكتاف للسخرية، أو الرفض، أو الدلال، أو للتعبير عن الانكماش والخوف. استخدام اليد مع تكويرها أو استخدام الأصابع بما لا يمكن حصره من التعبيرات ومن بينها النفي والإثبات، والتهديد والاستمهال، والرفض، والمداعبة، والحنان. الارتجاف تعبيرا عن الخوف، أو المرض، أو للتعبير عن التفكير، أو الحيرة، أو لإعطاء العدد، أو الإشارة إلى شخص أو شئ، أو مكان، أو لإعطاء تعليمات إذا تعذر النطق بها، أو لتأييد وتأكيد الكلمات المنطوقة، أو التناقض معها كما قدمنا، أو لتأكيد الرشاقة أو التعاظم.
ولا تُنسى حركة الصدر والبطن تبعاً للشهيق والزفير، وما يمكن أن تعبر عنه تبعا للسرعة ومداها، ودورها في إبراز الجذع بصورة جميلة أو منفرة. كما لا تُنسى حركة القدم التي يمكن أن تعبر عن القلق، أو تعطى إيقاعا رتيبا يثير الآخرين، أو يوحي بالشر، وكذلك وضع الساق على الساق وهزاتها مع ما تعطيه من إيحاءات مختلفة، أو وضع الأقدام على المائدة، أو المقعد المقابل، أو المكتب.
والإصغاء من أقوى الأدوات في يد الممثل فهو يجاري اللحظة ويعيشها مع الممثل الآخر الذي يشاركه المشهد، إن الإصغاء إلى الشخص الآخر الموجود في المشهد يجعل مهمة الممثل بسيطة، ويوفر له تركيز انتباهه ويقظته، كما يخفف من توتر الممثل ويدفعه إلى الاسترخاء، ويمنعه تماما من المبالغة في الأداء، وهو يجعل الأداء طبيعيا، كما يسمح الإصغاء للممثلين أن يؤثروا في بعضهم البعض. فإذا كان العمل تراجيدياً، ويريد المخرج أن يجعل المتفرجين يرتبطون بالشخصيات في مواقفهم ومغامراتهم، فمن الضروري أن يجعل الممثلين يصغون.
إن الإصغاء يحقق الهدف مباشرة، وهو أمر سهل، ومهما بلغ استعداد الممثل، فإنه يوجه كل انتباهه إلى الممثل الآخر، ولكن الممثلين لا يصغون أحياناً. فهم يخشون الوقوع متلبسين بالتحديق في بعضهم البعض، كما يقلقهم ألا يبدو الاتصال الكامل بالعين طبيعياً. كما يعتقد بعض الممثلين المرموقين الناجحين أن عليهم أن يسدلوا ستاراً أمام الممثل الآخر، حتى يحافظوا على بريق أدائهم المنفرد.
ويعد الممثل أحد وسائل التعبير السينمائية، والمخرج الجيد هو الذي يستطيع أن يضع الممثل المناسب في موضعه الملائم كما ينص السيناريو. ومن الأمور التي لا شك فيها أن فن السينما قد عدَّل كثيراً في التمثيل، فقبل أن تظهر السينما إلى الوجود كان التمثيل يعتمد على المبالغة في القول والفعل.
هذا وقد كانت المدارس القديمة تتجه نحو تلقين المخرج للممثل كيفية أداء الدور، ولكن هذه المدارس قد اندثرت بعد أن تكشف لديها أن الممثل على هذا النحو سيكون صورة مكررة للمخرج، والمفروض أن يتعرف المخرج على إمكانيات ممثله حتى يمكنه توظيفها، وفق ما يقتضيه العمل دون أن يكون له مرشداً أو دليلاً. وكثيراً ما لجأ بعض المخرجين الواقعيين في الاتحاد السوفيتي وإيطاليا إلى استغلال نماذج طبيعية من أفراد الشعب لأداء الأدوار التمثيلية لشخصيات أوصى بها السيناريو، وذلك بغية إقناع المتفرج أنه أمام واقع حي لا زيف فيه ولا تمثيل.
ويعبر مظهر الممثل عن الشخصية التي يقوم بأدائها، فيبدو لنا شريراً، أو طيباً، أو مفكراً، أو بهلواناً. علاوة على أن التصوير الدائم لشخصية معينة يمكنه أن يعبر عن حالات نفسية متغيرة مثل: الغضب، والألم، والاستسلام، والخضوع، والحب، والغيرة، والتعب، وقد تعبر هذه الملامح عن حادث مضى، أو عن هدف يبدو الممثل على وشك تنفيذه، وقد تكفي الملامح أيضاً لترينا رد الفعل عند رجل يرى غريمه وهو يقبل البطلة، وقد تكفي لقطة عن قرب لتعبر عن صراع درامي هام، فلو أن تعبير الممثل تحول من الألم إلى الاستسلام، لأدركنا أنه ينوي أن يتخلى عن المرأة، وإذا انقلب تعبيره إلى الغيرة فهمنا أنه ينوي أن يقاتل في سبيلها.
هـ. الماكياج السينمائي:
يعتقد البعض أن "الماكيير"، وهو الشخص المسؤول عن عمل الماكياج للممثلين، بوسعه أن يحول الدميم إلى جميل، والصبي إلى كهل، والمرأة إلى رجل، وهذا اعتقاد صحيح، ولكن يضاف إلى هذا العمل عمل آخر لا يقل أهمية عنه، وهذا العمل ينحصر في أن يجعل وجوه الممثلين الرئيسيين تبدو تقريباً بلون واحد حتى يحل لمدير التصوير مشكلة تباين الألوان في حالة توزيع الإضاءة عليها.
وأدوات الماكيير متعددة ومتنوعة، منها الأصباغ، والدهون، والسوائل، والشعر، وصناديق من رموش العين، وكتل من المعاجين، وشرائح من المطاط، وبهذه الأشياء يستطيع الماكيير أن يحول أي وجه إلى الصورة التي يريدها.
ويستعمل الماكيير ثلاث درجات من الألوان، واحد كأساس للماكياج، وآخر خفيف للأضواء العالية، وثالث أثقل للظلام. وإذا نظرت لهذه الصور فسوف ترى بعض الخدع التي يمكن للماكيير عملها بهذه الألوان الثلاثة، ففي استطاعته أن يجعل الوجه يبدو أعرض أو أضيق من حقيقته، وأن يجعل الممثل يبدو في غاية التعب، وإذا أراد أن يجعل العيون تدمع فتكفي نفخة بسيطة من النعناع، أو الكافور في أنبوبة ماصة، وإذا كان الممثل لا يستطيع البكاء مده بدموع من الجليسرين أو الماء.
والماكياج مهما كان معقداً يجب ألا يعوق الممثل عن الكلام، أو يحول بينه وبين التعبير، ومن أجل ذلك تعتبر شرائح المطاط أفضل.
وعندما تضاء الأنوار تبدأ متاعب الماكياج، فسرعان ما تصل درجة الحرارة إلى وجوه الممثلين، وتلمع تحت تأثير الحرارة والعرق، فيبادر مساعد الماكيير إلى الممثلين ليجفف وجوههم.
و. المناظر والديكور والملابس والإكسسوار:
المنظر، ويقصد به عادة جدران غرفة ما، ولكن بالنسبة للسينما علينا أن نوسع هذه الكلمة أي أن نعرِّف المنظر بأنه، أي شئ يحيط بالحدث أو يظهر خلفه، وقد يكون المنظر غرفة استقبال، أو سلسلة جبال، أو مكاناً رحباً في الهواء الطلق.
والمناظر تنقسم إلى نوعين: خارجية، وداخلية. المناظر الخارجية، تتمثل في كل مشهد يلتقط خارج الأستوديو كالشوارع، والصحاري، والبحار، والأنهار، والغابات، والجو، والمناظر الخلوية، وهذه المناظر لا تتطلب أية نفقات، لأنها قائمة بالفعل، ولا تتطلب إلا حسن الاختيار والذوق السليم، ودقة الفهم، وتحقيق الانسجام التام بين أحداث القصة والمناظر.
أما المناظر الداخلية، فتتمثل في كل مشهد يلتقط داخل الأستوديو. مثل مشهد في غرفة صالون، بهو كبير، غرفة مكتب، أو أي غرفة في أي منزل. وهذه النوعية من المناظر تتطلب نفقات باهظة لإنشائها داخل الاستوديوهات.
ولكن ديكور المناظر الداخلية هو الأجدر بالاهتمام، إذ أنه يعطي الحرية الكاملة للسيناريست، وللمخرج في خلق الجو المناسب للأحداث، وهو في الوقت نفسه يساعد على بلورة رؤية كل منهما، لأن الديكور الداخلي بمثابة تجسيد للحالة النفسية للشخصيات في الفيلم.
والديكور هو المشهد المراد تصويره سواء كان هذا المشهد طبيعياً أو صناعياً فقد يكون قصراً فخماً، أو كوخاً صغيراً، ويختلف الديكور باختلاف طبيعة الفيلم. فالفيلم التراجيدي له ديكور يختلف عن نظيره الكوميدي أو الاستعراضي، وأمام هذه الاختلافات لا يجد مهندس الديكور بداً من التباحث مع المخرج للتعرف على وجهة نظره، وبالتالي تنفيذها، والإطار الذي يحكم فكر المخرج، وأسلوبه، وشخصيته.
وتنبع أهمية الديكور من أنه يرتبط بالمحل أو المكان، فالديكور يكشف عن وجودنا في محطة سكة حديد، أو حمام تركي، أو مكتبة، أو غرفة نوم، وبذلك يعطينا الديكور عدداً من الحقائق المهمة.
ونعود إلى الصورة لنرى ما تحتويه من عناصر، فالكاميرا تصور المنظر، الإكسسوار، والإكسسوار المتحرك، والممثلين، وهذه العناصر يمكن عرضها في إضاءات مختلفة. وباستثناء بعض الجمل المكتوبة لم يكن للفيلم الصامت أي عناصر أخرى للتعبير غير أنها كانت كافية للكشف عن المعلومات اللازمة.
وأهم صفة يجب أن تكون في الديكور الجيد سواء كان داخلياً أو خارجياً، هي أن يكون واقعياً، لأن ذلك يساهم في تجسيد الحدث، ويتعاون في خلق الجو النفسي للأحداث، ولكن الواقعية في الديكور قد تكون غير مطلوبة، وذلك عندما يكون الموضوع نفسه الذي يعالجه الفيلم غير واقعي، ولذلك لا بد أن يكون الديكور بمثابة لحن رمزي متآلف مع الموضوع نفسه.
والمناظر والديكورات، بالإضافة إلى الإكسسوارات، تعد بمثابة العصب الحساس في الفيلم، أي بمثابة اللحم الذي يكسو العظم الذي يتألف منه هيكل الفيلم.
أما الإكسسوار فهو نوعان: نوع خاص بمفروشات المنظر نفسه، وبها يستدل على نوع المنظر، ونوع الأشخاص الذين يعيشون فيه، وهناك نوع آخر من الإكسسوار، وهو الإكسسوار الشخصي أي ما يستعمله الممثل لاستغلاله في التمثيل كالعصا، والمسدس، والسيارة، وغير ذلك من وسائل التعبير التي ساعد على خلق الشخصية، وتمييزها، وتحديد معالمها.
ويصنف الإكسسوار أيضاً إلى نوعين هما، الإكسسوار الثابت، والإكسسوار المتحرك، والإكسسوار الثابت قد يكون جزءاً من الديكور العادي، أو جزءاً تابعاً للممثل نفسه، وهو في الحالتين يكشف عن خصائص الشيء التابع له، وإذا كان الإكسسوار الثابت جزءاً من الممثل، فهو يساعد على توضيح شخصيته، وهناك بعض الإكسسوار الذي يرتبط بأفعال معينة.
ويوضع الإكسسوار في مكانه الملائم من أجل إيضاح الفكرة المقصودة من المنظر، وعلى هذا يجب أن يكون الإكسسوار الموجود في المشهد مرتبطاً بأحداث هذا المشهد ومناظره.
أما الملابس فلها أهمية كبرى، إذ أنها أحد العوامل التي تجعل المتفرج يدرك من أول وهلة مع من يتعامل من شخصيات الفيلم، فالمعتني بملبسه له دلالة تختلف عن غيره، والمهتم بالألوان الصاخبة له دلالة تختلف عن المهتم بالألوان الهادئة، والمرأة التي تنتقي ملابس تكشف عن مفاتنها بخلاف المحتشمة، والتلميذ الذي أهمل زيه المدرسي بالتأكيد يختلف عن التلميذ المهتم بزيه المدرسي، الأمر الذي يؤكد ما للملابس من أهمية، ويجعل المخرج يهتم اهتماماً خاصاً بانتقائها، والتوجيه عليها إبان عمله.
ولا تعد الملابس نوعاً من الزخارف الإضافية في الأفلام فحسب، بل هي عنصر أساسي من عناصر القصة ذاتها، حيث تعتبر جزءاً من الديكور بوصفها مناظر حية، أو أنها بناء معماري، ولها قيمتها العظمى في زيادة إيضاح حركة الممثل وتعبيراته، ولهذا فإن الملابس تأتى في المرتبة الثانية من حيث الأهمية بعد الممثل، الذي هو في الحقيقة المترجم الفعلي لأعمال المخرج، وذلك لأنها بدورها تترجم وتعبر عن طبيعته، وخلقه، وحركاته، وكذلك عن أغراضه واتجاهاته.
ولما كان المخرج مسؤولاً وحده عن وحدة وأصالة الأسلوب في الفيلم الذي يخرجه، فإنه هو الذي يقرر أو يوحي بقدر الاستطاعة بالدور الذي تلعبه الملابس، سواء في التعبير أو في التمثيل، وهذا الدور لا يمكن أن يقوم بتحديده رسام الملابس، أو مصمم الأزياء لأنه مهما أوتي من الإلهام الفني ليس مكلفاً بتتبع القصة السينمائية ورعايتها، ومع ذلك فإن مصمم الأزياء المثالي باشتراكه في أعمال الديكور، يستطيع بمعلوماته، وخبرته، والوسائل الخاصة التي في متناول يده، أن يكون له تأثير فعَّال في أعمال الديكور والإخراج.
ز. الصوت، والمؤثرات، والموسيقى:
يشكل الصوت العنصر الثاني من عناصر الوحدة الأساسية للفيلم السينمائي، ويشمل اللغة اللفظية، والمؤثرات الصوتية، والموسيقى، التي تندمج جميعاً بطريقة متكاملة لتكون الصوت في الصور المتحركة.
والأصوات في الفيلم تنقسم إلى قسمين أساسيين:
1 - الأصوات الطبيعية، وهذه الأصوات يمكن إدراكها في الطبيعة ذاتها، مثل أصوات الرياح، الرعد، المطر، الأمواج، الماء الجاري، تغريد الطيور، وصراخ الحيوانات المختلفة.
2 - الأصوات البشرية، وهي تلك الأصوات التي يصدرها البشر، أو التي يشارك البشر في صنعها.
وتعود أهمية الصوت في السينما إلى العوامل التالية:
- الصوت يزيد الإحساس بالواقعية.
- الصوت يفسِّر الصورة.
- الصوت يربط بين الصور المتتابعة.
أما المؤثرات الصوتية فهي الأصوات التي تمثل كل ما يحيط بنا في حياتنا اليومية من أصوات سيارات في الشوارع، أو أبواب تغلق، أو تليفونات تدق، أو بواخر، أو حيوانات أليفة أو شرسة، وغير ذلك مما يعبر عن حقيقة المكان الذي يدور فيه الحدث، أو يتحرك فيه الممثل، وللمؤثرات الصوتية أهمية كبيرة حيث تساعد على ازدياد إحساس المتفرج بالمشهد، وما يدور فيه.
وتضاف المؤثرات الصوتية إلى الفيلم بعد الانتهاء منه، حيث من الصعب التحكم فيها لو أنها سجلت مع الحوار.
وليس الحوار هو الوظيفة الوحيدة للصوت، فهناك وظيفة أخرى يمكن أن تسمى بالضجة، وأية حركة لا بد أن يصحبها نوع من الصخب، ومن المستحيل أن نرى على الشاشة بندقية تطلق دون أن يسمع صوت الرصاصة، أو أن نرى قطاراً دون أن نسمع صوت عجلاته على القضبان، وليس هذا مثيراً في حد ذاته لأنه أمر بالغ الوضوح، ولكن العملية تصبح شيئاً يستحق الدراسة إذا عكسناها.
فهناك أنواع من الضجة تعبر عن ألوان من الحركة، فإذا كان الصوت له طابع خاص أمكن أن نستنتج الحركة التي أنتجت ذلك الصوت، والضجة لا تستمد قيمتها من مصاحبتها للصورة فقط، ولكن لأن لها حياتها الخاصة، وأهميتها الذاتية، وحقل الصورة محدود، ولا بد للصوت على الرغم من أنه مستقل بذاته، أن يعطينا معلومات تتخطى هذا الحقل المحدود.
وهنا تظهر قيمة المؤثرات الصوتية في السينما لأنها تقول لنا ما لا نراه، أو تعطينا معلومات أكثر مما يمكننا رؤيته.
وعلى هذا فالصوت مهم لأنه يستطيع أن يشترك في القصة دون أن يحتل أي حيز. إنه يساعد الحدث دون أن يعيق تقدمه أو يبطئ من سرعته. ويمكن للضجة أن تميز المكان، ومن أهم وظائف الضجة أيضاً الربط، فالمَشَاهِد يمكن أن تقطع في لقطات مختلفة، ولكن الصوت يربط بينها. فبينما نستطيع أن ننقل عيوننا بين أشياء مختلفة، فإن آذاننا تسمع نفس الصوت، وإذا كانت عدسة التصوير تقوم بدور التقطيع، فإن الميكروفون يقوم بدور الربط.
والموسيقى في الفيلم، إما أن تكون موسيقى تصويرية، أي أنها تصاحب تصوير الشخصية أو الحدث، وإما أن تكون مصاحبة للكلمات، أي أنها تكون لحناً لكلمات أغنية، أو أن تكون موسيقى لرقصة ما.
والموسيقى والمؤثرات الصوتية في الفيلم ليست إضافة بسيطة إلى الصورة، ولكنها عنصر مهم من عناصر الفيلم السينمائي، لأنها تعبر تعبيراً قوياً واضحاً عن حوادث الفيلم، بحيث يشعر المتفرج أنها جزء لا يتجزأ من الفيلم.
والموسيقى التصويرية أيضا هي عامل مساعد في التعبير عن المواقف وسير الأحداث، فمن خلالها يستطيع المتفرج أن يحيا حياة أبطاله في الفيلم، وأن يدرك مشاعرهم.
والموسيقى التصويرية جزء لا يتجزأ من شريط الصوت، ولكنها ليست جزءاً من القصة، ودليل ذلك أن مؤلفي الموسيقى لا يستشارون عند كتابة السيناريو، فالفيلم يقدم إليهم كاملاً، ويطلب إليهم تأليف موسيقى تناسب القصة، وإن كانوا لا يرضون بهذا الوضع دائما.
والمتفرج العادي يستوعب الموسيقى التصويرية لا شعورياً، ويندر أن ينتبه إلى ما يسمعه، بل إنه قد لا يتذكر بعد خروجه من السينما اللحن الأساسي، أو الرئيسي، ما لم يكن أحد الممثلين قد غنى هذا اللحن في أغنية، فالموسيقى التصويرية تشترك اشتراكاً أساسياً في تقديم القصة، وبالرغم من أن المؤلف الموسيقي يقدر أن يلفت المتفرج إلى وجودها، إلا أنها إذا افتقدت شعر المتفرج بغيابها بشكل ملحوظ.
ويمكن اعتبار الموسيقى التصويرية مصدراً للمعلومات في الفيلم، لكن المعلومات التي تنقلها ليست مباشرة كما في القصة أو الصورة، ويمكن القول إنها تعبر عن المعلومات في بعد ثالث أي بالعواطف وبالجو، وبهذا المعنى تكاد الموسيقى التصويرية أن تكون لها قوة الكشف، إن لم يكن عن أفكار الممثلين فعن عواطفهم. وبهذا تتغلب على عيوب السينما.
ح. المونتاج السينمائي:
المونتاج Montage كلمة فرنسية، ويعادلها بالإنجليزية كلمة Editing ، وتعني ترتيب لقطات ومشاهد الفيلم المصورة وفق شروط معينة للتابع وللزمن، ولا شك أن قيمة الفيلم تعتمد إلى حد كبير على قيمة المونتاج.
وتبدأ مرحلة المونتاج بعد اكتمال مرحلة التصوير، والتي يجب أن يكون المخرج والمصور ملمين بها، من حيث أحجام اللقطات، والتكوينات داخل كل لقطة، وزوايا التصوير. والمونتاج لا يعني مجرد تركيب وإلصاق كادر بأخر حتى النهاية، بل هو فن إبداعي تفكيري، يهدف إلى الكشف عن الرؤية الفنية والإبداعية لمحتوى الفيلم، وإظهار الإبداع الشخصي للمؤلف، وهو فن معبِّر عن فكر العاملين بالفيلم، عاكساً لاتجاهاتهم وميولهم للموضوع، فالمونتاج وسيلة تعبيرية للكشف عن المنطق في تحليل الأفلام أو البرامج، وعكس الاتجاهات والأفكار.
ومن خلال المونتاج نستطيع الجمع بين الزمان الماضي والحاضر، وذلك باستخدام الأرشيف الفيلمي، كما أننا نستطيع أن نعود للزمان والمكان الذي نريد.
وعمل المونتاج لكادرات الفيلم يجب أن يكون على أسس وقواعد نظامية، فهناك من المخرجين المبدعين من يحددون بدقة التركيبة النهائية للمونتاج قبل البدء بالتصوير، وحينما ينتهون من التصوير لايستغرق المونتاج طويلا، لذلك فالمونتاج لدى البعض هو عبارة عن مرحلة مهمة لتجميل وتحسين الفكر للفيلم.
لغة المونتاج علامات ترقيم وطرق وصل:
وللمونتاج عدة وسائل تستخدم في وصل اللقطات، منها القطع، وهو وصل اللقطة مباشرة باللقطة التالية لها.
1 - الظهور والاختفاء التدريجي، وهو ظهور الصورة على الشاشة تدريجياً واختفاؤها تدريجياً كذلك، ففي الظهور التدريجي تكون الشاشة معتمة، ثم تبدأ الصورة في الظهور حتى تتضح تماماً، ويحدث العكس في الاختفاء التدريجي حيث تبدأ الصورة في الإعتام حتى تظلم الشاشة تماماً. وتحدث عملية الظهور أو الاختفاء التدريجي في ثانية أو ثانيتين.
2 - المزج، وهو مزج نهاية لقطة مع بداية لقطة أخرى، وفيها تبدأ اللقطة الأولى في الظهور بينما تبدأ اللقطة الثانية في الاختفاء تدريجياً. وللمزج عدة استخدامات، فهو يستخدم لتمثيل مولد فكرة من فكرة أخرى، أو لبيان ارتباط أحداث المشهد التالي مع المشهد الأول، أو لإعطاء الإحساس بالانتقال من جزء من أجزاء المشهد إلى جزء آخر.
3 - المسح، ومعناه أن يبدأ مشهد في مسح مشهد آخر، وقد يبدأ المسح من جانب من جوانب الشاشة فيتلاشى المشهد الأول بينما يحل محله المشهد التالي بالتدريج حتى يملأ الشاشة.
ط. الإخراج السينمائي:
الإخراج كلمة شاملة، تجمع بين عمليات التحضير والاستعدادات الأولية، وعمليات التنفيذ، ثم مرحلة إعداد الفيلم ليكون صالحاً للعرض. ومهمة الإخراج مهمة تتطلب جهداً ووقتاً، وعملاً متواصلاً، تجمع بين مظاهر الإدارة، والقيادة، والدراية، لربط وتدعيم العلاقات بين الوحدات الفنية، والطاقات البشرية، والمعدات، في تناسق وتفاهم، حتى يتحول اللفظ المكتوب إلى الفيلم المعروض في صورة مرئية، وصوت مسموع.
والإخراج هو مدى تخيُّل المخرج للنص الذي بين يديه، وذلك لأن الإخراج في جوهره هو القدرة على تحويل الكلمة المكتوبة إلى صورة معبرة، وربط مجموعة هذه الصور في سلسلة متكاملة وذات قيمة إبداعية جمالية.
ويقوم المخرج بهذا العمل الإبداعي، ومن خلال عمله يحاول وضع أفكاره وآرائه، وتصوراته، وتخيلاته، وطرق تنظيم وبناء الفيلم في خطة موضحاً الطريقة، والشكل، والأسلوب لإخراج العمل إلى حيز الوجود. كما أنه يضع في خطته الأدوات، والأجهزة التقنية، والديكورات، وأموراً أخرى محللاً الفيلم إلى مشاهد ولقطات، لتسهيل عملية التنفيذ، والتسلسل، والأفكار، والأهداف الموضوعة نصب عينية من خلال السيناريو المقدم إليه.
السِّمات الواجب توافرها في شخصية المخرج:
1 - أن يكون ذا شخصيّة قياديّة.
2 - أن يكون ذا حس مرهف.
3 - أن يكون ذو وعي بالمجتمع الذي يعيش فيه، وبالبيئة المحيطة به، والقضية التي يدافع عنها.
4 - أن يكون ذا قدرة كبيرة على التعامل مع أدواته السينمائية.
5 - أن يكون له أسلوب في عمله يميزه عن بقية أقرانه من المخرجين.
المصطلحات الفنية
المخرج… Director
هو الفني المسؤول الأول عن الفيلم، وعلى عاتقه تقع مسؤولية جميع العاملين في الفيلم من فنانين وفنيين.
المنتج… Producer
هو الذي يمِّول الفيلم، وقد يكون شخصاً واحداً، أو شركة.
المؤلف… Writer
هو واضع القصة الأساسية للفيلم.
مدير الإنتاج… Director
هو المشرف على الشؤون المالية للفيلم، ويتولى وضع الميزانية بالتعاون مع المخرج والفنيين المختصين.
مهندس الديكور والمناظر… Art Director
هو المسؤول عن رسم، وإعداد، ومراقبة تنفيذ الديكورات والمناظر المطلوبة للفيلم.
مدير التصوير… Director of photography
مصوِّر ممتاز له خبرة كبيرة في هذا المجال، يتولى الإشراف على عمل المصوّر ومساعده، ويختار زوايا التصوير، وكيفية الإضاءة، وقد يكون المصوّر مديراً للتصوير في نفس الوقت.
كاتب السيناريو… Script - Writer
أو السيناريست… Scenarist
هو الذي يتولى ترجمة القصة إلى لقطات، ومشاهد، وترقيمها وترتيب تسلسلها.
المصَوّر… Cameraman
هو المصوّر السينمائي المكلَّف بإدارة آلة التصوير، والتقاط مناظر الفيلم.
المونتير… Editor
المسؤول عن عملية المونتاج.
الماكيير… Maquilleur
هو المتخصص الذي يقوم بعملية الماكياج.
ريجيسير… Regisseur
هو المتعهد بتقديم الممثلين الثانويين للمخرج بعد أن يتعاقد معهم، ويختارهم من خلال تعليمات المخرج عن الأشخاص اللازمين للفيلم، ونوع الأدوار التي سيقومون بها.
لقطة رئيسية… Master shot
اللقطة الرئيسية هي لقطة واسعة تضم ممثلا أو أكثر، وتنتقل خلالها آلة التصوير لتتابع حركة الممثلين خلال المشهد.
لقطة ثنائية… Two-shot
تضم اللقطة الثنائية كلا الشخصين اللذين يظهران فيها.
فوق الكتف… Over-the-shoulder
هي اللقطة التي تنظر فيها الكاميرا إلى وجه أحد الممثلين من خلف الممثل الآخر.
اللقطة القريبة… Close-up
هي اللقطة التي تشمل الوجه فقط، أو الوجه والرقبة، أو الوجه والرقبة والكتفين لممثل واحد.
لقطة الصدر… Bust Shot
هي لقطة لممثل واحد يظهر فيها صدره أيضا.
لقطة الوسط… Waist shot
لقطة يصل حدها السفلي إلى وسط الممثل.
لقطة كبيرة جداً… Big close up
هي لقطة مقربة من الجزء المراد تصويره. وبالنسبة لحجم الإنسان فهي لقطة لجزء من الوجه. فقط أو لليد فقط…الخ.
لقطة كبيرة متوسطة أو منظر كبير متوسط… Medium Close - Shot
هو منظر يكون في حجم الموضوع بين المنظر الكبير والمنظر المتوسط. وبالنسبة لحجم الإنسان من الرأس إلى الركبة.
منظر متوسط أو لقطة متوسطة… Medium Shot
هي لقطة مقربة من الموضوع بمسافة أقرب من اللقطة العامة، ولكنها أبعد من اللقطة الكبيرة. وتظهر الأشياء بوضوح في هذه اللقطة، وبالنسبة لحجم الإنسان فهي تظهر من الوسط إلى أعلى.
منظر عام متوسط أو لقطة عامة متوسطة… Medium Long Shot
هو منظر يكون فيه حجم الموضوع بين المنظر المتوسط والمنظر العام.
منظر عام أو لقطة عامة… Long Shot
هو منظر يؤخذ من مسافة بعيدة جداً عن الموضوع المراد تصويره، بحيث تظهر بعض التفاصيل، أما بالنسبة لحجم الإنسان فهي تظهر الجسم كله.
منظر كامل أو لقطة كاملة… Full Shot
هي اللقطة التي يبدو فيها الشخص، أو الشيء المصوّر بكامل طوله بالكادر داخل إطار الصورة المصوّرة، أو منظر حجرة بالكامل.
منظر استعراضي بان… Pan
هي حركة أفقية للكاميرا على محورها الرأسي أثناء تصويرها للمنظر.
منظر بزاوية مرتفعة… High Angle shot
هو منظر يؤخذ من مستوى أعلى من مستوى الموضوع المراد تصويره.
منظر بزاوية منخفضة… Low Angle shot
هو منظر يؤخذ من مستوى أقل من مستوى الموضوع المراد تصويره.
منظر دخيل أو لقطة دخيلة… Insert
منظر أو لقطة تظهر عنواناً في جريدة، أو بعض السطور في كتاب، أو مفكرة، أو علامة شارع مثلاً.
لقطة اعتراضية… Cut - away & Cut - in
جملة فيلمية تحول انتباه المشاهد عن الحدث الرئيسي، مثل منظر يظهر رد فعل طفلة في حجرتها للشجار الذي يدور بين والديها مثلاً.
لقطة متحركة… Dolly shot
هي التي تصور من خلال العربة المتحرِّكة فوق العربة الخاصة بذلك.
لقطة تتبع شاريو… Tracking shot
تتحرك الكاميرا أثناءها على تروللي خاص بذلك لتتبع الفنانين أو لإظهار تفاصيل معينة.
حركة رأسية تلت… Tilt
هي حركة عمودية رأسية للكاميرا، على حامل ثلاثي مثبتَّ أثناء التصوير.
تلت لأعلى… Tilt Up
تحريك الكاميرا أثناء التصوير لأعلى.
تلت لأسفل… Tilt Down & Pan Up
تحريك الكاميرا أثناء التصوير لأسفل.
الحركة السريعة… Accelerated Motion
تعرض فيها اللقطة أو المشهد بسرعة أكبر من السرعة الحقيقية، فتبدو الشخصيات وكأنها تحرك بصورة تثير الضحك.
الحركة البطيئة… Slow Motion
تعرض فيها اللقطة أو المشهد بسرعة أبطأ من السرعة الحقيقية، فتبدو الشخصيات وكأنها تطير في الهواء أثناء سيرها.
توافق اللقطات… Matching
يتكون المشهد المصور من عدة أجزاء، والطريقة المتبعة هي أن تصور لقطة رئيسية، تشمل مضمون المشهد في لقطة واسعة تغطي أكثر ما يمكن من المشهد، ثم نتجه إلى التغطية التي تتضمن لقطات قريبة ولقطات من فوق الكتف، ثم تجمع هذه الأجزاء المتعددة لكي تبدو على الشاشة في حركة مستمرة، ومرتبطة، ومنطقية.
حركة… Action
الكلمة التي يقولها المخرج للممثلين ليبدأوا في تأدية اللقطة.
اقطع… Cut
الكلمة التي يقولها المخرج لإيقاف تصوير اللقطة.
كادر أو إطار… Frame
صورة واحدة فقط من سلسلة الصور المطبوعة على الفيلم.
ظهور تدريجي… Fade - in
يبدأ المنظر مظلماً تماماً ثم يضاء تدريجياً حتى يتضح في النهاية، وبالنسبة للصوت يعني ذلك رفع الصوت تدريجياً من الدرجة الخافتة الغير مسموعة إلى الدرجة المطلوبة.
اختفاء تدريجي… Fade - Out
هو عكس الظهور التدريجي تماماً.
المزج… Dissolve
اختفاء منظر تدريجياً في نفس وقت ظهور منظر آخر تدريجياً.
المسح… Wipe
الانتقال من منظر إلى منظر آخر بواسطة خط يمر عبر الشاشة ليمسح المنظر الأول ويحل محله المنظر الثاني.
طبع لقطتين فوق بعضهما… Superimpose
عبارة عن طبع لقطة فوق لقطة أخرى بحيث يمكن عند عرض الفيلم رؤية اللقطتين من خلال بعضهما البعض.
الكاميرا… Camera
هي آلة التصوير نفسها، والتي يوضع الفيلم بداخلها لتلتقط المشاهد.
رافعة تشابمان… Chapman crane
جهاز ضخم مثبت على عربة نقل، وتثبت فيه آلة التصوير عند نهاية ذراع ضخم طويل متوازن بأثقال خاصة، وهناك مكان يتسع لجلوس المصوِّر، والمخرج، والمختص بضبط التركيز البؤري، بجوار آلة التصوير، ويُرفع هذا الذراع أو يُخفض أو يُدار في أي اتجاه باليد بواسطة مقبض على مستوى الأرض أو على سطح العربة.
ذراع الميكروفون… Boom
ذراع طويل يثبت عليه الميكروفون.
عربة دوللي… Dolly
عربة تحمل الكاميرا، والمصور، وتتحرك بهما، ولكن ليس لأعلى أو لأسفل.
موفيولا… Moviola
جهاز يستخدمه الشخص المسؤول عن مونتاج الفيلم، أو المونتير ليؤدي مهمة المونتاج.
الكلاكيت أو المصفقة… Clapper
هي عبارة عن قطعتين من الخشب متصلتين بمفصَّلة من أحد الأطراف، يطرق الجزء العلوي منهما الجزء السفلي أمام آلة التصوير في بداية تصوير كل لقطة، وذلك لتسهيل مطابقة الصوت والصورة معاً أثناء تركيب الفيلم في المونتاج.
السيناريو… Script
هو الفيلم على الورق، ويكتب فيه حوار شخصيات الفيلم، وشرح المشاهد واللقطات.
المونتاج… Montage-Editing
عملية اختيار وترتيب اللقطات، ووصلها بالتي تليها بطريقة المزج، أو المسح، أو طبع اللقطات فوق بعضها، وتركيب الصوت من حوار، وموسيقى، ومؤثرات، حتى يصل الفيلم إلى شكله النهائي.
الديكور أو المناظر… Décor set
مناظر تعد لتصوير مشهد أو أكثر في الفيلم.
البلاتوه… Plateau
هو الجزء الذي يجري التصوير فيه داخل الاستوديو.
موقع… Location
مكان خارج الاستوديو يختاره المخرج ليصور فيه مشهداً أو عدة مشاهد من الفيلم.
مقدمة الفيلم… Trailer
هو عبارة عن أجزاء من الفيلم الأصلي، ويعرض في دور السينما أو التليفزيون للإعلان عن الفيلم الأصلي.
النسخة الأم… Standard
مصطلح يطلق على النسخة النهائية من الفيلم، أي بعد طبع فيلمي الصوت والصورة معا.
السَّرد… Narration
وهي غالباً ما تكون في الفيلم الروائي، حيث تقوم إحدى الشخصيات بسرد القصة.
المؤثرات الخاصة… Special Effect
هي أي تأثيرات تستجد على الفيلم بعد تصويره في القسم الخاص بالمؤثرات الخاصة.
الملحق الرقم (1)
أشهر الأفلام في تاريخ السينما العالمية
أولاً: الأفلام الكلاسيكية الصامتة:
كانت السينما الصامتة هي الباب الملكي الذي دخل منه الفن السابع إلى عقول وقلوب الملايين، ورغم أن السينما الصامتة ركزت في هذه المرحلة على الأفلام الكوميدية والعاطفية، إلا أنها قدمت أيضاً عدداً من الأفلام الدّرامية التي بقيت في ذاكرة السينما حتى الآن، وفيما يلي أهم هذه الأفلام:
1. التعصب Intolerance…(اُنظر صورة من فيلم التعصب)
أمريكا - 1916 - إنتاج شركة مارك للإنتاج
إخراج: ديفيد جريفيث
مدة العرض: 183 دقيقة
تصوير: جي دبليو، بيلي باتيزر
الممثلون الرئيسيون: ليليان جيش، ماي مارش، روبرت هارون، ميريام كوبر، والتر لونج.
2. المدرعة بوتمكين Battleship Potemkin…(انظر صورة من فيلم أضواء المدينة)
الاتحاد السوفيتي - 1925
إخراج: سيرجي م. ايزنشتاين
سيناريو: سيرجي م. ايزنشتاين - نينا أ. دجانوفا شوتكو
تصوير: إدوارد تيس - ف. بوبوف
مدة العرض: 72 دقيقة
الممثلون الرئيسيون: ألكسندر أنتونوف - فلاديمير بارسكي - ريبنيكوفا
ثانياً: أفلام الغرب الأمريكي:
من بين كل أنواع الأفلام، فإن أفلام الويسترن، أو الغرب الأمريكي، كانت تجسّد على وجه التحديد قدرة الكاميرا على استغلال مواقع التصوير المفتوحة التي تأخذ الألباب ومشاهد الحركة المثيرة، وفيما يلي أهم هذه الأفلام:
1. عربة البريد STAGECOCH
أمريكا - 1939 - الفنانون المتحدون
إخراج: جون فورد
المنتج المنفذ: والتر واجنر
سيناريو: دادلي نيكولز
عن رواية: عربة إلى بوردزبورج لـ إيرنست هايكوس
موسيقى: ريتشارد هيجمان - دبليو فرانك هارلنج - جون ليبولد - ليو شاكين
تصوير: بيرت جلينون
مدة العرض: 97 دقيقة
الممثلون الرئيسيون: جون وين - كلير تريفور - توماس ميتشيل - جون كارادين - إندي ديفايت - دونالد ميك - لويس بلات - تيم هولت - جورج بانكروفت - بيرتون تشيرشيل.
2. شين SHANE
أمريكا - 1953 - بارامونت
سيناريو وإخراج: جورجستيفنز
سيناريو: أي بي جازري
عن رواية: لـ جاك شيفر
موسيقى: فيكتور يانج
تصوير: لويال جريجز
مدة العرض: 118 دقيقة
الممثلون الرئيسيون: آلات لاد -فان هيفلين - جين آرثر - براندون دي فيلد - جاك بالانس
ثالثاً: الأفلام الكوميدية:
أفرزت الأفلام الكوميدية عدداً من الممثلين والمخرجين الرائعين، كان أعظمهم اثنان هما شارلي شاربلن وجاك تاتي، ومن نماذجها:
1. أضواء المدينة CITY LIGHTS
أمريكا - 1931 - الفنانون المتحدون
إنتاج وإخراج وسيناريو: شارلي شابلن
تصوير: رولي توتيرو، جوردنا بولول، مارك مالات
مدة العرض: 87 دقيقة
الممثلون الرئيسيون: شارلي شابلن، فيرجينيا شيريل، هاري مايرز
2. ليلة في الأوبرا A NIGHT IN THE OPERA
أمريكا - 1935 - مترو جولدوين ماير
إخراج: سام وود
إنتاج: إرفنج ثولبرج
سيناريو: جورج إس كوفمان و موري ريكايند
عن قصة لـ: جيمس كيفين ماجينيس
مدة العرض: 94 دقيقة
موسيقى: هيربرت ستوتهارت
تصوير: ميريت بي جيرستاد
الممثلون الرئيسيون: جروشو ماركس - شيكو ماركس - هاريو ماركس - ماجرجريت دومو- آلان جونز - كيتي كارلايل - سيج رومان
3. البعض يفضلونها ساخنة… SOME LIKE IT HOT
الولايات المتحدة - 1959
إنتاج وإخراج: بيلي وايلدر
سيناريو: بيلي وايلدر و آي أي إل. دايموند
موسيقى: أدولف دويتش
تصوير: شارلز لانج الصغير
مدة العرض: 121 دقيقة
الممثلون الرئيسيون: مارلين مونرو - تونس كيرتس - جاك ليمون - جورج رافت - جو إي براون - بات أوبرايان
رابعاً: الأفلام الغنائية:
كانت هذه النوعية تعني شيئاً واحداً. مزيجاً من المرح، والفرح، والخيال، والطاقة المتفجرة في قلوب الموسيقيين العظام، ومن أعظمها:
1. الغناء تحت المطر SINGING IN THE RAIN
أمريكا: 1952 - مترو جولدوين ماير
إخراج: جين كيلي - ستانلي دونين
إنتاج: آرثرفريد
تصوير: هارولد روسون
سيناريو: بيتي كومدين - أدولف جرين
أغاني: آرثر فريد - ناسيو هيرب براون - بيتي كومدين - أدولف جرين - روجر إيدنز
مدة العرض: 103 دقيقة
الممثلون الرئيسيون: جين كيلي - دونالد أوكونور - ديبي رينولدز - جين هاجين - ميلارد ميتشيل - سيد شاريس
2. صوت الموسيقى THE SOUND OF MUSIC
أمريكا - 1965 - فوكس القرن العشرين
إنتاج وإخراج: روبرت وايز
سيناريو: إيرنست ليمان، عن مسرحية موسيقية لريتشارد روجرز وأوسكار هامرستاين وعن رواية لهاورد لندساي وراسل كراوس
موسيقى: إشراف وقيادة إروين كوستال
تصوير: تيد ماكورد
مدة العرض: 172 دقيقة
الممثلون الرئيسيون: جولي أندروز - كريستوفر بلامر - إليانور باركر - ريتشارد هايدن- بيجي وود
3. ذات الوجه المضحك… FUNNY FACE
أمريكا - 1956 - بارامونت
إخراج: ستانلي دونين
إنتاج: روجر إيدينز
سيناريو: ليونارد جيرش
تصوير: راي جون
أغاني: جورج وإيرا جيرشوين
أغاني إضافية: روجر إيدينز، ليونارد جيرش
موسيقى بقيادة: أدولف دويتش
الممثلون الرئيسيون: أودري هيبورن - فريدأستير - كاي تومبسون - روبرت فيلمنج - مايكل أوكلير.
خامساً: أفلام الخيال العلمي:
خلقت السينما عوالم عديدة وخيالات جديدة باستكشافها المجهول والخطر والرائع في الوقت نفسه، وقد قدّمت السينما العديد من هذه الأفلام، ومن أعظم ما قُدم في هذا المجال:
1. فانتازيا… FANTASIA
أمريكا - 1940 - والت ديزنى
إخراج: والت ديزني
مراقب الإنتاج: بن شاربستين
إخراج قصة: جوجرابت و ديك هومر
موسيقى: باخ توكاتا وفوجا من مقام فا صغير، تشايكوفسكي: كسارة البندق، دوكاس: صبى الساحر، سترافنسكى: شعائر الربيع، بتهوفن: السيمفونية الريفية، بونتشييلي: رقصة الساعات، موزورسكى: ليلة فوق حبل عار، شوبيرت: سلاما مريم
أوركسترا فيلادلفيا بقيادة ليوبولد ستوكوفسكي
توزيع: شركة ديزني للإنتاج - RKO
مدة العرض: 135 دقيقة
2. 2001 أوديسا الفضاء 2001 A SPACE ODYSSEY
المملكة المتحدة - 1968 - ستانلس كوبريك
إخراج: ستانلس كوبريك
سيناريو: ستانلي كوبريك و آرثر سي كلارك
عن رواية: الحارس لأرثر سي كلارك
موسيقى: ريتشارد شتراوس - يوهن شتراوس - آرام خاتشادوريان - جيورجي ليجيتي
تصوير: جيفري آنسوورث
مدة العرض: 141 دقيقة
الممثلون الرئيسيون: كايردمليا - جيري لوكوود - وليام سلفستر
ريتشارد درايفوس - فرانسوا تروفو - تيري جار - ميلندا ديلون - كاري جافي
سادساً: أفلام الرعب:
ناقشت هذه النوعية من الأفلام موضوعات جادة ومناسبة، حول طموحات الإنسان، وتعقيدات الحياة وإحباطاتها، والقسوة الغافلة للعلماء الذين يتجاهلون المشاعر الإنسانية، وهكذا كان الوحش يظهر أحياناً كشخصية متجانسة أكثر من البشر، وأهم ثلاثة أفلام من هذا النوع هي:
1. فرانكشتاين FRANKENSTEIN
أمريكا - 1931 - كارل ليميل جي آر
سيناريو: جاريت فورت وفرانسيس إدوارد فاراجو وجو إل بالورستون
عن قصة لـ: بيجي ويلنج وقصة لميري وولستون وكرافت شيلي
تصوير: آرثر إديسون
مدة العرض: 71 دقيقة
الممثلون الرئيسيون: بوريس كارلوف - كولين كلايف - ماي كلارك - جون بولس - إدوارد فون سلون - دوايت فراي
2. كينج كونج KINK KONG
أمريكا - 1933…
إخراج وإنتاج: ميريان سي كوبر وإيرنيست بي شود ساك
المنتج المنفذ: ديفيد أوسيلزنيك
سيناريو: جيمس إي كريلمان وروث روز
عن فكرة لـ: ميريان سي كوبر وإيدجار والاس
المؤثرات الخاصة: ويليس إتش أوبرايان
موسيقى: ماكس ستايز
تصوير: إيدي ليندين و فيرنون ووكز وجي أوتيلور
مدة العرض: 110 دقيقة
الممثلون الرئيسيون: فاي راي - روبرت أرمسترونج - بروس كابوت
3. سايكو "المختل عقلياً" PSYCHO
الولايات المتحدة - 1960
إنتاج وإخراج: ألفريد هيتشكوك
سيناريو: جوزيف ستيفانو مفتيس من رواية لـ روبرك بلوك
موسيقى: بيرنارد هيرمان
تصوير: جون إل راسل
مدة العرض: 108 دقائق
الممثلون الرئيسيون: أنتوني بيركنز - جانيت لي - فيرا مايلز - جون جافين - مارتن بالسام
سابعاً: الأفلام العاطفية:
مع مرور الوقت، ازداد حب رواد السينما للأفلام التي تعالج القصص العاطفية، وقد ظهر أعظم هذه الأفلام في الثلاثينيات والأربعينيات، عندما كانت سحب الحرب تغطي العالم، فهرب الناس إلى دور السينما، بحثاً عن الدفء الضائع، والسلام الذي يفتقدونه، ومن أعظم هذه الأفلام:
1. غادة الكاميليا CAMILIE
أمريكا - 1937 - إيرفنج جي ثولبيرج
إخراج: جورج جوكور
سيناريو: زو اكينز و فرانسيس ماريون و جيمس هيلتون
عن قصة ومسرحية: غادة الكاميليا لـ الكسندر دوماس الابن
موسيقى: هيربرت ستوتهارت
تصوير: وليام دانيلز و كارل فروند
مدة العرض: 108 دقائق
الممثلون الرئيسيون: جريتا جاربو - روبرت تيلور - ليونيل باريمور - هنري دانييل - جيسي رالف - لورا هوب كروز
2. سجين زندا THE PRISONER OF ZENDA
أمريكا - 1937 - ديفيد أو سيلزنيك
إخراج: جون كرومويل
سيناريو: جون بلودرستون - ويليس روت - دونالد أوجدن ستيوارت
عن قصة لـ أنتوني هوب
موسيقى: ألفريد نيومان
تصوير: جيمس وونج هو
المدير الفني: ليل ويلر
مدة العرض: 101 دقيقة
الممثلون الرئيسيون: رونالد كولمان - دوجلاس فيربانكس جي آر - مارلين كارول - ديفيد نيفين - ريموند ماسي -ميري آستور - سي أوبري سميث
3. ذهب مع الريح GONE WITH THE WIND
الولايات المتحدة الأمريكية - 1939
إخراج: فيكتور فلمنج
إنتاج: ديفيد أو. سيلزنيك
سيناريو: سيدني هاورد عن رواية لمارجريت ميتشيل
موسيقى: ماكس ستايز
تصوير: أرنست هولر - راي ريناهان
تصميم الإنتاج: وليام كاميرون مينزيس
مدة العرض: 220 دقيقة
الممثلون الرئيسيون: كلارك جيبل - فيفيان لي - ليزلي هاورد - أوليفيا دي هافيلاند - توما ميتشيل - هيتي ماكدانييل - أونا مانسن - باربارا أونيل
ثامناً: أفلام الحرب:
يبدو أن أفلام الحرب العظيمة هي الأفلام التي تعبر عن كراهية الحرب، والرثاء على الشبان الذين يتم التضحية بأرواحهم، وتمجيد روح الفداء من أجل الآخرين، ومن أعظم هذه الأفلام:
1. الوهم العظيم LA GRANDE ILLUSION
فرنسا - 1937 - فرانك رولمير - ألمير بنكوفيتش
إخراج: جان رينوار
سيناريو: شارلز سباك - جان رينوار
موسيقى: جوزيف كوزما
تصوير: كريستيان ماتراس
مدة العرض: 114 دقيقة
الممثلون الرئيسيون: جان جابان - إريك فونستروهايم - بيير فريزني - مارسيل داليو - ديتا بارلو
2. ثلاثية فايدا THE WAJDA TRILOGY
بولندا
إخراج: أندريه فايدا
الفيلم الأول: جيل 1995 A GENERATION
سيناريو: بودان زيسكو عن قصة للسيناريست بالعنوان نفسه
موسيقى: أندريه ماركوفسكي
تصوير: جيرزي ليبيمان
مدة العرض: 90 دقيقة
الممثلون الرئيسيون: أورزولا مودرزينسكى - تاديوز ليومينيك - يانوز بالوزيوفيتتش - رومان بولانسكي
الفيلم الثاني: كانال 1957 KANAL
سيناريو: جريزي ستيفان ستوفتسكي
موسيقى: يان كرينز
تصوير: جريزي ليبمان
مدة العرض: 97 دقيقة
الممثلون الرئيسيون: تيريزا أزيونسكي - تاديوز بانزار
الفيلم الثالث: رماد وماسات 1959 ASHES & DIAMON S
سيناريو: أندريه فايدا، و جيرزي أندريوفسكي
عن قصة بالعنوان نفسه لـ جيرزي أندريوفسكي
تصوير: جريزي ووشيك
مدة العرض: 166 دقيقة
الممثلون الرئيسيون: زبيجنيو سيبولسكي - أبوا كريزوفسكا
3. روما - مدينة مفتوحة ROME - OPEN CITY
إيطاليا - 1945
إخراج: روبرتو روسيليني
سيناريو: سيرجيو آميدي - فيديريكو فلليني - روبرتو روسيليني
عن قصة سيرجيو آميدي وألبرتو كونسيليو
موسيقي: رينزو روسيليني
تصوير: أوبالدو آراتا
مدة العرض: 100 دقيقة
الممثلون الرئيسيون: آنا مانياني - ألدو فابريزي - مارسيلو باليرو
تاسعاً: أفلام الجدل:
يقول الموسيقي الفنلندي يان سيبليوس، إن أردت تجنب النقد، فلا تقل شيئاً، ولاتفعل شيئاً، ولا تكن شيئاً، وقد جازف مخرجو هذه النوعية من الأفلام، بضياع الجمهور، وعانوا من النقد والاستنكار السياسي، لتقديم أعمال فنية، كانوا مقتنعين بتقديمها، وفيما يلي بعض من أفضل هذه الأفلام:
1. نهاية الأسبوع WEEK END
فرنسا - 1967
سيناريو وإخراج: جان لوك غودار
موسيقى: أنطوان دواميل
تصوير: راؤول كوتار
مدة العرض: 95 دقيقة
الممثلون الرئيسيون: جان يان - ميرييل دارك - جان بيير لوو
2. أندريه روبليف
الاتحاد السوفيتي - 1966
إخراج: أندريه تاركوفسكي
سيناريو: أدريه ميكالكوف كونشالوفسكي و أندريه تاركوفسكي
موسيقى: فياشيسلاف أوفشينيكوف
تصوير: فاديم يوسوف
مدة العرض: 185 دقيقة
الممثلون الرئيسيون: أناتولي سولونيتش - إيفان لابيكوف - نيكولاي جرينكو - نيكولاي بورلجاييف
3. البرتقالة الآلية CEOCKWORK ORANG
بريطانيا - 1971
سيناريو وإخراج: ستانلي كوبريك
عن قصة بالعنوان نفسه لـ أنتوني بورجيس
موسيقى: والتر كارلوس
تصوير: جون ألكوت
مدة العرض: 136 دقيقة
الممثلون الرئيسيون: مالكولم ماكدويل - باتريك ماجي - أنتوني شارب - أدريان كوري
عاشراً: أفلام الجريمة:
وهذه النوعية من الأفلام كانت غالباً ما تثير الجدل، إما بسبب العنف الذي تحتويه، أو بسبب تعاطفها مع المجرم، أو بسبب انتقادها للمجتمع، أو حتى دغدغتها لغريزة الشر داخل الإنسان، ومن أهم هذه الأفلام:
1. ذو الندبة SCARFACE
أمريكا - 1932 - هاورد هيومس - هارود هوكس
إخراج: هاورد هوكس
سيناريو: بن هيكت
عن قصة بالعنوان نفسه لـ أرميتاج تريل
موسيقى: أدولف تاندلر - جاس آرنهايم
تصوير: لي جارمس
مدة العرض: 90 دقيقة
الممثلون الرئيسيون: بول موني - آن موزاك - بوريس كارلوف - جورج رافت - كارين مورلي - أوزجود بيركنز - فينس بارنيت
2. الحي الصيني CHINA TOWN
أمريكا - 1974 - روبرت إيفانز
إخراج: رومان بولانسكي
سيناريو: روبرت تاون
موسيقى: جيري جولد سميث
تصوير: جون إي ألونزو
مدة العرض: 131 دقيقة
الممثلون الرئيسيون: جاك نيكلسون - فاي دوناواي - جون هيوستون
حادي عشر: الأفلام الملحمية:
وهى تلك الأفلام التي تستكشف الموضوعات العظيمة بمنظار عظيم، ومكانتها في السينما مثل مكانتها في الأدب، أعمال إبداعية خالدة، ومن أعظم الملاحم السينمائية:
1. بن هور BENHUR
أمريكا - 1959 - سام زيمباليست
إخراج: وليام وايلر
سيناريو: كارل تانبيرج
عن قصة بالعنوان نفسه للجنرال لو والاس
موسيقى: ميكلوس روزا
تصوير: ربرت سالاتيس
مدة العرض: 217 دقيقة (مترو جولدوين ماير)
الممثلون الرئيسيون: شارلتون هستون - جاك هوكنز - ستيفن بويد - هايا هاراريت - هيو جريفيث
2. دكتور زيفاجو Dr. ZHIVAGO
أمريكا - 1965 - كارلو بونتى
إخراج: ديفيد لين
سيناريو: روبرت بولت
عن قصة بالعنوان نفسه لبوريس باسترناج
موسيقى: موريس جار
تصوير: فريدريك يانج
مدة العرض: 197 دقيقة
الممثلون الرئيسيون: عمر الشريف - جولي كريستي - رود ستايجر - إليك جينيس - توم كورتني - جيرالد شابلن - كلاوس كينسكي - رالف ؤيتشاردون - ريتا تاشينجهام
3. الحرب والسلام WAR AND PEACE
الاتحاد السوفيتي - 1964 - 1967
إخراج: سيرجي بوندرشوك
سيناريو: سيرجي بوندرشوك و فاسيلي سولوفيوف
عن قصة بالعنوان نفسه لليوتولستوي
موسيقى: فياشيسلاف أوفشينيكوف
تصوير: أناتولي بتريتسكي
مدة العرض: النسخة الناطقة بالروسية التي ظهرت في 4 أجزاء
النسخة الناطقة بالإنجليزية التي ظهرت في جزءين
الممثلون الرئيسيون: لودميلا سافليفيا - سيرجي بوندرشوك - فياشيسلاف تيكونوف - فاسيلي لانوفوي - إيرينا سكوبوتسيفا - بوريس زاكافا - فلاديسلاف سترشيلشيك
4. الساموراي السبعة SEVEN SAMURAI
اليابان - 1954
إخراج: أكيرا كوروساوا
سيناريو: هيديو أوجوني و شينوبو هاشيموتو و أكيرا كوروساوا
موسيقى: فومويو هاياساك
تصوير: أسايشي ناكاي توهو
مدة العرض: 200 دقيقة
الممثلون الرئيسيون: توشيرو ميفوني - تاكاشاي شيمورا
ثاني عشر: أفلام الواقعية الاجتماعية:
إضافة إلى كون السينما وسيلة تسلية جماعية، فإنها كانت تسعى دائماً لأن تعكس أحداث العالم الحقيقية وتعلّق عليها. وقد قدمت بعضاً من أعظم الأفلام التي تجسِّد متاعب البسطاء، والتي رأى فيها المشاهدون صورة حقيقية لهمومهم ومعاناتهم، ومن أعظم هذه الأفلام:
1. عناقيد الغضب THE GRAPES OF WRATH
أمريكا - 1940 - داريل إف زانوك
إخراج: جون فورد
سيناريو: نانالي جونسون
عن قصة بالعنوان نفسه: لجون شتاينبك
موسيقى: ألفريد نيومان
تصوير: جريج تولاند
مدة العرض: 129 دقيقة
الممثلون الرئيسيون: هنري فوندا - جين دارويل - جون كارادين
2. سارقو الدراجة BICYCLE THIEVES
إيطاليا - 1948 - أمبرتو سكاربيللي
سيناريو: سيزاري زافاتيني عن قصة للويجي بارتوليني
موسيقى: أليساندرو سيكونيني
تصوير: كارلو مونتوري
مدة العرض: 90 دقيقة
الممثلون الرئيسيون: لامبرتو ماجيوراني - إينزو ستايولا
إخراج: إيليا كازان
ثالث عشر: أفلام الإثارة والتشويق:
يقول أوسكار وايلد "إن عنصر التشويق أمر رائع، أرجو أن يدوم". وقد ظلت هذه النوعية من الأفلام الأكثر شعبية وسط قطاعات عريضة من المجتمع، وتفننت السينما في تقديم أفلام الإثارة والتشويق، ومن أعظم هذه الأفلام:
1. شمالاً عبر الشمال الغربي… NORTH BY NORTHWEST
أمريكا - 1959 - ألفريد هيتشكوك
إخراج: ألفريد هيتشكوك
سيناريو: إيرنست ليمان
موسيقى: بيرنارد هيرمان
تصوير: روبرت باركس
مدة العرض: 136 دقيقة
الممثلون الرئيسيون: كاري جرانت - إيفاميري سينت - جيمس ميسون - ليوجي كارول - جيسي رويس لانديس - مارتن لانداو
2. الفك المفترس JAWS
أمريكا - 1975 - ريتشارد دي زانوك و ديفيد براون
إخراج: ستيفن سبيلبرج
سيناريو: بيتر بينشلي - كارل جوتليب
عن قصة بالعنوان نفسه لبيتر بينشلي
موسيقى: جون وليامز
تصوير: بيل بانكر
مدة العرض: 125 دقيقة
الممثلون الرئيسيون: روي شايدر - روبرت شو - ريتشارد درايفوس
3. الرجل الثالث THE THIRD MAN
بريطانيا - 1949 - كارول ريد
إنتاج: كارول ريد
قصة وسيناريو: جراهام جرين
موسيقى: أنتون كاراس
تصوير: روبرت كراسكر
مدة العرض: 104 دقائق
الممثلون الرئيسيون: جوزيف كوتين - أليدا فالي - أورسون ويلز - تريفور هارود - بيرنارد لي
سابعاً: الأفلام العاطفية:
مع مرور الوقت، ازداد حب رواد السينما للأفلام التي تعالج القصص العاطفية، وقد ظهر أعظم هذه الأفلام في الثلاثينيات والأربعينيات، عندما كانت سحب الحرب تغطي العالم، فهرب الناس إلى دور السينما، بحثاً عن الدفء الضائع، والسلام الذي يفتقدونه، ومن أعظم هذه الأفلام:
1. غادة الكاميليا CAMILIE
أمريكا - 1937 - إيرفنج جي ثولبيرج
إخراج: جورج جوكور
سيناريو: زو اكينز و فرانسيس ماريون و جيمس هيلتون
عن قصة ومسرحية: غادة الكاميليا لـ الكسندر دوماس الابن
موسيقى: هيربرت ستوتهارت
تصوير: وليام دانيلز و كارل فروند
مدة العرض: 108 دقائق
الممثلون الرئيسيون: جريتا جاربو - روبرت تيلور - ليونيل باريمور - هنري دانييل - جيسي رالف - لورا هوب كروز
2. سجين زندا THE PRISONER OF ZENDA
أمريكا - 1937 - ديفيد أو سيلزنيك
إخراج: جون كرومويل
سيناريو: جون بلودرستون - ويليس روت - دونالد أوجدن ستيوارت
عن قصة لـ أنتوني هوب
موسيقى: ألفريد نيومان
تصوير: جيمس وونج هو
المدير الفني: ليل ويلر
مدة العرض: 101 دقيقة
الممثلون الرئيسيون: رونالد كولمان - دوجلاس فيربانكس جي آر - مارلين كارول - ديفيد نيفين - ريموند ماسي -ميري آستور - سي أوبري سميث
3. ذهب مع الريح GONE WITH THE WIND
الولايات المتحدة الأمريكية - 1939
إخراج: فيكتور فلمنج
إنتاج: ديفيد أو. سيلزنيك
سيناريو: سيدني هاورد عن رواية لمارجريت ميتشيل
موسيقى: ماكس ستايز
تصوير: أرنست هولر - راي ريناهان
تصميم الإنتاج: وليام كاميرون مينزيس
مدة العرض: 220 دقيقة
الممثلون الرئيسيون: كلارك جيبل - فيفيان لي - ليزلي هاورد - أوليفيا دي هافيلاند - توما ميتشيل - هيتي ماكدانييل - أونا مانسن - باربارا أونيل
ثامناً: أفلام الحرب:
يبدو أن أفلام الحرب العظيمة هي الأفلام التي تعبر عن كراهية الحرب، والرثاء على الشبان الذين يتم التضحية بأرواحهم، وتمجيد روح الفداء من أجل الآخرين، ومن أعظم هذه الأفلام:
1. الوهم العظيم LA GRANDE ILLUSION
فرنسا - 1937 - فرانك رولمير - ألمير بنكوفيتش
إخراج: جان رينوار
سيناريو: شارلز سباك - جان رينوار
موسيقى: جوزيف كوزما
تصوير: كريستيان ماتراس
مدة العرض: 114 دقيقة
الممثلون الرئيسيون: جان جابان - إريك فونستروهايم - بيير فريزني - مارسيل داليو - ديتا بارلو
2. ثلاثية فايدا THE WAJDA TRILOGY
بولندا
إخراج: أندريه فايدا
الفيلم الأول: جيل 1995 A GENERATION
سيناريو: بودان زيسكو عن قصة للسيناريست بالعنوان نفسه
موسيقى: أندريه ماركوفسكي
تصوير: جيرزي ليبيمان
مدة العرض: 90 دقيقة
الممثلون الرئيسيون: أورزولا مودرزينسكى - تاديوز ليومينيك - يانوز بالوزيوفيتتش - رومان بولانسكي
الفيلم الثاني: كانال 1957 KANAL
سيناريو: جريزي ستيفان ستوفتسكي
موسيقى: يان كرينز
تصوير: جريزي ليبمان
مدة العرض: 97 دقيقة
الممثلون الرئيسيون: تيريزا أزيونسكي - تاديوز بانزار
الفيلم الثالث: رماد وماسات 1959 ASHES & DIAMON S
سيناريو: أندريه فايدا، و جيرزي أندريوفسكي
عن قصة بالعنوان نفسه لـ جيرزي أندريوفسكي
تصوير: جريزي ووشيك
مدة العرض: 166 دقيقة
الممثلون الرئيسيون: زبيجنيو سيبولسكي - أبوا كريزوفسكا
3. روما - مدينة مفتوحة ROME - OPEN CITY
إيطاليا - 1945
إخراج: روبرتو روسيليني
سيناريو: سيرجيو آميدي - فيديريكو فلليني - روبرتو روسيليني
عن قصة سيرجيو آميدي وألبرتو كونسيليو
موسيقي: رينزو روسيليني
تصوير: أوبالدو آراتا
مدة العرض: 100 دقيقة
الممثلون الرئيسيون: آنا مانياني - ألدو فابريزي - مارسيلو باليرو
تاسعاً: أفلام الجدل:
يقول الموسيقي الفنلندي يان سيبليوس، إن أردت تجنب النقد، فلا تقل شيئاً، ولاتفعل شيئاً، ولا تكن شيئاً، وقد جازف مخرجو هذه النوعية من الأفلام، بضياع الجمهور، وعانوا من النقد والاستنكار السياسي، لتقديم أعمال فنية، كانوا مقتنعين بتقديمها، وفيما يلي بعض من أفضل هذه الأفلام:
1. نهاية الأسبوع WEEK END
فرنسا - 1967
سيناريو وإخراج: جان لوك غودار
موسيقى: أنطوان دواميل
تصوير: راؤول كوتار
مدة العرض: 95 دقيقة
الممثلون الرئيسيون: جان يان - ميرييل دارك - جان بيير لوو
2. أندريه روبليف
الاتحاد السوفيتي - 1966
إخراج: أندريه تاركوفسكي
سيناريو: أدريه ميكالكوف كونشالوفسكي و أندريه تاركوفسكي
موسيقى: فياشيسلاف أوفشينيكوف
تصوير: فاديم يوسوف
مدة العرض: 185 دقيقة
الممثلون الرئيسيون: أناتولي سولونيتش - إيفان لابيكوف - نيكولاي جرينكو - نيكولاي بورلجاييف
3. البرتقالة الآلية CEOCKWORK ORANG
بريطانيا - 1971
سيناريو وإخراج: ستانلي كوبريك
عن قصة بالعنوان نفسه لـ أنتوني بورجيس
موسيقى: والتر كارلوس
تصوير: جون ألكوت
مدة العرض: 136 دقيقة
الممثلون الرئيسيون: مالكولم ماكدويل - باتريك ماجي - أنتوني شارب - أدريان كوري
عاشراً: أفلام الجريمة:
وهذه النوعية من الأفلام كانت غالباً ما تثير الجدل، إما بسبب العنف الذي تحتويه، أو بسبب تعاطفها مع المجرم، أو بسبب انتقادها للمجتمع، أو حتى دغدغتها لغريزة الشر داخل الإنسان، ومن أهم هذه الأفلام:
1. ذو الندبة SCARFACE
أمريكا - 1932 - هاورد هيومس - هارود هوكس
إخراج: هاورد هوكس
سيناريو: بن هيكت
عن قصة بالعنوان نفسه لـ أرميتاج تريل
موسيقى: أدولف تاندلر - جاس آرنهايم
تصوير: لي جارمس
مدة العرض: 90 دقيقة
الممثلون الرئيسيون: بول موني - آن موزاك - بوريس كارلوف - جورج رافت - كارين مورلي - أوزجود بيركنز - فينس بارنيت
2. الحي الصيني CHINA TOWN
أمريكا - 1974 - روبرت إيفانز
إخراج: رومان بولانسكي
سيناريو: روبرت تاون
موسيقى: جيري جولد سميث
تصوير: جون إي ألونزو
مدة العرض: 131 دقيقة
الممثلون الرئيسيون: جاك نيكلسون - فاي دوناواي - جون هيوستون
حادي عشر: الأفلام الملحمية:
وهى تلك الأفلام التي تستكشف الموضوعات العظيمة بمنظار عظيم، ومكانتها في السينما مثل مكانتها في الأدب، أعمال إبداعية خالدة، ومن أعظم الملاحم السينمائية:
1. بن هور BENHUR
أمريكا - 1959 - سام زيمباليست
إخراج: وليام وايلر
سيناريو: كارل تانبيرج
عن قصة بالعنوان نفسه للجنرال لو والاس
موسيقى: ميكلوس روزا
تصوير: ربرت سالاتيس
مدة العرض: 217 دقيقة (مترو جولدوين ماير)
الممثلون الرئيسيون: شارلتون هستون - جاك هوكنز - ستيفن بويد - هايا هاراريت - هيو جريفيث
2. دكتور زيفاجو Dr. ZHIVAGO
أمريكا - 1965 - كارلو بونتى
إخراج: ديفيد لين
سيناريو: روبرت بولت
عن قصة بالعنوان نفسه لبوريس باسترناج
موسيقى: موريس جار
تصوير: فريدريك يانج
مدة العرض: 197 دقيقة
الممثلون الرئيسيون: عمر الشريف - جولي كريستي - رود ستايجر - إليك جينيس - توم كورتني - جيرالد شابلن - كلاوس كينسكي - رالف ؤيتشاردون - ريتا تاشينجهام
3. الحرب والسلام WAR AND PEACE
الاتحاد السوفيتي - 1964 - 1967
إخراج: سيرجي بوندرشوك
سيناريو: سيرجي بوندرشوك و فاسيلي سولوفيوف
عن قصة بالعنوان نفسه لليوتولستوي
موسيقى: فياشيسلاف أوفشينيكوف
تصوير: أناتولي بتريتسكي
مدة العرض: النسخة الناطقة بالروسية التي ظهرت في 4 أجزاء
النسخة الناطقة بالإنجليزية التي ظهرت في جزءين
الممثلون الرئيسيون: لودميلا سافليفيا - سيرجي بوندرشوك - فياشيسلاف تيكونوف - فاسيلي لانوفوي - إيرينا سكوبوتسيفا - بوريس زاكافا - فلاديسلاف سترشيلشيك
4. الساموراي السبعة SEVEN SAMURAI
اليابان - 1954
إخراج: أكيرا كوروساوا
سيناريو: هيديو أوجوني و شينوبو هاشيموتو و أكيرا كوروساوا
موسيقى: فومويو هاياساك
تصوير: أسايشي ناكاي توهو
مدة العرض: 200 دقيقة
الممثلون الرئيسيون: توشيرو ميفوني - تاكاشاي شيمورا
ثاني عشر: أفلام الواقعية الاجتماعية:
إضافة إلى كون السينما وسيلة تسلية جماعية، فإنها كانت تسعى دائماً لأن تعكس أحداث العالم الحقيقية وتعلّق عليها. وقد قدمت بعضاً من أعظم الأفلام التي تجسِّد متاعب البسطاء، والتي رأى فيها المشاهدون صورة حقيقية لهمومهم ومعاناتهم، ومن أعظم هذه الأفلام:
1. عناقيد الغضب THE GRAPES OF WRATH
أمريكا - 1940 - داريل إف زانوك
إخراج: جون فورد
سيناريو: نانالي جونسون
عن قصة بالعنوان نفسه: لجون شتاينبك
موسيقى: ألفريد نيومان
تصوير: جريج تولاند
مدة العرض: 129 دقيقة
الممثلون الرئيسيون: هنري فوندا - جين دارويل - جون كارادين
2. سارقو الدراجة BICYCLE THIEVES
إيطاليا - 1948 - أمبرتو سكاربيللي
سيناريو: سيزاري زافاتيني عن قصة للويجي بارتوليني
موسيقى: أليساندرو سيكونيني
تصوير: كارلو مونتوري
مدة العرض: 90 دقيقة
الممثلون الرئيسيون: لامبرتو ماجيوراني - إينزو ستايولا
إخراج: إيليا كازان
ثالث عشر: أفلام الإثارة والتشويق:
يقول أوسكار وايلد "إن عنصر التشويق أمر رائع، أرجو أن يدوم". وقد ظلت هذه النوعية من الأفلام الأكثر شعبية وسط قطاعات عريضة من المجتمع، وتفننت السينما في تقديم أفلام الإثارة والتشويق، ومن أعظم هذه الأفلام:
1. شمالاً عبر الشمال الغربي… NORTH BY NORTHWEST
أمريكا - 1959 - ألفريد هيتشكوك
إخراج: ألفريد هيتشكوك
سيناريو: إيرنست ليمان
موسيقى: بيرنارد هيرمان
تصوير: روبرت باركس
مدة العرض: 136 دقيقة
الممثلون الرئيسيون: كاري جرانت - إيفاميري سينت - جيمس ميسون - ليوجي كارول - جيسي رويس لانديس - مارتن لانداو
2. الفك المفترس JAWS
أمريكا - 1975 - ريتشارد دي زانوك و ديفيد براون
إخراج: ستيفن سبيلبرج
سيناريو: بيتر بينشلي - كارل جوتليب
عن قصة بالعنوان نفسه لبيتر بينشلي
موسيقى: جون وليامز
تصوير: بيل بانكر
مدة العرض: 125 دقيقة
الممثلون الرئيسيون: روي شايدر - روبرت شو - ريتشارد درايفوس
3. الرجل الثالث THE THIRD MAN
بريطانيا - 1949 - كارول ريد
إنتاج: كارول ريد
قصة وسيناريو: جراهام جرين
موسيقى: أنتون كاراس
تصوير: روبرت كراسكر
مدة العرض: 104 دقائق
الممثلون الرئيسيون: جوزيف كوتين - أليدا فالي - أورسون ويلز - تريفور هارود - بيرنارد لي
الملحق الرقم (2)
روائع السينما العربية
كلاسيكيات السينما العربية:
حدد الناقد السينمائي علي أبو شادي الأفلام السبعة والعشرين التالية كأفضل الأفلام في تاريخ السينما العربية، ويسميها كلاسيكيات السينما العربية:
1. الوردة البيضاء لمحمد كريم، مصر عام 1933.
2. لاشين لفريتز كرامب، مصر عام 1938.
3. الدكتور لنيازي مصطفى، مصر عام 1939.
4. السوق السوداء لكامل التلمساني، مصر عام 1946.
5. النائب العام، لأحمد كامل مرسى، مصر عام 1946.
6. حياة أو موت، لكمال الشيخ، مصر عام 1954.
7. صراع في الوادي، ليوسف شاهين، مصر عام 1954.
8. درب المهابيل، لتوفيق صالح، مصر عام 1955.
9. رنّة الخلخال، لمحمود ذو الفقار، مصر عام 1953.
10. امرأة في الطريق، لعزالدين ذو الفقار، مصر عام 1958.
11. بين السماء والأرض، لصلاح أبوسيف، مصر عام 1959.
12. دعاء الكروان، لهنري بركات، مصر عام 1959.
13. صراع الأبطال، لتوفيق صالح، مصر عام 1962.
14. زوجتي والكلب، لسعيد مرزوق، مصر عام 1971.
15. المخدوعون، لتوفيق صالح، سورية 1972.
16. ليل وقضبان، لأشرف فهمي، مصر عام 1973.
17. وقائع سنوات الجمر، لمحمد الأخضر حامينا، الجزائر عام 1974.
18. كفر قاسم، لبرهان علوبة، لبنان/سورية عام 1974.
19. عودة الابن الضّال، ليوسف شاهين، مصر عام 1976.
20. الأسوار، لمحمد شكري جميل، العراق عام 1979.
21. عمر المختار، لمصطفى العقاد، سورية/لبنان/أمريكا/بريطانيا عام 1981.
22. حلاّق درب الفقراء، لمحمد الركابي المغرب عام 1982.
23. أحلام مدينة، لمحمد مليص، سورية - مصر عام 1984.
24. البريء، لعاطف الطيب، مصر عام 1986.
25. ريح السد، لفوزي نورن، تونس عام 1986.
26. الجوع، لعلي بدرخان مصر عام 1986.
27.الطوق والإسورة، لخيري بشارة، مصر عام 1986.
أفضل عشرة أفلام عربية:
ويختار الناقد السينمائي المصري كمال رمزي، الأفلام التالية كأفضل عشرة أفلام في تاريخ السينما العربية عبر مئويتها الأولى 1895 - 1995:
1. السوق السوداء، مصر، لكامل التلمساني.
2. الفتوة، مصر، لصلاح أبوسيف.
3. حياة أو موت، مصر، لكمال الشيخ.
4. رياح الأوراس، الجزائر، للأخضر حامينا.
5. رسائل من سجّان، تونس، لعبداللطيف بن عمار.
6. الأرض، مصر، ليوسف شاهين.
7. المومياء، مصر، لشادي عبدالسلام.
8. حلاّق درب الفقراء، المغرب، لمحمد الركاب.
9. أحلام مدينة، سورية، لمحمد ملص.
10. الطوق والإسورة، مصر، لخيري بشارة.
الملحق الرقم (2)
روائع السينما العربية
كلاسيكيات السينما العربية:
حدد الناقد السينمائي علي أبو شادي الأفلام السبعة والعشرين التالية كأفضل الأفلام في تاريخ السينما العربية، ويسميها كلاسيكيات السينما العربية:
1. الوردة البيضاء لمحمد كريم، مصر عام 1933.
2. لاشين لفريتز كرامب، مصر عام 1938.
3. الدكتور لنيازي مصطفى، مصر عام 1939.
4. السوق السوداء لكامل التلمساني، مصر عام 1946.
5. النائب العام، لأحمد كامل مرسى، مصر عام 1946.
6. حياة أو موت، لكمال الشيخ، مصر عام 1954.
7. صراع في الوادي، ليوسف شاهين، مصر عام 1954.
8. درب المهابيل، لتوفيق صالح، مصر عام 1955.
9. رنّة الخلخال، لمحمود ذو الفقار، مصر عام 1953.
10. امرأة في الطريق، لعزالدين ذو الفقار، مصر عام 1958.
11. بين السماء والأرض، لصلاح أبوسيف، مصر عام 1959.
12. دعاء الكروان، لهنري بركات، مصر عام 1959.
13. صراع الأبطال، لتوفيق صالح، مصر عام 1962.
14. زوجتي والكلب، لسعيد مرزوق، مصر عام 1971.
15. المخدوعون، لتوفيق صالح، سورية 1972.
16. ليل وقضبان، لأشرف فهمي، مصر عام 1973.
17. وقائع سنوات الجمر، لمحمد الأخضر حامينا، الجزائر عام 1974.
18. كفر قاسم، لبرهان علوبة، لبنان/سورية عام 1974.
19. عودة الابن الضّال، ليوسف شاهين، مصر عام 1976.
20. الأسوار، لمحمد شكري جميل، العراق عام 1979.
21. عمر المختار، لمصطفى العقاد، سورية/لبنان/أمريكا/بريطانيا عام 1981.
22. حلاّق درب الفقراء، لمحمد الركابي المغرب عام 1982.
23. أحلام مدينة، لمحمد مليص، سورية - مصر عام 1984.
24. البريء، لعاطف الطيب، مصر عام 1986.
25. ريح السد، لفوزي نورن، تونس عام 1986.
26. الجوع، لعلي بدرخان مصر عام 1986.
27.الطوق والإسورة، لخيري بشارة، مصر عام 1986.
أفضل عشرة أفلام عربية:
ويختار الناقد السينمائي المصري كمال رمزي، الأفلام التالية كأفضل عشرة أفلام في تاريخ السينما العربية عبر مئويتها الأولى 1895 - 1995:
1. السوق السوداء، مصر، لكامل التلمساني.
2. الفتوة، مصر، لصلاح أبوسيف.
3. حياة أو موت، مصر، لكمال الشيخ.
4. رياح الأوراس، الجزائر، للأخضر حامينا.
5. رسائل من سجّان، تونس، لعبداللطيف بن عمار.
6. الأرض، مصر، ليوسف شاهين.
7. المومياء، مصر، لشادي عبدالسلام.
8. حلاّق درب الفقراء، المغرب، لمحمد الركاب.
9. أحلام مدينة، سورية، لمحمد ملص.
10. الطوق والإسورة، مصر، لخيري بشارة.
الفيلم السينمائي (ص: 44)
الملحق الرقم (2)
روائع السينما العربية
كلاسيكيات السينما العربية:
حدد الناقد السينمائي علي أبو شادي الأفلام السبعة والعشرين التالية كأفضل الأفلام في تاريخ السينما العربية، ويسميها كلاسيكيات السينما العربية:
1. الوردة البيضاء لمحمد كريم، مصر عام 1933.
2. لاشين لفريتز كرامب، مصر عام 1938.
3. الدكتور لنيازي مصطفى، مصر عام 1939.
4. السوق السوداء لكامل التلمساني، مصر عام 1946.
5. النائب العام، لأحمد كامل مرسى، مصر عام 1946.
6. حياة أو موت، لكمال الشيخ، مصر عام 1954.
7. صراع في الوادي، ليوسف شاهين، مصر عام 1954.
8. درب المهابيل، لتوفيق صالح، مصر عام 1955.
9. رنّة الخلخال، لمحمود ذو الفقار، مصر عام 1953.
10. امرأة في الطريق، لعزالدين ذو الفقار، مصر عام 1958.
11. بين السماء والأرض، لصلاح أبوسيف، مصر عام 1959.
12. دعاء الكروان، لهنري بركات، مصر عام 1959.
13. صراع الأبطال، لتوفيق صالح، مصر عام 1962.
14. زوجتي والكلب، لسعيد مرزوق، مصر عام 1971.
15. المخدوعون، لتوفيق صالح، سورية 1972.
16. ليل وقضبان، لأشرف فهمي، مصر عام 1973.
17. وقائع سنوات الجمر، لمحمد الأخضر حامينا، الجزائر عام 1974.
18. كفر قاسم، لبرهان علوبة، لبنان/سورية عام 1974.
19. عودة الابن الضّال، ليوسف شاهين، مصر عام 1976.
20. الأسوار، لمحمد شكري جميل، العراق عام 1979.
21. عمر المختار، لمصطفى العقاد، سورية/لبنان/أمريكا/بريطانيا عام 1981.
22. حلاّق درب الفقراء، لمحمد الركابي المغرب عام 1982.
23. أحلام مدينة، لمحمد مليص، سورية - مصر عام 1984.
24. البريء، لعاطف الطيب، مصر عام 1986.
25. ريح السد، لفوزي نورن، تونس عام 1986.
26. الجوع، لعلي بدرخان مصر عام 1986.
27.الطوق والإسورة، لخيري بشارة، مصر عام 1986.
أفضل عشرة أفلام عربية:
ويختار الناقد السينمائي المصري كمال رمزي، الأفلام التالية كأفضل عشرة أفلام في تاريخ السينما العربية عبر مئويتها الأولى 1895 - 1995:
1. السوق السوداء، مصر، لكامل التلمساني.
2. الفتوة، مصر، لصلاح أبوسيف.
3. حياة أو موت، مصر، لكمال الشيخ.
4. رياح الأوراس، الجزائر، للأخضر حامينا.
5. رسائل من سجّان، تونس، لعبداللطيف بن عمار.
6. الأرض، مصر، ليوسف شاهين.
7. المومياء، مصر، لشادي عبدالسلام.
8. حلاّق درب الفقراء، المغرب، لمحمد الركاب.
9. أحلام مدينة، سورية، لمحمد ملص.
10. الطوق والإسورة، مصر، لخيري بشارة.
الفيلم السينمائي (ص: 44)
الملحق الرقم (2)
روائع السينما العربية
كلاسيكيات السينما العربية:
حدد الناقد السينمائي علي أبو شادي الأفلام السبعة والعشرين التالية كأفضل الأفلام في تاريخ السينما العربية، ويسميها كلاسيكيات السينما العربية:
1. الوردة البيضاء لمحمد كريم، مصر عام 1933.
2. لاشين لفريتز كرامب، مصر عام 1938.
3. الدكتور لنيازي مصطفى، مصر عام 1939.
4. السوق السوداء لكامل التلمساني، مصر عام 1946.
5. النائب العام، لأحمد كامل مرسى، مصر عام 1946.
6. حياة أو موت، لكمال الشيخ، مصر عام 1954.
7. صراع في الوادي، ليوسف شاهين، مصر عام 1954.
8. درب المهابيل، لتوفيق صالح، مصر عام 1955.
9. رنّة الخلخال، لمحمود ذو الفقار، مصر عام 1953.
10. امرأة في الطريق، لعزالدين ذو الفقار، مصر عام 1958.
11. بين السماء والأرض، لصلاح أبوسيف، مصر عام 1959.
12. دعاء الكروان، لهنري بركات، مصر عام 1959.
13. صراع الأبطال، لتوفيق صالح، مصر عام 1962.
14. زوجتي والكلب، لسعيد مرزوق، مصر عام 1971.
15. المخدوعون، لتوفيق صالح، سورية 1972.
16. ليل وقضبان، لأشرف فهمي، مصر عام 1973.
17. وقائع سنوات الجمر، لمحمد الأخضر حامينا، الجزائر عام 1974.
18. كفر قاسم، لبرهان علوبة، لبنان/سورية عام 1974.
19. عودة الابن الضّال، ليوسف شاهين، مصر عام 1976.
20. الأسوار، لمحمد شكري جميل، العراق عام 1979.
21. عمر المختار، لمصطفى العقاد، سورية/لبنان/أمريكا/بريطانيا عام 1981.
22. حلاّق درب الفقراء، لمحمد الركابي المغرب عام 1982.
23. أحلام مدينة، لمحمد مليص، سورية - مصر عام 1984.
24. البريء، لعاطف الطيب، مصر عام 1986.
25. ريح السد، لفوزي نورن، تونس عام 1986.
26. الجوع، لعلي بدرخان مصر عام 1986.
27.الطوق والإسورة، لخيري بشارة، مصر عام 1986.
أفضل عشرة أفلام عربية:
ويختار الناقد السينمائي المصري كمال رمزي، الأفلام التالية كأفضل عشرة أفلام في تاريخ السينما العربية عبر مئويتها الأولى 1895 - 1995:
1. السوق السوداء، مصر، لكامل التلمساني.
2. الفتوة، مصر، لصلاح أبوسيف.
3. حياة أو موت، مصر، لكمال الشيخ.
4. رياح الأوراس، الجزائر، للأخضر حامينا.
5. رسائل من سجّان، تونس، لعبداللطيف بن عمار.
6. الأرض، مصر، ليوسف شاهين.
7. المومياء، مصر، لشادي عبدالسلام.
8. حلاّق درب الفقراء، المغرب، لمحمد الركاب.
9. أحلام مدينة، سورية، لمحمد ملص.
10. الطوق والإسورة، مصر، لخيري بشارة.
فن المسرح،وتاريخه
فن المسرح، وتاريخه
المقدمة
نشأة المسرح وتطور الفن المسرحي
المذاهب المسرحية
عناصر الفن المسرحي
الفنون المسرحية
المسرح العربي
الملاحق
الصور
الأشكال
المصادر والمراجع
المقدمة
كان المسرح وما يزال هو النقطة التي يبدأ منها، عادة، انطلاق الشرارة نحو الثقافة والتطور والمساعدة في تطوير المجتمعات، والوصول إلى حال أفضل. وعلى مر الأزمان خضع للتحوير والتشكيل سواء كان ذلك في شكل خشبته، أم في شكل العروض التي تمثل داخله، بل إن دور التمثيل نفسها كانت موضعاً للتغيير والتبديل، فقدم الأدب المسرحي في الميادين، وخارج المعابد، وداخل الكنائس، ومرّ بمراحل كثيرة حتى أقيمت له دور التمثيل الحالية.
نشأت الدراما، أي المسرحية، من الاحتفالات والأعياد "الديونيزية" Dionysus، ومن الطقوس والرقصات والأناشيد التي كانت تُنشد، ومن المواكب التي كان يقيمها اليونانيون القدامى، وكان المكان المُعد لتلك الحفلات يسمى مسرحاً.
المسرحية، أو الدراما العالمية الحالية، وهذا المسرح الجماعي الذي نعيش فيه من الرقص البدائي إلى التمثيلية الحديثة التي تشبه العرض الصحفي، ومن الطقوس الدينية إلى التمثيل الدنيوي، ومن المأساة اليونانية إلى خطافات الصور المتحركة، كل ذلك في مظاهره المربكة المحيرة يسجل لنا تعريفات عن المسرح وعن المسرحية أو الدراما، وإذا استطاع أحدنا أن ينشر صورة للمسارح المختلفة التي تمثل فوقها الحياة، لأدرك من فوره أنه لا يمكن أن يهتدي إلى التعريف الجامع المانع، الذي يتسع للتعبير بالكلام عن عناصر الفن وطرزه، وأحواله، وعن مظاهر الحياة المسرحية والتمثيلية واتجاهاتها. إن الفن المسرحي هو الفن الذي تلتقي عنده جميع الفنون، إذ ليس بين الفنون فن كفن المسرح استطاع أن يصل موهبة الخلق الفني الغامضة بموهبة التلقي والاستقبال.
المسرح ليس مجرد وسيلة ترفيهية، وإنما يتخطى دوره ذلك. ففي فترات عظمته جاهد كتابه وممثلوه ومخرجوه، في اكتشاف نواحي الجمال فيه؛ ففن المسرح يعتمد في جوهره على حصيلة المعرفة في شمولها العام، وعلى قدرة الإنسان على الاستكشاف والتعجب والتأمل.
كان المسرح عند الإغريق مظهراً دينياً، وعند الرومان ما يشبه المتعة الرخيصة، التي يتكفل بها الرقيق من أجل الترفيه عن مالكيهم، وكان للكنيسة في عهدها الأول شراً ينبغي استئصاله، غير أن الكنيسة عادت بعدها بعدة قرون، تحتضن مسرحيات الأسرار والمعجزات، كما بات جمهور اليوم يسترجع الأعمال الجيدة للمسرحي اليوناني "سوفوكليس Sophocles "، والإنجليزي "وليم شكسبير William Shakespeare "، والسويدي "أوجست سترندبرج August Strindberg "، بتقديس، ويظن بعض النقاد أن هؤلاء الكتاب، ليسوا بشراً عاديين.
إن المسرح بسبب إسهامه في تلبية احتياجات الإنسان الجمالية والذهنية، وبسبب نوع الجمهور الذي يرتاده، وبسبب الرابطة الوثيقة، التي تربط جمهوره بممثليه، ثم بسبب مختلف القيم الأخرى، لكل هذه الأسباب يبدو مقدراً له أن يعيش بضعة آلاف أخرى من السنين. وحتى لو كتب للمسرح المختلف أن يحقق تنبؤات المتشائمين القديمة، ويحل به الموت فسوف يبقى المسرح التربوي حقلاً طبيعياً للتدريب، ونقطة انطلاق للطالب، في أي فرع من فروع الفنون المسرحية، إذ إن المسرح الحي هو الجذر، الذي تولدت عنه بقية الفروع الأخرى.
وإذا كانت النهضة المسرحية تعتمد على البحوث والدراسات والتجارب، في مجال الفنون والآداب المسرحية فإن الثقافة المسرحية تضيف كذلك التعريف بالتراث المسرحي، بما تقدمه من مؤلفات وترجمات تهم المتخصصين والعامة، على السواء.
نشأة المسرح وتطور الفن المسرحي
عند ذكر كلمة "مسرح" نفكر في نوع خاص من الترفيه، أو في مبنى معين مُعد ومجهز لتقديم هذا النوع من الترفيه. ويأمل البعض في قضاء وقت ممتع مع الضحك، أو قصة شيقة للهروب من مشقة اليوم. والمسرح، مثله مثل كافة الفنون، ترجع نشأته إلى السحر، أي إلى محاولة التأثير على الطبيعة بقوة إرادة الإنسان، وإحالة الأفكار إلى أشياء.
وفي الأزمنة الأولى من المسرح كان كل فرد ممثلاً، ولا تفرقة بين الممثل وبقية القبيلة، والدنيا هي المسرح. وكانت منصة التمثيل مكاناً مقدساً، وكان الحاضرون نوعين: مؤدين ومريدين. وبعد ذلك كانت المنصة هي المسرح، ولا يفصل بين الممثلين والنظارة سوى خليج مجازي معنوي، يصبح أخيراً خليجاً مادياً محسوساً. وأخيراً أصبح يفصل بين الممثل ومشاهديه آلاف الأميال.
وبين بداية المسرح وما انتهى إليه شبه غريب، من حيث إن مكان التمثيل هو الدنيا. وتطورت الدراما تطوراً جبرياً في عدة مراحل، ويمكن أن يطلق عليها التاريخ الطبيعي للدراما، وهذه المراحل هي: الدراما بوصفها سحراً، والدراما بوصفها ديناً، والدراما بوصفها زخرفة، والدراما بوصفها أدباً، والدراما بوصفها علماً.
وفنون المسرح فنون متكاملة، وبالأحرى فنون يكمل بعضها بعضاً، وليس منها فن يمكن أن يقوم بنفسه، بحيث لا تربطه ببقية الفنون المسرحية الأخرى رابطة أو وشيجة، ومن ثم لا بد لمن يدرس أحد هذه الفنون، أن يلم إلماماً كافياً ببقية الفنون المسرحية الأخرى. فالممثل يجب أن يتعرف بعمق على تاريخ المسرح، منذ أن نشأ قبل العصور التاريخية حتى اليوم. وتاريخ المسرح يشمل نشأة التمثيل، منذ أن كان رقصاً بدائياً، وإنشاداً دينياً، ثم تطوره بعد ذلك مع تطور الأغنية الإنشادية الراقصة، ومصاحبة الموسيقى ودق الطبول لها، حتى ظهرت المسرحية، التي حوّلت نواة هذه الأغنية، التي كان البدائيون يتعبدون بها، لخالق الكون المحيط بكل شيء.
وإذا كان الممثل في حاجة إلى تلك المعرفة ببدايات فكرة المسرح ليجيد تمثيله، فالمخرج أشد حاجة منه؛ لأنه المهندس المسرحي الأكبر، الذي يرسم كل شيء، ويضع لكل حركة تقديرها.
إن الثقافة المسرحية الواسعة، تؤدي إلى فن مسرحي عظيم. وقد كان أعظم الكتاب المسرحيين في تاريخ المسرح، هم أولئك الكتاب الذين شبوا في كنف المسرح، وتربوا في أحضانه، ونهلوا من موارده مباشرة. كان أولئك يكتبون وفي بالهم ظروف مسارحهم وإمكاناتها وفي حسبانهم كل صغيرة وكبيرة، مما يمكن تنفيذه لما يدور في أذهانهم، وتخطه أقلامهم.
ما سبق يسّر مهمة المخرج، والممثل، ومصمم الديكور، ومهندس الإضاءة، بل يسّر مهمة عمال الأثاث، ومغيرو المناظر.
إن المسرحية أو الدراما، من الرقص البدائي إلى التمثيلية الحديثة، ومن الطقوس الدينية إلى التمثيل الدنيوي، ومن المأساة اليونانية إلى "الصور المتحركة"، كل ذلك في مظاهره المربكة المحيرة يسجل تعريفاً عن "المسرح" وعن "المسرحية" أو "الدراما". لذلك لا يمكن الاهتداء إلى تعريف محدد للمسرح الذي هو ملتقى كل الفنون.
وقد ألف المؤلفون وترجم المترجمون كتباً كثيرة في كل موضوعات المسرح على حده "الإخراج والتمثيل، والإضاءة، والديكور، الخ"، ومن ثم كانت كتباً لا ينتفع بها إلا المتخصص في أي فرع منها، وحتى هذا المتخصص لا يكاد ينتفع بما يجده في كتابه هذا، إلا إذا أقام الصلة بين الفرع الذي يدرسه من فروع الفن المسرحي وسائر هذه الفروع.
يأتي الرقص في المرتبة الأولى مباشرة بعد ما تؤديه الشعوب البدائية من الأعمال التي تضمن لها حاجاتها الضرورية المادية من طعام ومسكن.
والرقص أقدم الوسائل التي كان الناس يعبرون بها عن انفعالاتهم، ومن ثم كان الخطوة الأولى نحو الفنون، بل إن الإنسان المتحضر في الزمن الحديث بالرغم من النواهي والمحظورات التي يتلقنها، وروح التحفظ التي يشب عليها، يعبر عن انفعالاته المفرحة بطريقة غريزية، والإنسان البدائي، بالرغم من فقر وسائله التعبيرية، وقلة محصوله من أوليات الكلمات المنطوقة، كانت وسيلته الشائعة في التعبير عن أعمق مشاعره هي الحركة الرتيبة الموزونة. وإذا كان القمر والشمس يطلعان ويغربان في نظام ثابت، وكانت ضربات قلبه ضربات إيقاعية، فقد كان طبيعياً لهذا السبب أن يبتكر الحركة الإيقاعية يعكس بها ما يخامره من فرح وبهجة.
وكان هذا الإنسان البدائي يرقص بدافع المسرة، ولكون الرقص طقساً دينياً فهو يتحدث إلى آلهته بلغة الرقص، ويصلي لهم ويشكرهم، ويثني عليهم بحركاته الراقصة، وإذ لم تكن هذه الحركات شيئاً مسرحياً مؤثراً أو تمثيلياً، إلا أن حركته المرسومة ذات الخطة كانت تنطوي على نواة المسرحية أو بذرة المسرح.
والدراما التي من هذا القبيل، وهي الفن الذي يكون فيه الفعل مادة محورية أصيلة، لم تنشأ من الرقص البدائي فحسب بل حين يجري التزاوج فيما بعد بينها وبين الشعر.
وإذا كانت رقصات الطقوس الدينية، ورقصات الزواج هي جذور التراجيديا أو الميلودراما الحديثة، فلا يمكن على وجه التحديد معرفة أي نوع من الرقص المضحك كانت قبائل ما قبل التاريخ تمارسه.
ولا يعرف أحد متى كتبت أول مسرحية تحديداً، وإن كان التاريخ يرجع بتاريخ المسرح إلى عام أربعة آلاف قبل الميلاد، ولا شك أن المسرح يعود إلى أبعد من ذلك، ولكن البداية الحقيقية التي تعنينا وتحدد نشأة المسرح تحديداً نسبياً هي بداية المسرح في بلاد اليونان خلال القرن الخامس قبل الميلاد. وأول تاريخ مهم يصادفنا هو عام 535 قبل الميلاد، ففي ذلك العام فاز "تيسبس" الذي يُعدّ بحق أول ممثل في أول مسابقة تراجيدية. غير أن أهمية هذا الخبر تتضاءل إلى جانب حقيقة كبرى ثابتة على وجه اليقين هي أن مدينة أثينا، تلك المدينة اليونانية، قدمت للعالم فجأة وخلال قرن واحد فيما بين القرن الخامس والرابع قبل الميلاد أربعة من أكبر كتاب المسرح، إن لم يكونوا هم آباء المسرح الحقيقيين الذين لا آباء قبلهم وهم: "أسخيلوس Aeschylus" و"سوفوكليس" و"يوربيدس Euripides" و"أريستوفنس Aristophanes".
وإذا وقفنا على النواة الأولى لبدء فكرة المسرحية أو الدراما وهو الرقص، فإن التأريخ لم يجلب الكثير عن المسارح ذاتها، حيث لا نستطيع الاستنتاج إلا شيئاً قليلاً، حيث كانت تقام الاحتفالات في الطرقات وفي الدروب، حيث يلتف العامة حول مقدمي تلك العروض الراقصة. وهؤلاء العامة من يمكن أن نطلق عليهم الجوقة، والراقصين من يمكن أن نطلق عليهم الممثلين. على أن ثمة عادة من عادات الرقص الظاهرية انتشرت انتشاراً ملحوظاً وهي عادة استعمال الأقنعة، إننا لا نجد في المتاحف الاثنوجرافية [1] Anthological شيئاً هو أكثر استرعاء للأنظار من الأقنعة ذات الألوان الصارخة التي كانت تستعمل في الطقوس الدينية.
أما عن القصة المسرحية فقد ذكر "روبرت أدموند" المؤرخ المسرحي وصفاً تخيلياً لمثل هذه النشأة التلقائية للقصة المسرحية، حين قرر أن رقصة القنص القائمة على حادثة قصصية حقيقية، أو مأثرة من المآثر الباهرة قد نشأت من إعادة سرد قصة هذه الحادثة حول نار المعسكر. ولو تصورنا ما كان يجري في العصر الحجري، عصر الكهوف والماموث، وتصوير المظلمات المائية فوق جدران الكهوف، وقد أمسى الليل، وجلس زعماء القبيلة معاً، وقد قتلوا أسداً، وها هو زعيم القبيلة يثب واقفاً ويقول: "لقد قتلت الأسد، أنا الذي قتلته، قصصتُ أثره فهجم عليّ فقذفته بحربتي فخر صريعاً"، ثم يبدأ في تمثيل المعركة إيقاعياً وسط أصوات الطبول، وتمثيله لخوفه من الأسد وهو يهاجمه، ثم ترديده لعبارات الشجاعة حين قتل الأسد. في هذه اللحظة تولد المسرحية بكل عناصرها المعروفة الآن، وإن كانت بغير تقنية على الإطلاق، وإن لم ننكر لعباس ابن فرناس فضل خياله المحلق في الطيران، فلا ننكر على الإنسان البدائي أنه الأب الأول للمسرح.
ولا بد من القول بأن تلك الشعوب البدائية لم توف حقها في الدراسة، إما لندرة المعلومات، وإما لتواضع الأداء المسرحي قياساً على ما تلا هؤلاء مباشرة.
نشأت الدراما "المسرحية" من الاحتفالات والأعياد الديونيزية، ومن الطقوس والرقصات والأناشيد التي كانت تُنشد، ومن المواكب التي كانت تقام تكريماً لديونيز. وعبده شعب اليونان على أنه إله لهم فقط من دون الناس، وكانوا يكرمونه في مهرجانات مفعمة بالبهجة وألوان من الشعائر الدينية المعربدة.
ثم نسج حماة الدين أسطورة من أساطيرهم يعلنون بها مجيء ديونيز. وكان المكان المكرس لحفلات البسط هذه يسمى "مسرحا"،ً وأصبح بعض المحتفين بالآلهة يسمون "كهنة"، ثم أصبحوا يعرفون فيما بعد "بالممثلين". وأصبح غيرهم ممن يتولون قيادة الإنشاد، والذين يمكنهم نظم أناشيد جديدة يسمون "الشعراء"، ثم اتسعت اختصاصات الشعراء حتى أطلق عليهم آخر الأمر اسم "الكتاب المسرحيين". كما أطلق اسم "الجمهور" أو "النظارة" على غير هؤلاء وهؤلاء ممن لا يطلبون شيئاً غير المشاركة في تمجيد ديونيز تمجيداً عاطفياً في حفلات تكريمه والثناء عليه.
واتخذت الدراما لنفسها عنصراً جديداً مولداً عن الحركة الراقصة. أما أين يقترب الرقص من المسرحية، ففي الميدان الذي اقترب فيه أحد الأشخاص البدائيين ورقص رقصاً معبراً فيه عن انتصاره في معركة، مبيناً كيف تلصص حتى رأى عدوه، ثم كيف اصطدم به وحاربه يداً بيد، ثم كيف كان يتفاداه، ثم كيف قتله وفصل رأسه عن جسمه، كان رقصه ذلك شديد القرب من المسرحية الصحيحة. أما الرقصات الغرامية الصامتة فتتفاوت بين المشاهد الثنائية الرائعة وبين الاستعراضات التي قد تبدو من الاستعراضات غير المحتشمة.
وقد مارست جميع القبائل البدائية رقصات الحرب ممارسة فعلية، كما مارست رقصات الحب، فضلاً عن الرقصات الدينية التي كانت تسود المجتمع الإغريقي وقتئذ.
أما المسارح فتكاد تكون أمراً مجهولاً يصعب استنتاج آثاره إلا شيئاً قليلاً. والنصوص القديمة كافةً، وخلاصة مسرحيات الآلام، والرقصات البدائية، كل ذلك يؤكد حقيقة مؤداها أن أول مسرح كامل، وأول مسرحية قديمة باقية تقترن بمسرح مبني، وبطريقة في العرض، هو المسرح اليوناني (اُنظر صورة المسرح اليوناني)، و (شكل المسرح اليوناني)، والمسرحية اليونانية وطريقة العرض اليونانية.
1. المسرح عند الإغريق
كان "جو" 525 - 456 ق م، أول كتاب المسرح العظام من المبرزين في معركتي "ماراثون Marathon و"سلاميس Salamis"، فلم يكن الرجل منشغلا بتوافه الأمور، ولا راغباً في توفير التسلية للجمهور بل كان لديه من الأفكار والتجارب ما يريد إشاعته وإشراك الناس فيه، فكانت مسرحياته بعيدة المدى، عظيمة التأثير. والظن أنه كتب تسعين مسرحية لم يبق لنا منها غير سبع وهي: الضارعات، والفرس، وبروميثيوس، و سبعة ضد طيبة، ومصافدا، وأورستايا. والأورستايا هي فى الواقع ثلاث مسرحيات: أجاممنون، وحاملات القرابين، وربات الإحسان المنعمات.
أما "سوفوكليس" 496 - 406 ق م، فكانت حياته أقل إثارة من حياة "أسخيلوس"، إلا أنه كان أعظم منه كاتباً مسرحياً، وكاد يبلغ في حياته الخاصة وفي أعماله مرتبة الكمال، حيث ظلت مهارته الحرفية معياراً للكتاب المسرحيين ومثلاً أعلى لهم طوال خمسة وعشرين قرناً تقريباً، حيث اتسمت أعماله بالعمق في التفكير والثراء في التعبير والحنكة في صناعة التوتر المسرحي وإثارة التهكم الدرامي. وكذلك بقيت لنا من أعماله سبع مسرحيات وهي: أوديب ملكاً، وإلكترا، وأوديب في كولون، وأجاكس، وأنتيجون، والتراقيات، وفيلوكيتيس.
ويرى الكثيرون أن أوديب ملكاً هي أكمل مسرحية كتبت على إطلاق المسرح منذ نشأته حتى الآن، وقد عدها أرسطو Aristotle نموذجاً لكثير مما تعرض له في كتابه النقدي "فن الشعر"، وقد امتدحها، خاصة حبكتها المشتبكة، وأحداثها المنسوجة بترابط، ووضوح الدوافع.
أما آخر كُتّاب التراجيديا الكبار هو "يوربيدس 484 - 406 ق م"، ويكفي للإشارة إلى بعض الفروق الأساسية بينه وبين "أسخيلوس" و"سوفوكليس" بعض الأقوال الشائعة بشأنه مثل، "كتب أسخيلوس عن الآلهة، وكتب سوفوكليس عن الأبطال، أما يوربيدس فيكتب عن البشر".
ولا أدل على العلاقة بين الكاتب المسرحي وبيئته من الإشارة إلى أسخيلوس ويوربيدس، فقد ولد الأول في أسرة غنية وثرية لها قدر ومكانة، وعاش أيام معركة ماراثون، وقتها كانت أثينا شابة مليئة بالأمل. أما يوربيدس فقد كانت حياته نقيضاً تماماً لما عاشه أسخيلوس، وعكست مسرحياته بوضوح الظروف التي أحاطت به. وقد وصلنا من مسرحه ثماني عشرة مسرحة أشهرها: "إلكترا"، "ميديا"، "النساء الطرواديات"، "هيبوليتس"، "أفيجينيا في أوليس".
والسمات الرئيسة للتراجيديا اليونانية هي مجموعة من الخصائص الآتية:
أ. ليس من اللازم أن تنتهي التراجيديا اليونانية دائماً بموت الشخصية الرئيسة أو الممثل الأول، أما الموضوع فهو، كما أشار أرسطو دائماً، موضوع جدي له قدر وحجم.
ب. تستغرق الواحدة من التراجيديات اليونانية ما يزيد قليلاً على الساعة، فالأورستايا بمسرحياتها الثلاث تستغرق تقريباً الوقت نفسه الذي يستغرقه تمثيل مسرحيتي شكسبير: "هاملت" و"الملك لير". وقد تلقي هذه الحقيقة بعض الضوء على مشكلة الوحدات الكلاسيكية الثلاث التي طالما كانت موضوعا للمناقشة. فوحدة الزمن تستلزم أن تقع الأحداث في يوم واحد، ووحدة المكان تستلزم أن تنحصر الأحداث في مكان واحد، ووحدة الفعل تستلزم ألا يكون في المسرحية غير حبكة مسرحية واحدة.
ج. يتضح مباشرة، لمن يقرأ التراجيديات اليونانية، أن الجوقة تؤدي فيها دوراً كبيراً، وهي تنفرد بالكثير من أجود الشعر في التراجيديات اليونانية، بل سمح لها بالاشتراك في الفعل الدرامي، وتحمل مسؤولية التعبير عن الكثير من الأفكار والآراء.
د. قصد الإغريق بالتراجيديا أن تؤدي لهم دوراً خاصاً، هو تحقيق تطهير الروح عن طريق الشفقة والخوف، ولا يستطيع أحد أن يجزم بأنه يفهم معنى هذا الكلام تماماً.
الكوميديا الإغريقية
أما الكوميديا الإغريقية فقد كانت لها وظيفتها الخاصة، حيث ارتبطت في أصلها بطقوس الخصب والتناسل البدائية، وهو ما يفسر لنا الكثير مما نجده فيها الآن ونعده خروجاً عن حدود الأدب والذوق، ولكن وظيفة الكوميديا قد تبدلت حين وصلت إلى أيدي أريستوفنس، فجعل منها سوطاً قوياً لمهاجمة الحماقات الاجتماعية والسياسية، و أصبحت لا تختلف كثيراً عن العروض الفكاهية الساخرة المعاصرة.
وإن لم يكن أريستوفنس 450 - 388 ق م، الكوميدي الوحيد في عصره إلا أنه كان، باتفاق الجميع، أعظمهم، وهو كذلك الوحيد الذي بقيت لنا من أعماله عدة مسرحيات في نصها الكامل، وكان يمتاز ببراعة مدهشة، وقدرة فائقة على الفكاهة والسخرية. إنه رجل لا يتردد في أن يسخر من كل شخص، ويتهكم على كل شيء. ومن عجب أن يكون ذلك الرجل محافظاً يجاهد في سبيل عودة الأيام القديمة، وعدواً لكل ما هو تقدمي أو جديد. واستمدت معظم مسرحياته مثل "الضفادع" و"الدبابير" و"السحب" أسماءها مما تمثله الجوقات فيها، وكان لها دور كبير فيما تقدمه المسرحيات من بهجة ومرح.
وقد سبق الزي المسرحي، في أثناء نمو الدراما، الديكور المسرحي، بل سبق كل مقر ثابت مخصص للتمثيل. وقد بقيت مثل هذه الأماكن الثابتة المخصصة للتمثيل، لأمد طويل، عائقاً أكثر منها معيناً لحل مشكلة الفن المسرحي كما عرفته الدراما الإغريقية. فبناء مثل مسرح ديونيز كان مصدر بلبلة للفكر المعاصر، إذ إن أطلاله الباقية لا تدل على مبنى يرجع إلى العصر الهليني فحسب، بل إلى العصر الروماني. والمتفق عليه نشأة كل من الملهاة والمأساة في المحافل القروية وفي المواكب الممجدة لديونيز الذي عُدّ في زمنه الإله الملهم وموفر الخصب.
إن أولى حفلات المآسي والملاهي قد مثلت في الأوركسترا Orchestra، وهي قطعة أرض ممهدة مستديرة الشكل، بميدان السوق، ومن ثم انتقلت بصفة دائمة إلى حيث حدود معبد ديونيز اليوثيروس، داخل الحرم المقدس، على المنحدر الجنوبي للأكروبول، على أنه لم تكن الأرض مسطحة، فكان لا بد من إقامة حائط ساند عند أحد الجوانب، وكان النظارة يتجمعون على سفح التل، وينظرون عبر الأوركسترا، فيرون فوق حافة الحائط الساند قمة معبد ديونيز.
لم تتضمن نظم البناء حتى القرن الخامس قبل الميلاد سوى الأوركسترا والمعبد، أي أن أولى مسرحيات أسخيلوس قد قدمت على هذه الصورة المبسطة، أما ما كان يلزمها من إكسسوار، كالهياكل والمقابر، فكان يعد عند حافة المسطح، حسب مقتضيات كل مسرحية.
ومن المفروض أن ممراً منحدراً، أو بالأحرى خندقاً، قد وفر طريقاً لظهور الجوقة والممثل الأول على مرأى من النظارة. وقد تسبب عدم الاستقرار في مفهوم الاصطلاحات المسرحية اليونانية في كثير من البلبلة لأذهان المعاصرين. كانت الأوركسترا مكاناً مسطحاً، مستديراً في الأصل، تؤدي فيه الجوقة تشكيلاتها، وكان المسرح مكان جلوس النظارة، وكانت الخيمة، حيث يرتدي الممثلون ملابسهم ومنها يظهرون كلما حل دور أحدهم، خليطاً يجمع بين كواليس المسرح الحديث وحجرات الممثلين، أي أنها لم تكن منصة التمثيل حسب المدلول الحديث.
أما ما يطلق عليه حالياً منصة التمثيل، أي خشبة المسرح، فكان اليونانيون يسمونها "بروسكنيون Proskenion".
حوالي عام 465 ق م أقيمت أول منصة خشبية صغيرة في استطاعة النظارة أن يروها، وبعد أربعين عاما، أقيم أساس حجري متين لمبني منصة حجرية ذات جبهة طويلة وجناحين متفرعين.
ولم تشيد في أثينا منصة حجرية كاملة قبل العصر الهليني. وأما آثار المنصة المحكمة المتقدمة جداً، التي ما زالت باقية، فيرجع تاريخها إلى ما لا يقل عن عهد نيرون. وينتهي الكثير من العلماء إلى أن جدار الحرم الذي كان يقوم مقام مؤخرة "للمنظر المسرحي"، إن جاز التعبير، يرجع إلى عهود لاحقة في تاريخ المسرح، قد استعمل مبكراً، منذ مطلع القرن الخامس، مؤخرة لمنصة خشبية، ثم في نهاية القرن، مؤخرة لمنصة حجرية.
ومن غير المستبعد أن المنصة الخشبية كانت تتخذ أولاً فأول، ما يتفق من الأشكال ومختلف مقتضيات المسرحية، بل قد مرت المنصة الحجرية نفسها بأطوار مختلفة. وفي متحف اللوفر Louvre بباريس آنية أولت على أنها توفر أصدق صورة لأول منصة حجرية في أثينا.
كانت الأشباح المقدسة تستحضر من خلال نفق مصبه المنصة، ولمثل هذا الممر اكتشفت آثار بمسرح إريتريا، عرفت باسم "السلم الشاروني"، وفي الأغلب أنه استعمل مبكراً منذ عهد أسخيلوس الذي عمرت تمثيلياته بالأطياف. كذلك ليس من شك في أن المسرح الإغريقي عرف الدور الأعلى، حيث قام بوظيفته المسرحية نفسها عند شكسبير، وهي إلقاء الخطب من شرفة، أو من أعلى جدار، أو من برج مراقبة.
فيما بين عهدي أسخيلوس ويوربيدس كان المسرح الإغريقي قد وفق إلى شتى اصطلاحاته، سواء الخاصة بالجدار الخلفي نفسه أو بمختلف ملحقاته الثانوية، وبدا الطريق ممهداً أمام تطور بلغ ذروته في الأزمنة الرومانية حيث المسارح المحكمة والإخراج المتقدم.
ولا يرجع إلى أسخيلوس فضل التقدم الأول الحقيقي من حيث المناظر المسرحية وآليتها فحسب، بل هو أول من أدخل على المسرح الزي المعين لكل ممثل أيضاً، أو بالأحرى هو الذي قد قرر في وضوح ما كان مستعملاً من قبل زياً في عبادات ديونيز، فالقناع أو الثوب ذو الكمين أو الحذاء العالي مستعار من ديانة ديونيز وشعائره.
وقد تأثر الزي في المسرح الإغريقي، في طابعه الديني وطابعه غير المألوف. والمسرح، عبر تاريخه، كان مجذوباً نحو الزي الغريب، الذي يساعد بحكم طبيعته الخاصة على نقل المتفرج من عالمه إلى عالم أخر مثالي. وثمة تفسير آخر هو أن الزي الذي يغطي جسم الممثل من أخمص القدمين إلى الرأس، حتى لا يتعرفه أحد، كان يجبر الممثل على أن يتخلى عن شخصيته، في سبيل تمثيله خصائص حياة أرقى.
…
[1] المتاحف الأثنوجرافية: هي المتاحف التي تُعنى بحفظ مخلفات الشعوب ليعرف الناس عن شؤون حياتهم ما يريدون.
2. المسرح عند الرومان
لم يختلف المسرح الروماني، في أية تفاصيل معمارية بارزة عن المسرح اليوناني في آخر عهده. فابتداءً من آسيا الصغرى كانت قد وضحت مرحلة انتقالية، وذلك في مؤخرة غنية بالمشاهد، وفي قدر متزايد من الزخرفة الخارجية مهدت له إقامة مقاعد للنظارة، حيث لم يعد مكانهم انخفاضاً طبيعياً أو اصطناعياً في سفح التل، وفي الانكماش التدريجي للمكان المستدير الذي طالما شغلته الجوقة، حيث إن هذه المساحة المستديرة راحت تتضاءل حتى أضحت نصف دائرة، مثلما هي في المسرح الحديث، بل أخذت تحتلها مقاعد صفوة النظارة، (اُنظر شكل المسرح الروماني).
وسواء كان الممثلون يؤدون أدوارهم وهم على مستوى أرضية المسرح أم من فوق منصة خلفية مرتفعة، فالأمر ما زال يثير الجدل الكثير.
في أول الأمر أبعدت الرومان نعرتهم الوطنية عن محاكاة المسارح اليونانية المحسنة، الأكثر تقدماً، فساروا حتى عهد أغسطس يقيمون مسارحهم، ولا سيما الصغيرة، من خشب وفق مقتضى المناسبات. ولكن ما أن شيدت المسارح الرومانية بالحجر حتى فاقت كل النماذج اليونانية، والدليل على عظمة المسرح الروماني آثار مدينة "أورانج Orange" بفرنسا.
أما الديكور، أي المناظر المسرحية، بمعناه الدقيق فقد ظل حقبة طويلة بدائياً. وحوالي عام 100 ق م فقط عرفت للمرة الأولى المناظر المصورة، ولكن ما إن جاء العصر الإمبراطوري حتى حل محلها "مؤخرة" ثابتة معمارية ذات أقواس وأعمدة من رخام وفق ذوق العصر.
أما الآلية المسرحية فقد اعتمد الرومان الآلية اليونانية، مضيفين إليها اختراعاً أسموه "بجما"، يوصف بأنه سقالة على شكل بيت متعدد الأدوار، قابل للتعديل، فأحيانا يظهر وينمو ثم ينطوي، وأحيانا أخرى يختفي فجأة.
هناك تجديدان رومانيان آخران قد ترتب عليهما الكثير، وهما السقف الخشبي الذي يغطي المنصة، ممتداً بعض الشيء في اتجاه مقاعد النظارة، ثم المجرى الواقع في مقدمة المنصة، وكانت تستعمل لإنزال الستارة. كان الرومان على نقيض المتبع في الوقت الحالي، ينزلون الستار عند بدء الحفل ويرفعونه عند نهايته.
أما في الملهاة فقد اعتمد الرومان، في أغلب الأحيان، زي "الملهاة الحديثة"، محاولين تمثيل الحياة الراهنة السائدة، مراعين النواحي التقليدية واعتبارات رمزية محلية تخص الألوان، فاللون الأبيض لزي الشيوخ والمسعدين، واللون الأحمر الأرجواني للأثرياء، واللون الأحمر الطوبي للمعوزين، والأصفر للماجنات، إشارة إلى تلهفهن على المادة، والثياب المهلهلة للمساكين.
يفتخر الرومان بكتابهم الثلاث "بلوتس Plautus" و"تيرنس Terence" و"سنكا Seneca"، وليس من الصعب تبين الأسباب التي أدت إلى عقم روما، حيث لم يصل هؤلاء الثلاث إلى مرتبة كتاب المسرح الإغريق، حيث ركّز الرومانيون جهدهم على الغزو. فماذا يفعل الغازي إذا انتصر على أمّة فنها أرقى من فنونه؟. إن أقرب ما يفعله هو التقليل من شأن هذا الفن وهو ما فعله الرومان بفن المسرح.
وأشهر ما كتبه بلوتس وكانت مسرحياته ذات حبكة وقصص متشابهة هي مسرحية "البيت المسكون"، أما تيرنس فكان يكتب بخفة ورشاقة تقارب الإغريق، غير أنه لم يكتب غير خمس مسرحيات، أولها باسم "أنديرا".
أما الكاتب الوحيد ذو الأهمية في التراجيديا الرومانية فهو "سنكا"، وقد ترك تسع تراجيديات أخذت كلها عن تراجيديات يونانية. والمسرحيات التي كتبها أقرب إلى أن تكون تدريبات في الخطابة والفلسفة من أن تكون شعراً درامياً خيالياً. وكثيراً ما تبلغ أحاديث الشخصيات في مسرحياته حداً مسرفاً في الطول، بل قد يكون دخول الشخصيات وخروجها غير مقرون بدوافع من الحياة المسرحية لهذه الشخصيات.
3. الدراما من العصور الوسطى إلى العصر الحديث
شهد عام 476 سقوط روما وسقوط إمبراطوريتها الغربية للمرة الأخيرة. أما فيما يتعلق بتاريخ المسرح فليس لهذا التاريخ أهمية، لأن المسرح الذي له قيمة فنية كان قد مات قبل ذلك بعدة قرون، إذ يعتبر "سنكا" آخر كاتب ذي أهمية، وكان قد مات عام 65 م. أما العروض المسرحية التي ظلت موجودة منذ ذلك الحين تدهورت شيئاً فشيئاً حتى بلغت النهاية في التبذّل والبذاءة، وكان هذا هو السبب الحقيقي وراء اتخاذ الكنيسة، عندما استولت على السلطة، قرار بتحريم أية صورة من صور النشاط المسرحي، بل عدّت الكنيسة الممثلين في فئة واحدة مع اللصوص والعاهرات، وغيرهم ممن ينبذهم المجتمع.
وسقطت روما ولكن الكنيسة بقيت قوة كبرى تسيطر على الحياة في أوروبا وظلّت ذات تأثير جوهري في هداية الناس وقيادتهم في الألف سنة التالية. وليس من شك أن نشاط الكنيسة خلال العصور الوسطى فيه الكثير مما يستحق التقدير. فلم يكن في هذه العصور من رحمة، ولم يخرج عنها علم أو فن أو جمال إلا ومصدره الكنيسة.
أما الكتابة المسرحية فقد ظلت منذ وفاة "سنكا" حتى بداية ما يعرف بالعصور الوسطى غير موجودة على الإطلاق، إلا أن هناك استثناء لهذه القاعدة إذ إن عروض الرقص الصامت وفرق الممثلين المتجولين لم تختف تماماً في أي وقت من الأوقات. كما أنه من المعروف أن هناك راهبة في القرن العاشر الميلادي من "ساكسونيا" تدعى "روزفيتا" كتبت عدة كوميديات ورعة، لكن هذا لا ينفي حقيقة أن العصور المظلمة كانت مظلمة حقاً بالنسبة لتاريخ الكتابة المسرحية. ومع هذا فإن الفضل في ميلاد الدراما الجديد لا يعود إلى فرق الممثلين المتجولين ولا إلى الراهبة "روزفيتا"، بل يرجع إلى الكنيسة نفسها بالرغم من إنها كانت صاحبة أكبر أثر في القضاء على المسرح.
خلال القرن العاشر الميلادي دخلت على طقوس قداس الفصح بالكنيسة مسرحية صغيرة من أربعة سطور تصور قيامة المسيح في أبسط صورة درامية ممكنة. ولما أحرزت هذه المسرحية نجاحاً، حليت طقوس القداس في عيد الميلاد وفي غيره من الأعياد المقدسة بشيء من التمثيل. ولما تجمعت هذه المسرحيات الصغيرة، أخرجت من الكنيسة ونظمت في مجموعات تعرف باسم "حلقات الأسرار". وكانت هذه المسرحيات مستمدة كلها من الكتاب المقدس، كما إنها ظلت محتفظة بوظيفتها الدينية أساسا. وبالرغم من كل القيود الدينية وغيرها، انطلقت من جديد قوى الإبداع لدى الكاتب المسرحي وبدأت تعمل عملها في هذه المسرحيات. فقصة كقصة "آدم" ازدادت انشغالاً بالكشف عن طبيعة البشر وهي تصور "إبليس يلعب بمكر على غرور حواء".
نشأت في إنجلترا مجموعات من مسرحيات الأسرار وكذلك ألمانيا، ثم تطورت تلك المسرحيات التي تعالج الموضوعات الإنجيلية لتظهر على السطح مرحلة جديدة أطلق عليها اسم "مسرحيات المعجزات" Miracle Plays التي تعرضت لحياة القديسين وتتيح هذه المسرحيات للكاتب المسرحي درجة أكبر من الحرية من تلك التي سمحت بها مسرحيات الأسرار.
وقد تطور خلال العصور الوسطى نوع ثالث من المسرحيات هو ما عرف باسم "المسرحيات الأخلاقية"، ومسرحية "أي إنسان" أبرز نموذج من نماذج هذا النوع. وتصور المسرحية أي إنسان وقد استدعاه الموت، فراح يستنجد لرحلته بالصداقة والعصب والقرابة والمال بل وبالقوة والجمال والمعرفة، ولكنهم بمجرد أن يقتربوا من القبر يتخلون عنه جميعاً. وأخيراً لا يجد "أي إنسان" من يرضى بمصاحبته غير الأعمال الصالحات.
وهناك نوع آخر من الدراما المسرحية ظهر وتطور خلال العصور الوسطى وهو ما عرف باسم "مسرحيات الفاصل الهزلي" ومن المحتمل أن تكون نشأة هذه الفواصل راجعة إلى المسرحيات الأخلاقية أو العروض التي كان يقدمها الممثلون المتجولون، وفي كل الأحوال فإن هذه الفواصل تمثل خطوة مهمة في تاريخ الكتابة المسرحية. فقد أصبح المسرح من خلالها دنيوياً من جديد، وعاد مرة أخرى إلى تأدية وظيفته الأولى وهي التسلية والترفيه. وأشهر هذه النماذج مسرحية من فرنسا اسمها "السيد بيير باثلاين" التي ما زال الجمهور الحديث يجد متعة في تتبعها. وقد تكون من أفضل المهازل في العصور الوسطى تلك التي جاءت من ألمانيا على يد (هانز زاكس Hans Sachs) 1494 - 1576 م الشاعر الذي كان يقطن مدينة نورمبرج القديمة.
عرفت إنجلترا هذا النوع من المسرحيات المسماة بالفواصل وكان من أشهرها ما كتبه (جون هيود John Heywood) 1497 - 1580 م وقد تطورت تلك البداية هناك حتى بلغت أوجها في عبقرية شكسبير بعد ذلك.
في إيطاليا كأنما كان "دانتي Dante" يشعر أن العالم في مطالع القرن الرابع عشر الميلادي يوشك أن يقبل على عصر جديد، فصبّ في "الكوميديا الإلهية" خلاصة الفكر في العصور الوسطى، وصوّر فيها مخاوف عقاب الآخرة تصويراً مهولاً يكشف عن مقدرة عظيمة في الخيال. وقد جاءت الكوميديا الإيطالية في عصر النهضة قريبة الشبه بالكوميديا الرومانية، إلا أنها كانت أشد تبذّلاً وإباحية.
جاء عصر النهضة وأسبانيا مسيطرة على الجانب الأعظم من إيطاليا و الكثير من أوروبا، ومع أنها كانت أبرز دول العالم آنذاك، إلا أن ما حققته في الفن جاء مخيباً للآمال، ذلك بسبب أن روح عصر النهضة في أسبانيا تكسرت بفعل موت الحرية والإبداع على يد محاكم التفتيش هناك.
وبينما كان الإنتاج المسرحي في إيطاليا وأسبانيا في عصر النهضة هزيلاً ومخيباً للآمال، كان في إنجلترا رائعاً يفوق كل توقع، ولا شك أنه كان عصراً مهماً في تاريخ المسرح العالمي.
أخرجت لندن فيما بين عام 1580، و 1642، عدداً من المسرحيات العظيمة يفوق ما أخرجته أي مدينة أخرى قبل هذا التاريخ وبعده، باستثناء أثينا خلال القرن الخامس قبل الميلاد.
منذ مطالع القرن الثامن عشر الميلادي حتى منتصفه، بدأ ذلك التحول من الأرستقراطية والكلاسيكية إلى البورجوازية والعاطفية، وظهر أثر هذا التحول بالتدريج على الحياة والأدب معاً خلال هذه المدة.
طوال القرن التاسع عشر الميلادي سيطرت الميلودراما وسادت على المسرح. والميلودراما لا تنشغل بالتجربة الإنسانية وتحليلها قدر انشغالها بتوفير التسلية والترفيه. وشخصيات الميلودراما شخصيات محددة، إما بيضاء تماماً وإما سوداء تماماً، أما الحبكة فيها فهي عادة مصطنعة مفتعلة تنتهي دائماً ودون تخلف بنهاية سعيدة. والميلودراما التي مثلت أغلب المسرح في القرن التاسع عشر الميلادي كانت تتجنب كل ما يثير الفكر أو كل ما يستدعي مناقشة أو خلافاً في الرأي. وقد أدت هذه الصفات مجتمعة إلى أن يعد النقاد الميلودراما أقل الصور الأدبية أهمية. ولكنها من ناحية أخرى نوع أدبي يلائم المسرح والجمهور الذي كتبت له.
4. الدراما الحديثة
قبل الثورة الفرنسية التي مكنت الطبقة البرجوازية من التحكم، نشأت الدراما البورجوازية، التي تعبر عن مشكلات هذه الطبقة، وألقت جانباً الشخصيات العظيمة كالملوك والأمراء والأبطال. وعلى الرغم من تحطم المفهوم التراجيدي الأرسطي وموته نهائياً على يد الدراما الحديثة، إلا أن الدراما الحديثة لم تستطع أن تتخلص من سيطرة أرسطو عند تعريفه للفن الدرامي بعامة على أنه "محاكاة".
لم تنضج محاولة اتخاذ الإنسان العادي مادة للأعمال الدرامية الكبيرة في العواصم المسرحية في ألمانيا أو إنجلترا أو فرنسا، وإنما في أرض النرويج التي لم تكن تعرف الدراما القوية حتى ذلك الوقت. وكان المؤلف هو (هنريك إبسن August Henrik Ibsin) 1828 - 1906 م الذي لا يزال الكثيرون يعدونه أولى الشخصيات وأعظمها في الدراما الحديثة. وبالتالي فإن التأريخ للدراما الحديثة يمكن أن يعبر عنه التأريخ للأديب إبسن نفسه الذي كان في طفولته مرهف الحس، قضى معظم عمره منطوياً على نفسه، فلم يكتسب سوى عدد قليل من الأصدقاء وأخذت تنمو في أعماقه بالتدريج روح التمرد على المجتمع، وهي روح تبدو واضحة في مسرحياته الأولى وتعمل قوى محركة في مسرحياته التالية في فترة النضج. كان سيئ الحظ كأغلب الانطوائيين ذوي النزعات الجادة، تكاد تغلب عليه حالة من الفشل المزمن. ثم جاء الاستثناء الساطع للقاعدة عام 1851 م عندما عرض عليه عازف الكمان "أول بول" منصباً في إدارة المسرح القومي النرويجي تقبله إبسن الذي كاد يشرف على حافة التضور جوعاً في لهفة شديدة. وقد أتاحت له السنوات الخمس التي قضاها مديراً للمسرح احتكاكاً كبيراً بأعمال مسرحية خالدة لكل من شكسبير وموليير وغيرهما من عظماء الدراميين. وقد كتب إبسن مسرحيتين مهمتين في الدراما الحديثة هما: "ملهاة الحب" و"المطالبة بالعرش".
في السويد ظهر الكاتب المسرحي الذي لا يقل شموخاً عن إبسن وهو " (أوجست سترندبرج August Strindberg) 1849 - 1912 م، وإذا كان نفوذ هذا الكاتب بسيطاً حتى الحرب العالمية الأولى فإنه لم يبق كذلك بعد الحرب، وقد نال تقدير النقاد والمؤلفين والشعراء.
ومع تطور الدراما تطورت أيضاً عناصر المسرح من ديكور وإضاءة ومؤثرات صوتية وضوئية، أدت إلى تطور الفن المسرحي، ثم دخل الكمبيوتر ليعطي إمكانات كبيرة للدراما المسرحية وللفنانين، وليتيح لهم مساحة أكبر في إبراز مواهبهم الفنية.
الإمكانات التكنولوجية في المسرح
يُعد المسرح نتاجاً لتكامل النص مع التعبير الصوتي والحركي للممثلين وتفاعلهم مع الديكور والإضاءة والأزياء، فتظهر من هنا إمكانية استخدام الكمبيوتر في جزء من الديكور والمؤثرات الصوتية والضوئية. وعلى سبيل المثال: يمكن استخدام شاشات للعرض متصلة بأجهزة كمبيوتر لتعطي مؤثرات مكملة للديكور، ويمكن استخدامها على هيئة مجموعة كبيرة يتحكم فيها أكثر من جهاز كمبيوتر بحيث تُكون مُؤثراً قد يكون على شكل أجزاء من صورة أو صور مختلفة وتتغير من شكل إلى آخر لتعطي المؤثر المطلوب. وباستخدام تكنولوجيا العرض هذه مع بعض برامج الكمبيوتر مثل (3 D Graphics) و (Virtual Reality) يمكن تكوين شعور بالعمق وبمناظر مختلفة تتناسب مع العرض المطلوب، وتتميز بإمكانات ديناميكية لا تتوافر في الديكور المبني بالأساليب التقليدية، وعلى سبيل المثال يمكن للديناميكية أن تسمح بتغيير عناصر العرض مع الاستفادة من عروض فيديو أخرى لتكون جزءاً مكملاً للخلفية.
إن المؤثرات الفعلية أو الحقيقية هي استثمار أقصى الطاقات غير النهائية لجهاز الكمبيوتر في ابتكار أدوات العمل الفني ورموزه واستنساخها صوتاً وصورة بحيث يتعدى تأثيره على المشاهدين (أحياناً) حاجز الواقع إلى عالم ما وراء الواقع الكاذب أحياناً، والمؤثرات الفعلية تقدم لمستخدم الكمبيوتر أدواتها التي تجعله يغوص في تجربة كاذبة بحيث تبدو كأنها واقع ملموس، وعندما يرى المشاهدون تلك المؤثرات الفعلية تعتقد نسبة ضئيلة منهم أنهم يشاهدون العمل من خلال نظارة شمسية وكأنهم داخل الكمبيوتر، وذلك حيث تكون المؤثرات الواقعية قد جرى تكوينها.
في سويسرا عرضت مسرحية باسم "خطوة إلى العالم الآخر" بمدينة أراو، ففي هذا العرض وُزعت نظارات خاصة على المتفرجين لتساعد في إبراز الحيل التي تنطلق أساساً من خشب المسرح وتجسيدها لتشاهد البطل مثلاً يحمل رأساً كبيراً للغاية وجسماً نحيلاً يكاد يشبه جسم طفل.
الليزر والهولوجرام (Hologram)
من المجالات التي شهدت توظيف أشعة الليزر بدرجة عالية من الكفاءة هو مجال التصوير الثلاثي الأبعاد أو الهولوجرام (اُنظر صورة الهولوجرام)، وذلك في تصميم الفراغ المسرحي.
يتم تسجيل الهولوجرام على فيلم أو على لوح من الزجاج الخاص يسمى "لوح الهولوجرام"، فإذا نظرنا إلى صورة فوتوغرافية اعتيادية التقطت لطفل واقف خلف سيارة، فستظهر فقط صورة السيارة دون الطفل حتى لو نظرنا إلى الصورة من جميع الجهات، لأن الصورة نفسها ذات بُعدين فقط، أما إذا أُخذت اللقطة نفسها للطفل والسيارة بواسطة الليزر وعلى لوح الهولوجرام فإن الأمر سيختلف وتبدو الصورة مجسمة ويمكن مشاهدة الطفل بسهولة بمجرد النظر إلى الصورة من زاوية معينة يساراً أو يميناً، وهذا يدل على أن الهولوجرام يشابه تماماً الصورة الحقيقية.
إن الليزر ذلك الوافد الجديد إلى عالم الضوء، هو في الواقع عُدة المستقبل لإنجاح العمل الفني، إذ إنه عن طريق الهولوجرام يمكن أن يعطي بأشعته تجسيماً واستدارة للمنظر المسرحي من خلال انعكاسات صورته المسطحة على مرايا، فتصل الصورة لعين المشاهد بأبعادها الثلاثة في الفراغ المسرحي. ولا ريب أن هذه الطريقة ستُثري العمل الدرامي والاستعراضي وتمدّه بطاقة جديدة وإمكانية هائلة على الإيهام في مستوى الصور المسرحية بشكل عام في أي لحظة من لحظات العرض، مما يُؤثر تأثيراً مباشراً وغير مباشراً في عملية الإبداع الفني. فكلما استفاد الفنان من عمليات إنتاج المنظر والصورة الهولوجرامية وأدرك تفصيلاتها ومراحلها وخصائصها العلمية والجمالية وطبيعة العلاقة الممكنة بينها وبين غيرها من مواد إنتاج صور مسرحية أخرى، زادت بالتبعية خبراته وقدراته على تصميم المناظر وتركيبها وتغييرها وتنويعها في سهولة ويسر.
إن إمكانات الهولوجرام الفنية تجعل رجال المسرح يستخدمونه في عمل خلفيات ذات تأثيرات إيجابية على من يراها، خاصة إذا اقتضت بعض المشاهد رؤية المجسمات بشكلها الطبيعي.
ومن أمثلة استخدام التكنولوجيا في المسرح الحديث نذكر:
مسرحية: مس سايجون Miss Saigon، التي عُرضت عام 1991.
استخدم غاز يضخ داخل مواسير أسفل خشبة المسرح لتساعد في تحريك أثقال كبيرة يصعب نقلها أو تحريكها إلا بهذه الوسيلة، وهي (فكرة الوسائد الهوائية) كما استخدمت أجهزة ضوئية تتحرك في أي اتجاه وأي زاوية من على بعد باستخدام الكمبيوتر الذي يتحكم في كل شيء حتى كمية الضوء المنبعث منها والمنطقة المراد إضاءتها ويتم تشغيل هذه الكشافات وتحريكها من خلال التحكم عن بعد يصدر أشعة تحت الحمراء إلى خلية ضوئية فتتم عملية التحريك المطلوبة. يضاف إلى ذلك دور الليزر والهولوجرام في تجسيد بعض الأشكال في فراغ خشبة المسرح في أثناء أحد المشاهد والذي بدا واضحاً من خلال إسقاط مجموعة من الدوائر المتداخلة التي أوحت بشكل منقسم في الوسط. هذا إلى جانب حركة هبوط الطائرة وصعودها على المسرح.
مسرحية تيتانيك Titanic، التي عُرضت في يناير عام 1997.
كانت المشكلة التي قابلت المصمم هي الكيفية والإمكانية لعرض مناظر متعددة بإيقاع سريع بين قطاعات مختلفة في السفينة. وطبيعة هذه المناظر تتطلب الإحساس بأنها ذات أبعاد رأسية بعضها لبعض. وهناك مشكلة أخرى هي كيفية غرق السفينة في المياه بشكل مقنع ومقبول، فاستطاع المصمم أن يجد مسرحاً ذا خشبة تتوافر فيها مواصفات الخشبة المتحركة بكل أجزاءها وليست مناطق محدودة فقط والتي أضاف لها المصمم أيضاً إمكانية أن تصعد من أحد الجوانب بشكل مائل بمساعدة أجهزة ميكانيكية كهربائية أسفل خشبة المسرح المقص الهيدروليكي.
وقد حقق فكر المصمم باستخدام بانوه بعرض فتحة المسرح مثبت على المستوى الأمامي ويصعد به من أسفل خشبة المسرح في زمن دقيق وبحسابات مبرمجة على الكمبيوتر لكلا العنصرين - المقص الهيدروليكي بارتفاعه والميل الذي ينتج من هذا الارتفاع مع صعود البانوه الأسود ليغطي جزءاً فجزء من السفينة إلى أن تتكامل اللحظة بسواد حالك غطى جميع أجزاء السفينة مع إضافة التأثيرات الضوئية والصوتية لتحقيق هذا الحدث الأساسي في المسرحية.
مسرحية كانديد Candide، عُرضت في أبريل عام 1997.
استخدمت التكنولوجيا في تحريك عربة يقف عليها خمسة عشر ممثلاً يجرها ممثلان. ومن خلال محرك أسفل العربة يعمل من على جهاز للتحكم عن بعد (Remote Control). والحركة سمة أساسية في هذا الديكور المكون من عربات مركّبة عليها عناصر تشكيلية كلها تتحرك بسهولة ويسر كما أنها تفك وتركب لتكون الشكل المطلوب وبأكثر من شكل واستخدام. واحتوت مناظر هذه المسرحية أيضاً على مركب مجسم، وكان ذلك من خلال دخول مستوى في المنتصف وإسقاط ضوئي ما، يمثل فنار مركب، وباستخدام الأجهزة الضوئية الحديثة أعطى إحساساً بأن المركب يبحر في مياه. كما تضمنت هذه المناظر استخدام خامتي "الاستيروبور" والبلاستيك في تكامل وتناغم في كل من الديكور والملابس.
…
[1] المتاحف الأثنوجرافية: هي المتاحف التي تُعنى بحفظ مخلفات الشعوب ليعرف الناس عن شؤون حياتهم ما يريدون.
المذاهب المسرحية
1. المذهب الكلاسيكي
لم يعرف اليونانيون القدماء والرومانيون القدماء الذين ورثوا عن اليونانيون ثقافتهم بما فيها من مسرح وشعر وأدب كلمة "كلاسيكي" إذ إن أول من أطلق هذه الكلمة كان كاتباً لاتينياً من أهل القرن الثاني الميلادي يدعى "أولوس جليوس"، فقد كتب هذا الرجل كتاباً صاغ فيه عبارتين إحداهما هي Scriptor Classicus أي كاتب أرستقراطي يكتب للخاصة فقط، والثانية هي عبارة Scriptor Proletarius أي كاتب يكتب للعامة وجماهير الشعب. ولم يكن أولوس يقصد بعبارته الأولى هذا الكاتب الذي لا تقرأ كتبه إلا في فصول المدرسة Classes، كما وهم الذين حرّفوا معني تلك الكلمة أو كما شوهها غيرهم بعد ذلك بقرون طويلة، فزعموا أنها تطلق على كل كاتب أو كل أثر علمي أو أدبي جدير بالدراسة الأكاديمية في الكليات والجامعات. كما غلب ذلك المعني طوال العصور الوسطي وفي عصر النهضة بين الشعوب اللاتينية، وهو المعني الخاطئ الذي تسرب منذ تلك العصور إلى اللغات الحديثة.
هذا وقد كان الإنسانيون Humanists يعدون روائع الأدبين اليوناني واللاتيني هي وحدها المؤلفات الجديرة بمثل تلك الدراسة، ومن ثم أصبحوا يطلقون على الروائع اليونانية والرومانية كلمة Classics أي الروائع الكلاسيكية.
على أن هذا الاسم أصبح يطلق الآن على كل الروائع الحديثة، حتى تلك التي لم يتقادم عليها الزمن، والتي لا تمت بصلة إلى المذهب الكلاسيكي.
يعدّ أرسطو "384 - 322 ق. م" بلا شك أول من قنّن المذهب الكلاسيكي في المسرحية، وضبط قواعده غير المكتوبة وذلك في كتابه "الشعر"، ذلك الكتاب المضطرب الذي لم يعدو في البداية أن يكون مذكرات مهوشة وضعها أحد تلاميذ أرسطو في أثناء أحاديثه، إلا أن أرسطو عاد ووضع هذا الكتاب في صورته النهائية سنة "330 ق. م". وكان أرسطو يكتب كتابه هذا وبين يديه مآسي الثلاثة الكبار: أسخيلوس وسوفوكليس ويوربيدس. كما كان بين يديه كذلك ملاهي أرستوفنس وغيره من عظماء عصره، وكان هؤلاء جميعاً قد ماتوا قبل أن يولد أرسطو، وكان عصر المأساة اليونانية قد انتهي، وعلي هذا فقد عاش أرسطو في فترة من فترات المسرح اليوناني كان جميع مؤلفي المآسي فيها ينسجون على نهج مآسي الثلاثة الكبار، ولعل هذا هو الذي جعل أرسطو يتخذ من مآسي هؤلاء الكبار قانونه.
ويعرف أرسطو المأساة بأنها:
"محاكاة الأفعال النبيلة الكاملة، وأن لها طولاً معلوماً، وتؤدى بلغة ذات ألوان من الزينة تختلف باختلاف أجزاء المأساة، وتتم هذه المحاكاة بواسطة أشخاص يمثلونها وليس بواسطة الحكاية، وهي تثير في نفوس المتفرجين الرعب والرأفة وبهذا تؤدي إلى التطهير "تطهير النفوس" من أدران انفعالاتها".
ويقصد أرسطو باللغة ذات الألوان من الزينة، اللغة المشتملة على الإيقاع والألحان والأناشيد. ويعد من أجزاء المأساة الكلاسيكية القصة "أو الخرافة" والأخلاق "أي الشخصيات" والفكرة والمنظر والأناشيد والحوار، وهذه عند أرسطو هي الوسائل التي تتم بها المحاكاة.
ويري أرسطو وجوب أن تكون المأساة متوسطة الطول حتى لا تمل، وأن تشتمل على بداية ووسط ونهاية، وأن تتم لها وحدة الفعل، أي وحدة الموضوع، فلا تختلط عقدتها الأساسية بعقد ثانوية، ولا تتألف من أكثر من موضوع واحد حتى لا يتشتت انتباه المتفرج وتنصرف الأضواء عن البطل إلى أشخاص آخرين فيضعف الموضوع الأصلي.
كما يرى أرسطو أن مدى الأحداث التي يتألف منها الموضوع يمكن أن يجري في الحياة الحقيقية في "دورة شمسية"، وهو يعني بتلك الدورة الشمسية نهاراً وليلة أو أكثر قليلاً. وهذه هي وحدة الزمان عند أرسطو، أما الأحداث التي وقعت في الماضي، سواء كان ماضياً بعيداً أو قريباً فتروى على ألسنة الشخصيات أو تحكيها المجموعات.
وكل مأساة عند أرسطو تشتمل على "تحوّل"، أي انتقال من السعادة إلى التعاسة والعكس، وعلى "تعرّف" أي انتقال من الجهل إلى المعرفة، مما ينتقل بالشخصية من المحبة إلى الكراهية أو العكس.
وقد ظل الناس يتدارسون ما ورد في كتاب "الشعر" لأرسطو عن المأساة الكلاسيكية أحقابا طويلة بوصفه من الأمهات في هذا الفن. وظلت أقوال أرسطو قواعد جامدة يحكم النقاد بمقتضاها حتى القرن الثامن عشر الميلادي بالرغم مما شهدته الدنيا من روائع شكسبير وكالدرون ولوب دي فيجا وغيرهم من الجبابرة الذين لم يبالوا بتلك الموازين القديمة، فراحوا يبتدعون وينظرون إلى التأليف المسرحي نظرة حرة من تلك القيود المربكة.
تعدّ فرنسا المهد الحقيقي للكلاسيكية الحديثة، ففيها ظهر الناقد المتحرر أوجييه المتوفى عام 1670 م، (وموليير Moliere 1622 - 1673 م)، (والمؤلف تشابلان 1595 - 1674 م)، (ولامينارديير 1610 - 1663 م)، وكذلك (بوالو 1636 - 1711 م)، الذي نظم رسالة هوراس، وغيرهم ممن أرسوا قواعد هذا المذهب.
على أن الحركة الكلاسيكية بدأت في فرنسا بترجمة روائع المسرحيات اليونانية نفسها، ثم تزعم "إيتن جوديل" حركة الإحياء الكلاسيكي، وقد انصرف عن الترجمة إلى التأليف، محتذياً الأنماط اليونانية واللاتينية، فظهرت مأساته كليوباترا عام 1552 م.
وقد حفزت هذه النهضة الكلاسيكية الفرنسية رجال المسرح الإنجليزي فأخذوا يترجمون الروائع اللاتينية بين عامي 1559 - 1566 م. إلا أن ريح المذهب الكلاسيكي لم تشتد في إنجلترا اشتدادها في فرنسا.
أما الحركة الكلاسيكية الحديثة في ألمانيا فقد بدأت في القرن الثامن عشر الميلادي وبالأحرى عام 1730 م.
2. المذهب الكلاسيكي الحديث
تعدّ الفترة الواقعة بين عامي 1660 - 1685 م من تاريخ الأدب الفرنسي، هي العصر الذهبي للمذهب الكلاسيكي الحديث في فرنسا التي تعدّ مهد الكلاسيكية في أوروبا كلها. وهي تلك الفترة من حكم الملك لويس الرابع عشر راعي الفنون والآداب، وموجه الحياة الفكرية في العالم في عصره، وقد سبقت هذه الفترة حقبة من الاستعداد والاضطراب الفكري مهدت للعصر الكلاسيكي.
أما ربع القرن المهم "1660 - 1685 م" في حياة الكلاسيكية الحديثة في عهد لويس الرابع عشر فيمثله "راسين Racine" و"موليير"، المسرحيّان، و"بوسويه" الشاعر، و"بوالو" مقنن الكلاسيكية الحديثة وأشبه رجالها بهوراس، و"لافونتين" شاعر قصص الحيوانات والطيور الخيالية البارعة الممتلئة بالحكمة والأمثال الواعية.
ويمتاز المذهب الكلاسيكي الحديث بمحاكاة قدامي اليونان في مسرحياتهم من حيث الشكل مع تيسيرات أهمها:
أ. إباحة وجود عقدة ثانوية أو أكثر بشرط ألا يضعف ذلك من العقدة الأساسية وألا تشوه وحدة الموضوع.
ب. قبول اتساع وحدة الزمان، فلا تقف عند دورة شمسية، كما قال أرسطو، بل قد تمتد إلى ثلاث دورات أي ثلاثة أيام.
ج. قبول أن يمتد نطاق وحدة المكان بحيث يشمل مدينة بأسرها أو قصراً بأكمله، حتى إذا تغير المكان "المنظر" لم يخرج عن حدود المدينة أو حدود القصر الذي تقع فيه الأحداث.
د. الإبقاء على عظمة الشخصيات، ولكن لا مانع من اتخاذ الوصيفات والأصدقاء في أدوار لا تعد تافهة.
هـ. الإبقاء على الأسلوب الأرستقراطي على أن يكون أسلوباً واضحاً سليماً وشاعراً.
و. الكلاسيكية الحديثة لا تعرف المجموعات ولا الأناشيد.
ز.…إحلال الحب وأهواء النفس محل القضاء والقدر عند اليونانيين لتكون محوراً تدور حوله أحداث الرواية، ومن هنا أصبحت الكلاسيكية الحديثة ذات نزعة عالمية.
وقد كانت الكلاسيكية الحديثة شديدة الشبه بالكلاسيكية اليونانية من حيث إنها كانت تتجه إلى تسلية الخاصة، ومن حيث إنها كانت تتناول المشكلات النفسية والأزمات الروحية، وقد اختصت الملهاة الكلاسيكية الحديثة، في معظم أحوالها، بإضحاك المجتمع على سخافاته وأمراضه الأخلاقية والسلوكية، حتى أطلقوا على موليير "المشرّع وواضع قوانين السلوك للمجتمع".
وإذا صح أن الكلاسيكية الحديثة كانت تتجه إلى تسلية الخاصة، فقد نجحت في رفع طبقات الشعب إلى منزلة هذه الخاصة، بما كانت تقدمه إلى تلك الطبقات الشعبية في أزمات الروح والمشكلات النفسية في عالم المأساة، وما كانت تشرح به نفوس الناس وسلوكهم وأخلاق النماذج البشرية في عالم الملهاة. وأعظم من يمثل المأساة الكلاسيكية الفرنسية "بيير كورني" ونجمها اللامع "راسين".
3. المذهب الرومانسي
كما دالت دولة المسرح في اليونان القديمة والإمبراطورية الرومانية القديمة، ولم يكن اليونانيون أو الرومانيون يعرفون كلمة "كلاسيكي" أو المذهب "الكلاسيكي"، كذلك عاش شكسبير ومعاصروه من الشعراء المسرحيين الرومانسيين وهم لا يعرفون تلك الكلمة "رومانس" Romance أو المذهب الرومانسي، وإن كان مسرحهم قد عاش حياة رومانسية خالصة، تماماً كما كان المسرح اليوناني القديم والمسرح الروماني القديم في حالة حياة كلاسيكية خالصة. ذلك أن كلمة "رومانس" لم تظهر في إنجلترا إلا حوالي عام 1654 م، وكان معنى "رومانس" حينئذ "القطعة الأدبية" أو "الأثر الأدبي" الذي يشبه الرومانس أو Romanz كما كان هجاء الكلمة في اللغة الفرنسية القديمة.
والرومانس كما كانوا يعرفونها في العصور الوسطي هي القصة الطويلة التي تصور المجتمع الارستقراطي، كما تصور المثل الفروسية العليا تصويراً يقوم على المغامرات والبطولة والغرام العذري الذي يشبه العبادة.
وقد وضع "هنريك هيني Heinrich Heine" الألماني "1797 - 1856 م" تحديداً قصيراً يسيراً لتوضيح الفرق بين المذهبين الكلاسيكي والرومانسي، وهو فرق كبير لا شك فيه.
قال هيني:
"إن الكلاسيكية هي مذهب القيود، المذهب الذي يحدد الأهداف ويقف عندها، فتري الأديب أو الفنان الكلاسيكي يلتزم القوانين الصارمة التي تدور في قيودها فكرته، فهي دائماً تبدو في إطار محدود مادي، أما الرومانسية فهي مذهب الانطلاق، مذهب العاطفة والحرية، المذهب الذي يطير بأجنحة قوية في عالم الروحانيات غير المحدود، وهو لهذا يوجب على الأديب أو الفنان أن يجعل الرمز أهم أدواته".
والمذهب الرومانسي هو مذهب العاطفة التي تحرك الأحياء جميعاً، وتتلاعب بهم وتوجههم وتستبد بهم أشد مما يستبد بهم القضاء والقدر كما في المسرحية الكلاسيكية. كما أن المذهب الرومانسي لا يتقيد بالوحدات الثلاث: وحدة الفعل، وحدة الزمان، وحدة المكان. فشكسبير يجمع إلى العقدة الأساسية في كل مسرحية من مسرحياته أكثر من عقدة ثانوية، وهو لا يقتصر على قصة أو حكاية واحدة تتسلط عليها جميع الأضواء.
والشعراء المسرحيون الرومانسيون يشبون العواطف في نفوس شخصياتهم ونفوس المتفرجين شباً عنيفاً، ويشيعون في المسرحية وفي المسرح جواً من الترقب والاستغراق، وهو الجو الذي تسبح فيه العواطف في الجنة والجحيم على السواء. والمذهب الرومانسي لا يعنى إلا بذات الفرد ودخيلة نفسه، ومن هنا كان جمال الأدب الرومانسي كله، الجمال الذاتي، جمال الروح الإنساني في فطرته التي فطره الله عليها.
والمنطق في المسرحية الرومانسية منطق فردي ضعيف، منطق هوائي، منطق تربى في ريح العاطفة المتقلبة التي لا استقرار لها.
ويعدّ مارلو "1564 - 1593 م" معاصر شكسبير، الذي ولد معه في عام واحد، أول ثائر على قواعد المذهب الكلاسيكي، وتلميذ مكيافيللي صاحب المبدأ السياسي "أن الغاية تبرر الوسيلة ووجوب أن يتذرع الحاكم بكل ما يجعله قوياً غلاباً وصاحب كل سلطة في بلاده". ولم يكن مارلو وحده الذي ضرب بقواعد المذهب الكلاسيكي عرض الحائط، بل شاركه في هذا معظم خريجي الجامعات البريطانية من اللامعين، وكان منهم من استعمل النثر لأول مرة في المسرحية، ثم بدأ عصر المآسي في تاريخ المسرح الإنجليزي، وهو العصر الذي تبلور فيه شكسبير، بطل الرومانسية العميقة. وقد بهر شكسبير العالم كله بطريقته العجيبة في تصوير دخائل النفس الإنسانية، وما تجيش به من عواطف وأهواء. ويعدّ وليم شكسبير ظاهرة فنية فذة في تاريخ المسرح، وقد كان ينظم مسرحياته في إنجلترا في أواخر القرن السادس عشر وأوائل القرن السابع عشر الميلادي، وكأنه كان ينظمها للعالم جميعاً وللزمان كله، إلا أن الإنجليز جهلوه أكثر من قرن ونصف القرن حتى عرّفه إليهم الناقد الألماني " شليجل Schlegel 1767 - 1845 م، فأفاقوا إلى أنهم يملكون أديباً أثمن من إمبراطوريتهم.
4. المذهب الطبيعي
ضعف المذهب الرومانسي في فرنسا، وفي كثير من دول أوروبا وأمريكا، واشتاق الناس أن يحدثهم الأدباء عن حياتهم الواقعية، وبالفعل أخذ القصاصون أمثال: ستندال Stendhal "1783 - 1842 م" وبلزاك "1799 - 1850 م"، ودي فو "1660 - 1731 م"، وهنري فيلدنج Henry Fielding "1707 - 1757 م"، في إنجلترا، يكتبون القصص الواقعية الشائقة التي ينتزعونها من الحياة الواقعية.
والمذهب الطبيعي هو الشيء المنسوب للطبيعة، الطبيعة كما خلقها الله، الطبيعة التي لم تتأثر بالعوامل الخارجية الطارئة والتي يصنعها المجتمع في الغالب بما يتواضع عليه من تقاليد وآداب، وما يسنه من شرائع وقوانين، وما يقيمه من معاهد للعلم أو منشآت للفنون، وما يبتدعه من أصول الذوق العام، والأدب الطبيعي هو الذي يحدثنا عن هذه الحياة الطبيعية الفجة التي لم تتأثر بهذه العوامل المكتسبة.
ولا شك أن الأخوين دي جونكور: إدمون "1822 - 1896 م"، وجول "1830 - 1870 م"، هما مبتكرا المذهب الطبيعي في الأدب الفرنسي، وقد كان نشاط هذين الأخوين لا يقف عند حد، وكانت لهما ميزات أدبية وفنية متنوعة، ويحسب لهما أنهما أدخلا مبادئ الفن الياباني في فرنسا. وقد كتب الأخوين دي جونكور في كل شيء، في الأدب الصرف وفي الرسائل والمقالات والقصص، وبالطبع في المسرحيات، وكانت شخصياتهما المسرحية دراسات صرفة من الحياة العامة كانا يأخذانها عمن يتصل بهم من الناس أخذا طبيعياً، لا يزيدان فيه ولا ينقصان. وقد كان غرض الكتاب الطبيعيين أن يوفروا للأجيال التالية أكبر قدر من المستندات الحية التي يعرفون بها أهل الجيل الحاضر معرفة كأنهم يرونهم بها رأي العين.
ويعتبر "إميل زولا Emile Zola" الذي ولد في باريس عام 1840 م"، من أعلام المذهب الطبيعي، كذلك المسرحي جي دي موباسان "1850 - 1893 م".
والمذهب الطبيعي أدى بجميع أربابه إلى الدمار الخلقي والصحي، ولعل ذلك ناشئ من التزام الصدق في تسجيل مجريات الحياة، بل المبالغة في التزام ذلك، دون أن يعمل الأدباء حساباً للعواطف المكبوتة.
ويلخص النقاد معالم المذهب الطبيعي في التالي:
"وهذا المذهب الذي تتغلب فيه الحقيقة على كل من العقل والتفكير، والكاتب الطبيعي يقتصر على تصوير الحقيقة المجردة، وكشف بواطنها كشفاً لا يحفل بالخجل أو الحياء أو التقاليد، وهو لا يسمح لتفكيره مطلقا بالتدخل في شأن هذا التصوير".
وللكاتب الطبيعي طريقته في كتابة مسرحياته، فهو يقلل ما أمكن من عناصر موضوعه، ويجعل عقدته، إن كانت له عقدة، بسيطة غاية البساطة، كما يقلل من الحركة، وهو يقتصد في حيل المذهب الرومانسي وزخارفه، كهذه الأحاديث الجانبية التي يتمتم بها بعض الممثلين فيما بينهم حتى يسمع الجمهور حوار غيرهم من الممثلين، وهو يقتصد كذلك في القطع الطويلة التي يلقيها ممثل واحد، والخطب المملة أو المؤثرة أو المفتعلة، وهو يستعمل بدلاً من ذلك كله الحوار الطبيعي الذي يتبادله المتحدثون.
أما من حيث الموضوع، فيفضل الكاتب الطبيعي أن يختار موضوع مسرحيته من أحداث العصر الذي يعيش فيه والبيئة التي يحيا فيها، بل من أكثر الموضوعات جدة وأقربها إلى أمزجة جمهوره من النظارة. ثم إن الكاتب الطبيعي يختار هذه الموضوعات من حياة الرعاع، بل أسفل طبقة من طبقاتها، وهو يتعمد ذلك إما لطرافة ما يعرضه على المسرح من وسائل عيشهم، وإما مجاراة لريح الديمقراطية الزائفة التي تستهوي هذه الطبقات بالعطف المصطنع عليها وتكلف الرحمة بها.
على أن الطبيعيين يعنون أشد العناية بأن يكون أبطال مسرحياتهم أبطالاً ضعافاً سلبيين، يسهل قيادهم والتأثير عليهم، كما يعنون بعالم الجريمة والأمراض، بوصفها نتيجة للظروف الاجتماعية والمرضية وظروف البيئة والوراثة، تلك الظروف التي هي في نظر الطبيعيين بمثابة تقابل القضاء والقدر عند الكلاسيكيين القدماء. ومن ثم كان معظم الكتاب الطبيعيين أقرب إلى التشاؤم والنظرة السوداء إلى الحياة ومستقبل الإنسانية منهم إلى التفاؤل والابتسام للمستقبل.
5. المذهب الواقعي
الشيء الواقعي هو الذي تحول إليه الشيء الطبيعي بعد أن تأثر بعوامل خارجية طارئة، والعوامل التي صنعها المجتمع بما تواضع عليه من تقاليد وآداب.
لم يكن من المنتظر أن تنحسر تلك الموجة الرومانسية الهائلة التي اجتاحت الأدب الفرنسي على يدي فكتور هوجو، وبتلك السرعة لتحل محلها موجة عاتية من المذهب الواقعي، على أيدي ستندال، وبلزاك، وفلوبير وغيرهم.
ويعدّ الكاتب "هنري بايل" الذي عرف في عالم الكتابة باسم "ستندال" أول زعماء المذهب الواقعي في فرنسا، وهو الذي حفلت حياته بضروب من الشجاعة والمجد، حيث شهد الكثير من معارك نابليون، كما حضر نكبة الجيش الفرنسي في موسكو. وكانت قصة ستندال الخالدة "الأحمر والأسود" أول محاولة جدية في إحلال المذهب الواقعي محل المذهب الرومانسي في فرنسا، وقد وصف فيها الحياة المعاصرة وصفاً واقعياً بعيداً عن أية مسحة رومانسية، بل سلك طريقاً مضاداً للرومانسيين فبشّر في قصته هذه بمذهب القوة.
ثم ظهر إلى جانب ستندال، من كتاب القصة الواقعية الفرنسية، "بلزاك" الذي وصفه الناقد سانت بيف فقال: "إنه أعظم رجل أنجبته فرنسا". وقد تأثر بلزاك في أول نشأته بالمذهب الرومانسي، لكنه أفاق ولم يترك صنفاً من الناس إلا وصفه، ولا جماعة من الجماعات إلا أعطى منها صورة لا تبرح مخيلة قارئها، لا يبالي إذا كان يصف ملكاً أو ملكة أو قائداً أو أديباً أو شاعراً أن يقفز فيصف طباخاً أو جندياً أو جزاراً أو فلاحاً عادياً، ويصفهم بالصدق نفسه الجريء الذي لا يبالي وبالحرارة نفسها، ثم هو يثب من الوصف العام إلى الوصف الخاص الدقيق الذي يتغلغل في أعماق المشاعر ودنيا الأسرار، ملوناً صوره الواقعية هذه بلمحات حلوة جذابة من المذهب الرومانسي، لكنه لا يسمح لهذه اللمحات بالطغيان على الأصل، وهذا كله موشى بالنظرات الفلسفية، والدراسات والتحليلات الرقيقة، مما جعله زعيم المذهب الواقعي ومرسي دعائمه.
أما "جوستاف فلوبير " فحسبه أنه منشئ أروع قصة في الأدب الواقعي كله وهي قصة "مدام بوفاري"، والقصة صورة بارعة للحياة الريفية الفرنسية في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، وصف فيها فلوبير الطبقة البرجوازية التي نشأ هو منها. ويعد "إبسن" إمام المدرسة الواقعية في المسرح الحديث، لأنه كان أقوي كتاب هذه المدرسة في أوروبا كلها.
والكاتب الواقعي في المسرح لا ينقل الحياة الواقعية نقلاً حرفياً أو نقلاً فوتوغرافياً كما يفعل الكاتب الطبيعي، بل هو يلخصها ويعطي جوهرها، والمسرحية الواقعية لا يشترط أن تكون مسرحية تعليمية، أي موضوعة لغرض تعليمي أو للتبشير بفكرة معينة، وإن كان من المستحسن أن تكون كذلك، حتى لا تكون مجرد ترف ذهني أو متعة للتسلية في الفراغ، كما هو الشأن في أكثر المسرحيات الرمزية والسريالية.
لكن المكروه، بل غير الجدير بالمسرحية الواقعية أن تكون بوقاً من أبواق الدعاية لنظام معين، لأنها بذلك تجافي الفن وتدجل على الذهن وتمسخ حرية الفكر، وأجمل المسرحيات الواقعية ما كانت صادرة عن فكرة إنسانية تعود بالخير على عقول الناس وقلوبهم وأذواقهم وتزيدهم إنسانية، وترهف فيهم مشاعرهم الفنية، وتضاعف فيهم الإحساس بالجمال والحق والخير. وكلما كانت المسرحية الواقعية تطبيقاً أو عرضاً لمشكلة من مشكلات الحياة العملية، أو نقداً لوضع من الأوضاع العامة العالمية كانت مسرحية ناجحة. وفي هذا كان إبسن يتفوق على مقلديه من الواقعيين المحدثين الذين يتناولون في رواياتهم الأفكار التجريدية التي تغرق في فلسفتها المشكلة الحية.
6. المذهب الرمزي
الأدب الرمزي هو ذلك الأدب الذي يقرؤه القارئ العادي فلا يفهم منه إلا ظاهره، أما القارئ المتأمل فيفهم منه ذلك الظاهر، ولكنه لا يقف عنده، بل هو لا يكاد يمضي في القطعة الأدبية الرمزية حتى يبهره ما تحت سطحها. وتتفاوت الصور في الأدب الرمزي في مقدار ما فيها من الجمال والمعاني والأهداف، والأعجب من هذا أن قارئاً متأملاً، قد تتخايل له صور ذهنية جديدة غير التي تمر بذهن قارئ متأمل آخر. وهذا بالضبط ما حدث عندما نظم إبسن قصيدته المسرحية الرمزية "بيرجنت"، إنه لم يقصد مطلقاً أن تكون هذه المسرحية رواية تمثيلية تظهر على خشب المسرح، بل هو قد ألفها للقراءة ولتنبيه شباب بلاده الكسول المتراخي إلى عيوبه الخلقية والسلوكية، وإلى أنه يسلم روحه لأحلام الكسالى المتراخين في زمن استيقظت فيه الأمم على صوت الثورة الصناعية الاشتراكية المدوي، وما أحدثته الأفكار الفلسفية العقلية الجديدة من وعي عام في كثير من أركان العالم، لكن إبسن سمع أن رجال المسرح الألماني يخرجون مسرحيته الرمزية "بيرجنت"، فلم يملك إلا أن سافر لألمانيا ليشهد ماذا يصنع هؤلاء الألمان في تلك القطعة التي يكاد إخراجها في المسرح يكون مستحيلاً، فلما شهدها هناك راعه الإخراج، والتمثيل، لكن ما راعه أكثر وملك عليه تفكيره هو أن هؤلاء الألمان قد فسروا المسرحية تفسيراً رمزياً، وخرجوا لها من المعاني ما لم يخطر للمؤلف نفسه على بال. وهذا هو الأدب الرمزي.
والأدب العربي من أغنى الآداب العالمية بالرمزية، والكتب الدينية تزخر بأدب رمزي لا نظير له، وكذلك الكتب العربية الأدبية مثل ألف ليلة ورسالة الغفران للمعري.
والحركة الرمزية في الأدب الأوروبي الحديث حركة نشأت في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، ونشأت في فرنسا أول ما نشأت، وكان أبطالها رجالاً بعيدين عن المسرح وعلي رأسهم "مالارميه" و"ريمبود" و"فرلان" و"بودلير". والذي حفزهم إلى حركتهم الرمزية هو الرد على رجال المذهبين الواقعي والطبيعي. فقد أنكروا على هؤلاء اغترارهم بظواهر الطبيعة والواقع، وأن الحقيقة لا تبدو في صورتها الصادقة الأصيلة إلا في أعماق الأشياء وليس تحت سطحها، وكانت طريقتهم في الكشف عن هذه الأعماق بالرمز والإيحاء والتلميح، وليس بالجهر والفضح والتصريح، لأن الرمز والإيحاء والتلميح في نظرهم عوامل خلاقة، تولد المعاني في ذهن القارئ والمتفرج، بينما الجهر والتصريح والفضح من عوامل الهدم وتخريب الصور الفنية وتعويد ذهن القارئ والمتفرج البلادة والاتكال على غيره في معرفة الأشياء، والوقوف به عند ظاهرها وقوفاً خاطفاً. ولهذا السبب حفلت آداب الرمزيين وقصائدهم بالألغاز والمعميات.
وكثيرون من الرمزيين قوم لا يرون للحياة رسالة، ولا للعيش هدفا، ولا للدنيا قيمة، ومعظمهم يرفضون الأدب الموضوعي، سواء كان أدباً اجتماعياً أو أخلاقياً، وهم إنما يرمزون لمجرد الترف الذهني واللذة الفكرية المجردة، ولذلك كان المبدأ الذي يتشبثون به هو مبدأ "الفن من أجل الفن" و"الصور الجمالية من أجل الصور الجمالية".
7. المذهب التعبيري
منذ أن فاجأ فرويد العالم بنظرياته المهمة قي علم النفس الحديث، ومنذ أن أخذ يستكشف مجاهل العقل الباطن ومدي تحكمه في تصرفات الإنسان بما يختزنه من التجارب والانطباعات التي ترجع إلى عشرات الآلاف من السنين، بالإضافة إلى ما يختزنه من تجارب الماضي القريب وانطباعاته، شرع الكتاب المسرحيون يطبقون نظرياته التي آمنوا بها لما كشفت من أسرار النفس الإنسانية، وما أظهرت من خفاياها.
ويختلف مؤرخو الأدب المسرحي فيمن كان أول المؤلفين الذين أخذوا يطبقون المذهب التعبيري في المسرح، وهم مع اختلافهم هذا متفقون بشكل أكيد على أن المذهب التعبيري ظهر في ألمانيا في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، حوالي عام 1891 م، وذلك حين كتب "فرانك ودكند" Frank Wedekind مسرحيته "اليقظة المبكرة"، التي لم تمثل إلا في عام 1906 م، والتي استعمل فيها بدعة الأقنعة القديمة وغيرها من الرموز التعبيرية، والتي كتبها بهذا الأسلوب الخطابي الممتلئ بالمنولوجات الطويلة.
ثم جاء بعد ذلك الكاتب السويدي "سترندبرج، مؤلف مسرحية "الأب" من المذهب الطبيعي، فكتب عدداً من المسرحيات التعبيرية من أروعها مسرحية "لحن الأشباح".
ثم قامت حركة تعبيرية أخرى في ألمانيا بين عامي 1915 - 1925 م، ترمي إلى مقاومة المذهبين التأثيري والطبيعي، وكان روح هذه الحركة التعبيرية الثانية هو لباب المذهب التعبيري نفسه، أي تصوير دخيلة النفس الإنسانية، وعدم الانخداع بالمظاهر السطحية التي قد تدل على شيءً مطلقاً مما فطرت عليه نفس الشخص وما اندس فيها من غرائز و أسرار، وهو نقيض ما يذهب إليه المذهبان التأثيري والطبيعي وكان هدف التعبيريين الدعوة إلى مُثل جديدة تنقذ المجتمع الألماني مما أفسده به التأثيريون والطبيعيون من ذلك التحلل الأخلاقي الذي أدى إليه تصويرهم مظاهر حياة الناس كما هي، دون تعمق ما وراء هذه الحياة الظاهرية من أسرار ودخائل، وما أدت إليه أصول المذهب الطبيعي خاصة من التماس هذه الصور في أحط البيئات الإنسانية.
ومن كتاب الحركة التعبيرية في المسرح "إرنست تولر Ernst Toller"، و"بخر Becher"، و"قيصر Kaiser"، ثم الكاتب الأمريكي جون هوارد لوسون.
ثم قامت فئة أخرى من رجال المذهب التعبيري شغفت شغفاً شديداً بالتغلغل في خفايا النفس البشرية، وجعلت هدفها تقديم مجتمع جديد وهيئة إنسانية أكثر سعادة. ومن رجال هذه المدرسة الكاتبان ورفل وكافكا، ثم برز من رجالها أعظم كتاب أمريكا المسرحيين "أوجين أونيل"، ذلك الكاتب الذي لم يدع مذهباً من مذاهب الكتابة المسرحية إلا نبغ فيه، حتى أحدث في دنيا المسرح ضجيجاً لا يقل عما أحدثه هاويتمان وبرنارد شو من رجال المسرح الحديث.
أما أهم سمات المسرح التعبيري فاشتمال المسرحية التعبيرية على شخصية رئيسة واحدة تعاني أزمة روحية أو ذهنية أو نفسية، على أن ترى البيئة والناس في المسرحية من خلال نظرة تلك الشخصية الرئيسة إليهما، على أن تكون نظرة متفرسة يترجمها مؤلف المسرحية ويعبر عنها بوسائله المسرحية الرمزية.
وتتألف المسرحية التعبيرية، عادة، من عدد كبير متتابع من المشاهد والمناظر التي تصور منازل الطريق، وهي المنازل التي يحط فيها البطل رحاله من حين إلى آخر أثناء تجولاته في دنياه الداخلية الخاصة، وهو يعاني أزمته النفسية حتى تنتهي تلك المنازل بمصيره المحتوم الذي لا مفر منه. ففي المسرحية التعبيرية لا يري المشاهد إلا هذه الشخصية الرئيسة، أما ما عداها من الشخصيات فتبدو أشبه بشخوص الأحلام، غير محددة المعالم، شخوصا تسبح في عالم من الظلال، وفي دنيا مهوشة مشوهة لا تكاد العين تستبين فيها شيئا كاملاً، أو منظراً تاماً. إنها شخصيات مساعدة لا أكثر، كلها في خدمة البطل لتتركز كل الأضواء عليه.
وفي المسرحية التعبيرية لا بأس من أن يكون المشهد الأول من مشاهد الحياة الواقعية، وذلك لتيسير الدخول في الموضوع وعرض العقدة النفسية التي سينطلق منها البطل ليندفع في المناظر الكثيرة التالية إلى مصيره ولما كان الهدف من المسرحية التعبيرية هو تصوير دخيلة النفس وتجسيم تجارب العقل الباطن، فليس مهماً تصوير المظاهر الخارجية المحتملة الوقوع.
وشخصيات الروايات التعبيرية نماذج لا أفراد عاديين. ومن ثم يسمون بأسماء رمزية، أو ندعوهم الرجل أو المرأة، أو السيد صفر أو الشاعر أو الشرطي، الخ.
كما أن لغة المسرحية التعبيرية لغة مقتضبة، يكثر فيها حذف أواخر الجمل، كما إنها لغة سريعة تلغرافية لاشيء فيها من الزخارف البلاغية. بل يحسن أن تكون لغة دارجة في معظم الأحيان حتى تبتعد عن اللغة الرسمية التي لا يستعملها الناس في تفكيرهم الخاص.
أما التمثيل التعبيري فيكون سريعاً شديد التحدر، خيالياً، متنوع المناظر، مصحوباً بالموسيقي والأصوات الرمزية، حافلاً بالحيل المسرحية كالأقنعة والملابس الغريبة والإضاءة التي تثير الخيال، غنياً بالديكورات. والإضاءة في إخراج المسرحية التعبيرية عامل أساسي من عوامل نجاحها، وعادة ما يكثر المخرج من الأركان الشاحبة والمعتمة.
والمسرحيات التعبيرية لا تحلل أو تعلل أو تعلق، وإنما فيها بعض الشبه من المسرحية الطبيعية، وإن خالفت من حيث تصوير أعماق النفس الإنسانية، في حين أن الطبيعيين لا يصورون إلا السطح والحياة المادية فقط. وهي إن لم تكن حسنة الإخراج بدت رتيبة مملة، بل سخيفة مربكة، لكنها مع ذلك أحسن وسيلة لتصوير دخائل النفس الإنسانية تصويراً مسرحياً يعين على فهم الخلجات العميقة مجسمة فوق المسرح.
وقد كتب "أوجين أونيل Eugene Oneil" مسرحيته التعبيرية "الإمبراطور جونز" عام 1920 م في ثمانية مناظر، وهي تعد من علامات التعبيرية المسرحية.
8. المذهب السريالي
المذهب السريالي هو المذهب الذي يحلق وراء الحدود المألوفة لما اتفق على تسميته الواقع، وهو يحاول أن يمد الفنون والآداب بما لم تألفه من المواد الغريبة عليها، أو المواد التي لم يسبق للكتاب والفنانين أن يستعملوها، إما رهبة منها أو جهلاً بها أو لعدم قدرتهم على تكييف طريقة تناولها، ومن ذلك المزج في المسرحية الواحدة أو القصة الواحدة أو الصورة أو التمثال الواحد بين تجارب العقل الواعي والعقل الباطن، ومن ضرورات هذا المزج ألا يخضع الكاتب أو الشاعر أو الفنان لأصول المنطق والتفكير المقعد السليم، وذلك لأن من أهم قواعد السريالية أن تتغلب سمات العقل الباطن وصبغته على سمات العقل الواعي وصبغته في عملية المزج بين تجارب كل منهما في رواية الكاتب أو قصيدة الشاعر أو صورة الرسام أو تمثال المثال. ومن آثار غلبة العقل الباطن هذه على العقل الواعي هذا التحلل من أصول المنطق والتفكير المقعد السليم.
والرومانسية توشك أن تقترب من السريالية، وذلك لأن من أهم أصول الرومانسية تغليب العاطفة والخيال على الأمور العقلية.
ومهما يكن من اختلاف الآراء في السريالية، فالكاتب أو الفنان الذي يأخذ بهذا المذهب يفضل ألا يرتبط بالأوضاع المعروفة في المذاهب الأخرى، وهو لذلك يأبى التقيد في المسرحية بالقالب الواحد يصب مسرحيته فيه كما يفعل الكاتب الكلاسيكي أو الكاتب الطبيعي أو الكاتب الواقعي، بل هو يؤثر التنقل في المسرحية الواحدة بين الأجواء المختلفة، تلك الأجواء الفالتة المتحللة من العرف والتقاليد، وهذا التحلل من العرف والتقاليد هو من سمات الرومانسية.
ويعتبر "هجل" و"سيجموند فرويد Sigmond Freud" و"كارل ماركس Karl Marx" مسؤولون عن السريالية بالرغم من إنهم لم يبتكروها، فقد نادي "هجل" بضرورة هدم الماضي كله لبناء مستقبل سعيد على أنقاضه، في حين أذهل "فرويد" ألباب العالم من أبحاثه السيكولوجية المهمة التي أثبتت مدي تسلط عقلنا الباطن وهيمنته القاهرة علينا، وتحكمه في تكييف أخلاقنا، وبالتالي في عقلنا الواعي. أما "ماركس" فقد دوى صوته مطالباً بهدم الرأسمالية وقيام نظام ينصف العامل ويشد أزره وينقذه من أنياب الرأسماليين.
وبذلك كان هؤلاء الثلاثة مسؤولين عن ابتكار السريالية التي لم يعرفوا شيئاً عنها، حيث ارتجل الروسي "ترستان زارا" وابتكر اسم السريالية وكان ذلك في العام 1916 م، وذلك حين أطلقه على تلك الحركة الهدامة التي اختلجت في نفوس الداعين إلى القضاء على جميع موازين الآداب ومقاييس الذوق، والذين وجدوا في دعاوى ماركس العريضة رسالة جديدة تبشر بمجتمع جديد، له فنه الجديد وأدبه الجديد.
وقد أطلق على حركة السريالية في أوائل القرن العشرين الميلادي التي بدأها "ترستان زارا" كلمة "دادا"، أي بابا، وهي الكلمة التي أطلقها أتباع هذا المذهب على ثورتهم العاصفة بجميع القيم الأخلاقية، والسخرية ما وسعتهم السخرية بما توارثه الناس من آداب وتقاليد وشرائع ومثل.
أما الفن الجديد الذي كانوا ينشدونه، فقد وجدوه في تلك الكتابة اللاشعورية أو الكتابة التلقائية، التي كان "اندريه بريتون" هو أول من ارتفع بها إلى السريالية الصحيحة، وبالأحرى كان أول من انتشلها من بؤرة الفوضى التي قضت فيها فترة الحضانة في موسكو.
وقد مرت السريالية بمراحل ثلاثة بعد ذلك:
المرحلة الأولى 1920 - 1924 م، وهي تلك الفترة التي كان يتلمس فيها السرياليون الطريق إلى الفنون والآداب والسياسة باستحداث الوسائل التي يستطيعون بها تسخير العقل الباطن للإنتاج في هذا الميدان الرحب الفسيح.
المرحلة الثانية 1925 - 1930 م، وهي تلك المرحلة التي تحقق فيها كيان السريالية بقيام الشيوعية الدولية، وكان ذلك مصحوباً بالإنتاج الفعلي في عالمي الأدب والفنون وفقاً للأصول اللاشعورية التلقائية الخالصة.
المرحلة الثالثة بعد عام 1930 م، وهي المرحلة التي أخذ فيها معتنقو السريالية يتحللون بالتدريج من التبعية السياسية لموسكو، وهو تحلل يكاد يكون ردة للأصول التي سار عليها منشئو السريالية الذين كانوا ينكرون الوطنية، ويستهزؤون بالشرائع، ويسخرون من التقاليد، ويزرون بالأديان، ويكفرون بالأسرة. وكان من آثار هذه الردة أن أصبح كتاب السريالية يتهاونون، إلى حد ما، في الكتابة اللاشعورية أو التلقائية التي يكتبها الكاتب وهو شبه ذاهل عن نفسه، وعادوا يجيزون الكتابة الشعورية إلى حد ما، وهنا نشأت طريقة جديدة أو وجه جديد من أوجه السريالية هي طريقة الاضطراب الذهني، البارانويا، التي ينتاب الكاتب السريالي فيها حال أشبه بالشرود الفكري يصدر فيها عن مزاج سوداوي، يجعل أفكاره مفككة يكاد الربط بينها يكون معدوما، وهذه هي السريالية الحديثة التي نشأت في باريس واستقرت فيها حتى اقتحمها الألمان في الحرب العالمية الثانية.
والمسرحيات السريالية تكاد تشبه المسرحيات الطبيعية من حيث عدم اشتمالها على ذروة، ومن حيث إنها مجرد عرض صور لا تربطها إلا فكرة عامة، إلا أنها تختلف عن المذهب الطبيعي بهذا الجو الرومانسي الذي تجري صورها فيه، وإن اختلفت عن المسرحيات الرومانسية في أنها تشبه الحلم، وبالأحرى أحلام اليقظة التي هي من آثار سلطان العقل الباطن.
9. المذهب الصوفي
في أواخر القرن التاسع عشر، وفي الثلث الأول من القرن العشرين الميلادي، قامت حركة أدبية قوية في أيرلندا كان أبطالها يهدفون إلى ما تهدف إليه الحركة السياسية الثورية هناك من الانفصال عن إنجلترا.
ومن ثم كان لهذه الحركة طابعها الفذ المستقل عن الأدب الإنجليزي بعامة، شعره ونثره وأغراضه.
وقد تميزت تلك الحركة في دنيا المسرح بانطباعات عدة أهمها ما كان يدعو إليه الكاتب المسرحي جون ملينجتون سين John Millington Synge 1871 - 1909 م، وليدي أوجستا جريجوري Lady Augusta Gregory 1852 - 1932 م، ووليم بتلر ييتس William Butler Yeats 1865 - 1939 م، من الثورة على المذهب الواقعي وتجريد المسرح والمسرحية للأغراض الأدبية الخالصة البعيدة عن الأفكار، التي لا تنشد إصلاحاً ولا تهتم بنقد المجتمع، أو التبشير بفلسفة اجتماعية خاصة، وكان سين يتحمس لهذا تحمساً شديداً، ويحتج له بأنه لا بد للمسرحية أن تكون عملاً فنياً خالصاً يسمو بالنفس البشرية ويعلو بها فوق عذاب هذه الحياة المملة المتعبة المكتظة بالآلام والمواجع، تماماً كما تفعل الموسيقي السيمفونية.
من أجل ذلك اتجه الكتاب نحو الأسطورة والأسطورة الدينية، ونحو تصوير الروح الريفي الذي تزيده طبيعة الجزيرة الأيرلندية فتنة على فتنة وسحراً فوق سحر.
وقد اتجهت ليدي جريجوري ووليم ييتس بالمسرحية اتجاهاً صوفياً روحانياً، وهو ما يكاد يشبه ما حدث في عالم التصوف الشرقي، حينما انقسم المتصوفة في الشرق فكان منهم من حافظ على روح الشريعة، وإن ساروا بفرائض الدين في طريق كله تزكية روحية وصفاء مستنير وتطهير وجداني لا غبار عليه، وكان منهم فئة أخرى ضالة استعلت على العلم والشريعة، فزعمت أنهما للعامة، العامة التي لا بد أن تؤخذ بالعلوم والفرائض والشرائع والقوانين تضبط حركتها وتقيد تصرفاتها في كل شيء، في العبادات وفي المعاملات على السواء. أما الخاصة وهم صفوة المتصوفة فيما يزعم هؤلاء، فهم أهل الحقيقة، وهم لذلك لا يتقيدون بما يدعو إليه الدين من فرائض، وما يلزم به العامة من علم ومن شرائع وقوانين، وكلا الفريقين يدعو إلى التخلص من مادة هذا العالم والاندماج في الذات الإلهية.
وتكاد ليدي أوجستا جريجوري تمثل الفئة الأولى، ويكاد وليم بتلر ييتس يمثل الفئة الثانية.
والمذهب الصوفي خليط من المذاهب الرومانسية والرمزية والسريالية، كما أن له صلة واضحة ببذرته الأولى، وهي المسرحية الدينية ولاسيما النوع الأخلاقي منها. وقد كتبت ليدي جريجوري مسرحيتها الصوفية "الرجل المسافر"، في حين كتب ييتس مسرحية على نمط هذا المذهب هي "حيث لاشيء". كما تجدر الإشارة إلى مسرحية "كل حي"، وهي مسرحية أخلاقية تنسب إلى مؤلف مجهول في عصر إدوارد الرابع Edward IV 1461 - 1483 م، وقد مثلت هذه المسرحية في الميادين العامة قديماً، إلا أنها أعيد إخراجها في العصر الحديث في كل من إنجلترا وأمريكا ونالت نجاحاً وأقبل عليها الجمهور إقبالاً شديداً، وذلك لما فيها من الإثارات الدينية القوية التي تلائم أمزجة الجمهرة المتدينة في كل أمة من الأمم.
10. المذهب الوجودي
الوجودية نسبة إلى الوجود، ولكل شيء عند الوجوديين وجود وصورة، والصورة هي مجموعة من الخصائص والصفات الثابتة التي يتصف بها الشيء، فهي جوهر الشيء الموجود أو ماهيته، أو ما هويته، كما يعبر عنها بعض الوجوديين نسبة إلى ما هو؟.
أما الوجود فهو كينونة الشيء بالفعل في هذا العالم، والشيء لا تكون له صورة إلا إذا وجد أولاً، ولذلك كان الوجود سابقاً على الصورة في نظر الوجوديين، وهم في ذلك يختلفون عن أفلاطون في نظرية المثل المشهورة التي تجعل الصور سابقة على وجود الأشياء. وهكذا يقول الوجوديون بوجود الأشياء أولاً، ثم تتولى هي بنفسها صيرورتها إلى الصورة التي تريد.
والوجوديون يقصدون بهذا الكلام عن الوجود والصورة، الإنسان قبل أي شيء آخر، بل لعلهم لا يقصدون به شيئاً آخر غير الإنسان، ويذهب "جان بول سارتر Jean Paul Sartre"، إلى أن وجود الأشياء يأتي بعد صورتها إلا في الإنسان، إذ يتحقق وجوده أولاً، ثم تتحقق صورته: أي صفاته، أو ماهيته، أو هويته، بعد ذلك.
وهذه الفئة من الوجوديين، هي الفئة المادية التي تنكر وجود الخالق - سبحانه - الذي يخلق الناس وهم ينكرون وجود الخالق لأن الإنسان الوجودي في نظرهم هو الذي يتولى خلق أعماله، ويحدد صفاته أو ماهيته أو صورته بنفسه، وعلى ضوء ما يراه بعد أن يفكر ويختار اختياراً حراً لا يمليه عليه أحد من الخارج. حتى ولو كان هذا المملي من الوجوديين أنفسهم.
على أن من الوجوديين فئة أخرى تؤمن بوجود الخالق، وهؤلاء هم الوجوديون الدينيون، أو الوجودية المؤلهة، أي التي تعترف بوجود إله خلق الإنسان، لكنه لم يخلق أعماله. إن الله في نظر هؤلاء الوجوديين الدينيين يخلق الإنسان، ثم الإنسان بعد ذلك هو الذي يخلق أعماله بنفسه، أي أنهم يرفضون فكرة الجبر، ويؤمنون بفكرة الاختيار. ومن هنا كانوا يؤمنون بوجود الإنسان أولاً، ثم بالصورة التي يخلقها الإنسان ثانياً.
أما الوجوديون الملحدون الذين لا يؤمنون بوجود إله، فزعيمهم هو "جان بول سارتر"، ومنهم "مارتين هيدجر Martin Heidegger"، و"ألبير كامي Albert Camus"، و"سيمون دي بوفوار Simone de Beauvoir". وتقوم فلسفة هؤلاء على وجوب أن ينظر الإنسان في مجتمعه، وفي العالم الذي يعيش فيه، وما يجب عليه أن يقوم به في هذا المجتمع وفي ذلك العالم، ليكون وجوده مشروعاً.
11. المذهب التجريبي
المسرح التجريبي مفهوم حديث، يرجعه بعض النقاد إلى ستانسلافسكي في محاولته لإنشاء معمل مسرحي لأحد تلاميذه، وإلى أنتونيان آرتود Antonin Artaud، في مسرحه "القسوة"، وتجارب العنف كما في مسرح فايس، وكلها وغيرها تجارب تحق عليها صفة التجريب، أو صفة الطليعية، طبقاً لمفاهيم العصر الحديث. إذ إن التجريب أصلاً هو ما كان يتعلق بعرض خاص، له مواصفات فكرية وتنفيذية كالتي حققها ماكس رينهارت Max Reinhardt، في مسرحه الخاص الصغير.
والحقيقة أنه ليس هناك تاريخ ثابت لتحديد نشأة المسرح التجريبي، وإن كانت ثمة بدايات قد طالعنا بها ظهور المسرح الحديث، في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، وفي مقدمة هذه البدايات مسرح "أندريه أنطوان Andre Antoine"، مؤسس المسرح الحر في فرنسا، إذ يُعدّ مسرحه من أوائل المسارح التجريبية، التي ذاع صيتها في جميع أرجاء العالم، وكان تجريباً لجمهور عام.
كانت بداية المسرح الحر بداية متواضعة، ومع ذلك أصبح مسرحه المبني من الخشب في الفنون الجميلة بباريس، حيث قدم أنطوان أول عروضه للمسرح التجريبي، صرخة مدوية ورمزاً للقوي التقدمية في عصره، وقد نجح أنطوان، الممثل والمخرج، منذ اللحظة الأولى في وصل التعاون بين مسرحه وكتاب الأدب، خاصة الأكاديميين منهم، وعلى رأسهم إميل زولا. أما مسرحه فقد كان يتسع 343 متفرجاً، وكانت تسودهم روابط الأسرة. وقد كان مسرح أنطوان، بحق، ثورة على التقاليد المسرحية، واتجاهاً جديداً نحو الأسلوب الطبيعي بكل تفاصيله، فالممثلون في المسرح التجريبي يتحركون على المسرح حركة طبيعية، ولأول مرة أدار الممثل ظهره للجماهير، وكانت مفاجأة لم يعهدها أحد من قبل، وغالى أنطوان في أسلوبه، حين اقتضت بعض المناظر أن تظهر تماما كالطبيعة، فتجد محل جزار بلحوم حقيقية، ومحل صانع أحذية بكل عدده وعدته. ولم يكن أنطوان ليرضى مطلقاً، إلا أن يحاكي الطبيعة بحذافيرها.
وظهر، فيمن ظهر من أعلام المسرح التجريبي الحديث في فرنسا، المخرج "جاك كوبوه"، الذي أنشأ مسرح "الفييه كولامبيه" عام 1913 م. ومن دوافع تأسيس مسرحه الجديد، ضيقه الشديد بالوسط المسرحي والمسرحيين في أيامه. وقد كان "كوبوه"، حين أسس مسرحه، غير مهيماً باتجاه مسرحي معين، إلا أنه أوضح فلسفة مسرحه الجديد بنشرة يختلف فحواها عمقاً، عما سبق أن جاءت به نشرات المسارح التجريبية الأخرى، في عصره.
وحين بدأ "كوبوه" مسرحه، بدأه بأحد عشر ممثلاً، راحوا يقرأون المسرحيات بصوت عال، ويرتجلون المشاهد التمثيلية، ويؤدون التمرينات الإلقائية والحركية، التي تعينهم على الأداء الفني السليم.
وهكذا ضرب مسرحه أروع الأمثلة في حقل التجريب المسرحي، حتى صارت مسرحياته الأسس، التي نهج على منوالها تلاميذه من بعده، أمثال: جوفيه وديلان وبيتويف وباتي.
أما دعاة التجريب بمعناه الطليعي، مضموناً وشكلاً والتزاماً، فقد مارسوه بشجاعة، وأبدوا فيه نشاطاً ملحوظاً، نحو تطوير حركة الطليعيين المسرحيين، في مجال المسرح، في النصف الثاني من القرن العشرين الميلادي، حسب رأي "جيمس روز ايفانز"، التي أنتجت عدداً من الأشكال المسرحية، ما زالت تواصل رسالتها، ومنها على سبيل المثال؛ مسرح اللامعقول، ومسرح البوب، المسرح التجريبي الذي يتناول موضوعات حديثة، ومسرح الجريدة الحية، والمسرح التسجيلي.
وتلك الأشكال، وما إليها من أشكال التجريب الطليعي، هدفها البحث عن الإمكانات الجديدة، والأغوار البعيدة، لفن الدراما بأوسع المفاهيم.
والمسرح التجريبي بأشكاله المسرحية المتعددة، لا يجتذب، خاصة في بداية عهده، إلا الخاصة المتخصصة، إذ إن الإنتاج، في الغالب، يتمتع بدرجة عالية من التقدير الفني والفكري، خاصة ما يتعلق بتكتيك الفن المسرحي. إلا أنه بمضي الوقت أخذ شكلاً جماهيرياً، كمسرح اللامعقول والمسرح التسجيلي.
ومن أشهر المسارح التجريبية المعاصرة في إنجلترا، مسرح "ستوك أون ترنت"، الذي يتخذ لنفسه شكل المسرح في الدائرة. وتقدم فرقته عديداً من التجارب المسرحية، التي لا تعتمد على الديكور، وإنما على كافة المؤثرات التكنولوجية التي تسهم في إثراء العمل المسرحي. والمسرح في الدائرة، أو مسرح الحلقة، (اُنظر صورة المسرح الدائري)، يتمتع بمزايا عدة، أهمها:
أ. منصة للتمثيل تختلف جذرياً، عن منصة التمثيل التقليدية المغلقة، بحيث تعطي الممثل فرصة أكبر لاكتساب حصيلة جديدة من حرفية الأداء، وهو محاط بالجماهير من جميع الجهات.
ب. مسرح بسيط في إنشائه، اقتصادي في نفقات الصرف على برامجه.
ج. مسرح يربط المتفرج والجمهور برباط الود، ويجعل من وجه الممثل شبيهاً بنظيره في السينما والتليفزيون، من حيث الرؤية والأثر الدرامي المباشر.
ويُعد مسرح "الهامستيد Hampstead" بحي سويس كوتدج Swiss Cottage أشهر المسارح الطليعية بإنجلترا، ويتسع المسرح لحوالي 150 متفرج. ولهذا المسرح فلسفة خاصة في مجال التجريب، إذ يشجع المحترفين من الممثلين للإدلاء بخبرتهم، واختبار مواهبهم على أعلي المستويات، بغض النظر عن الأجور الضئيلة، التي يدفعها لقاء ما يُتاح لهم من فرص.
وهناك أمثلة عديدة، لا حصر لها، من المسارح التجريبية المماثلة، التي أصبحت توصف بالمسارح الطليعية، ولكل من هذه المسارح، بالطبع، فلسفته وأسلوبه في العمل الطليعي.
كانت تجربة "أنطوان" ثورة على القديم بكل مفاهيمه ومقوماته، والاتجاه بالمسرح جذرياً نحو محاكاته للطبيعة. وكانت محاولة "فسفولود ميرهولد Vesvolod Meyerhold" الروسي، في الاستعانة بالرمزية والتعبيرية، في تجسيد العمل المسرحي، ثورة ضد أستاذه "كونستانتين ستانسلافسكي Konstantin Stanislavski"، محقق الواقعية؛ ثم كانت تجربة "كوبوه" الفرنسي، نحو اكتشاف مسرح الغد، مسرح الجماعة، ورفضه الإيمان باتجاه معين دون آخر؛ ثم كانت الحركة الطليعية الحديثة في أوروبا، التي تمثلت في مسرح "اللامعقول"، وما بعده كمسرح "الواقعة"، والمسرح "المفتوح"، والمسرح "الحر"، والمسارح المشابهة، التي انتشرت في أواخر الستينيات، وبداية السبعينيات من القرن العشرين الميلادي في أمريكا.
12. المذهب الملحمي
لا يكشف المسرح الملحمي عن شخصيات، ولا يعقد عقدة مسرحية، بل يروي قصة ويسردها. والقصة هي التي تستلفت النظر، وهي التي يتحتم عليها أن ترشد الممثلين وتهديهم. من ناحية أخرى، لا تبسط المسرحية الملحمية حدثاً كبيراً واحداً، بل تحبك عديداً من الأحداث الصغيرة التي تلقي الضوء على موقف ما من زوايا مختلفة.
وخاتمة الدراما الملحمية أو الملهاة ليست لها في الواقع إلا أهمية ثانوية. فكثير من المتفرجين الذين شاهدوا "فيدرا" لا يذكرون بالطبع الطريقة التي تنتهي بها المسرحية، فالقصة بالفعل هي التي تستلفت النظر. ولا يسري هذا القول على مسرح "برخت" فقط كما في "فيدرا" و"أندروماك"، بل في كل مسرح ملحمي جدير بهذا الاسم. مثلاً تروي "أنتيجونا" قصة امرأة شابة تعرض نفسها للموت طاعة للقوانين غير المكتوبة. وتروي "فيدرا" قصة زوجة رجل مسنّ تطلق لنفسها العنان وتصرح لابن زوجها بأنها تحبه؛ لأنها ظنت أن زوجها قد مات، ويعود الزوج. وتروي مسرحيات شكسبير قصصاً من الجمال بحيث حولها البعض إلى حكايات زادت من شهرة مؤلفها وذيوع صيته. وتروي "حرب طروادة" قصة رجلين حسني النية ظنا أن الحكمة يمكن أن تجنبهما شرور الحرب، وتروي "الخرتيت" قصة رجل يرفض أن يتبع حركة تقليد القطيع التي تدفع إلى العبودية.
وسر جاذبية هذه القصص الملحمية يكمن في نهاية الأمر في موقف لا مخرج منه:
"فيدرا" أمام حب محرم، "أنتيجونا" أمام إخلاص محرم، عطيل الأسود أمام امرأة بيضاء من الجمال والطهر بحيث ترمز إلى التملك المحرم، وهكذا.
أما عن الطبائع والدراسة النفسية التقليدية التي أشتهر بها المسرح الملحمي فهي مقتضبة.
ويحاول الشاعر الألماني برخت في مسرحه الملحمي أن يبين الكائنات في مواجهة بناء اجتماعي يكونها ويوجهها ويلزمها، والجدية توجد عند برخت في مسرحه بالقدر الذي يريد أن يبين به في المسرحية الواحدة بيئة اجتماعية بعاداتها ومعتقداتها، وتطوراً موازياً لها في الأفكار والأفعال وطباع البشر، هذه الحركة التاريخية المزدوجة هي ما أراد أن يبرزه في مسرحه الملحمي الذي يلقي الضوء على أثر متبادل، أثر البشر على المجتمع، وأثر المجتمع على البشر. وبهذا القدر يعبر المسرح الملحمي عن إثراء للمعرفة الإنسانية.
وقد اتهم برخت المسرح التقليدي بأنه يقدم طبائع ثابتة فقط لا غير، وأكد على الواقعية التي تقول بأن الإنسان غالبا ما يكون نتاجاً للأحداث. وتعدّ مسرحية "جاليليوجاليلي" من أشهر مسرحيات برخت والمذهب الملحمي في الوقت ذاته، وهي تروي حياة العالم جاليليو.
عناصر الفن المسرحي
1. الإخراج المسرحي
لئن كان المخرج، إلى حد ما، وافداً حديثاً على المسرح، فان منزلته في المسرح الحديث في عملية عرض النص الحي على المسرح لا يسبقها في الأهمية سوى منزلة المؤلف. وهذه حقيقة يتأكد صدقها بنوع خاص في مسرح الهواة، حيث يكاد المخرج يكون "المحترف" الوحيد في هذا الميدان، بل حتى في مسارح برودواي، وإن كانت بعض الأسماء أمثال دافيد بيلاسكو، وتيرون جاثري، وإيليا كازان، قد أحرزت صيتاً لم يحرزه من قبل سوى المؤلفين ونجوم التمثيل.
وترجع لفظة مخرج من الناحية التاريخية، إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي، وإن وجد دائماً من يتولى القيام بأعباء بعض الوظائف التنفيذية المعينة.
ففي اليونان القديمة كان هذا الشخص، في غالب الأحيان، هو المؤلف، وفي إنجلترا كان أبرز ممثلي الفرقة. وعرف الزمن أشخاصاً آخرين، تفاوتت بينهم نسب النجاح، تولوا مهمة الإشراف على التدريبات وتقديم المسرحية على خشبة المسرح. غير أن فكرة المخرج هي في الواقع وليدة القرن العشرين الميلادي، وهو يسمي في أوروبا "الريجسير".
إلى الآن لم يبت فيمن يستحق أن يدعي بلقب أول مخرج في التاريخ، إذ ليس ثمة بداية محددة مفاجئة، كما هي الحال في معظم الأشياء، لكن برز اسم "دوق ساكس ميننج "، ذلك الهاوي الملوكي الذي ظهرت فرقته لأول مرة بإخراجها الدقيق في برلين في أول مايو عام 1874 م. وكان يتشدد في مراعاة النظام، ولذلك كانت فترة التدريبات المسرحية للممثلين عنده طويلة. ولم يكن بفرقته نجوم، إذ كانت كل الأدوار في عرفه مهمة، وقد أخضع المناظر والإضاءة والملابس والماكياج والملحقات للتخطيط الدقيق، وامتزجت جميعها في إطار التمثيل العام.
وقد ظهر في أواخر القرن التاسع عشر وطليعة القرن العشرين الميلاديين عدد كبير من أعلام المخرجين، ففي باريس أضفي "أندريه أنطوان" على المسرح طبيعة جديدة، وبساطة وعقيدة بمسرحه الحر. وفي ألمانيا ثم أمريكا أسهم "ماكس رينهارت" 1873 - 1943 م بنماذج إخراجية تجمع بين المخيلة والتأثير المسرحي والإبهار. وفي أمريكا سعت الشهرة إلى "دافيد بيلاسكو David Belasco" الذي عرف مؤلفاً ثم مخرجاً مسرحياً يصل بالواقعية إلى مستويات لم تكن بعد ممكنة. ولتحقيق هذه الغاية وضع نظاماً دقيقاً لفترة طويلة من التدريبات تتضمن التوافق الشامل بين عناصر العرض كافة.
لكن مع كل هذا فقد ظهرت النظريات الإخراجية المختلفة كلها من روسيا، ولعل أعظم المخرجين الروس قاطبة هو "كونستانتين ستانسلافسكي" 1863 - 1938 م. الذي احتضن المسرح مشبعاً بالهواية، مثله في ذلك مثل رائده دوق ساكس ميننجن، بعد أن ضاق ذرعاً برخص أساليب المسرح التجاري وضحالتها.
تكاد معظم مبادئ ستانسلافسكي في الإخراج المسرحي تتلاقى مع دوق ميننجن أو تذهب إلى أبعد منها، فبينما كان الدوق يجري التدريبات لمدة خمسة أسابيع، عمد ستانسلافسكي إلى إطالة فترة التدريبات لتصل إلى تسعة أشهر، أو تبلغ العامين في مسرحية هاملت. وفي مسرح موسكو تحولت الأدوار الصغيرة إلى أدوار مهمة، فكان من شعارات المسرح الأساسية "لا شيء اسمه أدوار صغيرة ولكن هنالك فقط ممثلون صغار"، ومن ثم كان كبار النجوم، بمن فيهم ستانسلافسكي نفسه كثيراً ما يظهرون في أدوار ثانوية. وكان الولاء للنص دون أي اعتبار للنجاح الشخصي للممثل على أساس "على المرء أن يحب الفن، لا أن يحب نفسه في الفن"، لذلك تميز مسرح موسكو بالولاء الجماعي.
وعلى النقيض من هذه الجهود الجماعية وهذا الأسلوب الطبيعي لدى ستانسلافسكي نجد أعمال فسفولود ميرهولد 1874 - 1940 م، أحد تلامذة "ستانسلافسكي" النابهين الذي تبرم بهدوء مسرح موسكو الفني وتحكمه الطبيعي، فانفصل عنه ليختط لنفسه نظاماً مغايراً خلاصته أن المسرح ليس مجرد محاكاة شاحبة للحياة، وإنما هو شيء أكثر عظمة وأعمق تعبيراً من الحياة نفسها.
ولم يكن منهج "ميرهولد" في الإخراج بأقل ثورية من أسلوبه في العرض. كان يمثل الدكتاتور، أو الفنان الخارق الذي تنبع منه جميع الأفكار. وكانت عبارته المأثورة في التدريبات "راقب ما أفعل وقم بمحاكاتي". وهكذا كانت كل الأدوار من ابتكار هذا المخرج صاحب المنهج الخاص، أما الممثلون فتقتصر مهمتهم على المحاكاة وكان مسرحه لامعاً؛ لأنه هو نفسه كان لامعاً، ولكنه عندما انقضى، انقضى كذلك مسرحه من بعده.
ومع ذلك فحتى في روسيا لا نجد صفوة يتميزون بأسلوب محدد، فمخرج مثل "يوجين فاختانجوف" 1883 - 1922 م، كان ينزع إلى وضع وسط فيرتكز في عمله على الصدق الداخلي العميق في التمثيل، وهو من مميزات مسرح موسكو الفني.
لما كان للمخرج كل هذه الأهمية سواء في المسرح المحترف، أو أكثر أهمية في مسرح الهواة كونه محرك العمل المسرحي بمكوناته المختلفة التي يستغلها المخرج المحترف لخدمة النص، مثل الديكور والإضاءة المسرحية والملابس والموسيقى، كون المخرج يمثل كل هذه الأهمية خاصة في المسرح الحديث، فقد اتجه التفكير إلى إنشاء مدارس لتعليم فن الإخراج، غير أن الأمر يختلف هنا عن تعليم أي مهنة آخرى، حيث إن للإبداع الفكري الفطري للمخرج واستعداده وحبه لهذا اللون من الفن، أمراً لا يجب إنكاره أو تجاوزه. لذا لم يكن التدريب المباشر كفيلاً بتحويل أي كائن من كان إلى مخرج. وللمخرج عدة أدوار في العمل المسرحي: له دور الفنان، وله دور المعلم الذي يدرب الممثلين على القراءة، وله دور الإداري. وتقول الحقيقة البسيطة إنه لا بد أن يوجد الإنسان الذي يلقن أحياناً إنساناً آخر شيئاً وهذا هو المخرج المسرحي. ويذكر "جورشاكوف" في كتاب "ستانسلافسكي مخرجاً"، كيف كان ستانسلافسكي يعرف فرقة مسرح الفن بموسكو بمهزلة فرنسية غريبة عن منهجهم، فكان يقرأ ويمثل كل دور ليساعد الممثلين على فهم طبيعة المسرحية. وهذه سابقة توضح أسلوب التلقين.
2. الديكور المسرحي
علم الهندسة بجميع فروعه وأبعاده ذو أهمية كبرى للعاملين في الحقل الفني والهندسي، في نواحيه النظرية والعلمية والعملية. علاوة على فائدته في تمثيل الأجسام والأشكال الهندسية، وإظهار أبعادها بدون شرح أو تفسير. وإذا كان الفن المسرحي يتألف من عناصر أساسية هي التي تصوغه في الشكل الدرامي، فإن الديكور المسرحي من أهم هذه العناصر، ويعبر عما يحتويه النص.
ينقسم المسرح إلى جزأين مختلفين هما: الجزء الأدبي وهو الخاص بالتأليف وكتابة المسرحية والحوار والحوادث، الخ، والجزء البنائي وهو الخاص ببناء المسرح وما يقدم عليه من مناظر وتمثيل وإخراج، والجزء الأول يختلف تمام الاختلاف عن الجزء الآخر الذي يعد الوسيلة التي يتم بها تصوير الديكور على المسرح. وعلى هذا يتكون المسرح من ثلاثة أجزاء أساسية مكملة لبعضها:
…أ. الجزء الخاص بالجمهور
أي الصالة، والألواج، والبلكون بأقسامها المختلفة، التي يراعى دائما تجهيزها بممرات كافية لخدمة جمهور النظارة، كما يوضع في الحسبان الأبواب الإضافية التي تفتح عند خطر الحريق، علاوة على الأبواب الرئيسة.
ومقاسات صالة المسرح الكلاسيكي النموذجي كما هو متعارف عليه:
عرض الصالة من 15 متراً إلى 20 متراً
عمق الصالة من 20 متراً إلى 30 متراً
وبارتفاع إجمالي يصل إلى 25 متراً حتى البلكون
…ب. الجزء الخاص بالتمثيل
أي قفص المشهد الذي تزيد مساحته عن مساحة الصالة، وقد تصل في بعض الأحيان إلى الضعف، كما أن ارتفاعه قد يصل إلى ثلاثة أضعاف ارتفاع الصالة. ويمكن تقسيمه إلى ثلاث مناطق رأسية ذات ارتفاعات مماثلة تقع بعضها فوق بعض على الوجه التالي:
المنطقة الأولى: في المنتصف حيث توجد خشبة المسرح التي يمثل عليها الممثلون ويقام عليها الديكور، وهذا هو الجزء الذي يشاهده الجمهور.
المنطقة الثانية: مساحة واسعة مثل المساحة الأولى، إن لم تكن أكبر منها، وتوجد فوق المنطقة الأولى، ويوضع بها ديكور المناظر المختلفة معلقاً ببرواز خشبة المسرح. وهذا الديكور يحل محل الديكور الموجود على خشبة المسرح بعد إزالته ليأخذ دوره.
المنطقة الثالثة: توجد تحت خشبة المسرح وهي مساحة لها أهمية تماثل أهمية المساحتين السابقتين، ويمكنها أن تستوعب ديكوراً كاملاً، أو تساعد في عملية تنظيم الديكور وعرضه.
وبمبنى المسرح ملحقات تشمل مخازن الماكينات، ومخازن الديكورات العديدة المعدة للاستعمال، ومخازن الملابس، وحجرات الإدارة، وكابينة الإدارة الكهربائية، وكل ما يلزم لخدمة المنظر والمشهد أو يساعد في وجودهما.
…ج. الجزء الخاص بالممثلين
ويشمل حجرات الممثلين والممثلات والحمامات الملحقة بها، وحجرات الماكياج، وصالات البروفات، والاستراحات. وتركب بكل هذه الحجرات التليفونات أو مكبرات الصوت لاستدعاء كل من يحتاج إليه مدير المسرح أو الريجسير ليأخذ دوره في المسرحية.
والعناصر المختلفة التي يتكون منها المسرح هي:
(1) القوس المسرحي
وهو الفتحة التي تحدد مقدمة خشبة المسرح وأساس بنائه، وهي عادة مزخرفة، وكان أول عهدها بالمسارح الإنجليزية في القرن التاسع عشر الميلادي. وبما أن فتحة القوس المسرحي كثيراً ما تكون أعلى مما يلزم، لذلك يخفى الجزء العلوي منها بستارة ثابتة، أو بديكور مرسوم على هيكل ويثبت في سمك القوس المسرحي، أو وراء الحاجز المعدني. وتكون هذه الستارة وديكورها مناسبين لديكور القوس المسرحي والقاعة.
(2) خشبة المسرح
وهي مقدمة المسرح يحددها من جانبيها القوس المسرحي، وتتقدم نحو الصالة حوالي ثلاثة أمتار تقريباً، وبها فتحة الملقن، وتنتهي من جهة الصالة على هيئة قوس بداخله الإضاءة الموضوعة بطريقة لا تسمح برؤيتها من جهة الصالة، وترتفع عن منسوب الصالة بقدر ما.
وتمتد خشبة المسرح نحو العمق بمسافة تبلغ ضعفي عرض القوس المسرحي نفسه، وعرضها ثلاثة أضعاف عرض القوس المسرحي.
وتكون خشبة المسرح مرتفعة وواسعة، وتصنع من الخشب المشدود على فراغ أسفل الخشبة بطريقة تسمح بتنقية الصوت وتقويته، وأنواع خشبة المسارح كثيرة ومتعددة، غير أنها تتفق جميعها في فكرة خدمة الديكور المسرحي والأداء التمثيلي.
وأرضية خشبة المسرح الآلية تتكون من مساحات تتحرك إلى أعلى وأسفل بواسطة أجهزة كهربائية، وذلك لإيجاد مستويات مختلفة الارتفاع في أرضية المسرح، بقصد عمل التشكيلات المطلوبة للمناظر المختلفة، وتمكين الممثلين من الظهور والاختفاء، تبعاً لما تقتضيه أحداث المسرحية.
أما أرضية خشبة المسرح البسيطة فتتكون من مجموعة ألواح من الخشب، مركبة بعضها مع بعض، وموضوعة بطريقة يمكن إزالتها بسهولة وإعادة وضعها وتثبيتها بواسطة شناكل متحركة بحيث تصير جميعها قطعة واحدة.
(3) الستائر
للستائر في المسرح عمل مهم، إذ إنها ديكور له كيان بالنسبة لمساحتها ولونها وخامتها وحركتها، وتأثيرها على العناصر المختلفة المحيطة بها.
لذلك تشترك الستائر المختلفة المستعملة في المسرح في الديكور العام، ولكل منها طريقة استعمال تختلف حسب وضعها، والغرض منها القيام بدور الديكور. والمنسوجات التي تصنع منها الستارة المسرحية كثيرة منها قطيفة القطن، والحرير، والجوت، والكريتون، والتيل، الخ. ويختلف استعمال كل نوع حسب الهدف المطلوب منها. وتستعمل عادة الستائر المنسوجة لخفتها ومادتها، فهي قطع ديكور متحركة، أما إذا كان للتيار الهوائي تأثير في تحريكها من مكانها، فهناك سلاسل من الرصاص تثبت أسفل الستارة، وتتبع انحنائها، وتساعد على الاحتفاظ بشكلها وعدم حركتها. وهناك ستارة مقدمة المنظر وستارة الإدارة.
(4) عمودا الإضاءة
مكانهما على جانبي فتحة المسرح، وهما برجان من الخشب أو الحديد بارتفاع القوس المسرحي مثبت بهما سلم رأسي للصعود إلى الشرفات الموجودة بهما والتي توضع عليها الكشافات المختلفة الخاصة بالعرض.
(5) مكان العازفين
في مسارح الأوبرا، التي تخرج تمثيليات غنائية تتبعها الموسيقى، بئر للأوركسترا ومكانه بين خشبة المسرح والصالة، وبطول القوس المسرحي وينخفض عن منسوب الصالة نحو متر، وذلك حتى لا يسبب عازفو الأوركسترا مضايقات لجمهور النظارة عند مشاهدة العرض.
أما رئيس الأوركسترا فتوضع له قاعدة مرتفعة قليلاً حتى يتمكن من مشاهدة المطربين والراقصين على خشبة المسرح، إذ تقع عليه مسؤولية إدارة الموسيقى والرقص والغناء.
إن أهم مبادئ بناء الديكور هو تجهيز عناصر سهلة النقل وذات متانة كافية، على أن يكون وزنها وحجمها منخفضا لأدنى حد ممكن، وذلك لمنع ازدحام خشبة المسرح ولتسهيل عملية النقل والتغيير، إذ إن من أهم المشكلات التي تواجه القائمين على المسرح الإعداد والتكوين والتركيب لعناصر ديكور صممت لأجل مسرحية معينة، وجعلها مهيأة للعرض في دقائق معدودة، ثم إزالتها بسرعة لوضع ديكور آخر مكانها. وأحياناً يتطلب العمل تقديم قطع ديكورية أثناء التمثيل وتحت أنظار الجمهور حسب المشهد.
3. الملابس المسرحية والماكياج
إن العلاقة بين الثياب والشخصية أعمق مما يتصورها الشخص العادي. ما أندر المرأة التي لا تسترد انتعاش روحها بجرعة سحر مقوية من ثوب جديد. وما أندر الرجل الذي لا يستشعر الأناقة ورشاقة الحركة والخفة في حلة جديدة. النسيج الجديد للمباريات القادمة والثياب الجديدة لحفلة الربيع الراقصة، كل منهما يسبب أو يعكس تغيرات في الشخصية. قد لا تصنع الملابس الإنسان أو الممثل، ولكنها بغير شك تؤثر في كل منهما، وتساعده في التعبير عن ذاتيته.
الملابس والماكياج، بما فيها الأقنعة، من أقدم العناصر الأساسية في فن الدراما. بل إنها تكاد تؤلف العرض بأسره عندما نرجع إلى المراسم والمحافل البدائية التي تمثل نواة الدراما. وعلي الرغم من أن الإغريق كانوا يهملون المناظر إلى حد كبير، فمن المؤكد أنهم لم يكونوا يهملون الملابس أو الأقنعة. وقد كان الانتقال من سيطرة الأقنعة إلى سيطرة الماكياج في عصر النهضة.
في أوائل القرن التاسع عشر الميلادي أخذت فكرة الملابس التاريخية تعم إنجلترا، كما سبق أن عمت فرنسا قبل ذلك بعدة أجيال. ومع ذلك لم تكن الملابس المسرحية خلال القرن التاسع عشر الميلادي تتعدى بضعة أساليب قياسية تقليدية تكاد تخلو من الخيال. كانت ذخيرة معظم محلات الملابس التجارية تتألف من ملابس ثلاث أو أربع حقب تاريخية، بالإضافة إلى مجموعة أو مجموعتين من الثياب المحلية. وكان النظام المتبع عادة أن يكون الممثل مسؤولاً عن ملابسه الشخصية.
والملابس المسرحية يمكن أن تأتي جريئة، صارخة الألوان، لافتة للنظر. ومن الممكن أن تنبئ عن نزعة مسرحية، أو مخيلة درامية، أو انسيابية مبسطة لا تتقبلها الثياب العادية. ويحتاج مصمم الملابس، بالإضافة إلى حاسة الذوق، إلى معرفة الأساليب التاريخية، والقدرة على إبراز معالم الشخصية.
لا تستطيع القواعد والوصفات أن تحل محل الذوق والحكمة عند وضع الملابس التي تعكس ملامح الشخصيات. وقد تجدي المعرفة بالمعاني الرمزية للألوان، ولكن ما أكثر الأخطاء الفادحة التي يرتكبها المصممون عندما يتبعون حرفياً تلك التقاليد المفرطة التبسيط التي تخصص اللون البنفسجي للملوك، والأزرق الفاتح للطهارة، والأحمر للفتوة، وينبغي لمصمم الملابس، مثله في ذلك مثل مصمم المناظر، ألا ينسى أن اللون مسألة نسبية، وأن للملابس الأخرى، والمناظر، والإضاءة، والملحقات تأثيراتها الخاصة.
يجد معظم الممثلين في رائحة الماكياج المسرحي سحراً، لا يرجع إلى ما فيه من عطر بقدر ما يرجع إلى ارتباطه بالتوهج المثير للحظات التي تسبق العرض مباشرة. والقيمة النفسية للمكياج أعمق من جو النشاط الذي تستثيره قبيل رفع الستار، إن كثير من الممثلين خاصة عندما يقومون بأداء أدوار مغايرة لطبيعة شخصياتهم، يجدون في الماكياج مادة محضرة تستنهض فيهم مزيداً من الثقة.
4. التمثيل المسرحي
إذا كان الإلقاء "فن النطق بالكلام"، فإن الإلقاء المسرحي هو فن النطق بالحوار. والمسرح أكثر فنون الكلام حاجة إلى إخضاع فنون الكلام بالتغيير أو الإضافة. والحوار هو المسرحية، التي تقوم برمتها على الحوار، ومهما امتلأت بالأفعال صغيرها وكبيرها من المصافحة وهز الرأس إلى حتى القتل فإن الحوار هو الذي يصوغها. ويقوم الممثل المحترف بقراءة الدور وفهمه ليتسنى له أداؤه على المسرح بالشكل الذي يريده كاتب المسرحية.
لم يكن "بيس" هو الممثل الوحيد لدى اليونان الذي يصلنا اسمه، فهنالك كثيرون من بينهم أسخيلوس وسوفوكليس اللذان كانا يقومان بالتمثيل فيما يكتبان من مسرحيات، كما كانت حال ُسبيس ولا ريب أن هؤلاء الممثلين بنعالهم العالية، "الكوثورنوس"، وأقنعتهم المرتفعة، "الأونكوس"، قد اهتدوا إلى ضرورة الصوت الجهوري، والإلقاء المفخم، والحركة الأسلوبية للتلاؤم مع المسارح الضخمة المكشوفة التي كانوا يعملون فيها.
ومع ذلك فإن الفكرة الشائعة بأن التمثيل الكلاسيكي كان عرفياً وافتعالياً إلى درجة كبيرة تجانب الصواب، ذلك أن ُسبيس كان أول من استخدم اثنين من الممثلين على المسرح في وقت واحد، وسوفوكليس كان أول من استخدم ثلاثة ممثلين. وبينما كان ممثلو اليونان يتمتعون في العادة بمركز اجتماعي رفيع نسبياً، كان ممثلو روما بلا استثناء من الأغراب والعبيد.
وكان "ريتشارد بيرباج 1567 - 1619 Richard Burbage" م، أول ممثل يؤدي أدواراً معروفة على المسرح مثل هاملت ولير وعطيل. وقد ظهرت النساء لأول مرة على المسرح الإنجليزي في عصر عودة الملكية، وبرزت إلى الصفوف الأولى أسماء مثل: آن بريسجردل Anne Bracegirdle، وإليزابيث باري Elizabeth Barry، ونيل جوين Nell Gwyn، وأخذن يكتسبن أهمية متزايدة مع أعلام الممثلين.
ويعدّ ديفيد جاريك David Garrick 1717 - 1779 م، أهم ممثلي إنجلترا في القرن الثامن عشر الميلادي، وكان تناوله يتميز بالجدة والأصالة والطبيعية حتى قيل فيه "إذا كان هذا الفتي على صواب، فمعني هذا أننا كنا جميعاً على خطأ". أما (السير هنري إرفنج Henry Irving) ، فقد كان يتميز فوق كل شيء بالوقار والثبات، وكان متفوقاً إلى جانب التمثيل في الإدارة.
في فرنسا تميز القرن التاسع عشر الميلادي بظهور (سارة برنار Sarah Bernhardt 1844 - 1923) التي تعد واحدة من أقوى الشخصيات التي عرفها العالم في التمثيل المسرحي، إذ إن أهواءها المتقلبة، وإشعاعتها المثيرة داخل المسرح وخارجه، جعلت منها شخصية عديدة الألوان تلاحقها طبول الدعاية. وفي إيطاليا جاء توماسو سالفيني 1829 - 1916 م يجمع بين التناول الصادق، وقوة الإلهام، وقد بلغ من الشهرة حداً بعيداً لا يجعل ناقداً حين يتحدث عن التمثيل المسرحي أن يتجاهله.
في أمريكا استطاع ثلاثة ممثلين في القرن التاسع عشر الميلادي أن يحرزوا شهرة عالمية وهم: إدوين فورست Edwin Forrest 1806 - 1872 م، وإدوين بوث Edwin Thomas Booth 1833 - 1893 م، وجوزيف جيفرسون Joseph Jefferson 1829 - 1905 م،.
5. الموسيقي المسرحية
غالباً ما يعدّ الصوت والموسيقي جزئين متممين للعمل المسرحي الناجح، والمؤثرات الصوتية والموسيقي التصويرية قديمان قدم المسرح، فمن عصر الطبول البدائية التي كانت تصاحب الطقوس الدينية إلى الصوت والموسيقي المصاحبة.
وبمراجعة كشف تكاليف مسرحية "العاطفة" التي مثلت بمدينة مونز عام 1501 م، نجده يتضمن لوحتين من البرواز ووعاءين كبيرين من النحاس استعملت لأحداث الرعد. وفي نص المسرحية مذكرة لطيفة للإخراج تقول: "ذكروا هؤلاء الذين يتولون الأسرار الآلية لبراميل الرعد بأداء ما يوكل إليهم وذلك باتباع التعليمات، ولا تدعهم ينسون أن يتوقفوا عندما يقول الإله: كفوا ودعوا السكينة تسود".
هذا يدل على أن الموسيقي المسرحية تزامنت بداياتها مع بدايات المسرح نفسه، فالإنسان عرف فن الموسيقى منذ قديم الزمان، وكان من البديهي أن يستخدمه عاملاً مساعداً في الفن المسرحي.
وكل من قرأ شكسبير لا بد أن يدرك أهمية الصوت والموسيقي في المسرح الإليزابيثي، ولوحظ مما دوّن من مذكرات عن الصوت أنها تكّون نسبة كبيرة من التوجيهات المسرحية، بينما نجد مثلا "موسيقى جدية عميقة من البراجيل"، "موسيقى ناعمة"، "موسيقى جدية وغريبة"، "أبواق من الداخل"، "نداءات السلاح"، "طبول وأبواق"، "عاصفة ورعد"، وهكذا.
وقد بلغ استعمال الموسيقي والمؤثرات حد الدقة في حالة الميلودراما وكما يفرض الاسم على هذا النوع من المسرحيات أن يعتمد اعتماداً كبيراً على الموسيقي بعنصر مهيأ للجو خاصة في مشاهد الحب واستدرار الشفقة أو الصراع العنيف لمواقف الشر.
والواقع أنه لم يحدث أي تغير جوهري بالنسبة للمؤثرات الصوتية والموسيقي التصويرية منذ عهد شكسبير حتى القرن العشرين الميلادي.
وتبدو الاتجاهات في هذا الموضوع في حالة مربكة، فبعض المسارح يحاول تجنب الإستعانة بالموسيقي من أي نوع، والبعض يستعين بها عندما يقتضي النص وجودها، وآخرون يستخدمونها أكثر من ذي قبل.
ويقول بعض المتابعين للحركة المسرحية "إن الموسيقي الجيدة والمناسبة في العرض المسرحي لا تساعد فقط المشاهدين، ولكنها تساعد كذلك الممثل، وردهم على من يزعم أنها تحطم نقاء الدراما، أن المسرح الحقيقي كان مزيجاً من فنون عدة وحرف ولا يزال، وأن تأثيره يجب الحكم عليه من تكامل هذه الفنون والحرف بشكل موحد وفعال، وليس بالحكم على عنصر واحد فقط.
6. الإضاءة المسرحية
في عام 1815 م اخترع العالم البريطاني همفري ديفي Humphry Davy المصباح الكربوني، ولم يستخدم هذا المصدر الضوئي القوي في المسرح إلا بعد نصف قرن تقريباً من اكتشافه، وبالرغم من عيوبه الكثيرة آنذاك والتي تتلخص في أنه يعطي ضوءاً غير ثابت ويحدث صوتاً مسموعاً عند تشغيله، كما لا يمكن التحكم في قوته ويحتاج إلى عناية كبيرة، بالرغم من هذا إلا أنه ساهم مساهمة جدية في المسرح.
وفي عام 1879 م الذي كتب فيه هنريك إبسن مسرحية "بيت الدمية" اخترع توماس إديسون المصباح Thomas Edison المتوهج. وكانت المسارح من أول من عرف هذا المنبع الضوئي الجديد. وكانت "أوبرا باريس" أول من استخدم النظام الجديد في الإضاءة على المسرح عام 1880 م. وسرعان ما عرف المصباح المتوهج طريقه إلى كافة مسارح العالم. وبانتهاء القرن التاسع عشر الميلادي ظل استعماله سائدا ولم يتوصل أحد إلى معرفة المصباح الكشاف ذي الإضاءة القوية المركزة حتى إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى.
ومع أن البحوث البدائية في الإضاءة المسرحية حتى القرن العشرين الميلادي كانت لإيجاد إضاءة أفضل، والمحاولات المستمرة لاكتساب ميزات أخرى جديدة، فقد أجرى سيرليو وساباتيني التجارب على المؤثرات الضوئية.
وكان السير هنري إيرفنج من أوائل الذين استغلوا قدرات الإضاءة المسرحية الجديدة في عرض مسرحياته فأثارت الاهتمام. كذلك اكتشف بلاسكو الكشاف الصغير ذا المصباح المتوهج بدلاً من الجهاز الكربوني، وقد سمي هذا الكشاف "الصغير". والإضاءة بالنسبة للمسرحية كالموسيقي بالنسبة للأغنية. وقد كتب بلاسكو قائلاً: "لا يوجد أي عامل آخر يدخل في المسرحية له مثل هذا التأثير في الأمزجة والأحاسيس".
وبالرغم من جهود بلاسكو البارزة فإنها توارت في فن الإضاءة المسرحية بفضل أدولف آبيا. الذي كتب في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي آراء في الإضاءة المسرحية كانت سابقة لأوانها بنصف قرن على الأقل. فقد كان أول من اعترض على الإضاءة المسطحة المتعادلة الناتجة عن استخدام الإضاءة الأرضية وإضاءة البراقع الساترة. وقد أطلق آبيا على هذه الإضاءة غير المركزة، الإضاءة العامة.
إن أي محاولة لوضع خطة ثابتة لإضاءة مسرح اليوم تكون مجازفة وصعبة لأن هذا الفن ما زال في بدايته. هذا بالإضافة إلى أنه ليس هناك مسرحيتان اثنتان متشابهتين تمام التشابه، كما أن المسارح نفسها تختلف في بنائها الهندسي مما يجعل اختلاف الإضاءة أمراً حتمياً.
الفنون المسرحية
1. الأوبرا
مسرحية غنائية تعتمد على الغناء أكثر من الكلام، وتختلف عن التمثيليات التقليدية في عدة جوانب أهمها أن العنصر التمثيلي في الأوبرا يعد أكثر عمقاً وتأثيراً في المشاهدين، خاصة أن الأوبرا تعتمد على الانفعالات الأساسية كالغضب والحزن والحب والانتقام والقسوة والغيرة ونشوة الانتصار.
يستفيد المؤلف الأوبرالي إلى درجة كبيرة من إمكانات الموسيقى المصاحبة التي تعمق الإحساس لدى الممثل والمشاهد كليهما. وتتميز الأوبرا عن التمثيلية التقليدية في أنها تجمع بين أكثر من لون من ألوان فنون الأداء مثل التمثيل، والغناء، وموسيقى الأوركسترا، والأزياء، وفي أحيان أخرى كثيرة الرقص والباليه.
وبالرغم من أن الأوبرا تعد أبرز ما أخرجه العصر، فقد كان ظهورها مصادفة أو راجعاً إلى خطأ في فهم طبيعة التمثيل اليوناني القديم. فقد تصور بعض العلماء المتحمسين أن التراجيديات الإغريقية كانت ترتل وتغنى كلها. وسرعان ما تحمس اثنان من العلماء من هذه الجماعة هما: "جاكوبو بيري Jacopo Peri" و"أوتافيو رينوشيني Ottavio Rinuccini" فأخرجا أوبرا "دافني Dafne" عام 1597 م، التي تعد أول أوبرا في العالم.
مصطلحات تستخدم في الأوبرا
·…الآريا: مقطوعة غنائية مطولة يقوم بها المغني بمفرده للتعبير عن مشاعره الشخصية.
·…الإلقاء المنغم: جزء من النص الأوبرالي يقدم معلومات عن الحديث ويطور الحبكة الدرامية في شكل غنائي بسيط فيما يشبه الحديث العادي وأحياناً بمصاحبة الأوركسترا.
·…الأوبرا الجادة: لون الأوبرا الذي ساد في القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلاديين وكانت تتناول موضوعات أسطورية وتاريخية في المقام الأول وتركز على المؤثرات المسرحية الخاصة والغناء المتميز.
·…الأوبرا الكبرى: أوبرا السنوات المبكرة من القرن التاسع عشر الميلادي حيث يتم التركيز على المؤثرات المسرحية ومشاهد المجموعات الكبيرة والموسيقى المركبة المتداخلة، والحوار.
·…الأوبرا الهزلية: أوبرا إيطالية هزلية تعالج مواقف إنسانية مأخوذة من الحياة اليومية.
·…طاقم المغنين"إينسيمبل": مجموعة صغيرة من المغنين، تتكون عادة من شخصين إلى خمسة أشخاص. تسمى المقطوعة التي تؤديها المجموعة بنفس الاسم.
·…بل كانتو: أسلوب في الغناء يركز على جمال النغمة والمهارة الفنية.
·…كولوراتورا: أسلوب أداء في الغناء يميل إلى التلوين وتقوم به عادة أصوات سوبرانو قوية.
·…سنجسبايل: لون من الأوبرا الألمانية يستخدم الحوار المؤدى بدلاً من الأغنية المنفردة.
·…ليتموتيف: مقطوعة موسيقية قصيرة تقدم بعض الأفكار والأماكن والشخصيات كلما ظهرت في العرض.
·…المدونة الموسيقية: هي النوتة الموسيقية المكتوبة التي يستخدمها قائد الأوركسترا.
·…النص الشعري: هو النص المكتوب للأوبرا.
·…الواقعية: أسلوب واقعي في الأوبرا الإيطالية يكون فيه التركيز على الحدث والانفعالات.
تختلف الأوبرا كذلك عن العروض الأخرى، التي تستخدم الموسيقى مثل المسرحيات الموسيقية والغنائية، في أن الأوبرا تستخدم حواراً أقل منهما، وتشترك الموشحات الدينية الغربية مع الأوبرا في ميزات معينة وهي استخدام الموسيقى المصاحبة للغناء الفردي ومجموعة المنشدين والأوركسترا، وقد تحكي قصة. إلا أن الموشحات الدينية في الغرب تختلف عن الأوبرا في أنها تفتقر عناصر التمثيل والأزياء والتزين، وقد بدأت الأوبرا في إيطاليا في السنوات الأخيرة من القرن السادس عشر الميلادي ثم قام الموسيقيون الإيطاليون والمغنون وقادة الأوركسترا بتطوير ذلك الفن الأدائي في السنوات التالية. وبحلول نهاية القرن السابع عشر الميلادي انتشرت الأوبرا من إيطاليا إلى بقية دول أوروبا.
وتتكون الأوبرا من عنصرين أساسيين هما الكلمات أو النص المكتوب والموسيقى أو النوتة ويقصد بها الغناء والموسيقى. والنص المكتوب للحوار في الأوبرا أقل طولاً من النص التمثيلي التقليدي؛ لأن غناء الكلمات يستغرق وقتاً أطول من مجرد أدائها تمثيلاً، ومن ناحية أخرى فإن الموسيقى ذاتها تقوم أحياناً بتجسيد العواطف والانفعالات التمثيلية بصورة أكثر عمقاً من الكلمات.
أما الموسيقى فإن كل دور في الأوبرا يتطلب مغنياً يتمتع بمدى أو درجة صوت معينة، ومن ثم يتم تقسيم المغنين في الأوبرا حسب درجات الصوت. ويستخدم الغناء الجماعي في معظم عروض الأوبرا إلى جانب الغناء المنفرد والثنائي والأداء الموحد.
رغم أن طبيعة الأوبرا تفرض قيوداً على حركة المغني، إلا أن الحركة السريعة والمفاجئة والجسم الملتوي قد تؤثر على صوت المغني، كما أن الأداء في الأوبرا يتطلب درجة معينة من إجادة التمثيل. ويختلف عدد الآلات الموسيقية المستخدمة في الأوركسترا ونوعها من أوبرا إلى أخرى، فالآلات التي يحتاجها عرض إيطالي في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي تختلف عن الآلات التي يتطلبها عرض كتبه "فاجنر Wagner" في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي. وتحدد طبيعة العرض كذلك دور الأوركسترا، فقد توفر موسيقى مصاحبة للأداء وقد تؤدي دوراً مهماً في العرض، وقد تبرز مشهداً أو حدثاً معيناً أو تؤكده، وقد تقوم بتقديم فواصل تمهد أو تعد المشاهد وهكذا.
2. الأوبريت
نوع من المسرحيات الغنائية كان محبوباً في الفترة بين أواسط القرن التاسع عشر حتى العشرينيات من القرن العشرين الميلادي. تطور الأوبريت من الأوبرا الهزلية الفرنسية ولكنه يختلف عنها في أنه يحتوي على حوار كلامي بدلاً من الحوار الغنائي، وعلى أغاني بدلاً من ألحان. وغالباً ما تكون مقدمة الأوبريت خليطاً من أغان منتزعة من العرض وليست شيئاً مؤلفاً مستقلاً كما هو الحال في الأوبرا.
الغرض من الأوبريت هو الترفيه وإدخال السرور على النفوس وليس إثارة العواطف القوية أو الكشف عن قضايا مهمة أو مناقشة قضية ذهنية أو جدلية. وفي كثير من الأوبريتات نجد أن عقدة القصة إما عاطفية رومانسية أو ساخرة. وفي معظم الحالات تتضمن نوعاً من الارتباك حول أخطاء غير مقصودة، كما تنتهي بنهاية سعيدة كثيراً ما تعكس شيئاً من المغزى الأخلاقي.
في الأوبريت تُظهر الموسيقى ألحاناً مباشرة من غير تعقيدات لحنية، وفيها إيقاع قوي. وهناك الأوبريت الذي يحتوي على رقصات وغيرها من التي تقوم على أساس رقصة الفالس والكورال "الغناء الجماعي".
ازدهرت عدة مدارس قومية خلال الفترة التي انتشر فيها الأوبريت واستقبلت بلهفة شديدة. وازدهر هذا النوع في فرنسا، وكانت أجمل الأوبريتات التي كتبت هي تلك التي ألفها "جاك أوفنباك Jacques Offenbach" وهو مؤلف موسيقى فرنسي، ألماني المولد. ومن بين مؤلفاته "أورفيس في العالم الأرضي Orpheus in the Underworld" عام 1858 م و"لابيل هيلين" عام 1864 م و"لابيريشول La Perichle" عام 1868 م.
في عام 1860 م كتب المؤلف الموسيقي النمساوي "فرانز فون سوبيه Franz Von Suppe" أوبريت "داس بنسيونات" الذي أصبح فيما بعد النموذج الحي للأوبريت في فيينا، غير أن رائد مدرسة الأوبريت في فيينا هو "يوهان شتراوس Johann Strauss" الابن الذي جعل "الفالس" السلسلة الفقرية لإيقاع موسيقى الأوبريت.
يعد أوبريت "داي فلدرماوس" 1874 م أشهر مثال لمدرسة الأوبريت في فيينا، وقد سيطر هناك الأوبريت الرومانسي وشكل هذا النوع من فن الأوبريت سيادة تامة في أوائل القرن العشرين الميلادي مع انتشار أعمال مثل "الأرملة المرحة" عام 1905 م التي ألفها "فرانز ليهار Franz Lehar" والتي كانت محببة لكثيرين.
في العالم العربي انتشر فن الأوبريت نقلاً عن أوروبا ولكن بمزيد من التعريب ليلائم الفكر الشرقي والمتلقي في الشرق. وقد بدأ هذا اللون من المسرح الغنائي في مصر في الثلث الأول من القرن العشرين الميلادي، ثم سرعان ما انتقل إلى بلدان عربية أخرى مثل لبنان وسورية وكان هناك تأثير كبير لزيارة الفرق المسرحية الغنائية المصرية للبلدان العربية.
3. مسرح العرائس
هي مجسمات اصطناعية يتحكم في حركاتها شخص، إما بيده أو عن طريق خيوط أو أسلاك أو عصا. وقد تمثل الدمية شخصاً أو حيواناً أو نباتاً أو شيئاً من الأشياء. وتتقمص هذه الدمي أدواراً في مسرحيات تعرف باسم "عروض العرائس" أو "مسرح العرائس". ويسمي الشخص الذي يقوم بتحريك العرائس "محرِّك العرائس".
يصنع كثير من الأطفال عرائس من المواد الرخيصة من القماش أو الخشب، أو من أشياء كعلب الألبان الفارغة أو الخرق البالية. ويقومون كذلك بتأليف عروض العرائس ثم يحركونها، ويعملون على تغيير أصواتهم مع تغيير الشخصيات. ويمكن استخدام منضدة أو رف كتب منصة لعرض العرائس. كما يمكن أن يعمل محرك العرائس من وراء غطاء أو شرشف، يشده بعرض الجزء السفلي من فتحة باب. ويتوارى خلفه فلا يرى المشاهدون غير العرائس المتحركة التي تظهر بالجزء الأعلى من فتحة الباب.
يلجأ بعض المدرسين إلى الاستعانة بفن العرائس المتحركة، لإضفاء التشويق على المادة الدراسية، فيقومون على سبيل المثال بالاستعانة بالعرائس المتحركة لتمثيل واقعة من الوقائع التاريخية.
وقد اعتاد الناس على الاستمتاع بعروض العرائس منذ زمن بعيد، إذ عثر على مجسمات تشبه الدمى المتحركة بالمقابر والأطلال الأثرية بمصر القديمة واليونان وروما؛ بما يعني أن مسرح العرائس مسرح قديم. ويرجح أن يكون أول استعمال للعرائس في المناسبات الدينية.
وهناك ثلاثة أنواع رئيسة من العرائس المتحركة هي:
أ. العرائس المتحركة باليد.
ب. العرائس المتحركة بالخيوط.
ج. العرائس المتحركة بالعصا.
ويشتمل الكثير من العروض على أكثر من نوع من أنواع العرائس المتحركة. أما أكثر الأنواع انتشاراً فهي العرائس المتحركة باليد، ويتكون أحد أنواعها المعروف باسم "عرائس القفاز" أو "القبضة" من نموذج مفرغ لرأس متصل بقفاز أو كم من قطعة قماش ينطبق على حجم الساعد، ويقوم مقام جسد العروس. ومن ثم يقوم محرك العرائس بإدخال يده في كم القماش وصولاً إلى القفاز.
لعل أشهر شخصيات عرائس القفاز هي شخصية "بنش" نجم الاستعراض الإنجليزي الذي اشتهر باسم استعراض "بنش وجودي Punch and Judy". وكان قد جرى تدشين شخصية بنش بإنجلترا عام 1662 م. وثمة عرائس شبيهة بشخصية "بنش" نالت إقبالاً جماهيرياً في بلدان عديدة.
4. الباليه
فن أدائي يستخدم حركات الجسم الإنساني للتعبير عن الانفعالات المختلفة كالغضب والخوف والغيرة والفرح والحزن.
وتطلق كلمة باليه على اللون الكلاسيكي الذي ابتدعه الفرنسيون أثناء القرن السابع عشر الميلادي وكذلك على الباليه الحديث المختلف الإيقاع والملابس. كما يطلق كذلك على المسرحيات الهزلية الموسيقية التي تجمع بين فنون الأداء المسرحي والرقص والغناء والموسيقى، وإن كان التعبير عن طريق حركات الجسم، أي الرقص، الخاصة هو أهم تلك العناصر جميعاً، وتصاحب كل ذلك الملابس والأزياء الخاصة التي يراعى في تصميمها حرية الحركة دون عوائق. وفي العصور الحديثة طورت كل دولة كبرى أسلوبها الخاص بفن الباليه، فالباليه الأمريكي يتسم بالسرعة والحيوية، بينما يميل الباليه الروسي إلى قوة الأداء والإبهار، أما الباليه الفرنسي فيميل إلى الأناقة والجمال. وقد أتاح ارتباط فن الباليه بالمدرسة الفرنسية منذ بدايته الأولى للفرنسيين سيطرة مفرداتهم اللغوية الخاصة بذلك الفن على اللغات المختلفة. وهذا يفسر سر انتشار المفردات الفرنسية داخل مدارس الباليه المختلفة.
ظهرت البدايات الأولى لفن الباليه في القرن الخامس عشر الميلادي في إيطاليا خلال النهضة. وقد ساعد على ظهور ذلك الفن أن الشعوب بدأت في عصر النهضة تظهر اهتماماً أكثر بالفنون والعلوم. وقد أدى ازدهار التجارة في هذا العصر إلى ثراء أمراء الدول الإيطالية في "فلورنسا" وغيرها من المدن، وهو ثراء ترتب عليه تنافس هؤلاء الأمراء في رعاية الفنون والآداب، بالرغم من توقف الفنون في تلك الدول عند حد الهواية. وعندما تزوجت إحدى أميرات الأسرة الحاكمة في فلورنسا وهي "كاثرين ميدتشي Cathrine de Medicis" من ملك فرنسا عام 1547 م، أدخلت فنون الإمتاع التي نشأت عليها إلى بلاط ملك فرنسا، بل أحضرت معها من إيطاليا موسيقياً هو "بلثازار بوجي" للإشراف على تقديم تلك العروض. والواقع أن مؤرخي فن الباليه يعتقدون أن أحد أعمال ذلك الموسيقي وهي "أوبرا الراين" كانت أول باليه بمعني الكلمة، وقد أدى نجاح العرض آنذاك، إلى محاكاته في عدد كبير من بلاطات ملوك أوروبا. وقد أصلت أوبرا الراين الهزلية مكانة باريس بصفتها عاصمة الباليه في العالم، وزاد من هذه المكانة الكبيرة تشجيع الملك لويس الرابع عشر الذي تولى السلطة في أواخر القرن السابع عشر وأوائل القرن الثامن عشر الميلادي هذا الفن، فأنشأ الأكاديمية الملكية للرقص عام 1661 م لإعداد الراقصين المحترفين لتقديم العروض في البلاط الملكي وقصور النبلاء. فكان افتتاح تلك الأكاديمية آنذاك بداية عصر الاحتراف في فن الباليه بعد أن توفرت للفنانين إمكانات أضخم بكثير من اتخاذه هواية. وسرعان ما انتشرت فرق الباليه المنافسة في بلدان أوروبية أخرى، وكانت أبرز تلك الفرق الفرقة الإمبراطورية الروسية للباليه في "سان بطرسبرج" التي تأسست عام 1738 م. وبمرور الوقت وازدياد المهارات الفنية تحول فنانو الباليه إلى تقديم عروضهم بالمسارح العامة أمام الجمهور العادي. وقد كان المؤلفون والمعدون للباليه في البداية يأخذون مادتهم القصصية من الأساطير اليونانية القديمة.
المسرح العربي
1. نشأة المسرح العربي
عرف العرب والشعوب الإسلامية عامة أشكالاً مختلفة من المسرح ومن النشاط المسرحي لقرون طويلة قبل منتصف القرن التاسع عشر الميلادي.
وبالمرور على العادات الاجتماعية والدينية التي عرفها العرب في شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام، والتي لم تتطور إلى فن مسرحي، كما حدث في أجزاء أخرى من العالم، تظهر إشارات واضحة على أن المسلمين أيام الخلافة العباسية قد عرفوا شكلاً واحداً على الأقل من الأشكال المسرحية المعترف بها وهو: مسرح "خيال الظل" الذي كان معروفا في ذلك العصر وكان يعتمد على الهزل والسخرية والإضحاك.
وقد كان الخليفة "المتوكل" أول من أدخل الألعاب والمسليات والموسيقي والرقص إلى البلاط، ومن ثم أصبحت قصور الخلفاء مكاناً للتجمع والتبادل الثقافي مع البلدان الأجنبية، وكانت البدايات الأولى في صورة ممثلين يأتون من الشرقين الأدنى والأقصى ليقدموا تمثيلياتهم في قصور الخلفاء. هذا الجانب يخص صفوة القوم في تلك الحقبة من الزمن، أما فيما يخص العامة من الناس فكانوا يجدون تسليتهم المحببة عند قصاصين منتشرين في طرق بغداد، يقصون عليهم نوادر الأخبار وغرائبها. وكان هناك كثير من المضحكين الذين تفننوا في طرق الهزل، يخلطونه بتقليد لهجات النازلين ببغداد من الأعراب والخرسانيين والزنوج والفرس والهنود والروم، أو يحاكون العميان. وقد يحاكون الحمير، ومن أشهر هؤلاء في العصر المعتضد: "ابن المغازلي".
لم تتوقف العروض التمثيلية منذ أيام العباسيين، ففي مصر الفاطمية والمملوكية ظل تيار من العروض التمثيلية مستمراً وظلت المواكب السلطانية والشعبية قائمة لتسلية الناس وإمتاعهم. يقول المقريزي في وصف أحد هذه الاحتفالات: "وطاف أهل الأسواق وعملوا فيه "عيد النيروز" وخرجوا إلى القاهرة بلعبهم ولعبوا ثلاثة أيام، أظهروا فيها السماجات الممثلين وقطعهم التمثيلية".
وقد نظر أهل الرأي والفقهاء وبعض الخلفاء والسلاطين إلى هذه العروض التي استمرت قروناً طويلة على أنها لهو فارغ وأحيانا محرم، وأحيانا أخرى يستمتعون بها هم أنفسهم.
ثم عرف العرب أيام العباسيين فن "خيال الظل" وهو فن مسرحي لا شك فيه. وقد كان أرقي ما كان يعرض على العامة والخاصة من فنون إلى جوار أنه مسرح في الشكل والمضمون معاً، لا يفصله عن المسرح المعروف إلا أن التمثيل فيه كان يجري بالوساطة عن طريق الصور يحركها اللاعبون ويتكلمون ويقفون ويرقصون ويحاورون ويتعاركون ويتصالحون نيابة عنها جميعاً.
قطع مسرح خيال الظل شوطاً طويلاً نحو النضج الحقيقي حين انتهى إلى يدي الفنان والشاعر الماجن "محمد جمال الدين بن دانيال" الذي ترك العراق إلى مصر أيام سلاطين المماليك. وقد قال ابن دانيال وهو يصف ما قدمه في باب "طيف الخيال" من فن ظلي ممتاز: "صنفت من بابات المجون، ما إذا رسمت شخوصه، وبوبت مقصوصه، وخلوت بالجمع، وجلوت الستارة بالشمع، رأيته بديع المثال، يفوق بالحقيقة ذاك الخيال".
هذه العبارة التي أطلقها هذا الفنان الأول تحوي أسساً فنية واضحة، تشهد بأن فن ابن دانيال، خيال الظل، قد استطاع أن يرسي في مصر المملوكية، أي قبل حوالي ستة قرون من نشأة المسرح العربي المعاصر، فكرة المسرح مع ما يخدم هذه الفكرة من عناصر فنية وبشرية مختلفة. وقد ضمنت هذه العبارة التي تحوي إرشادات مسرحية تدخل في باب النظرية والتطبيق العملي معاً ضمن رسالة وجهها ابن دانيال إلى صديق له اسمه "علي بن مولاهم".
يقول ابن دانيال: "هَيء الشخوص ورتبها واجل ستارة المسرح بالشمع، ثم اعرض عملك على الجمهور وقد أعددته نفسياً لتقبل عملك، بثثت فيه روح الانتماء إلى العرض، وجعلته يشعر بأنه في خلوة معك. فإذا فعلت هذا فستجد نتيجة خاطرك حقاً، ستجد العرض الظلي وقد استوي أمامك بديع المثال يفوق بالحقيقة المنبعثة من واقع التجسيد ما كنت قد تخيلته له قبل التنفيذ".
وفي هذا القول الذي يُعد بداية البدايات للمسرح العربي يجتمع التطبيق العملي والنظرية الفنية معاً: الشخوص وتبويبها وطلاء الستارة في جانب التطبيق، وفكرة الاختلاء بالجمهور وخلق مشاعر الانتماء إلى العرض في جانب النظرية، مضافاً إلى هذه النقطة الأخيرة هذا المبدأ الفني المهم وهو: أن التجسيد وحده هو حقيقة العمل المسرحي، وأن جمال المسرح يتركز في العرض أمام الناس وليس في تخيل هذا العرض على نحو من الأنحاء في الذهن مثلاً، أو بالقراءة في كتاب.
وتعدّ اللحظة التي كتب فيها ابن دانيال هذه العبارة حاسمة في تاريخ المسرح العربي عامة، وفي تاريخ الكوميديا الشعبية بصفة خاصة.
في أوائل القرن التاسع عشر الميلادي حدث الصدام بين العرب والحضارة الأوروبية، وارتفعت ستائر مسرح مارون نقاش في بيروت ذات يوم من عام 1847 م لتعرض مسرحية "البخيل"، المستوحاة من قصة موليير لتبدأ أولي خطوات المسرح العربي الحديث. وسارت الأعمال الدرامية العربية بعد ذلك في ثلاثة مسارات رئيسة هي الترجمة، والاقتباس، والمسرحيات المؤلفة.
كانت معظم المسرحيات المترجمة منذ باكورة أيام المسرح العربي، وحتى قيام الحرب العالمية الأولى، تكيف وفقاً لأمزجة المتفرجين. على أن تغيير "الحبكة" لتناسب ما هو معروف من الظروف التي تحيط برواد المسرح لم يكن شائعاً في الأيام الأولى للمسارح الأخرى، ومن ذلك المسرح في رومانيا.
في مصر يعد "محمد عثمان جلال" واحداً من أخصب المقتبسين الموهوبين حقا. وكان جلال، وهو ابن موظف بسيط من سلالة تركية، قد اقترن بزوجة مصرية وكان على دراية طيبة جداً باللغتين الفرنسية والتركية، إلى حد أنه التحق بقلم الترجمة في الحكومة المصرية، ليعمل مترجماً، وهو لم يتجاوز السادسة عشرة من عمره. وقد كرس حياته كلها للاقتباس من المسرحيات الفرنسية إلى العربية، فترجم مسرحيات عديدة عن موليير وراسين ولافونتين مثل: مدرسة الأزواج، ومدرسة النساء، الحزين، والنساء العالمات، وغيرها كثيراً.
في لبنان ظهر الكاتب المسرحي "نجيب الحداد" 1867 - 1899 م، الذي لم يكن أقل شهرة من جلال، والحداد ولد في بيروت وهو سليل أسرة اليازجي المعروفة بمساهمتها في الأدب، بما في ذلك تأليف المسرحيات. وقد كانت ترجمات الحداد أمينة ولم تكن اقتباساً، فلم يكن يغير في النص تغييرات كبيرة باستثناء أن بعض المسرحيات كانت تحمل أسماء عربية. فمثلا في ترجمة الحداد لـ "هرناني Hernani" أصبح "دون كارلوس Don Carlos" " عبدالرحمن" و"هرناني" تحول إلى "حمدان"، و"دوناسول" نوديت بشمس وهكذا.
ومن المحتمل أن تكون أول أعمال الحداد ترجمته نثراً وشعراً لمسرحية "فولتير" "أوديب" أو "السر الهائل" The frightful secret كما ترجمها حرفياً.
لم تلبث الترجمة أن حلت محل الاقتباس الذي ظل شائعاً منذ أيام مارون النقاش إلى أيام محمد عثمان جلال. على أن السبب في اختفاء منهج الاقتباس من المسرح العربي الذي كان "جلال" داعيته وكذلك منهج التكييف في بعض ترجمات الحداد، لا يرجع فقط إلى ارتفاع المستوى الثقافي عند المتفرجين، ولكنه، باتفاق الآراء، يؤول إلى حقيقة أن المسرح العربي قد اندرج إلى أقسامه الثلاثة الكلاسيكي، والموسيقي، والشعبي.
ثم بدأت بعد ذلك المسرحيات العربية الأصلية أو "المؤلفة" تحت ثمانية أنماط متميزة:
الفارس - المسرحيات التاريخية - الميلودراما - الدراما - التراجيديا - الكوميديا - المسرحيات السياسية - المسرحيات الرمزية.
2. التراث
عرف العرب الأوائل "الرواة"،الذين يحكي التراث الكثير عنهم بوصفهم فنانين مسرحيين لا شك فيهم، فنانين من طراز ممتاز، فلا أحد يكتب لهم شيئاً، وإنما تلتقط عيونهم الحادة خصائص البشر وعيوبهم، فيجمعون هذه الخصائص والعيوب في شخصية كلية أو مركبة، كما يقول النقد الحديث، ويجعلون منها مادة للفكاهة التي تسر عامة الناس وخاصتهم.
ويحمل التراث بيان أصدره الخليفة المعتمد يحظر فيه نشاط هؤلاء الفنانين، مما يبرهن على أنهم قد كثروا كثرة مفرطة على عهده، وأنهم كانوا يتخذون من المسجد والجامع مقراً لهم يحكون فيه الحكايات بهذه الطريقة التمثيلية الواضحة.
وقد حفظ الجاحظ، بعينه الخبيرة، صورة دقيقة لفن هؤلاء الرواة، أو الممثلين في الواقع، ممثلين فوريين يتخذون مادتهم من الواقع مباشرة، وهو فن قريب الشبه من فن الارتجال المسرحي الحديث. قال الجاحظ: "إنا نجد الحاكية من الناس يحكي ألفاظ سكان اليمن مع مخارج كلامهم، لا يغادر من ذلك شيئا. وكذلك تكون حكايته للخراساني والأهوازي والزنجي والسندي والأحباش وغير ذلك. نعم حتى تجده كأنه أطبع منهم، وتجده يحكي الأعمى بصور ينشئها لوجهه وعينيه وأعضائه لا تكاد تجد في ألف أعمي واحداً يجمع ذلك كله، فكأنه قد جمع جميع طرف حركات العميان في أعمى واحد ".
كذلك كان الشعب العربي في الجزيرة العربية واليمن والعراق ومصر يتسلى في تلك الأوقات البعيدة بفن القراد والحواء، كما لا يزال يفعل حتى يومنا هذا في بعض شوارع المدن العربية وبلدانها وقراها وأسواقها وموالدها. وكان الخليفة المتوكل يكن وداً خاصاً للممثلين وأصحاب المساخر والملاعب المضحكة عامة. فما من مناسبة اجتماعية مرت به إلا ودعاهم للعب أمامه. ولما انتهى من بناء قصره "الجعفري"، استدعى أصحاب الملاهي ومنحهم بعد الحفل مليونين من الدراهم، ويعد الخليفة المتوكل من أوائل من اشتغلوا بالإخراج المسرحي إذ ذات مرة شرب فيها في قصره المسمي "البركوار"، فقال لندمائه: "أريد أن أقيم احتفالاً بالورد، ولم يكن ذلك أوانها. فقالوا له: ليست هذه أيام ورد، ولكن الخليفة الفنان لم يقف حائراً أمام هذه العقبة، فأمر بسك خمسة ملايين درهم من الوزن الخفيف وطلب أن تصبغ بالألوان: الأسود والأصفر والأحمر، وأن يترك بعضها على لونه الأصلي، ثم انتظر حتى كان يوم فيه ريح فأمر أن تنصب قبة لها أربعون باباً، فجلس فيها والندماء حوله، وأمر المتوكل إذ ذاك بنثر الدراهم كما ينثر الورد، فكانت الريح تحملها لخفتها، فتتطاير في الهواء كما يتطاير الورد. وبهذا كان للخليفة الفنان والمخرج المسرحي ما أراد. وكان المتوكل إلى جانب هذا التوجه إلى فنون العرض المسرحية يكن وداً خاصاً لجماعة الممثلين الهزليين "السمّاجة"، وذات يوم دخل عليه اسحق بن إبراهيم فوجد هؤلاء الممثلين وقد قربوا منه للقط دراهمهم التي تنثر عليهم، وجذبوا ذيل المتوكل. فلما رأى إسحق ذلك، ولى مغضباً وهو يتمتم "فما تغني حراستنا المملكة مع هذا التضييع". ورآه المتوكل وقد ولى فقال لحراسه: ويلكم، ردوا أبا الحسين، فقد خرج مغضباً، فردوه حتى وصل إلى المتوكل. فقال ما أغضبك؟ ولما خرجت؟ فقال: يا أمير المؤمنين عساك تتوهم أن هذا الملك ليس له من الأعداء مثل ما له من الأولياء! تجلس في مجلس يبتذلك فيه مثل هؤلاء الكلاب تجاذبوا ذيلك، وكل واحد منهم متنكر بصورة منكرة، فما يؤمن أن يكون فيهم عدو له نية فاسدة وطوية رديئة، فيثبت بك. فقال المتوكل: يا أبا الحسين لا تغضب، فالله لا تراني على مثلها أبداً. وبني للمتوكل بعد ذلك مجلس مشرف ينظر منه إلى السمّاجة "الممثلين". وهكذا لم يتخل المتوكل عن حبه لتمثيل السّمّاجة، وإنما صنع لنفسه مقصورة يرى منها العرض عن بعد. أي أنه بنى مسرحاً بدائياً. ممثلوه السماجة والمتفرج الوحيد المتوكل ليعتبر هذا المسرح أول بداية لبناء مسرح عربي تطور بعد ذلك للشكل المتعارف عليه.
ويحمل التراث العربي الكثير عن بدايات أصبحت فيما بعد ذلك نواة المسرح العربي الذي لم يكن له أن يولد قبل مولد هذه المحاولات التي احتاجت مئات السنين لتصبح مسرحاَ عربياً صريحاً. فمن جماعة الممثلين الهزليين الأولين والذين كان يطلق عليهم اسم السمّاجة، بتشديد الميم، الذين كانوا يحاكون حركات بعض الناس ويمثلونهم في مظاهر مضحكة إيناساً للناس، ووصولاً إلى الممثل المسرحي المعاصر على مسارح الوطن العربي، كان الطريق طويلاً وشاقاً.
يحمل التراث العربي كثيراً من الصور المسرحية، فكثير من الاحتفالات والمناسبات الرسمية كانت تخرج إخراجاً مسرحياً متقناً، حتى أن جلوس الخليفة على عرشه كان في حد ذاته حفلاً حافلاً بالألوان والأضواء والحركة المرتبة من قبل، إذ يجلس على كرسي مرتفع في عرش من الحرير، وعلي رأسه عمامة سوداء، ويتقلد سيفاً، ويلبس خفاً أحمر، ويضع بين يديه مصحف، ويقف الغلمان والخدم من خلفه وحوله متقلدين السيوف، وفي أيديهم بعض أسلحة الحروب، وتمد أمامه ستارة، إذا دخل الناس رفعت وإذا أريد مدت، ويرتب في الدار قريباً من المجلس خدم بأيديهم قس البندق يرمون بها الغربان والطيور لئلا ينعب ناعب أو يصوّت مصوّت.
فهذا منظر مسرحي كامل لا شك فيه لم تغب عنه حتى الستارة، التي ترفع إذا بدأ المشهد بدخول الناس، وتمد أمامه مؤذنة بانتهاء اللعب، إذا ما شاء المخرج والممثل الأول في المشهد، بل أن ذات مرة جرؤ واحد من الندماء في بلاط المتوكل اسمه "أبو العنبس الصيمري" على أن يقدم أمام الخليفة مشهداً فكاهياً قلّد فيه إنشاد الشاعر البحتري تقليداً مضحكاً، ولم يعترض الخليفة على هذا الهزء من شاعر مجيد كالبحتري. بل كان الظن أنه هشّ له وبشّ، على أن تمام التحام فنون الأداء قد جاء في ميداني الغناء والموسيقى وما لحق بهما من رقص.
بل كانت هناك نظرة رفيعة ينظر بها إلى هذه الفنون في عصر الخلفاء العباسيين وخاصة على عهد المتوكل، إذ كانت زوجة الخليفة المتوكل نفسه "فريدة" تتقن الغناء. وبدأ انتشار الغناء الذي دفع إلى قيام ما يشبه دور المسارح الغنائية في عصرنا الحالي باستثناء غياب عنصر الاتجار الفني عنها.
أما الدُّور التي لا شك في أنها كانت ملاهي تجارية بالمعنى العصري فهي الحانات التي كان يقصدها أفراد من الطبقة الوسطي بينهم الشعراء، وفيها يدور الشراب ويسمع الغناء ويجري الرقص في غيبة من القانون أو بإغماض للطرف منه.
استمرت هذه الفنون المختلفة ولكن ظهر فن هو أقرب ما يكون للفن المسرحي ويعد البدايات الحقيقية للمسرح العربي، هو "مسرح الظل" الذي عرفه العرب أيام العباسيين، وهو أول لون من ألوان العروض يرتبط بالأدب العربي. وقد قام المسرح الظلي على بعض الأسس النظرية الفنية على يد ابن دانيال وهي:
"مسرح شعبي بالجمهور وللجمهور، وفن منوع يمزج الحقيقة بالخيال، والجد بالهزل، ويعتمد على أوسع قدر من مشاركة الناس فيه، بالمال والحضور والاستمتاع".
ثم يقدم ابن دانيال مادة مسرحية حقيقية بعد هذا. يخوض بحور الكلام وأكداس العبارات وينتقي منها جميعاً جواهر فنية، ويبتكر بعضاً من الشخصيات المسرحية الشعبية التي لا تزال موجودة حتى الآن: أمثال أم رشيد الخاطبة، والقوادة، والكاتب القبطي المدلس، والشاعر المزيف المتعاجب بالألفاظ الجوفاء، والطبيب الدجال الذي يرى الكسب أهم بكثير من أرواح ضحاياه، كل هؤلاء نجدهم في بابة "طيف الخيال". أما في البابة الثانية التي أبدعها ابن دانيال واسمها "عجيب وغريب"، فإن الهدف الرئيس هو إمتاع الجمهور وبهره بمناظر وشخصيات منتقاة من السوق: الواعظ والحاوي، وبائع الأعشاب "الشربة العجيبة كما يقال اليوم" والمشعوذ والمنجّم، والقرّاد ومدرّب الأفيال، والراقص والعبد الأسود الذي يجمع بين البهلوان والمغني، الخ.
كل هذه الشخصيات كان ينتزعها ابن دانيال من واقع السوق ويجعل لها وجوداً فنياً على المسرح عن طريق المقصوصات، أي عن طريق رسمها على الجلد وإحالتها إلى دمي ذات بعدين يحركها اللاعب المؤدي من وراء ستار.
إن نظرة ابن دانيال إلى فنه، وهي نظرة جادة من وراء الهزل، تجعله يضفي على مقصوصاته هذه الحياة الإضافية، التي تضيف إلى الدمي بعداً ثالثاً، وتكاد تجعلها شخصيات إنسانية حقيقية تتحرك على المسرح.
كل هذا يشهد بأن العرب قد عرفوا دراما كاملة، ذات نظرية وممارسة عملية واضحتين وذات صلات ليست أقل وضوحاً بالجسم العام للدراما. وما قدم عربياً لا يعد مسرحاً حقيقياً بما قدمه من أمثلة تطبيقية لفن المسرح فحسب، بل وبما زرع من تقاليد مسرحية غرست فكرة المسرح في نفوس الناس وحفظتها من الضياع، إلى أن جاء الوقت الذي عرف فيه العرب المحدثون المسرح البشري نقلاً عن أوروبا.
وعن طريق "خيال الظل" عرف المصريون لقرون متوالية، عادة الذهاب إلى المسرح بما في هذا من مقومات مادية واضحة: الإضاءة، والألوان، والأزياء، والحوار، وفنون الأداء المختلفة من رقص وغناء وموسيقى، ثم قصة مسرحية من نوع آخر تعتمد على نوع من الحوار.
والنتيجة العميقة لهذا كله أن مصر العربية كانت مهيأة أكثر من غيرها من البلاد العربية المجاورة لتقبل فكرة المسرح عامة، والمسرح البشري بصفة خاصة حين أخذت الفرق المسرحية والأفكار المسرحية ذاتها ترد إلى المنطقة العربية ابتداء من نهاية القرن الثامن عشر الميلادي.
3. المسرح الشعبي البشري
جاءت أقدم إشارة إلى وجود فن مسرحي يؤديه البشر في أحد البلاد العربية "مصر" في كتاب الرحالة "كارستين نيبور" الذي وصل إلى الإسكندرية في 26 سبتمبر 1761 م، ومكث في مصر سنوات طويلة يختلط بسكانها بين مصريين وأوربيين.
وصف "نيبور" عروض الشوارع وصفاً دقيقاً. أشار أولاً إلى فن الغوازي، وذكر أنهن يعملن لقاء أجر، ثم انتقل نيبور إلى فن الأراجوز وفن خيال الظل، وأخيراً يرد ذكر فن المسرح حيث كان بمصر عدد كبير من الممثلين ما بين مسلمين ونصارى ويهود، ينم مظهرهم عن فقر شديد، وهم يمثلون أينما يدعون، لقاء أجر قليل، ويعرضون فنهم في العراء، في فناء منزل يصبح آنذاك مسرحهم، ويسحبون على أنفسهم ساتراً يبدلون وراءه ملابسهم إلى ملابس التمثيل، في أمن من الأعين.
في عام 1815 م قدمت فرقة شعبية مصرية مسرحيتين في حفل أقيم في منطقة شبرا، وتعد هذه المحاولة من أوائل محاولات المسرح الشعبي بالوطن العربي. كان الحفل قد بدأ بالموسيقي والرقص التقليديين ثم قام جمع من الفنانين بتمثيل المسرحية الأولى التي تدور حول رجل يريد أن يؤدي فريضة الحج، فيذهب إلى راعي إبل ويطلب إليه أن يحصل له على جمل مناسب يركبه إلى مكة، ويقرر الجمال أن يغش الحاج المنتظر، فيحول بينه وبين رؤية صاحب الجمل الذي قرر أن يبيعه له، ومن ثم يطلب في الجمل مبلغاً أكبر مما طلب صاحبه، بينما يعطي صاحب الجمل مبلغاً أقل بكثير مما دفع الشاري، ويحتفظ بالفارق لنفسه. ثم يدخل جمل مكون من رجلين تغطيا بالكسوة التقليدية، وظهرا كما لو كانا جملاً حقيقياً على أهبة الاستعداد للرحيل إلى مكة. ويركب الحاج الجمل فيكتشف أنه ضعيف، قليل الهمة، فيرفض أن يقبله ويطلب أن تعاد إليه نقوده، وينشب بين الحاج والجمّال نزاع، ثم يتصادف أن يدخل صاحب الجمل، فيتبين هو والشاري أن الجمّال لم يكتف بخداع الاثنين فيما يخص الثمن، بل أنه احتفظ لنفسه بالجمل الأصلي وأعطى الشاري جملاً حقير الشأن. وتنتهي المسرحية بهرب الجمّال بعد أن أخذ حظه من الضرب المبرح.
هذا النموذج المسرحي الشعبي يوضح أنه كان هناك طوال القرن التاسع عشر الميلادي على الأقل دراما محلية تماماً، خالية من المؤثرات الأجنبية التي أخذت تتعامل مع فن التمثيل في مصر منذ بداية القرن التاسع عشر الميلادي، وما لبثت أن أثرت تأثيراً بارزاً في حرفية هذا التمثيل، مما بدا واضحاً منذ قيام مسرح يعقوب صنوع في لبنان حتى الآن.
كما أن النموذج السابق يعدّ كوميديا انتقادية تنتزع موضوعها من الواقع الحي المحيط بالممثلين والنظارة، وترضي جمهورها بالإمتاع والنصح معاً، على عادة الفن الشعبي. وهي تحوي شيئاً من التركيب الفني يتمثل في الظهور المفاجئ لصاحب الجمل، والانكشاف المزدوج الذي يتعرض له الجمّال، وهو انكشاف يشير بدوره إلى شيء من العمق في هذه الشخصية، فهي ليست مسطحة مثل شخصيتي البائع و الشاري، وإنما لا بد لها من قدرة على التمثيل والتحايل حتى تستطيع أن تتعامل مع الرجلين كل بطريقة تجوز عليه.
إن وجود مسرح خيال الظل ومسرح الأراجوز والقراد والحاوي في الوطن العربي، يعطي دلالة على الطاقة التمثيلية الكبرى التي تمتع بها العرب قروناً طويلة قبل أن يفد المسرح البشري الغربي على أيدي فرق أجنبية عديدة.
وحتى في الوقت المعاصر وفي سوق جامع "الفناء" بمراكش يوجد مسرح الحلقة في أشكال متعددة، وكذلك مسرح الممثل الفرد الذي يؤدي وحده جميع الأدوار ورقصاً شعبياً مخلوطاً بأداء تمثيلي فكاهي. كما أن بالمغرب في الشمال الأفريقي هناك أشكال "مسرح الحلقة" و"مسرح البساط". وهذا كله يدل على وجود دراما بشرية شعبية عرفتها الأقطار العربية قبل المسرح البشري الغربي، وهو ما يطلق عليه المسرح الشعبي البشري العربي.
4. المسرح في مصر
إن التأثيرات الإيطالية والفرنسية في مصر، خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر الميلادي ساعدت على صقل "الشعور بالمسرح" عند سكان المدينة في مصر، ولكنها لم تكن كافية بالمرة لتعميق جذور المسرح المحلي في مصر، إذ إن مثل هذا التطور كان يتطلب أولاً بلوغ مستوى معين من الثقافة، وقد حدثت هذه التأثيرات بينما كانت الأمية متفشية بشكل عام في مصر تقريباً.
والمسرح المصري، شأنه شأن الكثير من المسارح في المنطقة العربية، نشأ أول ما نشأ على الترجمة المباشرة من المسرح الغربي الأكبر سناً والأكثر عمقاً، ثم تحول من الترجمة الحرفية إلى الاقتباس والتعريب، حتى اشتد عوده وبدأ في التأليف الأصلي. إلا أن مصر كانت مهيأة أكثر من غيرها من الأقطار العربية لعمل فن مسرحي، وبذلك كانت لها الريادة في هذا المجال مع مشاركات لا تقل أهمية في لبنان وسورية.
وقد سبق ظهور الكاتب المسرحي المحلي في مصر إرهاصات كثيرة، تكاتفت كلها وعملت على ظهوره، ففي ميدان التأليف خرجت للناس في عام 1894 م أول مسرحية مصرية تأخذ شكل الميلودراما الاجتماعية، وكان اسم المسرحية "صدق الإخاء" واسم مؤلفها "إسماعيل عاصم"، وهي تسعي إلى تبصير الأغنياء بمضار الترف وتبديد الثروات. وأهمية هذه المسرحية تأتي من مصدرين: أولهما أنها كانت البشير الأول بقيام المسرحية الاجتماعية المؤلفة التي تجعل همها معالجة هموم المجتمع وعيوبه. أما المصدر الآخر لأهمية هذه المسرحية فهي أنها مضت قدماً مع رحلات الفرق الفنية، فاقتحمت تونس الخضراء، وأثارت انتباه الناس وحفاوتهم هناك.
ثم توالى ظهور المسرحيات الاجتماعية في مصر بعد ذلك، فقدم "فرح أنطون" مسرحيته المعروفة "مصر الجديدة ومصر القديمة" عام 1913 م، وفيها استخدم شكلاً مسرحياً يراوح بين الرواية والمسرحية ليعرض تطلعات مصر وآمالها في أوائل القرن من قيام طبقة منتجة، تقوم بكل ما من شأنه رفعة الوطن. والمسرحية صادقة الانتماء إلى الواقع المصري، وإن كان بها كثير مما يشي بأصل أوروبي أخذت عنه، ومع هذا فقد كانت خطوة قوية قادرة على طريق بزوغ الكاتب المسرحي المصري. وما لبث الكاتب المسرحي المصري الخالص من كل أثر لاقتباس أو تمصير أو أي اعتماد آخر على النصوص الغربية أن ظهر في شخص "إبراهيم رمزي".
وقد كتب إبراهيم رمزي عدداً من المسرحيات التاريخية والاجتماعية والغنائية أهمها:
الحاكم بأمر الله 1914 م، وأبطال المنصورة 1915 م، وبنت الإخشيد 1916 م، والبدوية 1918 م، وإسماعيل الفاتح 1937 م، وشاور بن مجيد 1938 م. كل هذا في اللون التاريخي، أما في المسرحية الاجتماعية فكتب مسرحية صرخة الطفل 1923 م.
ثم يواكب إبراهيم رمزي في الفترة نفسها مؤلف مصري آخر هو "محمد تيمور" الذي أخرج مسرحيات: "العصفور في القفص" مارس 1918 م، و"عبدالستار أفندي" ديسمبر 1918 م، و"الهاوية" 1921 م، وهي مسرحيات ذات أسس أجنبية واضحة، فرنسية في الغالب الأعم، ولكن تيمور قد أجاد تمصيرها.
ثم يظهر على المسرح مؤلف مصري ثالث دعم الحركة المسرحية في مصر، وهو "توفيق الحكيم" الذي أخرج أولى مسرحياته عام 1919 م، وكانت باسم "الضيف الثقيل"، وهي رواية مفقودة ولكن مضمونها معروف هو أن ضيفاً ثقيلاً يحل على أسرة ويرفض أن يرحل عنها، كناية عن هجاء درامي للاحتلال البريطاني الذي كان يكتم أنفاس مصر آنذاك.
أما أول مسرحية كاملة تصل من فن الحكيم فهي "المرأة الجديدة" التي خرجت إلى الناس عام 1923 م غير أن أصولها الفرنسية لا تخفى على العين المدققة رغم التمصير الجيد الذي قام به الحكيم.
وفي ميدان المسرح الغنائي الذي تزعمه الشيخ سلامة حجازي، شعر حجازي منذ أن اعتلى خشب المسرح بالحاجة إلى وجود المسرحية الغنائية المصرية، ونعى على الأدباء عدم إقبالهم على تأليف هذا النوع المصري، وكان الشيخ سلامة حجازي يتمني دائماً أن يبث الدروس الاجتماعية والمبادئ الأخلاقية والعظات الوطنية في ثوبها المصري وردائها القومي، وتحقق له بعض ما أراد. وحين توفي الشيخ حجازي عام 1917 م، كان نجم أحد فناني المسرح الغنائي المصري قد بزغ بوضوح في سماء الفن وهو الشيخ "سيد درويش"، الذي كان يخرج المسرحية موسيقياً وغنائياً، كما يخرج المخرج المسرحي مسرحية درامية عادية. وكانت أنضج أعماله "العشرة الطيبة" و" شهرزاد" و"الباروكة ".
ويعد الفنانان المصريان "جورج أبيض" و"عزيز عيد" من رواد الفن المسرحي المصري في أوائل القرن العشرين الميلادي. ولا يمكن تجاهل إسهاماتهم، نحو مسرح مصري ناضج، فقد أرسيا الأسس المسرحية التي سار على نهجها تلامذتهما بعد ذلك. غير أن الرائد المسرحي "زكي طليمات" يشير في معرض تحليل فن عزيز عيد بوصفه ممثلاً، فيقول: "يرجع الفضل لعزيز عيد في التنبيه إلى أهمية فن الإخراج المسرحي".
وقد ظهر في مصر آنذاك ممثلون مسرحيون موهوبون على رأسهم الفنان "يوسف وهبي" وكذلك الموهوبة "روزاليوسف" والفنانون المقتدرون حسين رياض وأحمد علام وفاطمة رشدي وزينب صدقي، وتلك كانت بداية تكوين فرقة "رمسيس" المسرحية التي اجتذبت أنظار الجمهور العريض والمثقفين معا، بما قدمته من مسرحيات من أشهرها: كرسي الاعتراف، وراسبوتين، وغادة الكاميليا وكان ما حققته الفرقة على طريق تطوير الفن المسرحي المصري وزرعه مؤسسة محترمة في تربة البلاد، إلحاحهاً على الانضباط، وتعويدها جمهورها احترام المواعيد.
تطورت الحركة المسرحية في مصر تطوراً ملحوظاً، خاصة بعد ثورة يوليه عام 1952 م التي أطلقت الطاقات الحبيسة وأوفدت المسرحيين إلى أوروبا واهتمت بنشر الثقافة، فكان أن ظهرت اتجاهات مسرحية ناضجة يمثلها نعمان عاشور، ويوسف إدريس، وسعد الدين وهبة، ولطفي الخولي، والفريد فرج، وهؤلاء الكتاب المسرحيين لم يكونوا مصدر إشعاع في مصر فحسب ولكن في المنطقة العربية بأسرها، والتي تأثرت بفن هؤلاء المسرحيين، وأخذت عنهم الكثير.
5. المسرح في سورية
جاءت نهضة المسرح في سورية على يد كل من: رفيق الصبان، وشريف خزندار، اللذين عادا إلى سورية من فرنسا بعد أن تدربا على أيدي الفنانين "جان لوي بارو" و"جان فيلار"، فأخذا يقدمان نماذج من المسرح العالمي محاولين وضع أسس لثقافة مسرحية واعية تضمن في الوقت نفسه إقبال الجماهير. وأسس في الوقت نفسه د. رفيق الصبان نواة فرقة مسرحية كان لها أكبر الفضل في دعم مسيرة المسرح في سورية وأطلق على طاقمه الفني هذا اسم "ندوة الفكر والفن".
ولم تلبث الدولة أن تقدمت لمساعدة هذا الطاقم الفني الصغير، فأسست فرقة المسرح القومي السوري عام 1959 م، مستعينة بطاقم الصبان وبجهود مخرج شاب درس المسرح في أمريكا واسمه هاني صنوبر. وسرعان ما انضم إلى الفرقة مخرجون عادوا إلى بلادهم بعد أن درسوا المسرح في المعهد العالي بالقاهرة، وبهذا أخذ يتكون للمسرح السوري، على المدى، الطاقم الفني اللازم لقيام حركة مسرحية، وأصبح ينتظر المؤلف المسرحي الواعي، القادر على أن يكتب نصاً مسرحياً كاملاً قابلاً للتمثيل.
وجاء هذا الكاتب المرتقب حين أبدع الكاتب المسرحي السوري "سعد الله ونوس" الذي تقدم في عام 1967 م بمسرحية "حفلة سمر من أجل 5 حزيران" فافتتح بهذه المسرحية المهمة عهداً جديداً في المسرح السوري. كان ونوس قد كتب قبل هذه المسرحية خمس مسرحيات قصيرة هي: لعبة الدبابيس، والجرادة، والمقهى الزجاجي، وجثة على الرصيف، والفيل يا ملك الزمان. كما كتب مسرحية طويلة من جزأين هما "حكاية جوقة التماثيل" و"الرسول المجهول في مأتم انتيجونا". وهي أعمال تتسم بالتجريد والإغراق في استخدام الرموز. والبطل في هذه المسرحيات جميعاً هو الإنسان الفرد بصراعاته ومعاناته ووحدته، وهو إنسان محاصر ومطارد ومحكوم عليه أحياناً.
وكتب ونوس بعد ذلك رائعته المسرحية "مغامرة رأس المملوك جابر" وهي تسعي إلى مزج الممثل بالمتفرج في حدث مسرحي واحد.
وفي العام 1978 م أخرج سعد الله ونوس مسرحيته الفاتنة "الملك هو الملك" وفيها استخدم بلباقة فنية كبيرة إحدى حكايات ألف ليلة وليلة، تلك التي تروي كيف أن هارون الرشيد قد ضجر ذات مرة، فقرر أن يصطحب وزيره في جولة ليلية، سمعا خلالها من يقول "آه لو كنت ملكاً، لأقمت العدل بين الناس وفعلت كذا وكذا. فيقرر الخليفة أن يأخذ الرجل إلى قصره وأن يجعل منه خليفة لمدة يوم واحد، إلى آخر الحكاية.
ومسرحية "الملك هو الملك" باعتراف النقاد تعدّ أعذب ارتشافه ارتشفها كاتب مسرحي عربي من إرث ألف ليلة وليلة، وهي إلى هذا أحسن ما قدم حتى الآن لتطويع تراث ألف ليلة وانتشاله من جمود الماضي إلى حيوية الحاضر.
ومن كتاب المسرح السوري الجديرين بالتقدير أيضا "مصطفي الحلاج" الذي كتب عدة مسرحيات هي: "القتل والندم" 1956 م وهي تتحدث عن نضال الشعب التونسي في سبيل الحرية، وفيها يجعل المؤلف بطله واقعاً في صراع بين واجبه الثوري وعاطفته الذاتية، ذلك أنه مضطر إلى قتل والد حبيبته المتعاون مع الاستعمار. أما مسرحية "الغضب" 1959 م، فيصور "الحلاج" فيها نضال الجزائر وفظائع التعذيب الذي كان يوقعه المستعمرون الفرنسيون بالمناضلين الجزائريين. ولعله يشغل نفسه كذلك بفظائع التعذيب النازي لضحاياهم، وصمود كثير من هؤلاء الضحايا في وجه طغيان الفاشية. وفي المسرحية الأخاذة "الدراويش يبحثون عن الحقيقة" 1970 م، يضع المؤلف يده على موضوع بالغ الخطورة في دول العالم الثالث، ألا وهو ظاهرة التعذيب التي سبق أن لفتت أنظار الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر فأعد دراسة عن التعذيب في القرن العشرين الميلادي.
غير أن المسرح السوري الحديث أنجب أيضاً كتاباً لفتوا الأنظار بكتاباتهم منهم "ممدوح عدوان" و"علي عقله عرسان " و"وليد إخلاصي" وغيرهم ممن وضعوا المسرح السوري في مكانة جيدة جديرة بالتحليل، إلا أن الكاتب سعد الله ونوس يظل أبرز كتاب المسرح السوريين في العصر الحديث بكتاباته التي لاقت نجاحاً على خشبة المسرح ليس في سورية فحسب وإنما في سائر أنحاء الوطن العربي.
وكان قد تحمس لسعد ونوس فنانون مصريون فعرضت المسارح المصرية مسرحياته "طقوس الإشارات والتحولات" و"الأيام المخمورة" و"الملك هو الملك" و"مغامرة رأس المملوك جابر".
6. المسرح في لبنان
لم يستطع لبنان أن يوجد المسرح فناً، وإنما استطاع أن يوجده أدباً وأثراً يقرأ، وأسلوباً للتعبير عن الحياة والنفس، ظلت المسارح التي نشأت في البلاد، محصورة ضمن المعاهد العلمية في الأعم الأغلب منها، ولم تؤثر في حياة الشعب تأثيراً مباشراً، بحيث يقبل على العناية بتنشئته، ممثلاً، وممثلين، وبناء مسارح، وتوجيه الأدباء نحو التأليف المسرحي.
لم يكن النشاط المسرحي اللبناني في وضع جيد، لذا مات مؤسس المسرح اللبناني وأحد رواد المسرح العربي "مارون النقاش" كسير الفؤاد محسوراً، إذ تبين له أن دوام هذا الفن في لبنان بعيد الاحتمال.
ولكن لبنان، الفنان، والمقتبس والكاتب والممثل لم يترك عنايته بالمسرح بوفاة النقاش. إنه صدر الجزء الأهم من فنه المسرحي إلى مصر، فجاءت إليها وفود الفرق مثل: فرقة سليم النقاش، ابن أخي مارون النقاش، وما نجم عنها من فرق مسرحية: فرقة يوسف الخياط، وفرقة سليمان القرداحي، وفرقة إسكندر فرح.
وإلى مصر جاء أيضا الكتاب والمترجمون المسرحيون اللبنانيون، وبرز من بينهم الكاتب المسرحي فرح أنطون، الذي قدم للمسرح المصري أول مسرحية اجتماعية انتقادية تعنى بشؤؤن مصر وتتحدث عن متاعب بنيها ومشاكلهم، مسرحية "مصر القديمة ومصر الجديدة".
ومن لبنان كذلك جاء "جورج أبيض" الفتي الطموح الذي هوى فن المسرح، وأخذ يسعى للإنجاز فيه، حتى أرسله خديوي مصر في بعثة إلى فرنسا عاد بعدها إلى مصر لينشئ أول فرقة تقدم التراث العالمي في المسرح على أسس ثابتة ومعروفة، بعد أن أصبح جورج أبيض ذاته أول ممثل عربي يتلقى فنون التمثيل بطريقة علمية على يد فنان فرنسي هو "سليفان".
أما الساحة اللبنانية نفسها فقد خلت من التمثيل العام، الموجه إلى الناس. وتقوقعت حركة المسرح في أحضان المدارس، وفي جمعيات الهواة. وأصبحت في بعض الأحيان حركة مناسبات اجتماعية، ثم جاءت السينما والإذاعة من بعدها، فحولت انتباه اللبنانيين من التمثيل الحي، إلى التمثيل بالوساطة. وقد ظهرت فرق مسرحية لبنانية بدءاً من منتصف القرن العشرين الميلادي منها: فرقة محترف برت للمسرح على أيدي روجيه عساف ونضال الأشقر 1968 م، وفرقة المسرح الاختباري التي أسسها أنطوان ولطيفة ملتقى، وفرقة المسرح المعاصر 1960، والفرقة الشعبية اللبنانية وهي التي أصبح اسمها فيما بعد "فرقة الرحبانية".
وقد مرت حركة المسرح في لبنان بأربعة مراحل على النحو التالي:
المرحلة الأولى: وتمثل المحاولات المسرحية الأولى في لبنان على يد مارون النقاش.
المرحلة الثانية: الترجمات، وفيها عرض "شبلي ملاط" مسرحية "الذخيرة" عن الفرنسية ومسرحية "شرف العواطف" عن جورج أونه الفرنسي، وترجم أديب إسحق مأساة راسين "أندروماك"، شعراً ونثراً، وعرض كذلك فارس كلاب وليشاع كرم مأساة "زايير" لفولتير ونقلاها إلى الشعر العربي.
المرحلة الثالثة: مرحلة بعث التاريخ الوطني العربي، وفيها وضع نجيب الحداد مسرحية شعرية تتناول حياة عبدالرحمن الداخل: عنوانها "حمدان" ووضع الشيخ أحمد عباس الأزهري مسرحية: "السباق" بين عيسي وذبيان، ومن ثم كثرت المسرحيات التي تتخذ موضوعاتها من التاريخ العربي، وانضم الآباء النصارى إلى زملائهم المسلمين في الجهود المبذولة لاستخدام فن المسرح أداة لبعث الروح الوطنية والقومية، وتعميق الشعور الديني، والاعتداد بالسلف الصالح، وتوجيه الناس إلى المثل الأعلى والبطولات.
فيما تمثل المرحلة الرابعة مرحلة الواقعية الاجتماعية، وقد وصلت موجتها إلى لبنان من وراء المحيط الأطلسي بوصفها مظهراً من مظاهر حركة أدبية نشطة هي حركة أدباء المهجر في أمريكا. وكانت هذه الحركة قد شملت المسرح أيضاً، إلى جانب فنون القصة الأخرى والنقد، فكتب جبران خليل جبران مسرحية "أرم ذات العماد"، وكتب ميخائيل نعيمة مسرحية "الآباء والبنون" التي يقول في مقدمتها: "إن الرجاء المعلق على النهضة الأدبية التي بزغ نورها حتى شمل بلداناً عربية كثيرة يضعف كثيراً إذا ما مضت الأمة العربية في إهمال شأن الدراما، وهو فن لو خير الغرب بينه وبين بقية الألوان الفنية، لاختار الدراما دون سواها". وبعد أن يشير إلى تدني النظرة إلى الدراما في البلاد العربية، فالممثل فيها بهلوان والممثلة عاهرة، وفن التمثيل ضرب من العبث واللهو، يمضي ميخائيل نعيمة فيقول: "لست أشك قط في أننا سنري عندنا، عاجلاً أم آجلاً، مسرحاً وطنياً تمثل عليه مشاهد حياتنا القومية. إنما يقتضي لذلك قبل كل شيء أن يحول كتابنا أنظارهم إلى الحياة التي تكر حولهم كل يوم بأفراحها وأتراحها، وجمالها وقبحها، وشرها وخيرها، وأن يجدوا فيها مواد لأقلامهم - وهي غنية بالمواد لو دروا كيف يبحثون عنها".
بعد ذلك تظهر فجأة مسرحيات أحمد شوقي الشعرية في مصر، فيتراجع الواقع في المسرحيات، ويتحرك شعراء لبنان للسير في الدرب الذي ارتاده أمير الشعراء.
يكتب سعيد عقل في يوليه 1935 م مسرحية شعرية لبنانية بعنوان "بنت يفتاح"، يظهر فيها واضحاً أثر راسين، ويبين منها أن سعيد عقل يتناول موضوعاته من الخارج، خارج تاريخ بلاده وخارج الجو الفكري الذي يتقلب فيه الناس من حوله، وهو إلى هذا لا ينجح في هذه المسرحية ولا في مسرحيته التالية "قدموس" في تطويع شعره لمطالب المسرح.
ثم عادت المسرحية اللبنانية إلى الواقع مرة أخرى بظهور أعمال سعيد تقي الدين: "لولا المحامي" و"نخب العدو" و"المنبوذ". وهي مسرحيات تصور حالات اجتماعية لبنانية تصويراً صحيحاً.
ويلاحظ المراقبون للحركة المسرحية اللبنانية أن النشاط المسرحي اللبناني منذ الستينيات من القرن العشرين الميلادي كان موجهاً في الأساس إلى طبقة المثقفين، فهو يخاطبهم وحدهم في كل المسرحيات تقريباً. ومسرح هذا شأنه لا يمكن أن يكتب له بقاء طويل، فلا بد لأي حركة مسرحية صحية وواعية من أن توجه نفسها في الأساس إلى جماهير الناس، وذلك بتقديم أعمال تهم جميع الناس، بمن فيهم من مثقفين.
7. المسرح في السودان
يبدأ تاريخ المسرح السوداني عام 1902 م، حين كتب "عبدالقادر مختار" أول مسرحية سودانية هي "نكتوت" ومعناها "المال"، التي وصفت بأنها تعكس بصدق صورة من صور المجتمع السوداني في ذلك التاريخ، إذ لمس موضوع المسرحية، التي جاءت بقلم كاتب غير سوداني هو عبدالقادر خطاب، وتراً حساساً يمس خصوصيات الشعب السوداني.
وقد ظهرت بالسودان نشاطات مسرحية مدرسية ما بين السنوات 1905 - 1915 م. فقد مثلت مدرسة البنات للرسالة الكاثوليكية في أم درمان مسرحية أدبية ضمن ألوان أخرى من النشاط المدرسي شمل إلقاء الخطب وعرض الأشغال اليدوية.
وفي عام 1905 م نشرت جريدة السودان بتاريخ 5 أكتوبر أن "جمعية حب التمثيل" ستقيم ليلتها الخيرية مساء الخميس التالي في قهوة الخواجة لويزو، حيث يقوم أعضاؤها بتمثيل بعض المسرحيات الهزلية بالإنجليزية والعربية إلى جانب فقرات موسيقية يشهدها الحفل.
وفي 15 نوفمبر 1909 م نشرت جريدة السودان خبراً عن مسرحية عرضت باسم "هفوات الملك"، وتستمر أنباء المسرح في جريدة السودان على هذا المنوال، فتذكر مسرحيات قدم أغلبها على مسرح الخواجة لويزو.
أما التأليف المسرحي في السودان فقد بدأ في الفترة ما بين 1903 - 1915 م، بمحاولات على يد إبراهيم العبادي الذي كتب مسرحية بالشعر العامي عام 1910 م إسمها "عروة وعفراء" استمد مادتها من التراث العربي القديم.
ويشير المؤرخون للحركة المسرحية السودانية إلى أن فن المسرح قد نقله إلى السودان جماعة من الأساتذة المصريين الذين عملوا في أول هذا القرن بالتدريس في كلية غوردون التذكارية، وكانت أول مسرحية لهم بعنوان "التوبة الصادقة" مثلت عام 1912 م، والمسرحية مصرية والممثلون مصريون وبطلها قاضي مصري قام هو بنفسه بإخراجها. والذين شاهدوا هذه المسرحية يقطعون بأنها خلقت شغفاً في نفوس طلبة الكلية للتمثيل، مما جعل إدارة المدرسة تأخذ في تكوين فرقة من الطلبة.
وفي عام 1918 م تأسس نادي الخريجين، وتكونت جماعة "صديق فريد" للمسرح، وظلت هذه الجماعة تقدم مسرحياتها العديدة خمس عشرة سنة، وكان من نشاط هذه الجماعة المسرحية التي عرضوها في مساء الخميس 9 ديسمبر 1920 م والتي تدور فكرتها حول تعليم المرأة، وكان موضوع الساعة آنذاك، وقد اشتهر شباب الموظفين والطلبة بإجادة هذا الفن، وصار لهم صيت: منهم صديق فريد وعرفات محمد عبدالله وعبدالرحمن علي طه وعلي بدري وعوض ساتي وعلي نور المهندس وأبو بكر عثمان وغيرهم.
وقد عرض صديق فريد مسرحية "صلاح الدين الأيوبي" في مساء تلك الليلة وكان النادي مكتظاً، لم يبق فيه قدم ورفعت الستارة وشهد الناس عجباً، فهتفواً وصفقواً.
وحين أعيدت المسرحية من بعد قام بدور البطل: صديق فريد، الممثل الذي فتن به الناس آنذاك، بقامته الفارعة، وتكوينه الجسماني الفحل، وكانت الناس لا بالتصفيق والهتاف فحسب، بل تصرخ ملء أصواتها تجاوباً مع صديق في دور صلاح الدين، وبكي البعض وانتحب البعض، وتأثر حتى صبية المدارس، وكان منهم من يقلّد صديق فريد في دور صلاح الدين.
ويقول النقاد عنه أنه أقوى ممثل سوداني اعتلى خشب المسرح، صوته جذاب، جهوري، سريع الحركة، ينفعل في قوة ويهدأ في لطف. وقد رُوي عنه أنه عندما كان يؤدي دور صلاح الدين كان الجمهور يصمت صمت القبور، وفي ليلة العرض الأولى صال وجال فوق المسرح وفجأة جرّد حسامه في ثورة غضب فهب النظارة واقفين.
وقد اتجه صديق فريد وجماعته إلى عرض المسرحيات التاريخية، وكان هذا طريقهم الوحيد هرباً من وطأة الاستعمار الذي كان لا يسمح بأي محاولة تعرض بالنظام السياسي الاستعماري.
ولم يقتصر صديق وجماعته على عرض مسرحياتهم في العاصمة، بل كانت الفرقة تسافر في المناسبات الأعياد الدينية وخلافها لعرض مسرحياتها في عطبرة وواد مدني وغيرهما من مدن الأقاليم السودانية، ولعل أهم ما قدمته هذه الجماعة للمسرح السوداني أنها رغم الظروف السياسية القاهرة، ورغم مظاهر الكبت الأجنبي، استمرت عروض فنون المسرح مدة طويلة، فساعد هذا على خلق جمهور للمسرح في تلك الآونة.
اصطدمت فرقة صديق فريد بالصعوبة التقليدية وهي ندرة العنصر النسائي أو انعدامه، وقد لجأت الفرقة إلى الحل التقليدي كذلك وهو: الرجال في أدوار النساء وقد حاول صديق فريد مرات عدة أن يشرك فتيات في التمثيل، ولكن محاولاته جميعاً باءت بالفشل. وقد لجأ ذات مرة إلى إقناع فتاة بأداء دور نسوي من خلف المسرح، فكان الأمر مضحكاً بالنسبة للنظارة والممثلين على حد سواء، فكفّ صديق فريد عن تكرار تلك المحاولة.
ولم تلبث الجماعة أن انفضت عقب اعتزال صديق فريد للتمثيل قبل وفاته بمدة، وبعد أن أخذ الاستعمار البريطاني يتعسف في معاملته للفن المسرحي عقب الثورة الوطنية التي هبت عام 1924 م.
ظهر في أفق المسرح السوداني نجم جديد هو عبيد عبدالنور، أحد خريجي الجامعة الأمريكية ببيروت. كما ظهر في الفترة نفسها واحد من النقاد البارزين في حقل المسرح، وهو عرفات محمد عبدالله - الذي كان ممثلاً، ثم تحول ناقداً، فأصبحت آراؤه في المسرحيات تصدر عن علم وتجربة معاً. وكانت مجلتا "النهضة" و"الفجر" تنشران مقالات في النقد المسرحي تتحدث عن ضرورة احترام دقة المواعيد، وتحث الجمهور على النظام واحترام العمل المسرحي وتطالب بأن تكون الصحافة في خدمة المسرح. وأن تصبح موصلاً فعالاً بين المسرح والجمهور.
في عام 1946 م تكونت أول فرقة متكاملة للتمثيل، وظهرت المرأة السودانية على المسرح. أنشأ الفرقة الفنان ميسرة السراج، وقدمت فرقته هذه مسرحيات كثيرة ذات محتوي اجتماعي منها: "وفاء وعجائب" و"انتقام وغرام". كما فتحت الفرقة الباب واسعاً للتبرعات، واتجهت إلى الشعب السوداني تحت شعار "أعطني قرشاً أعطك مسرحا". وقد قام الفنان ميسرة بمهام التأليف والإعداد وشرع في محاولة بناء مسرحي، بما تحصل له من مال تبرعات.
وفي نهاية العام ذاته 1946 م، أسست فرقة "السهم الفضي" وفرقة الهواة للتمثيل. كما كانت هناك نشاطات مسرحية مختلفة قام بها الناديان المصري والسوداني، وكذلك انتشر المسرح المدرسي بانتشار التعليم في البلاد. على أن هذا كله ظل مجرد حركات لم تتعد السطح، على رأي النقاد السودانيين، وما كان في استطاعتها أن تفعل أكثر من ذلك وهي واقعة في بحر السكون الشامل، ومواجهة بواقع لغوي واجتماعي وعرقي شديد التعقيد. لهذا ما لبثت فرقة السراج أن تقلصت، وانصرف بعض العاملين في المسرح إلى الإذاعة، وكان بينهم ميسرة السراج نفسه وزميلاه محمود الصباح و عوض صديق. وقد أصابوا نجاحاً ملحوظاً في ميدان الإذاعة، ثم ما لبث المستمعون أن أعرضوا عنهم وانصرفوا إلى برامج فكاهية كان يقدمها عثمان حميدة وإسماعيل خور شيد وهي المعروفة بهزليات "تور الجر". ولم يفلح أصحابها مع ذلك في تطويرها إلى مسرح يقوم على الفكاهة، فإن محاولاتهم في هذا السبيل ما لبثت أن توارت. وفي 1 يناير 1956 م نال السودان استقلاله الوطني غير أن هذا الحدث القومي لم يجد تعبيراً عنه في المسرح.
8. المسرح في العراق
في عام 1926 م زارت فرقة جورج أبيض العراق، وقدمت حفلات تمثيلية في كل من بغداد والبصرة فكانت هذه الزيارة النواة التي تبلورت حولها حركة مسرحية نشطة، كانت موجودة من قبل، وكانت تبحث عن محور تدور عليه ومحرك يدير هذا المحور.
وقد وجدت الحركة المسرحية العراقية المحور في زيارة تلك الفرقة المصرية التي كان لها الأثر الفعال في وضع الأسس الفنية الأولى للمسرح في العراق، وتغيير نظرة الناس إلى هذا الفن، ورفع مستوي الهواة العراقيين الذين عملوا في هذا المجال.
أما المحرك فقد كان ذلك الفنان العراقي الدافق الحماس: "حقي الشبلي" الذي اشترك مع فرقة جورج أبيض بتمثيل دور ابن أوديب في مسرحية "أوديب ملكا" التي قدمتها الفرقة هناك. ومن ثم اندفع حقي الشبلي في طريقه المسرحي الطويل فألف أول فرقة مسرحية عراقية محترفة في مطلع 1927 م، اشترك فيها إلى جانب الفنانين العراقيين نفر من الممثلين السوريين والمصريين وهم: بشارة واكيم وعبداللطيف المصري وعبد النبي محمد ومحمد المغربي وغيرهم. وتجولت فرقة حقي الشبلي في العراق تدعو إلى التمثيل وتقدمه للجمهور.
وتوالت زيارات الفرق المسرحية من بعد، فجاءت فرقة فاطمة رشدي عام 1929 م، وقدمت عدداً من المسرحيات، ومن ثم جرى الاتفاق بين الفرقة والأستاذ حقي الشبلي على أن ينضم إليها، فسافر إلى مصر للعمل والتدريب تحت إشراف عزيز عيد. وظل الشبلي بمصر في سفرته الفنية هذه ما يقرب من عام. فلما عاد إلى العراق 1930 م مع رحلة أخرى لفرقة فاطمة رشدي قدمت فيها الفرقة حفلات في بغداد والبصرة والموصل، تخلّف في العراق الشبلي وألّف فرقة باسمه هي "فرقة حقي الشبلي" التي ظلت تكافح خمس سنوات متصلة في سبيل دعم الفن المسرحي العراقي عن طريق التمثيل في العاصمة وأقاليم الشمال والجنوب.
ثم سافر حقي الشبلي إلى فرنسا عام 1935 م للدراسة، فلما عاد عام 1939 م أسس قسماً للتمثيل في معهد الفنون الجميلة، أخذ على عاتقه إعداد الممثلين والمخرجين وتقديم المواسم المسرحية.
كانت هذه فترة ذهبية للمسرح العراقي، ظهرت خلالها عدة فرق محترفة قدمت إنتاجاً مسرحياً متعدد الجوانب، وتمكن بعضها من تأسيس مسارح أهلية.
وبهذا اكتملت للحركة المسرحية العراقية عناصر أساسية في كل حركة مسرحية وهي: فنانون متحمسون يعملون بحماس الهواية، على مستوي الاحتراف، وصلات عضوية حيوية بالفرق المسرحية خارج البلاد، ومادة مسرحية قابلة للتقديم كما هي أو بعد التشكيل، ومؤلفون مسرحيون من نوع أو آخر يقدمون أعمالاً مسرحية متفاوتة الحظ من الجودة والإبداع، ولكنها تكفي لكي يستمر النشاط المسرحي من يوم إلى يوم.
كل ما كان ينقص المسرح العراقي إذ ذاك أن يقوم فيه الكاتب المسرحي القومي الذي يكتب لبلاده بالنظر العميق والفن المسرحي المقنع، وهذا لم يتأت للعراق إلا في أوائل الستينيات من القرن العشرين الميلادي أو نحوها.
في أوائل الخمسينيات من القرن العشرين الميلادي بدأ الكاتب العراقي "يوسف العاني" يتحسس طريقه حين كتب مسرحيات مثل "رأس الشليلة"1951 م وفيها يستخدم أسلوب التمثيلية الإذاعية كي يفضح ما يدور في الدوائر الحكومية من فساد إداري، ويجمع العاني هنا بين الواقعية في العرض والتصوير وبين شيء من الفكاهة. والنقد الاجتماعي في تلك المسرحية كان واضحاً ومباشراً وموجه نحو هدف يرمي إليه العاني دائماً في مسرحياته وهو نصرة المظلوم الشعبي على خصومه من أعداء الشعب ومستغليه. وفي العام 1955 م بلغ العاني مرحلة مهمة من مراحل التطور المسرحي حين كتب مسرحيته المعروفة "أنا أمك يا شاكر" ودخل بفنه بقوة وجسارة ودون مواربة في المعركة الوطنية التي كانت تدور في العراق إذ ذاك، لتحقيق التحرر الوطني على الصعيدين الداخلي والخارجي.
ما بين عامي 1967 - 1968 م أي بعد اثني عشر عاماً من كتابة "أنا أمك يا شاكر" كتب العاني مسرحية "المفتاح" وكان مشغولاً فيها كعادته بالإنسان وقضاياه.
إلى جانب يوسف العاني قام كتاب مسرحيون واعدون، يمدون الحركة المسرحية العراقية بنصوص إن تفاوتت في القيمة فهي مع هذا روافد لها شأنها، لهذا المجري المسرحي الواضح الذي شقه يوسف العاني للمسرح العراقي. من أمثال هؤلاء "نور الدين فارس" الذي يتابع فن العاني الاجتماعي فيقدم مسرحية البيت الجديد 1968 م، وفي مسرحية "جدار الغضب" يعرض نور الدين فارس ثورة الزنج عرضاً درامياً بسيطاً ولكنه مؤثر.
ما بين عامي 1968 - 1969 م كتب عادل كاظم مسرحية "الموت والقضية" وانتزع من ألف ليلة شخصيتيها الدائمتين: شهرزاد وشهريار، وجعل منهما رمزين للحرية "شهرزاد" والضياع "شهريار", انشأ ما بين الاثنين علاقة جديدة هي علاقة الحرية التي تحوم حول الضياع.
وثمة مسرحيات فكرية أخرى كتبها كتاب لا تنقصهم الموهبة مثل: "خشب ومخمل" 1965 - 1966 م لعبدالملك نوري، و"السؤال" لمحيي الدين حميد 1970 م. وعلي درب استلهام التراث أعد قاسم محمد في عام 1973 م مسرحيته الطريفة "بغداد الأزل بين الجد والهزل" وفيها يغوص قاسم في بطون كتب التراث: كتب الجاحظ ومقامات الحريري وما رواه الرواة عن أشعب الطفيلي.
ومن الإنجازات الواجبة التسجيل للمسرح العراقي اهتمامه بأعمال الفنانين المسرحيين في آسيا وأمريكا اللاتينية. وفي هذا الصدد قدمت الفرقة القومية للتمثيل مسرحيات "طائر الحب" للكاتب الياباني كيند ستياو، و"الإملاء" للكاتب الإيراني كوهر مراد، و"شيرين وفرهاد" للكاتب التركي ناظم حكمت و"الثعلب والعنب" للكاتب البرازيلي جولهيم فيجويردو، و"الأشجار تموت واقفة" للكاتب الأسباني أليخاندرو كاسونا.
9. المسرح في الكويت
عرفت الكويت المسرح بوصفه نشاطاً تعليمياً وتثقيفياً عن طريق فرق المدارس، وبجهود فنان كويتي نذر نفسه منذ البداية لاستنبات المسرح في تربة الكويت وهو: حمد الرجيب.
كان الرجيب هو الحافز والمشجع للفنان الشعبي الكويتي محمد النشمي على أن يتخذ المسرح وسيلة للتعبير عن ذاته ومجتمعه، وذلك حين استدعاه ليكون ضمن فريق مدرسة الأحمدية الذي كان يعتزم التمثيل منافسة مع المدرسة المباركية.
كان ذلك في عام 1940 م، وكانت فرقة تمثيلية قد سبقت فرقة الأحمدية إلى الظهور، هي فرقة المباركية التي تأسست عام 1938 م.
وقد كان مقدراً لمحمد النشمي أن يصبح من بعد نجماً من نجوم النظرة الشعبية لفن المسرح، فقد قدم في الأعوام ما بين 1956 - 1960 م عشرين مسرحية بينها واحدة فقط كتبت سابقاً على العرض، وهي مسرحية "تقاليد" لشاب من هواة المسرح ومريديه هو صقر الرشود.
جاهد "محمد النشمي" في المسرح الكويتي، وتعهد النبت، حتى ضمن الإقبال العريض من الجماهير، في بلد لم يعرف المسرح من قبل، تصبح الصعوبة هنا صعوبتين: شق الطريق، والسير فيه.
والنتيجة العملية لمسرحيات محمد النشمي التسع عشرة هي بزوغ فن المسرح الموجه إلى الجمهور العريض في الكويت، وتمخض هذا الفن عن نوع من العرض المسرحي يجمع بين النقد الاجتماعي - هدف الكوميديا الدائم - وبين العرض الترفيهي. ولولا جهود النشمي في المسرح الكويتي لما قامت له قائمة. إذ إن المسرحيات قبله كانت تعليمية تقدم في المدارس، ويحضرها المعنيون من أقارب الطلبة ومن المشرفين عليهم، و مسرحيات تاريخية أو وعظية تقدمها جماعات الهواة في الأندية.
لقد ضمن محمد النشمي للمسرح الكويتي شهادة ميلاد معتمدة من الشعب أولاً، وليس من الجهات الرسمية ذات الاختصاص. وبهذا أمن للمسرح الكويتي ولادة شرعية.
إلى جانب جهود النشمي وزملائه من أعضاء فرقة المسرح الشعبي، يذكر جهد حمد الرجيب الذي ساعد أن يبقى المسرح في البلاد، وذلك بالتأليف للمسرح أو بمشاركة غيره في التأليف، أو بالتمثيل أو بالإخراج.
ويعد المهتمون بالمسرح الكويتي حمد الرجيب أول هاو للمسرح في الكويت، إذ أسهم في تمثيل مسرحية "إسلام عمر" في الثلث الأول من القرن وتحديداً في العام 1938 م.
ثم توالت المسرحيات في العام ذاته 1938 م، تقدمها فرق المدارس في العطلة الصيفية فشهد ذلك العام مسرحيات: "هاملت" و"المروءة المقنعة" و"في سبيل التاج" و"فتح مصر". وقد قام حمد الرجيب بالإشراف على هذه المسرحيات جميعها، وكان من ضمن ما يقدم عطاء لفن المسرح الوليد، إلى جانب الإخراج والتمثيل، صناعة الماكياج والديكور، كما ألف بالاشتراك مع الشاعر الكويتي المعروف أحمد العدواني مسرحية "مهزلة في مهزلة".
وقد أوفد حمد الرجيب إلى مصر، لدراسة فن المسرح في معهدها العالي عام 1948 م، وعاد منها عام 1950 م، مسلحاً بنظرة علمية وعملية في المسرح، ومن ثم اتجه إلى تأصيل المسرح في الكويت على أسس متينة. كذلك شجع الرجيب ترجمة المسرحية العالمية إلى العربية في الكويت، فأعان في عام 1957 م محمود توفيق على نشر ثلاث مسرحيات لموليير ترجمها إلى العربية. كما ظل على علاقة متصلة بالحركة المسرحية في مصر ومن أقطابها المعروفين أستاذه: زكي طليمات، وكان الرجيب قد عين في عام 1954 م في منصب مدير الشؤون الاجتماعية والعمل، ثم وكيلاً لوزارة الشؤون عام 1962 م، وبهذا أعطى رجل المسرح الأول في الكويت الرغبة والقدرة على التنفيذ في وقت واحد.
لم يطل الأمر بحمد الرجيب حتى مد جسوراً للكويت مع الحركة المسرحية في مصر، فبعد زيارتين للكويت قام بهما الأستاذ زكي طليمات، وأثار فيهما انتباه الرأي العام - والمثقفين خاصة - إلى المسرح وضرورته اجتماعياً وفنياً، وإلى الدور الحضاري والتحريري الذي يؤديه في حياة الشعوب، خاصة تلك التي تقبع فيها المرأة حبيسة جدران منزلها - بعد هاتين الزيارتين، استقدمت الكويت الأستاذ زكي طليمات للإقامة بها، والعمل على النهوض بفن المسرح فيها، فأنفق في هذه المهمة عشر سنوات طوال تبدأ من 1961 م.
شهدت هذه الفترة قيام فرقة المسرح العربي عام 1961 م، وكان طليمات قد دعا إلى قيام هذه الفرقة في تقريره إلى وزارة الشؤون عام 1958 م، وحدد مهمتها ومجال عملها في حديث أدلي به إلى مجلة "حماة الوطن" في 15 يونيه 1961 م. وقد كونت فرقة المسرح العربي على أسس علمية معروفة، فجلبت المواهب إليها عن طريق الإعلان العام، وكان من بين المتقدمين امرأتان هما مريم الصالح، ومريم الغضبان، فكانتا أول امرأتين تقفان على خشب المسرح في الكويت. وجعل طليمات يدرب أفراد الفرقة جميعاً، المشارك منهم في التمثيل وغير المشارك، وأنشئت لجنة ثقافية للفرقة وجعلت لها مكتبة، وبهذا استكملت الفرقة الشكل العلمي المعاصر والمعترف به في عالم المسرح.
وفي عام 1963 م قدمت فرقة المسرح العربي أول مسرحية كويتية وهي "استأرثوني وأنا حي" كتبها سعد الفرج، وأخرجها طليمات وقامت بالدور النسائي فيها مريم الغضبان، وكانت بقية الممثلين من الكويتيين، فهي بهذا أول عمل مسرحي كويتي تأليفاً وتمثيلاً.
10. المسرح في البحرين
عرفت البحرين فن المسرح حينما أنشئت فيها أول مدرسة نظامية 1919 م، وهي مدرسة: الهداية الخليفية في مدينة المحرق. فلم يمض على قيام المدرسة ست سنوات حتى وجدت في أساتذتها وطلابها القدرة والشجاعة على اعتلاء خشب المسرح.
وكانت المسرحية الأولى في تاريخ البحرين هي مسرحية "القاضي بأمر الله" وفي عام 1928 م قدمت المدرسة نفسها مسرحية "امرؤ القيس" وتبعتها مسرحية "نعال بو قاسم الطنبوري".
وفي 1928 م كذلك قدمت مسرحية " ثعلبة " على مسرح مدرسة الهداية الخليفية - فرع المنامة. وفي عام 1932 م قدمت مدرسة الهداية في المحرق مسرحية "داحس والغبراء".
ثم حدث أن قام خلاف بين بعض مديري المدارس وأساتذتها من جهة، وبين الهيئة القائمة على التربية في البحرين من جهة أخرى، فأخذت المدارس الأهلية تظهر إلى الوجود. وأولى هذه المدارس كانت مدرسة الأستاذ إبراهيم العريض التي أسست عام 1932 م وظلت تعمل طوال سنوات ثلاث أو أربع ثم أقفلت نتيجة لسفر مؤسسها إلى الهند.
وقد قدمت هذه المدرسة بعض النشاط المسرحي أبرزه مسرحية شعرية كتبها الشاعر إبراهيم العريض بعنوان "وامعتصماه" وهي أول مسرحية بحرينية على الإطلاق، يعالج موضوعها فترة من تاريخ العصر العباسي، وقد أخرجها المؤلف نفسه. ثم كتب من بعد مسرحية "وليم تل" بطل الاستقلال في سويسرا، وقد أنشأها إبراهيم العريض باللغة الإنجليزية ومثلها نفس طاقم الممثلين الذي قدم "وامعتصماه"، وقد لاقت هذه المسرحية نجاحاً كبيراً.
وكانت عروض هذه المدرسة تقدم على أرض تبرع بها أحد الأثرياء، كما تبرع ثري آخر بألواح الخشب، التي صنع منها هيكل المسرح، وتبرع القادرون من الطلاب بالمقاعد والكراسي.
وإلى جانب مدرسة العريض كانت هناك مدرسة "الإصلاح الأهلية" التي أسسها الشاعر عبدالرحمن المعاودة، الذي يعده البعض الرائد الأول للمسرح في البحرين، فقد كان مؤلفاً ومخرجاً وممثلاً أيضاً.
وقد قدمت المدرسة بفضل مواهبه المتعددة عديداً من المسرحيات كان أولها مسرحية "سيف الدولة بن حمدان" من تأليف وإخراج عبدالرحمن المعاودة عام 1931 م، وتبعها مسرحية "عبدالرحمن الداخل" 1936 م من تأليفه وإخراجه أيضاً.
في عام 1940 م قدمت المدرسة الخليفية للبنات بالمنامة مسرحية "لقيط الصحراء"، وقدم نادي البحرين في العام ذاته مسرحية "مجنون ليلى" لأحمد شوقي، وكذلك مسرحيته "مصرع كليوباترا" ثم مسرحية "قيس ولبنى" للشاعر عزيز أباظة.
في أوائل الأربعينيات من القرن العشرين الميلادي ظهرت طائفة جديدة من الفنانين، كانت أرسخ قدماً من الفئة التي سلفت الإشارة إليها، وهي فرق شباب الأندية، أندية متواضعة جداً، تستأجر غرفة أو غرفتين من مبنى، تمارس فيهما نشاطاتها الثقافية والفنية كافة.
فإذا ما أرادوا تقديم عرض مسرحي ما، سألوا بعض القادرين أن يأذنوا لهم بإقامة عروضهم على أرض خالية يملكونها أو أي ساحة تقع أمام منزلهم. وكانوا يستأجرون الخشب أو يشترونه ليبنوا به بأنفسهم مسرحاً صغيراً في العراء، فإذا ما انتهوا من الغرض باعوا الخشب بنصف ثمنه للتاجر الذي اشتروه منه.
وكانوا يعتمدون في الإيراد على بيع تذاكر لا ثمن محدداً لها، ويترك تحديد هذا الثمن للمدعو. وكان هذا يحدث في الليلة الأولى فقط ثم تباع التذاكر من بعد بالطريقة المألوفة. وكانوا إلى هذا يختارون الأحداث في سن 12 و 13 سنة لأداء الأدوار النسائية أو الشبان من ذوي الأصوات الرقيقة، الذين كانت تقوم لهم حاجة، لأن المسرحيات كانت تتخللها مقاطع غنائية.
وقد ازدهرت الأندية الثقافية في مدينة المنامة، وكان أعضاؤها من الشباب يهتمون بالمسرحيات الكلاسيكية التي تتناول أحداثاً اجتماعية أو تاريخية.
في عام 1955 م تشكلت فرقة من هواة التمثيل أطلقت على نفسها اسم "الفرقة التمثيلية المتنقلة" وكانت تتكون من عدد من الشباب المتحمس لفن المسرح، اتخذت من المكتبة الشعبية الخاصة بأحد أعضائها مقراً لها، ثم زاد عدد أعضائها واستطاعت الفرقة أن تقدم أول عرض مسرحي لها في أبريل 1955 م على مسرح نادي العروبة، وكان العرض يتألف من ثلاث مسرحيات "الإنسانية المشردة" تأليف وإخراج محمد صالح عبدالرزاق و"صرخة لاجيء" و"الضمير" من تأليف وإخراج صلاح المدني.
ثم نشأ خلاف بين أعضاء الفرقة فانقسمت قسمين، القسم الأول تحت اسم "الفرقة التمثيلية المتنقلة" والثاني تحت اسم "فرقة البحرين التمثيلية".
بعد ذلك ظهرت فرقة "مسرح الاتحاد الشعبي"، وارتفع عدد أفراد الفرقة إلى ستين، وأخذ المشرفون عليها جانب الحذر، فقدموا عرضين تمهيديين على سبيل اختبار المواهب قصر حضورهما على الأعضاء وكانت المسرحيات المقدمة هي "قيس وليلى" و"تذكر يا ولدي" و"دكتور في إجازة".
وفي عام 1970 م ظهرت فرقة مسرحية أخرى تحمل اسم "مسرح أوال" كون الفرقة بعض من الشباب المتحمس، وكان باكورة إنتاج الفرقة مسرحية "كرسي عتيق" تأليف وإخراج محمد عواد وكان ذلك في يناير 1971 م. وتكونت بعد ذلك فرقة مسرحية جديدة تحت اسم "مسرح الجزيرة" وقدمت مسرحيتين أولاهما كويتية: "غلط يا ناس" والثانية "الضايع" لفؤاد عبيد.
11. المسرح في ليبيا
يعد الشاعران أحمد قنابة وإبراهيم الأسطي عمر في مقدمة الرعيل الأول من رجالات المسرح البارزين في ليبيا. الأول كان يعمل مذيعاً إبان الاحتلال الإيطالي للبلاد، وأسهم في العديد من المسرحيات التي كانت تقدمها في ليبيا فرقة إيطالية عرفت باسم "الدبولاكورو" أي ما بعد العمل. وكانت هذه الفرقة تتألف من مجموعة من الهواة يمارسون نشاطهم الفني بعد الفراغ من أعمالهم الرسمية. وكانت أغلبيتهم من الأجانب بينهم عدد قليل جداً من أبناء البلاد، وقد ظلت هذه الفرقة تعمل من 1925 حتى 1936 م، وشارك الشاعر أحمد قنابة في التمثيل مع الفرقة طيلة هذه الأعوام.
جاءت الزيارات المتعددة التي قامت بها الفرق العربية من مصر وتونس لتدعم الحس المسرحي عند قنابة وغيره من فناني المسرح. وكان بين الفرق المسرحية التي زارت البلاد فرقة جورج أبيض، وفرقة منيرة المهدية، وفرقة يوسف وهبي، وقد لاقت هذه الفرق جميعاً التشجيع والإقبال الكبيرين من المواطنين، مما شجع قنابة وزملاءه من مدرسي مدرسة الفنون والصنائع الإسلامية على المضي على درب المسرح وبخاصة بعد أن زارت إحدى الفرق الليبية وهي فرقة درنة المعروفة باسم "فرقة هواة التمثيل" مدينة طرابلس وقدمت فيها مسرحية "خليفة الصياد".
تشجع قنابة بهذه الزيارة وقوي بها عوده، فأسس الفرقة الوطنية الطرابلسية عام 1936 م، وقدمت الفرقة مسرحيته الأولى "وديعة الحاج فيروز"، وأعقبتها بمسرحية "حلم المأمون" من تأليف وإخراج أحمد قنابة.
وقد كان يساعد قنابة في عمله نخبة من الفنانين والمثقفين بينهم الهادي المشيرقي ومحمد حمدي والدكتور مصطفي العجيلي وفؤاد الكعبازي، وكان هذا الأخير يتولى مهمة إعداد الديكورات ورسم اللوحات الدعائية. وقد قدمت الفرقة أعمالها على مسرح البوليتياما الذي حلت محله سينما النصر.
وقد كانت هذه الفرقة وغيرها ما بين محلية وزائرة تعمل في ظل مقاومة شرسة من سلطات الاستعمار الإيطالي، التي أحست بخطر المسرح وقدرته على إيقاظ العواطف، فكانت تعمد إلى محاربة فرقة مدرسة الفنون والصنائع وتهدد مناصريها والقائمين عليها، ووصل الأمر بهذه السلطات الاستعمارية إلى حد منع تمثيل مسرحية "صلاح الدين" لما تحويه من تمجيد للعرب والعروبة.
كان هذا في طرابلس. أما في درنة، فقد بدأت فرقة هواة التمثيل عملها هناك في عام 1928 م، وكان في درنة ممثل كوميدي محبوب هو محمد عبدالهادي الذي برع في تمثيل الأدوار الكوميدية وإلقاء المنولوجات الفكاهية.
وقد اصطدمت الفرقة بمعوقات كثيرة، كان على رأسها سلطات الاستعمار الإيطالي، بالإضافة إلى الصعوبات الأخرى التي يلقاها الهواة في كل بلد لم يعرف فن المسرح الحديث إلا أخيراً. فقد عجز جمهور المتفرجين عن دعم الفرقة دعما كافياً، لقلة خبرته وندرة زيارته للمسارح، هذا بالإضافة إلى انعدام العنصر النسائي بين الفنانين الليبيين، وعدم وجود قاعة عرض يقدمون عليها أعمالهم، وهنا يأتي الدور الريادي الذي أداه الشاعر إبراهيم الأسطي عمر، الذي كان أحد مؤسسي فرقة هواة التمثيل. فقد بسط على الفرقة الناشئة حمايته الثقافية والمالية كذلك، ولما لجأ محمد عبدالهادي إلى استئجار بيت تؤدي فيه الفرقة تمارينها، بعد أن رفضت سلطات الاستعمار منح الفرقة رخصة العمل، ساند الرائد المسرحي إبراهيم الأسطي عمر جهود الفرقة، فقدم مشورته الفنية والثقافية، وأسهم إسهاماً فعالاً في تمثيل بعض الأدوار وإخراج عدد من المسرحيات، واختيار النصوص وتعديلها بحيث تتماشى مع البيئة الليبية. وحين كان يعوز الفرقة المال، كان هذا الرائد الشجاع يدفع من راتبه الضئيل للإسهام في نفقات شراء المعدات والمهام المسرحية اللازمة.
في عام 1965 م كتب عبدالله القويري، أحد أدباء ليبيا البارزين في ميدان القصة والمقالة الأدبية مسرحية أسماها "الجانب المضيء". وفي عام 1972 م كتب عبدالله القويري مسرحية أخرى هي "الصوت والصدى".
من كتاب المسرح الليبيين كذلك الكاتب عبدالكريم خليفة الدناع، وجهوده في سبيل المسرح لا تقتصر على كتابة المسرحيات، بل أنها تتعدى هذا إلى الإسهام في تأسيس الفرقة المسرحية التابعة للنادي الأهلي المصراتي، وقد قام بأعمال السكرتارية لها، وقام بإعداد بعض المسرحيات العربية والعالمية لعروض الفرقة.
وقد مثلت مسرحيته "دوائر الرفض والسقوط" في كل من مهرجان المسرح الليبي الأول الذي أقيم عام 1971 م، وفي المهرجان الوطني الجزائري عام 1971 كذلك.
وقد كتب الدناع مسرحيات هي "سعدون"، "باطل الأباطيل"، "دوائر الرفض والسقوط"، المحنة و"العاشق". ومن المسرحيات الليبية الناجحة والمقنعة على الصعيدين الفني والفكري مسرحية "الأقنعة" التي كتبها محمد عبدالجليل قنيدي، ونشرتها دار مكتبة الفكر.
وللكاتب: الأزهر أبو بكر حميد مسرحيات كثيرة منها المسرحيتان "وتحطمت الأصنام" و"السماسرة" وقد طبعتا في بيروت عام 1971 م، وكذلك المسرحيتان "الأرض والناس" و"دولاب الملابس وحجرة المكياج" وقد طبعتا في طرابلس بليبيا عام 1973 م.
كتب للمسرح الليبي كذلك: أحمد إبراهيم الفقيه، وهو وثيق الصلة بالحركة المسرحية في ليبيا، فقد كان عضواً بالمسرح القومي، فمديراً لمعهد جمال الدين الميلادي للتمثيل والموسيقي في يناير 1971 م، وقد أسس فرقة مسرحية أهلية عام 1959 م وقام بالتأليف والإخراج لها.
12. المسرح في تونس
قدمت إلى تونس عام 1908 م، فرقة كوميدية شعبية يرأسها الممثل المصري محمد عبدالقادر المغربي، المعروف بكامل وزوز، ومثلت مسرحية "العاشق المتهم" مقتبسة عن الإيطالية، وحاول التونسيون من بعد تكوين فرقة مسرحية تشرف عليها جمعية سميت "النجمة" ولكن المحاولة لم تخرج إلى حيز التنفيذ.
وفي أواخر عام 1908 م وفدت على تونس فرقة الممثل المعروف سليمان القرداحي، وقد أثارت هذه الفرقة اهتمام التونسيين المثقفين بفن التمثيل، والإمكانات الكبيرة التي يحملها من النواحي الأدبية والثقافية والفنية، وكذلك بوصفه وسيلة للرقي بالوطن، والحفاظ على اللغة العربية والثقافة العربية في وجه محاولات الاستعمار الفرنسي لمحق هذا كله.
وما لبث الشباب التونسي أن تجمع وكوّن "الجوق المصري التونسي" حيث مثل الفنانون المصريون والتونسيون جنباً إلى جنب، وقدموا في عام 1909 م مسرحية مصرية هي مسرحية "صدق الإخاء" للكاتب المصري إسماعيل عاصم المحامي. وتوالت من بعد زيارات الفرق المصرية فجاءت فرقة الشباب المصري، وعلي رأسها إبراهيم حجازي 1909 م، وقدمت نخبة من المسرحيات التي كانت تعرض في مصر آنذاك. في عام 1912 م تقدم الشباب التونسي تقدماً أوضح في الساحة المسرحية وتألفت في هذا العام جماعة الشهامة العربية، وكانت قد سبقتها جماعة الآداب العربية عام 1911 م، وقدمت الفرقتان العديد من المسرحيات التي كانت تعرضها الفرق المسرحية المصرية، بالإضافة إلى ثاني مسرحية تونسية يجري تأليفها وهي مسرحية "الانتقام" من تأليف الشيخ محمد مناشو.
تغير الموقف في المسرح التونسي تغيراً درامياً بعد الحكم الوطني، وبخاصة بعد اللقاء الذي جرى في 7 نوفمبر 1962 م بدار الإذاعة، والذي حضره إطارات المسرح التونسي ليستمعوا إلى توجيهات رئيس الجمهورية السيد الحبيب بورقيبة.
كان من أهم ما قاله الرئيس التونسي إذ ذاك إن توعية الشعب التونسي بتراثه الخالد البعيد الغور هي مهمة من أكبر مهام الحكم الوطني، وإحدى السبل البارزة لتحقيقها هي الثقافة، وبخاصة المسرح الذي يهتم به الحبيب بورقيبة منذ أمد بعيد. فهو يري في المسرح نموذجاً مصغراً للوطن، وهو لذلك يهب بالأساتذة وجمهور المتعلمين من الجنسين، ولا سيما بنات العائلات، والطلبة والشبان أن يحلوا الفن المسرحي من عنايتهم المحل الأرفع.
كان هذا الخطاب المهم بمنزلة إشارة البدء لنهضة مسرحية مرموقة، حيث نفذ مشروع الفرق المسرحية المدرسية التي بلغ عددها عام 1965 م أربعين فرقة، ساهمت في المباريات المسرحية التي أقيمت في ذلك العام، وكان من بين أفرادها عدد لا بأس به من الفتيات الواعدات.
13. المسرح في المغرب
رغم غنى الفولكلور المغربي وتنوعه في ميدان الظواهر المسرحية وهي: مسرح البساط واحتفال سلطان الطلبة، فإن المسرح بدأ في العشرينيات من القرن العشرين الميلادي الحالي في المغرب بالطريقة ذاتها التي بدأ بها في الأقطار العربية الأخرى.
فقد ولدت شرارته زيارات الفرق المسرحية العربية، كما أسهمت الفرق الأوروبية في بث فكرة المسرح، ولو على نطاق ضيق، في طائفة من المغاربة مكنهم إلمامهم بالفرنسية من متابعة العروض الأجنبية. وتكونت أول فرقة مسرحية مغربية بمدينة فاس عام 1924 م من طلبة المدارس الثانوية، يساندهم بعض العرب المشارقة الذين استوطنوا العاصمة، وبينهم رجل اسمه الخياط.
وقد اتفق عديد من الملاحظين على أن ثانوية المولى إدريس بفاس كانت أول قاعدة انطلقت منها التجربة المسرحية الأولى، وامتدت الحركة المسرحية إلى مدينة طنجة التي عرفت نشاطاً مسرحياً حقيقياً، يرجع إلى زيارات متعددة للمدينة قامت بها فرقة المغنية نادرة وفرقة الريحاني وبديعة مصابني، وفرقة رمسيس وفرقة فاطمة رشدي عام 1932 م، وإلى جوار هذه الفرق العربية كان الأسبان يرسلون فرقهم المسرحية إلى طنجة، فأخذ شباب المدينة يتأملون أعمال فنانيها وينطبعون بها وقد أمدت أسبانيا هؤلاء الشباب بالتجهيزات المسرحية اللازمة ومنحتهم تجربة خبراء أسبان في فن المسرح. كل هذا إلى جوار أن المدينة كانت تحوي مسرحاً يحمل اسم الروائي الأسباني سيرفانتيس شيد عام 1912 م.
وفي طنجة ظهرت فرقة جمعية "الهلال" التي أسسها أحمد ياسين عام 1923 م، وجعل لها فروعاً ثقافية وترفيهية متعددة. واستمر نضال هذه الفرقة إحدى عشرة سنة قدمت فيها مسرحيات من أمثال: عطيل وروميو وجولييت وهارون الرشيد ومجنون ليلى. وتعد الفترة الممتدة من 1923 وحتى 1940 م انتصاراً لفن الخشبة بالمغرب، فقد هيأت الركيزة المناسبة لحركة مسرحية لاحقة كانت أنضج وأكثر تطوراً. بعد عام 1940 م شهد المسرح المغربي ركوداً عميقاً كان مرده ظروف الحرب العالمية الثانية التي كانت قد أعلنت قبل ذلك بعام واحد. فلما وضعت الحرب أوزارها أخذت الفرق المسرحية تظهر من جديد في المغرب، ففي الرباط قام فريق من طلاب المدارس الثانوية بتقديم عروض مسرحية متعددة بعضها مقتبس، وقد تمخضت هذه الحركة عن فرقة مسرحية اسمها "فرقة الأحرار". ثم أخذ الشباب المغربي يعرفون طريقهم إلى فن المسرح مؤلفين ومخرجين وممثلين.
الملاحق
·…أشهر كتاب المسرح العالمي
·…أعلام المسرح العربي
الصور
·…المسرح اليوناني
·…الهولوجرام
·…المسرح الدائري
الأشكال
·…المسرح اليوناني
·…المسرح الروماني
المصادر والمراجع
أولاً: المراجع العربية
1. أحمد زكي، "عبقرية الإخراج المسرحي"، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1989 م، ط 1.
2. بيير آجيه توشار، "المسرح وقلق البشر"، ترجمة د. سامية أحمد، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، القاهرة، 1971 م، ط 1.
3. جيمس لافر، "الدراما"، ترجمة مجدي فريد، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر، القاهرة، 1963 م، ط 1.
4. دريني خشبة، "أشهر المذاهب المسرحية"، مكتبة الآداب، القاهرة، 1961 م، ط 1.
5. سيد محمود السيد الشرشابي، رسالة دكتوراه، "الإمكانات التكنولوجية وأثرها في المنظر المسرحي المعاصر" إشراف: أ. د. عبدالمنعم عثمان محمد، أ. د. خابير ناباراو ثوبياجا، أكاديمية الفنون، المعهد العالي للفنون المسرحية، القاهرة، 1999.
6. شلدون تشيني، "تاريخ المسرح في ثلاثة آلاف سنة"، ترجمة دريني خشبة، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر، القاهرة، 1963 م، ط 1.
7. علي الراعي، "المسرح في الوطن العربي"، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، 1999 م، ط 2.
8. فرانك هوايتنج، "المدخل إلى الفنون المسرحية"، دار المعرفة، القاهرة، 1960 م، ط 2.
9. فرحان بلبل، "أصول الإلقاء والإلقاء المسرحي"، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1996 م، ط 1.
10. فوزي فهمي، "المفهوم التراجيدي والدراما الحديثة"، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1998 م، ط 1.
11. لويز مليكة، "الديكور المسرحي"، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1990 م، ط 3.
12. لويز مليكة، "الهندسة والديكور المسرحي"، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1995 م، ط 3.
13. ماريان جالاوي، "دور المخرج في المسرح"، ترجمة لويس بقطر، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، القاهرة،1970 م، ط 1.
14. "الموسوعة العربية العالمية"، مؤسسة أعمال الموسوعة للنشر، الرياض، 1996 م، ط 1.
15. يعقوب لنداو، "دراسات في المسرح والسينما عند العرب"، ترجمة أحمد المغازي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1972 م، ط 2.
16. جريد "الأهرام"، العدد الصادر في 12 أكتوبر 2001.
ثانياً: المراجع الأجنبية
1. Encyclopedia Britannica CD 2000 Deluxe Edition.
2. Encarta 98 Desk Encyclopedia, 1998.
فن كتابة القصة
للطاهر مكي
مقدمة
تنحسر دراسة الأدب والنصوص على نوعين: الشعر والنثر. حدود الشعر جلية تشمل دراسة الروائع من نتاج كبار الشعراء في مختلف عصور العربية الزاهرة, تذوقًا وتحليلاً وحفظًا, قصائد مختارة لكبار شعراء الجاهلية, والفحول من العصرين الأموي والعباسي, ومن العصر الأندلسي, وفي العصر الحديث تغطي شتى الاتجاهات, الكلاسيكية والرومانسية والواقعية, البارودي وأمير الشعراء, وحافظ ابراهيم, وعلي الجارم, والأجيال التي جاءت بعدهم: مدرسة الديوان ومن ساروا علي نهجها, وجماعة ابولو, وشعراء المهجر, وكوكبة لامعة من خيرة شعراء العربية المعاصرين, تتوزعهم البلاد العربية المختلفة.
كانت دراسة النثر أصعب، وفي بعض الأحيان أثقل دمًا, وبعض أساتذتنا كان يقصرها, حتي مطلع العصر الحديث, على الخطب والرسائل والوصايا والمقامات والأمثال, وكان أستاذنا المرحوم يِؤثر أن نقرأ في كتاب البيان والتبيين للجاحظ.
أما في العصر الحديث فاقتصر النثرعلى شيء من الخطب السياسية والاجتماعية, وبعض المقالات الأدبية, وما بعث من فن المقامة, وما دبج مصطفي لطفي المنفلوطي من مقالات، تأخد طابع القصة أحيانًا, وسحر القارئين في عصره، وأجيال بعده, بجمال لغته, وروعه بيانه. ولم تدخل القصة كلية دار العلوم, ولا أي كلية أخرى, نصًا يدرس إلا في عام 1976م. حين عهد إلي بتدريس النثر الحديث للفرقة الرابعة, ونخلت ما حولي من نثر أدبي ذي قيمة, ويعد إبداعاً, فإذا هو: الرواية والقصة والمسرحية.
ثم نظرت فوجدت أن أيًّا من هذه الأنواع لا يعطي ثمرته ناضجة, ولا يستوعب الدارس أصوله كاملة, إلا إذا قرئ النص كله. والزمن لا يتسع لأكثر من رواية , ورواية واحدة, وحتى عشرًا, لا تكفي. والأصل في المسرحية ألا تدرس, إذا فهمت بمعناها الدقيق, إلا مقترنة بإخراجها على خشبة المسرح تمثيلاً, نعم هناك مسرحيات هي في جوهرها نصوص حوارية, استهدف بها مبدعوها هذه الغاية منذ اللحظة الأولى, على نحو ما نجد في بعض مسرحيات توفيق الحكيم وكتبها لتظل تقرأ أولا على الدوام, وفشلت عند تقديمها على خشبة المسرح تمامًا, وأحسب أن هذا كان وراء إشارة يوسف إدريس في مقدمات بعض مسرحياته، أنه كتبها لتمثل لا لتقرأ, واتكأ فيها على اللهجة العامية تماماً.
لم يبق إذن متاحًا في مثل هذه الظروف غير القصة القصيرة, وكانت قد بلغت الذروة فنًا وإتقانًا في تلك الفترة, ونستطيع أن نختار منها أمشاجًا جديدة, لعدد كاف من الكتاب الممتازين, وكان ذلك جديدًا علي, وعلى طلابي. ولمواجهة هذا الموقف كان كتابي "القصة القصيرة: دراسة ومختارات" وصدرت طبعته الثامنة عام 1999م (نفذت الآن) قدمت فيه عددًا من القصص لكوكبة من خيار كتّاب القصة القصيرة, ومهدت لذلك بالحديث عن أصول القصة وتطورها في الغرب, وانتقالها إلينا, وجاءت النصوص المختارة منها لتغطي فنًا مختلف الاتجاهات, وموضوعيا القضايا الفكرية والاهتمامات الاجتماعية التي تشغل أذهان الناس في حينها.
نجحت الفكرة, وتوالت طبعات الكتاب, وبدأت كليات أخرى كثيرة تسلك هذا الطريق, وبعض المدارس الجادة الأجنبية والخاصة, وتتبع هيئات تربوية رفيعة, أخذت تدرس منه فصولاً لطلابها في المرحلة الثانوية.
وتجديدي الذهني واختياراتي أستاذًا, ولطلابي شادين وحالمين, كنا نتجاوز الكتاب لغيره من حين لآخر, فتكونت مجموعة جديدة تختلف عن المجموعات الأولي.
وفي عام 1992 عرفت المرحومة نوال المحلاوي. وكانت تشرف على قسم الترجمة والنشر في جريدة الأهرام, ما تتمتع به تلك المجموعة من رواج, فاتخذتها نموذجا على نحو أوسع, إذا اختارت من كل بلد عربي قصاصًا, وعهدت إليّ بأن أقدم للمجموعة بدراسة عن تطور فن القصة في العالم العربي, وأن ألقي ضوءًا هاديا على قصصها تعين القارئ على إدراك ما وراء الظاهر في كل قصة منها, وقمت بدراسة هذه المجموعة, وصدرت مقدمة بدراستي وتمهيدي عن جريدة الأهرام عام1993 بعنوان "مختارات من القصص القصيرة" ونفدت الطبعة في زمن يسير.
و ها أنا أعود الآن إلي تقديم مجموعة أخري, ليست جديدة تمامًا, ولا قديمة كلها, وإنما هي خليط من كل المختارات السابقة, مضافاً إليها ما جد في الساحة من إبداع جدير بالتقديم, وكل قصة منها, فيما أري, تمثل نموذجًا عاليًا في بابها, وفي عصرها, وفي اتجاهاتها, وفي بلدها, وتقدم, في مجملها, تاريخًا موثقًا لتثور القصة العربية منذ اكتملت في مطلع القرن العشرين في مختلف اتجاهاتها ومدارسها, حتى يومنا هذا, ولا شك أن هناك كثيرين يتمتعون بقدرات فنية عالية, ويكتبون قصصًا بديعًا وجميلا, وآمل أن ألتقي بهم في مناسبة أخرى قادمة لن تبطئ.
تضم هذه المجموعة كتّابًا من بلاد عربية مختلفة, وكعادتي لم أشر إلي بلادهم, إني أري العالم العربي وحدة متكاملة, أو يجب أن يتجه إليها, أؤمن بذلك, وأمل بأن الوحدة العربية ستتحقق يوماً, وإن طال الزمن رغم أن قوى الشر التي فتتته في الماضي, وتحاصره الآن ممزقاً في شتى أطرافه, لن تتيح له بسهولة أن يتجمع, وأن يرفع رأسه لكن الطبقة المثقفة الواعية في كل ركن منه مطالبة بأن تعي ماضيها وحاضرها ومستقبلها وأن تسمو علي المحلية, وتتمسك بالوحدة, في عالم يتحرك كله نحو التكتل والتضامن, والمثل العربي القديم يقول: إنما يأكل الذئب من الغنم الشاردة!.
ولكي نعرف مكاننا من الإبداع العالمي ألحقت بالقصص العربية مجموعة من القصص العالمية المترجمة إسبانية وفرنسية وإنجليزية وإيطالية, ومن أمريكا اللاتينية.
في الجامعات الأوروبية حيث درست لا يمثل الطالب دور المتلقي, وإنما يشارك في العملية التعليمية باحثًا ومناقشًا وصاحب رأي وقد وعيت هذا المنهج تمامًا, وأدركت دوره في بناء عملية الفرد مفكرًا وإيجابيًا في الحياة, وقادرًا على مواجهة الصعوبات, فاخترت ذلك المنهج للتعامل مع طلابي في محاضراتي منذ عملت مدرسا بدار العلوم حتى يومي هذا, لا أشرح ولا ألقن ولا أخاطب الذاكرة وإنما أحاول جاهداً رغم الصعوبات أن أوجه طلابي فيما يعملون مرشدًا ومقومًا وهاديًا, وما أكثر ما رغبوا إلي أن أحيلهم إلي مصادر تعينهم في التحليل, يجدون فيها القواعد التي تأخذ بأيديهم , فكنت أكتفي أن نتدارس بعض المبادئ في المحاضرة, ورأيت أن هذا غير كاف, ومن ثم فأنا أقدم في هذا الكتاب, لأول مرة مجموعة من القواعد حول تحليل النص الأدبي"بعامة والقصة بخاصة, وأعترف بأني غير راض عنه، وأنه يحتاج إلى جهد أكبر، وتفصيل أوفي, ولكن: شيء خير من لا شيء.
وبعد،
فما أصعب أن تكتب في هذه الظروف الحرجة التي نعيشها من تاريخ شعبنا وأمتنا, وما أثقل الهموم التي يحملها المواطن المثقف على كتفيه, وفي قلبه وعقله إذا كان في أعماقه مسحه من ولاء وإيمان!.
فإذا جاء الكتاب قريبًا مما يتمنى قارئه ويحب، فذلك من فضل الله, وإذا كان دون ذلك, فليلتمس لكاتبه العذر, فالكمال لله وحده كما يقولون
نحو تحديد الخصائص
* ما القصة القصيرة القصيرة:
يبدو للوهلة الأولي أن القصة لا تختلف عن الرواية إلا في الحجم، وأن الوسائل التقنية الأخري واحدة عند القصاص والروائي, كلاهما – مثلا – يستطيع أن ياتي بقصته أو روايته في ضمير الغائب أو المتكلم وأن يجيء بها في شكل يوميات ومذكرات وأن يستخدم الوصف أو الحوار وأن يغرق معها في الرومانسية أو يلتصق بعالم الواقع, وأن الرواية يمكن أن تضغط فتصبح قصة, وأن القصة يمكن أن تضغط فتصبح رواية. وهو تبسيط للأمور بأكثر مما تحتمل لأن الفارق بين الأثنين كبير للغاية.
وأول ما نلحظ منه أن الرواية أخذت, وتأخذ في كل بيئة لوناً, وفي كل عصر شكلاً علي حين أن القصة, وهي أكثر شبابًا وفي الوقت نفسه أقدم الأجناس الأدبية تاريخًا, ظلت وفية لماضيها, ولم تتنكر لأصولها الأولي, إنها حتي اليوم تقال في كل مكان, بين الشعوب البدائية, وعند أشد الأمم رقيًا, ولو أنها في الحالة الأولي تفتقد نية القيام بعمل فني, وهو ما يميزها عن الثانية.
ما القصة؟ .... إن أي محاولة لتعريفها أو تحديد خصائصا تضطرنا إلي الأقتراب من ألوان أدبية أخرى إن لم تكن قصصًا خالصًا فهي به أشبه, كالأسطورة والمثل والخرافة ومجرد الحكي, ثم الرواية أخيرًا. وسنحاول أن نجد للقصة الحديثة تعريفًا عند أولئك الذين عايشوها أبداعًا, وعالجوا قضاياها نقادًا, وشهد لهم عالم الأدب بالسبق في مجالها.
من بين التعريفات الكثيرة للقصة اخترت واحدًا كان أكثرها وضوحًا أو هكذا بدا لي, وهو للقصاص والناقد الأمريكي إدجار ألن بو, وأورده عرضاً وهو يتحدث عن مواطنه القصاص الأمريكي هوثورن Howthorne (1804 - 1864) يقول:"تقدم القصة الحقة، في رأينا مجالاً أكثر ملائمة دون شك لتدريب الشرائح الأرقي سموا, مما يمكن أن تقدمه مجالات النثر العادية الأخري.
"يبني الكاتب القدير قصة، لن يشكل فكره ليوائم أحداثنا إذا كان فطنًا إلا بعد أن يدرك جديًا أثرًا ما, وحيدًا ومتميزًا عندئذ يخترع الأحداث ويركبها بطريقة تساعده في إحداث الأثر الذي أدركه. وإذا عجزت جملته الافتتاحيه عن إبراز ذلك الأثر الذي أدركه. فمعني ذلك أنه فشل في أولي خطواته. وفي عملية الإنشاء كلها يجب ألا تكتب كلمة واحدة لا تخدم بطريقة مباشرة التصميم الذي خطط من قبل".
ويتحدث الناقد الأرجنتيني المعاصر أندرسون إمبرت عن "حكاية قصيرة ما أمكن" حتى ليمكن ان تقرأ في جلسة واحدة, ثم يضيف "يضغط القصاص مادته لكي يعطيها واحدة نغم قوية: أمامنا عدد قليل من الشخصيات, وشخصية واحدة تكفي. ملتزمين بموقف نرتقب حل عقدته .. ويضع القصاص النهاية فجأة, وفي لحظة حاسمة. إنه يدافع عن النظرة التي تقول إن القصة لها تأثير كلي ويتحدث عن وحدة الاندفاع, من الدفع والاهتمام,، وتنفجر في نهاية يمكن أن يتوقعها القارئ بدءًا، ومع ذلك ينتظرها وإلى جانب ذلك يجب أن تكون موجزة، وفي الوقت نفسه مؤثرة، لكي تعوض القوة ما تفقده حجمًا. ومن ثم فإن كل كلمة، وكل جملة يجب أن تكون ثملة بالمعنى، وبأكبر قدر من الإيحاء، وأن تكون طاقتها قادرة على التحمل، لكي تحقق القصة إنجاز الإبداعات الكبرى.
إليك صورة من قصة يوسف إدريس " أبو سيد: " وتركت رمضان وراءها يتحسس تجاعيد وجهه، ويلمس على رأسه التى كادت تخلو من الشعر، يمر بيده على بطنه المتكور ويشد شعر رجله الكث الذى ابيض أكثره، وينظر إلى ابنه سيد. وتأمل الصبي وكأنه يراه لأول مرة منذ سنوات! " إنها لوحة كاملة، هادئة الإيقاع، شهباء اللون، خفيفة الصوت، بارزة الوصف، ذات بعد ثالث وتغني عن صفحات.
تُولد القصة الجيدة كلاًّ، ومنذ اللحظة الأولى تسقط بين يدى المؤلف كياناً كاملاً، تصورًا يتوقعه، وبخاصة نهايتها، وبعد ذلك تجيء العناصر الأخرى: تقدير جرعة الاهتمام، تخير الألفاظ، البحث عن الألوان الموحية، وفي كلمة واحدة: العمل. ولقد يكون مفيدًا للنقاد والدارسين أن يقارنوا بين مسودات المؤلف الأولى وما نشر، وبين الطبعات المختلفة لقصة ما، وهو شيء لما ننتبه إليه في مصر، وملاحظة ما أدخله المؤلف من تغيير في كلماته، بإحلال لفظ مكان آخر، أرق أو أدق، أو أسهل انسيابًا في النغم، أو حذفه تمامًا لسبب أو لآخر، ومن إلغاء جملة ارتآها حشوًّا، أو زيادة أخرى تعطي الصورة وضوحاً أدق، أو إعادة نظمها لتكون أكثر اتساقًا فيما بينها، أو مع غيرها. وأن يكون على وعي بما يعنيه الإتقان لتحقيق العناصر الحيوية في القصة: الإيجاز والاهتمام والتوتر، ويجب أن تختم القصة بإحكام دون أن تترك مجالاً لثغرات جديدة، أو أية شروح تالية لها، مثل هذا العمل قد يأتي عليها، ويذهب بحقيقتها. في قصة نجيب محفوظ " عنبر لولو "، اتفق البطل مع فتاته، والتقى فكراهما: " قام فقامت، أعطاها ذراعه فتأبطتها، مضياً نحو باب الكشك وهو يقول: سأطلق الرصاص في جميع الجهات، سنرقص ونغني ونمرح "، ومعها انتهت القصة، وبدأ عمل القارئ، إن البقية يجب أن تترك لخياله وهو خلاَّق أيضًا، ونجيب محفوظ وهو قصاص متمكن في فنه يعرف أن القصة يجب أن تنتهى هنا.
نحن بإزاء جنس أدبي محكم، لا يسمح بالفضول أو التزيد بما ليس في خدمة النهاية التي حددها منذ البدء على نحو دقيق، في خدمة التوتر أو القوة التي ينهض عليها البناء، في حل العقدة التي ينتظرها القارئ مشتاقًا. ولا يمكن للقصاص أن يجنح أو يسهو أو يبطىء، دون غاية، في رسم الجو أو تصوير الشخصيات، أو المناظر الطبيعية، أو الحوار. ومن الممكن طبعًا أن توجد هذة العناصر كلها في قصة، ولكن في خدمة البناء القصصي، على نحو ما سنرى.
الحوار:
يمكن أن يستخدم, ومن الضروري جدًا أن يكون قصيراً, وموجزًا محكمًا، بلا فضول, بل وقد يلعب الحوار دورًا رئيسيًا كعنصر قصصي. وهناك قصص تقوم في مجملها على الحوار كما في قصة: "عنبر لولو" لنجيب محفوظ, أو قصة "شقاء" للقصاص الروسي تشيخوف, وقد تجيء على العكس فتخلو منه تمامًا, كما في قصة "ذراعان" لمحمد أبو المعاطي أبو النجا". دون أنّي يمس هذا في شيء حقيقة الجنس الأدبي أو روعة القصة وتماسك بنائها.
الخلق النفسى:
يستطيع القصاص الجيد في نطاق الحدود الدقيقة التي تحكمه من الزمن والحدث والعاطفة والاهتمام والحيز المحدود، بأن يجعل الإبداع النفسي عابرًا على الدوام، بسيطًا وواضحًا، ومن خلال خطوط قليلة عادية، ولكنها صلبة دائمًا، وفي خدمة القص، دون أن يعني ذلك بأية حال أن القصة الجيدة تتطلب شخصيات ذات بساطة فكرية، أو نفسيات غير معقدة، من الذي يستطيع أن
يؤكد، دون أن يخشى الوقوع في الخطأ، أن شخصية رمضان في قصة " أبو سيد " ليوسف إدريس، بسيطة الفكر مسطحة النفس؟ ..
الوصف والمناخ:
كل وصفة للطبيعة أو الأشياء أو الأشخاص. يجيء حشوًّا ولا يخدم العمل الفني يمزق الانسجام، إنه ينحرف باهتمام القارئ ويزعجه، ويبعده عن محور القصة والاهتمام به، ولا يؤدي أية وظيفة خاصة، ولكن القصة قد تتطلب وصفًا، وبدونه تصبح مقطوعة الرأى، ولنتذكر الأوصاف القصيرة الملتهبة في قصة غادة السمان، أو الدقيقة الهادئة المتشابكة في قصة يحيى حقى، لندرك أننا أمام وصف ممتاز، يتنفسه قصاص عظيم والوصف الذي في أول قصة " طريق شجر الكافور "،لمحمد عبد الحليم عبد الله، يسهم في خلق جو ضروري، لكي تمسك القصة بالقارئ حتى النهاية، فلا يفلت منها إلا مع آخر فقرة. وكان آلن بو أستاذًا في استخدام هذا المورد، ويكون فحوى الجانب الأكبر من قصصه، وبدون هذا الجو تفقد جاذبيتها، ومعناها أيضًا. فوصف المناظر الطبيعية، كما في قصة " ملك برجوازي" لروبين داريو، ليست شيئًا زائدًا في القصة، ولا بعيدًا عنا، ويجب أن يكون كبقية العناصر التي تكونها، في نطاق العقدة وخدمتها، لكي يتحملها الجنس الأدبى دون أن تسيء إليه.
ولا تتطلب القصة الجيدة إعدادًا مسبقًا، إنها تتجه إلى الحدث مباشرة تأسر القارئ وتغرقه في مادتها في اللحظة الأولى، يبدأ يوسف جوهر قصته " الأفيون ": " أحقًا يا سيدي الطبيب تستطيع أن تشفيني؟ إني لا أرى في يدك سماعة، وحجرتك خالية من أسلحة الجراحة وأجهزة الأشعة .. فكيف أنت مستطيع أن تستأصل الداء الوبيل .. أبهذه الصورة على الحائط؟؟ .. ما اسمها؟ .. الأمل ... أين هو؟ .. إن الفتاه تبدو حائرة وفي يدها قيثارة ممزقة الأوتار .. آه .. بقي وتر واحد .. خيط رفيع .. دقيق كأنه وهم .. أممكن حقًا أن ينبعث منه نغم .. وأن يوحي بالأمل .. حسنًا .. إنى أصدقك .. وسأستلقى على أريكتك المريحة، وسأتكلم في الضوء الخافت. وأطلق لأفكاري العنان بلا خجل .. لن أحبس خاطرًا واحدًا في رأسي .. سأعطيك الفرصة كاملة تحللني .. من يدري .. لعلك تنجح حيث أخفقت العقاقير .. " وعلى امتداد القصة يقدم الكاتب ملامح البطل حسية وفكرية، بارزة ومجسمة، في شكل اعترافات منسابة، دون أن تأخذ الشكل الخارجي للاعترافات، ويقدم معها العقدة وحلها ويقدمها إلى القارئ شيئًا فشيئًا في أسلوب مصقول، من العنوان حتى آخر كلمة، وكلها تخدم أغراض الكاتب في نسق يكاد يكون رياضيًا.
والقصة الجميلة يجب أن تبدو واقعًا، حياة حقيقية تتحرك حولنا، دون إغفاء ينحرف بنا أو تطويل يدفع الملل في نفوسنا، وأن تجيء متميزة فيما تلبس من أزياء، صُنعت لها وحدها، ولا يشركها فيها غيرها، وأن تكون إلى جانب ذلك موحية، تجعلنا نفكر، مهما كانت واقعية وموجزة، وأن تبقى في مجال الخيال، متلألئة، تفتح الباب واسعًا، وعريضًا أمام ذكاء القارئ أو السامع، وخياله، ليحلق معها ما شاء يلتقط الفحوى والفكرة، وربما معان أخرى أعمق، وذات قيمة بالغة، ومع الخيال العالي والراقي تبلغ القصة مرتبة الرمز، وترتدي ما هو رمزي، والرمز يتطلب مشاعر مكثفة، وبناء راقيًا للتجارب الإنسانية، وتخطيطًا تتجدد مع التجربة بكل عمقها، وبأوسع مداها، في كل مرة يعرض فيها الرمز. وعندما تصبح القصة رمزية في وضوح، تتجاوز أن تكون مجرد متعة أو تسلية أو غطاء للواقع، وإنما تصبح في هذة الحالة تجسيمًا للواقع نفسه.
وكل قصة جيدة تعبر في وحدتها عن وحدة فلسفتها ومفهومها للعالم، وهذا المفهوم ليس انعكاسًا لمعرفة محصلة تهدف إلى توضيحه، وإنما هو قبل أي شيء شكل من الإحساس بالعالم وبالحياة، وترجمة لموقف منه، ومحاولة الانسجام معه، ومن هنا فإن تلاحم أية قصة يجب أن يكون طبيعيًا، والحديث عن الطبيعة يفترض المثل الذي يحتذيه الفرد لكي يدرك العالم طبقاً لتركيبه المزاجي.
يمكن أن نقول إذن أن القصة:
* حكاية أدبية
* تدرك لتقص
* قصيرة نسبيًا
* ذات خطة بسيطة
* وحدث محدد
* حول جانب من الحياة
* لا في واقعها العادي والمنطقي
* وإنما طبقًا لنظرة مثالية ورمزية
* لا تنمي أحداثًا وبيئات وشخوصًا
* وإنما توجز في لحظة واحدة, حدثًا ذا معنى كبير.
بناء القصة:
تروي القصة خبرًا وليس كل خبر قصة، ولكي يصبح الخبر كذلك لا بد أن تتهيأ له الخصائص التي أشرنا إليها من قبل، وفي مقدمتها أن يكون أثره كليًا، وأن تكون وسيلتنا إلى ذلك ترابط تفاصيله، وأن يصور ما نسميه بالحدث وهو يتكون من بداية ووسط ونهاية.
فالبداية أو الموقف عند بعض النقاد، ينشأ منها موقف معين، وتنمو لتبلغ الوسط أو المرحلة التالية، وتتجمع كلها لتنتهي إلى النقطة الفاصلة، وهو سبب وجود الحدث في الأصل؛ ولذلك يسمي النقاد المرحلة الأخيرة، وتمثل نهاية الحدث، لحظة التنوير، ولكن وجود حكاية تنطوي على هذه الأقسام من بداية ووسط ونهاية لا يعني دائمًا، بالضرورة، أنها تصور حدثًا، فقد تجيء أخبارًا متعددة تتجاوز، وليس حدثًا ينمو طبيعياً وتترابط أجزاؤه كل جزء يرتبط بسابقه، ويؤدي إلى ما يليه، حتى يبلغ غايته.
ينشأ الحدث غالبًا من موقف معين، يتطور إلى نهاية معينة، ومع ذلك يظل ناقصًا؛ لأن تطوره من مرحلة إلى أخرى يفسر لنا كيف وقع، ولكنه لا يفسر لم وقع، ولكي يستكمل الحدث وحدته، ويصبح كاملاً، يجب أن يجيب على سؤال لم، إلى جانب الأمثلة التالية الأخرى: كيف ومتى وأني وقع، والإجابة على هذا السؤال تتطلب بحثًا عن الدافع، أو الدوافع، التي أدت إلى وقوع الحدث بالكيفية التي وقع بها. وهذا يتطلب بدوره التعرف على الأشخاص الذين قاموا بالحدث أو تأثروا به، فما من حدث إلا كان وراءه محدث، شخص أو أشخاص، يترتب عليه وقوع الحدث على نحو معين، والحدث هو الشخصية وهي تعمل وتصور الفعل دون الفاعل يجعل القصة أقرب إلى الخبر المجرد؛ لأن القصة تصور حدثًا متكاملاً له وحدة، ووحدة الحدث لا تتحقق إلا بتصوير الشخصية وهي تعمل.
ويجيء تصوير الشخصية، وهي تعمل عملاً له معنى، وهذا المعنى ليس مستقلاً عن الحدث، يمكن أن تضيفه إليه أو تفصله عنه، وإنما ينشأ من الحدث نفسه، وجزء لا يتجزأ منه، وبدون المعنى يصبح الحدث ناقصًا؛ لأنه يقوم على الفعل والفاعل والمعنى، وهي وحدة لا يمكن تجزئتها. وقد يبرع القصاص في رسم شخصيات قصته، ويبدع في تصور ما تقوم به من أفعال، ومع ذلك تظل قصته ناقصة؛ لأن الحدث لم يكتمل، جاء دون معنى. وتكون القصة في هذا أقرب إلى التاريخ، ويسمى هذ اللون منها القصص التسجيلي. والقصة وحدة متكاملة، لا يتضح معنى الحدث أو يقوم في جزء متها دون الأجزاء الأخرى، فالحدث والشخصية والمعنى وحدة، ويساند كل منها الآخر ويقوم على خدمته.
وكاتب القصة يحكي حدثًا لا يشارك فيه، ومن الخطأ أن يقرر رأيا أو فكرة في سياق القصة إلا إذا جاءت على لسان أحد من شخصياتها، وكان لها علاقة بتطور الحدث والتقرير من الأشياء التي تعيب النسيج القصصي عيبًا شديدًا، والقصاص الماهر يترجم ما يريد إلى معادل موضوعي، وبقدر ما يبرع في إيجاد المعادل، تكون فنية القصة وتميزها. فالكاتب يصور الحدث ولا يشارك فيه، ويدعنا نرى الأشياء من خلال شخصياته، ومن ثم وجب أن تجيء اللغة أقرب ما يكون إلى لغة الشخصية التي تتحدث إليها أو يتحدث الكاتب إلينا من خلالها.
* اللغة:
وقضية اللغة في القصة والمسرح تثير كثيرًا من النقاش المتجدد, وما أريد أن أعرض لها تفصيلاً, فليس هنا مكانها, والذين يرون أن تتفاوت لغة القصة يقولون: من غير المعقول في القصة أن يجعل الكاتب شخوصه بمستوي لغوي واحد, وخاصة إذا كانت اللغة المستعملة غير اللغة التي نتكلم بها في الحياة, كما يجعل كثير من كتّاب القصة عندنا اشخاص قصصه, وتفكر وتتكلم باللغة العربية الفصحي. وليست المسألة عامية أو فصحى كما يفهمها الناس أو كما يتناظرون حولها في الندوات, ولكن المسألة عندنا تتعلق بكتابة القصة مسألة خطيرة للغاية, وقد حان الوقت لكتّابنا ممن يفعلون ذلك أن يدركوا هذه الحقيقة وهي أنهم ليسوا أحرارًا في أن يجعلوا شخوص قصصهم تتكلم أو تفكر بالعربية الفصحى كما يتراءى لهؤلاء الكتّاب, فإن من البديهي أن أي قصة تحاكي حدثًا وأن أي حدث يحكي الواقع, واقع الحياة التي يمثلها الحدث, ولا أعتقد أن أحدًا من كتّاب القصة عندنا أو في العالم ـجمع ينكر أنه واقعي, فإن كيان الكاتب القصاص إنما يقوم علي هذه الواقعية, أي على محاكاته الواقع وقدرته على إقناع القارئ بأن قصته تمثل هذا الواقع ولذلك فالكاتب الذي يجعل شخوص قصته تتكلم وتفكر بلغة غير لغتنا في الحياة يهدم من اساسها الواقعية التي هي السبب في كيانه, لأن الحدث إنما يقوم على الاشخاص وتفاعلهم مع بعض حتي لا تنعدم الواقعية. والعجيب أن هذه القصة ينفرد بها كتّاب القصة عندنا, دون كتّاب القصة في أي مكان في العالم, ولعل السر في هذه الظاهرة الغريبة هي أن كتّابنا لم يتخلصوا بعد من المفهوم القديم للأدب الذي قامت عليه القصة في الأداب الغربية, وهي القصة التي يحاول كتّابنا تقليدها.
تلك هي وجهة نظر الداعين إلي تفاوت اللغة في القصة كما عرضها الدكتور رشاد رشدي, وفيما بعض الحق والكثير من الباطل. أما الحق الذي فيها فهو أن اللغة المستخدمة في القصة يجب أن تعكس إلي أقصى حد ممكن الجو النفسي لشخوصها, وما عداه فقابل للمناقشة أو باطل كله. والجو النفسي لا يرتبط باللغة عامية كانت أو فصحى حتى لو كانت جزءًا منه, لأن جانبًا كبيرًا منه وبخاصة ما كان حوارًا, يتوقف على نغم الكلمة الموسيقية حيث تلقي, وهو مالا يمكن تصويره واقعًا إلا علي المسرح وجملة السلام عليكم وهي فصيحة وعامية تعكس ألوانًا من الاجواء النفسية تبعًا لطريقة إلقائها, يقولها شيخ عالم أهلّ علي جماعة أو أستاذ قدم علي طلابه فهي تختلف في كل الحالات نغمًا وإيحاءُ, وليس لنا من طريقة لتصويرها كتابة, ويجئ التمييز بينها إذا كان الكاتب مقتدرًا, ولا دخل للغة هنا.
والقول بأن العامية متخذة في اللغات الأجنبية فيه إسراف شديد لأن التفاوت في اللغات الأجنبية بين لغة الأدب ولغة المشافهة محدود للغاية, وقد يجيء الكاتب الأمين ببعض الألفاظ أو الجمل التي تستعمل في اللغة الدارجة قليلاً واستثناء لاعتبارات فنية لا يمكن تجاوزها, ولكن عمله, في مجمله, يجيء في لغة الكتابة والتدوين, وليس في لغة المشافهة والحديث. علي حين أن العاميات العربية وليست عاميتنا واحدة تتفاوت بشدة وتكثر حتى في المدينة الواحدة وبعدت مسافة الخلف بينها وبين الفصحي لأسباب تاريخية واجتماعية لا مجال لذكرها, يقصر الإحساس بها علي المجال الذي يستخدمها وحده والجملة يقولها بطل ينتمي إلي بيئة اجتماعية معينة, من أدنى السلم في حي السيدة زينب, ذات نكهة معينة, لا تجد الصدى نفسه، عند واحد من الطبقة بعينها، في حي الجمالية، أو بولاق مثلاً، ولا أريد أن ابعد بالأمر خارج هذه الأحياء ذات المستوي الاجتماعي المتقارب إلي أحياء أخري تتفاوت اجتماعيا وفكريًا إلي حد بعيد ولا إلي الموازنة بين عامية المدينة والقرية أو بين العامية في مصر وغيرها من الأقطار العربية.
والفصحى لا تقف عاتقًا، وهي على التأكيد أكثر فائدة أو أقل ضررًا إن شئت، إذا أريد للقصة أن تكون أدبًا يتجاوز المحلية واللحظة، ويدخل مجال العالمية والخلود، ويأخذ مكانه بين أجناس الأدب الأخرى. والقول بأن الفصحى لا تساعد على توضيح ملامح الشخصية يرده أننا نترجم روائع القصص العالمي، وفي مختلف اللغات الأجنبية، باللغة الفصحى، نقلاً عن لغاتها الأصلية، وفيها تتوالى شخصيات من فئات شتى، تعبر عن حقائقها أو أحوالها، وتكشف عن أعماقها وبواطنها، وتصور مشاعرها وعقلياتها، في عربية فصيحة لا نحس معها بأن الاتساق الفكري للقصة قد مسه خلل، أو قصر في التعبير عنها فكرة، وتصويرًا.
إن كاتب القصة، فيما يرى محمود تيمور، إذا تنقل بين العامي والفصيح في عمل واحد، سواء في السرد أو في الحوار، فسح المجال لثغرات وفجوات فنية، يشعر بها هو والقارئ، كأنها مساقط الهواء التي يتعرض لها ركاب الطائرات في نواحي الجو، أو ركاب السيارات في الطريق غير المعبدة، إذ يفقد العمل مظهر التناسق والتوافق والألفة في التعبير، كما تفقد القطعة الموسيقية ما يطلق عليه اسم الهارموني.
والحق أن محمود تيمور حاول في البدء أن يكتب الحوار في قصصه باللغة العامية، ثم استبان فشله، فعاد إلى الفصحى، واعترف في مقدمة مجموعته " الشيخ جمعة ": "كنت مقتنعا أولاً أن لغة الحوار في القصص يجب أن تكتب باللغة العامية؛ لأن ذلك أقرب للواقع في الحقيقة. وقد كتبت فعلاً حوار كثير من أقاصيصي وقصصي بهذه اللغة. ولكني عدت فعدلت عن هذا الرأى، بعد تجارب عديدة دلتني على خطأ فكرتي، فالهاوية موجودة بين اللغتين. فإذا استعملناها جنبًا إلى جنب، واحدة للأوصاف وأخرى للحوار وجدنا تنافرًا في الكتابة، يكاد يكون ملموسًا، يصدم القارئ عند انفصاله من لغة إلى لغة .. ولا يوجد هنا إلا واحد من أمرين: وهو إما أن نكتب كل القصة باللغة العربية، أو كلها باللغة العامية، لنقضي على هذا التباين الشاذ، وتحل محله الألفة والتناسب، وبما أن اللغة العربية هي لغة الكتابة وجب علينا إذن أن نكتب القصة جميعها، أوصافها وحوارها باللغة العربية. ويجب على الكاتب أن يتوخى في كتابه حواره السهولة ما أمكن، ولا حرج عليه إذا استعان ببعض ألفاظ أو ببعض جمل صغيرة عامية إذا اضطرته الحاجة لذلك، وهذا ما اتبعه في كتاباتي القصصية الجديدة، وعلى هذا النمط أخرج طبعاتي الثانية لمؤلفاتي.
*القصة والرواية:
لم يتحدد بعد بدقة لا في أذهان القراء، ولا حتى النقاد الفصل بين المصطلحين، ولا نزال حتى اليوم نطلق لفظ القصة علي الرواية, فإذا أردنا القصة نفسها, وفي صورتها الحديثة استخدمنا اللفظ نفسه, أو أضفنا إليه صفة "القصيرة" او استخدمنا كلمة "الاقصوصة"، لنتخلص من هذا الخلط فتصبح القصة علمًا على هذا الفن الذي تحدده تقنية معينة، وعرضنا لها من قبل. ومقابله في الفرنسية لفظ conte، وأن نطلق الرواية على الفن الآخر، وهو ما يقابل في الفرنسية Roman، وأن نطلق على ما يجيء وسطًا بينهما الرواية القصيرة، وهي تقابل كلمة Nouvelle ذلك " أن مصطلح القصة القصيرة تسمية خاطئة في ذاته، فالقصة العظيمة ليس من الضروري أن تكون قصيرة على الإطلاق، " والفكرة الشائعة عن القصة القصيرة من أنها فن صغير فكرة خاطئة بالضرورة. إن الفرق بين الرواية والقصة أساسًا ليس فرقًا في الطول، إنه فرق بين القصص الخالص والقصص التطبيقي ودفعا للبس اقول: إني احاول ان اغض من شأن القصص التطبيقي كل ما هناك أن القصص الخاص اكثر فنية.
والواقع أن الروائي والقصاص يستخدمان المادة نفسها، يلتقطانها من قضايا الإنسان ومشاكله وواقع الحياة، وإنما يجيء الاختلاف من الشكل الذي تأخذه عند كل واحد منهما. ويمكن القول إن طول الرواية هو الذي يحدد قالبها، وإن قالب القصة القصيرة يحدد طولها، ولا يوجد أي مقياس للطول في القصة القصيرة إلا ذلك المقياس الذي تحدده المادة نفسها فالروائي قادر علي تحويل الثواني لدقائق والدقائق للحظات عن طريق التحليلات المتأنية والتصوير البطيء وقادر علي أن يمتد بالبناء ولا يخشى ملل القارئ.
أما في القصة فعلينا أن نتجه إلي الحدث وأن نعبر عنه بالبساطة والوضوح والرمز ومن خلالها يعبر عن كثير من المشاعر.
والقصة بناء محكم لا يسمح بالهوامش والحدث فيها مكثف ويجيء الوصف موجزًا ومرور الشخصيات سريعًا.
إن الرواية أشبه بالفيلم السينمائي والقصة أشبه بالتصوير الفوتوغرافي فالأولي تتسع لمزيد من الاحداث والثانية يحدد المصور الزاية التي يلتط منها الصورة.
والكاتب المقتدر يعرف كيفية التمييز بين الموضوعات فلا يختار موضوع الرواية لقصة والعكس ويقول ألبرتو مورافيا في مقدمة قصص إيطالية إن شخصيات القصص وليدة الحس الذاتي أما شخصيات الرواية فهي وليدة رموز.
تحليل النص الأدبي
ثمة أكثر من معنى لمصطلح تحليل النص:
هناك من يري أن تحليل النص تفسيره, أن تجعله واضحًا ومفهومًا للذين يتوجه إليهم, وإن يجئ تقييمه علي نحو متعادل بين مضمونه وشكله, بين عمق معناه الإيدلوجي أو النفسي, أو قيمة التعبيرية أو الأسلوبية, ومن ثم فتحليل أي نص يتطلب ذكاء وفطنة, وتدريباً عقلياً قويا علي الملاحظة والتعمق والإدراك والتحليل.
التحليل العلمي في الادب- كما في العلوم أيضًا- يتطلب تقنية معينة والتمكن منها يتطلب ألوانًا من المعرفة تساعد علي إجادتها, ويتيح تطبيقها في دقة الوصول لأفضل النتائج وتأتي قواعد النحو والبلاغة وشيء من فقه اللغة, من الأهمية بمكان حتي يحسن القارئ الفهم, لأنه جوهري في الخطوات الأولي.
معاني الألفاظ وما ترمز إليه وما كان منها حقيقيًا ومجازيًا, وإدراك ما أصاب هذه الدلالات من تطور, وأخيرًا الإلمام بتاريخ الأدب في خطوطه العامة, فهو يساعد على تحديد المناخ الذي قيل فيه النص, والظروف التي أحاطت بمولده, والحياة التي اضطرب فيها المبدع, وكل ذلك يعين علي فهم القصة علي نحو أفضل, واكتشاف أسرارها بطريقة أعمق.
نعم, ليس سهلاً أن نقرر إلي أي مدى تساعد المعلومات التي نحصل عليها من القصاص في فهم إبداعه, ولا يمكن أن نقرره بصدد قاعدة معينة, لأنها تختلف من قصاص لآخر من حيث الأهمية, لأن التمتع بالعمل القصصي تجربة معقدة ألوان متنوعة من المتعة.
العلوم التي أشرنا إليها قبلاً لا تكفي وحدها لتحليل النص, يتجاوز السطح إلي العمق, ويحاول أن يقدم شيئًا بمستوي الإبداع الذي يحلله, إذ لا بد أن يلم إلي جانبها بقدر كاف من العلوم الإنسانية الأخري, كالتاريخ العام, والفلسفة ويقنع المبتدئ منها بالمبادئ أما المتخصص فيجب أن يتزود منها بما يستطيع.
ولكن أي تدخل مهما كان عارضًا ليس إلا لإضافة ثانوية في خدمة النص لمعرفة أفضل, حتي تبلغ رسالة المرسل غايتها في نقل ما أحس به من انفعال، وما حققه من فن, إن هذه الإضافات لا يمكن أن تحل مكان النص نفسه أبدًا.
* مراحل التحليل:
إتباع المنهج العلمي في التحليل يعين الناقد علي الوصول لغايته دون عناء, ويحقق له قدر أكبر من دقة النتائج وصوابها.
وأول ما يقوم به قراءة القصة قراءة صحيحة, للتأكيد على ثلاثة معالم جوهرية:
* توضيح الألفاظ الغامضة, ومعرفة معناها, وما يريده القصاص منها بدقة, دون إهمال أيًا منها وهنالك قرّاء سطحيون أو عجلون يتصورون أن ما يفهمونه من ألفاظ القصة يكفي, وأن البقية ثرثرة قصّاص, هم في ذلك واهمين لأن القصة يمكن أن تتجاوز دلالتها المحددة لها في المعاجم أو في الاستعمال الشائع, حين يدفع المبدع في شرايينها بدماء جديدة, ويعطيها ملمحًا خاص بها, وسوف نكتشف أن كل قصّاص يطبع الكلمات بلون جديد.
* إلتقاط الجمل والفقرات والتي يمكن أن نجد فيها ملامح القصّاص التقليدية والعبارات الهامة الأشد إرتباطًا بالموضوع, لأن قراءة النص تتجاوز الحروف المطبوعة, فثمة مشاعر وأحاسيس ترقد ورائها, والقارئ الفاهم وحده هو الذي يستطيع الوقوف علي أسرارها, ليكتشف عالم القصّاص كاملا.
* أن يمسك بأي ملاحظات أخرى تلمع في عقله وتلقي ضوًا علي اختياره, وتعينه فيما بعد علي تحليل النص.
فإذا انتهينا من القراءة الواعية يجيء ما يسمي بوضع النص في موضعه زمانًا ومكانًا, فنحدد التيار الأدبي الذي كان سائدًا أيامه, أصالة أو تجديد أو تقليد, وأي التيارات غلب عليه الواقعية أو الرمزية, وأي القضايا شغلت عصره اجتماعيه أو سياسيه.
ومن النادر أن يشير الفنان إلي الظروف التاريخية والثقافية والاجتماعية التي أحاطت به, وتحديد العصر يضع يدنا علي الإتجاه الأدبي الذي ينتمي إليه المبدع, وهناك لحظات تاريخية معقدة, كما هو الحال في أيامنا هذه, حيث تتلاقى الإتجاهات, ويصعب معها تحديد التيار الذي ينتمي إليه المبدع, ومن المهم أن نعرف من سيرة القصّاص شيئًا، سيرته، واللحظة التاريخية التي عاش فيها.
إذا فهمنا القصة, وأدركنا ما تنطوي عليه إجمالاً من أفكار ومشاعر وغايات نبدأ في تحليلها, حتي نبلغ الفكرة الجوهرية القائمة عليها, وفي هذه المرحلة نعرض للمحتوي والشكل ندرسهما علي حدا دون ان ننسي أنهما علي ارتباط ببعضهما عند التقييم.
شرح النص أو تحليله أو تفسيره, ليس تدريبًا علي قواعد النحو, ولا تتبعًا للغويات الشاذة, أو الصور البلاغية الجميلة, أو الجمل الأدبية المحكمة, وليس تاريخًا للثقافة, ولا شرحًا خلقيًا, لا شيء من هذا, إن صعوبته وجماله يتمثلان في أن كل مواهبنا ومعارفنا تلعب دورها معًا عند تحليل النص.
ولكن ذلك لا يجب أن يفزع الناقد المبتدئ, إننا لا نطلب منه المستحيل, لا أحد يلزمكم بشرح عميق لا في التدريب ولا في الإمتحان, تكفي المعارف العادية التي تحصلتم عليها في الدرس. ويجب أن تحسنوا استخدام معارفكم.
* ما ليس تحليلاً ولا شرحاً:
قبل ان نمضي إلي توضيح ما ينهض عليه التحليل، أطرح عليكم بعض الأفكار التي ليست من التحليل في شيء لنبتعد عنها:
*الإطناب: وهو من أخطر العيوب التي يتعرض لها الناقد ونعني به التحليل الفضفاض الذي يدور حول النص نفسه دون أن يبلغ غايته.
مثلاً عند تحليل قصة عنبر لولو لنجيب محفوظ, ترك النص نفسه. وأخذ يتحدث عن مكانة نجيب محفوظ وعن جائزة نوبل التي حاز عليها وشهرته ويمضي في الحديث ويطيل دون أن تجد ما يتصل بالنص نفسه إلا قليلاً أو لا تجد أصلاً وهذا ليس تحليل ولكن ثرثرة, والطالب الجامعي أو الناقد الناشئ, لا يبلغان من إجادة هذا العمل شيء وقيامهم به ليس مفيدًا, لا لهما ولا لقرّائهما.
* ألا نتخذ من النص وسيلة لأستعراض معارفنا أو عضلاتنا العقلية, والبعد عن النص الأصلي, ويتخذ من النص حجة ليحتمي لعرض ما يريد, لكنه لم يشرح النص ولا يحلله.
*لا يوجد تحليل واحد هو الصحيح, لأن أي نص يحتمل أكثر من تحليل, طبقًا لثقافة الناقد ومهاراته, وأي تحليل يمكن أن يكون مقبولا إذا تم في ضوء منهج متقدم ما دام يقيم علاقة منطقية واضحة ومنظمة ومنهجية بين معني النص وشكله.
* مناهج تحليل النص:
أي عمل علمي, والتحليل الأدبي كذلك، لابد أن يتم وفقًا لمنهج يحكم حركة الناقد, ومناهج النقد كثيرة فهي تتغير مع كل فصل من فصول العام, وليس لنا نطاق أن ندرسها ولكن إليكم نظرة موجزة عنها.
يحتوي النص الأدبي علي جوانب ثلاثة هي: المرسل والمتلقي والنص نفسه.
المرسل: هو المبدع فهو إنسان من مشاعر وأحاسيس فإن كل وجود ذاته فيأتي عمله ثمة ظروف عصره ولغته وطبقته الاجتماعية وتتم دراسته في ضوء أحد مناهج ثلاثة: التاريخي والاجتماعي والنفسي.
المتلقي: وهو القارئ وهذا الجانب يدرس العلاقة بين النص والقارئ, فالقرّاء هم الذين يعطون للنص معناه النهائي والناقد أحد هؤلاء القرّاء ولو هناك قارء من لونًا خاص فإنه يعلم الأخرين فن القراءة العالية, وهو الذي يضع النهاية لهذة الموجة من التعابير التي تولدت من فكر المبدع وجانب القارئ يمكن أن يدرس في ضوء ثلاث مناهج: الانطباعي ـو العقيدي أو التعديلي.
النص: وهو نهاية عمل المبدع وبداية نشاط القارئ وهو الرابط بينهما, ويمكن أن يدرس في ضوء أحد مناهج ثلاثة: الموضوعي أو الشكلي أو الاسلوبي.
وتبقي ملاحظة قد يستعين الناقد في دراسته لأي جانب بأكثر من منهج, وهو ما اصطلح علي تسميته بالمنهج التكاملي وعلي الناقد أن يعلم أنه ليس ثمة جانب أهم من جانب وإنما تجئ قدرة الناقد علي تمثيل ما يختار تمثلاً جيدًا, إن هذه المذاهب والاتجاهات مبسوطة في كتاب إنريك أندرسون إمبرت, أستاذ النقد الأدبي في جامعة هارفارد الامريكية:
مناهج النقد الادبي, وترجمه إلي اللغة العربية د. الطاهر أحمد مكي, وفي عام 2000م قرر د. علي أبو المكارم عميد دار العلوم وقتها طبع الكتاب, إلي جانب كتاب الأدب المقارن: أصوله وتطوره ومناهجه للدكتور الطاهر مكي أيضًا علي نفقة الجامعة وتوزيعهما مجانًا علي طلاب الفرقة الثالثة والرابعة.
ثمة أشياء يجب أن تتوفر فيمن يقول بتحليل النص: أن يملك قدرًا كافيًا من رقة الاحساس, إلي جانب من المعارف العلمية الأولية, ونظريات النقد القديمة والحديثة.
بداهة بدون منهج أدبي يصبح من الصعوبة تحليل أي نص أدبي وأن الطالب أيًا كان لا يعرف من أين يبدأ, فنحن نحتاج دائمًا إلي منهج, والمنهج الذي سوف نجمله ليس الوحيد ولكنه الموافق لمستواكم ويقود لنتائج طيبة.
إن التحليل الأدبي في مستواه الابتدائي لا يختلف عنه في المستوي العالي, لكن الفرق هو المعارف الجوهرية والضرورية.
إن تحليل أي عمل أدبي هو الإجابة علي سؤالين: ماذا قال المبدع؟ وكيف عبر عمّا قال؟
والإجابة عن الاول يعني تحليل المحتوي والإجابة عن الثاني يعني تحليل الشكل.
* تحليل المحتوى:
ما موضوع القصة؟ ونعني بها المشكلة أو تصورها, ويتخذ منها المؤلف نقطة انطلاق للحديث عن همومه الذاتية, وتضم في داخلها أمشاجًا من المعاني والأفكار يصلح الموضوع عنوانًا لها, فإذا حددت الموضوع يقع في ذهنك سؤال: هل هو أصيل؟
ويجئ الرد غالبًا بالنفي لأنه لو عدنا للماضي لوجدنا أن لما نقرأه أصلاً فلا شيء يبدأ من فراغ وكلما كان العمق في التناول كانت الثقافة أقل.
لكن أصاله الموضوع ليست بذات أهمية على النحو الذي ينسبه لها الناقد أحيانا, وعرض لها البلاغيون في إفاضة وفي الأداب الأجنبية لم يكن أحد يهتم بها, ولم تكن تهم الاسببان في عصر ادبهم الذهبي (القرن ال16 الميلادي) , وكانوا يتبادلون فيما بينهم السطور على أفكار الآخرين, وتعود شكسبير أن يستلهم أعمالا أدبية أخري ليست له.
هناك أصاله بالمعنى الدقيق للكلمة إلا تلك الأصالة عند الطباخ الماهر الذي يصنع من بقايا الطعام أطباق جديدة للعشاء.
أين تكمن الأصالة إذن؟ , إنها تتجلي في بناء العمل وأسلوبه ولغته ومن ذلك ثمة أكثر من سؤال وهم:
ما أهميته؟ ما طابعه؟ ما لون الأفكار الموجودة فيه؟ وما طابعها؟ أهي سياسية أو اجتماعية؟ إن لكل عصر عاداته السائدة فيه يلتقطها المبدع دون أن يكون ذلك في خاطره ومن هذه المتابعة نستطيع أن نتوصل لأفكار المؤلف الذاتية وإلي رأيه في المشكلات التي أثارها.
إن دراسة مشاعر المبدع ذات أهمية بالغة, فهي تجعلنا نتسرب إلي وجدان المؤلف وقلبه لنعرف ماالدافع وراء ما كتب؟ الصداقة أو الأنانية؟ الخوف من الموت أم الحب أم المستقبل؟ العنف, الحنون, الفاجر, الإنساني كما وصفه بن حزم؟
قد يفترض علينا دراسة أعمال الأديب كاملة لنتابع تطور حياته مع الزمن لنجد ما هو شهواني فاجر ينتهي بتصوف عميق كما قال أبو نواس:
وبلغ ما بلغ امرؤ بشبابه ... فإذا عصارة كل ذاك أثام
وطال به اللهو منتهياً إلي الذهد وطلب العفو من الله
أنا مخطئ, أنا مذنب, أنا عاصي & هو راحم هو غافر هو كافي.
ومن هنا يمكن أن نطل علي مناطق الفراغ في حياة الأدباء مثل: غيبة الحنان الأري عند العقاد, الأيمان العميق عند أمير الشعراء, الفجور في شعر عبد الحميد الديب.
قد تدفعنا هذه الملاحظات لتتبع مشاعر المبدعين المختلفة, فهي تتعدد في الشخصية الواحدة, ومن خلالها نستطيع أن نحكم إن كان الكاتب قصير النظرة أم بعيد النظرة.
* تحليل الشكل:
كل ما يوظفه المبدع للتعبير عن تجربته الأدبية وكل العناصر المتواجدة فيها وبناء القصة وشخوصها ولغتها وأسلوبها.
نبدأ بالهيكل أو البناء الذي يقوم عليه الخطة, لأن العمل الأدبي الذي لم يكتب علي خطة فلا يستحق أن نضيع وقتًا فيه, فهو من الأدب الواطي شأن مئات القصص التي تدفع بها دور النشر لتزحم السوق وهي تتصف بالمنحط والمكرور.
دراسة الخطة تساعدنا علي معرفة موقف المبدع جماليًا فالأدب الكلاسي يتسم بالمنطق وهو خارج عناية الأديب الرومانسي, ليس صوابًا أن نلتصق منذ البدء بقوة لأحد المذاهب بعينه لأن أي طريق يوصل للحقيقة فهو جيد ومقبول, وقد يفتح لنا هذا الطريق خطوة نحو الاصالة, ومئات من الدارسين تناولوا الشعر القديم بالدرس, ولكن تحليل محمود محمد شاكر له في كتابه "نمط صعب ونمط مخيف" شيء جديد ورائع بكل المقاييس ونفس الشيء عند دراسته للمتنبي, وكانت دراسة العقاد لابن الرومي عملا متميز يتصف بالأصالة.
قد اتفق النقّاد منذ أرسطو علي قانون الوحدات الثلاث: الزمان, المكان, الحدث, وثمة أعمال خالدة في المسرح تدعم هذا القانون, وثمة روايات عالمية مثل "أَنا كارنين" للكاتب تولوستوي بها حدثان متداخلان يهدفان لشد انتباه القارئ, كما أن وحدة العمل في الرواية خاصة يمكن أن تكون مجرى عريض تحتل فيه القصص الثانوية منعطفات, مثل ألف ليلة وليلة أو قصص الصباحات العشر للكاتب الايطالي بوكاشيو 1375م, وتتخذ منها وسيلة لجمع القصص والحكايات, وكسر هذه الوحدات موجود في القصة أيضًا عن طريق: الحوار والمناجاه والأحلام والتداعي والمونتاج و الاعتراف, فقد يوجد في القصة أكثر من شخصية مثل الأفيون ليوسف جوهر, وقد تصبح شخصية رئيسية واحدة مثل قصة ذراعان لمحمد أبو المعاطي أبو النجا.
تبقي ملاحظة إن الخروج عن القواعد المقررة وإيجاد أبنية جديدة لا يتأتي إلا للعباقرة, وهم قلة يأتون في أزمان متباعدة, وهم وحدهم القادرون علي إيجاد الجديد وفرضه علي التاريخ.
* اللغة أو الأسلوب:
نعني باللغة معجم القصّاص أي المفردات التي يستخدمها هل هي عامية أم فصحي؟ أم يتخذ الأولي في الحوار والثانية في الوصف؟ الأراء تختلف وقد عرضنا لها في باب تحديد الخصائص ولكن ما نعنيه هو: إذا اتخذ العامية اسلوبًا, فأي عامية التي اتخذها فالعامية تختلف في المدينة الواحدة من حي لأخر, وإذا اتخذ الفصحى فأي فصحى التراثية أم الشائعة في ايامنا هذه؟ أعني لغة الصحافة والإذاعة وهي المسمية باللغة الثالثة وإنما يتجاوز الأمر الي الكلمات الأجنبية وهل لها مقابل في الفصحي؟ أم ليس لها.
أما الأسلوب:
فهو دراسة الجملة في تركيبها, وفيه تتمثل شخصية المبدع, وتعبر عن هذا المعنى جملة الناقد الفرنسي بوفون "الأسلوب الرجل", فهو يعكس النمط الكتابي ويعكس نفسيته وظروفه, وقد يهدينا لجوانب من أفكاره.
أعرف أن صخب الأسلوبية يصم الاَذان حولكم وفي مثل هذا الضجيج تضيع المعالم الفارقة بين الحسن والقبيح وبين الصواب والخطأ, ويكفي أن نعرف أنه اتجاه غربي جديد يجعل النص "منطقة مشتركة بين النقد وعلم اللغة" وهو أمر معروف منذ عهد عبد القاهر الجرجاني في القرن الخامس الهجري، وعنها صاغ نظرية النظم لتفسير الإعجاز القرأني.
ماذا ندرس في هذا الجانب؟ ندرس نوع الجملة, أسمية أو فعلية, وهل تكثر عنده متعلقات الجملة وأي لون من المشتقات يفضل؟ أسماء الفاعلين و أسماء المفعولين والمصادر.
وماذا يفضل من أدوات الربط؟ وهل تتعدد عنده أساليب الشرط أم لا؟
إن علم البلاغة الفرعية بفرعيه المعاني والبيان يقدم للباحث في هذا الجانب ما يعينه ويكفي أن نتذكر: أساليب الأستفهام, الحصر, التقديم, التأخير, الفصل, الوصل, التشبيه و الاستعارة.
إن دراسة الإسلوب مهمة أساسية في التحليل, لأن الأدب في جوهره عملية لغوية, وقيمته في الجانب الأكبر تنهض علي مقدار مايحققه في هذا المجال من روعة, و من ثم يحسن قبل الحكم عليه أن تحدد هذا الأتجاه الجمالي ونستطيع أن نقرر هل هو واقعي أو أسلوبي أو مثالي؟
الأتجاه الواقعي مثلا: أكثر سخاء, يتسع للتعابير الشعبية والألفاظ الرخوة, والعادية والمثقفة, والطيبة, والرديئة
متكئًا علي القاعدة اللغوية "البلاغة مطابقة الكلام لمقتضي الحال".
أما الشكل المثالي فهو نسيج من الكلاسيكية والرومانسية والأكاديمية, يضع حاجزا أمام كومة من الألفاظ الرديئة والغليظة ذات الرائحة الكريهة وعنده تكون اللغة مصفّاه, وفيه كره للألفاظ الدارجة والجمل, المكرورة, ورغبة في صنع معجم ذاتي وميل للتعريض, وحب للأستعارة
ويتجلي ذلك واضحًا في قصة ملك برجوازي لـ (روبين داريو) وهو قصّاص من أمريكا اللاتينية وأبو الحداثة مذهبًا ونقدًا, ونجد له نظائر في أدبنا العربي فيما كتبه مصطفي صادق الرافعي في شيء من قصصه.
ماذا نصنع مع الكتّاب الذين ليس لهم نقد ذاتي؟ أسلوبهم محايد, أشبه بأسلوب صغار الصحفيين المتشعبطين بالأدب, دراسة أسلوب هؤلاء يهبط بك حيث المشاعر الجافة والإحساس المتحجر.
يحاول الناقد أن يجد للأسئلة الأتية جوابًا: كيف يقص المبدع؟ وكيف يصف؟ وكيف يحاور؟
أن المبدع تدخل مصوبًا ومحسّنًا, وصاغ ما رأي في أسلوب مقبول لا يذهب بواقعيته علي نحو ما نجد عند يوسف جوهر؟
ويسهم أيضًا في تحديد أسلوب الكاتب ومثله أن نتابع طريقته في توظيف اللغة: هل أحسن استخدامها فكان واضحًا. واستخدم الجمل المتواضعة؟ أكان يؤثر التنسيق؟ هل اهتم بالموائمة الأسلوبية؟
هل يحب الموازنات والجمل المجازية؟ ماذا يفضل الجمل الفعلية أم الأسمية؟ هل يستخدم الأستعارات أم التشبيهات؟
مثل هذا التحليل, لون من تناول النص علي نحو ما يفعل عالم الأحياء, وهذا التحليل يضع للناقد مناظره علي نسيج الكلمات وهذا تحليل مفيد جدًا, وفيه دعوه للجادين.
فإن واجبنا المقدس أن ندافع علي سلامة اللغة وتراكيبها, ونقف أمام الأخطاء النحوية, ونقف أمام الذين يسبون العربية وقواعدها ونحوها ونحاتها.
كذلك علينا أن نتصدي بقوة للألفاظ الأجنبية الغريبة والتي تتسرب للغتنا بكل بطئ وعلي مهل وإذا لم نتصدي لها سوف نصبح كما قال الشاعر حافظ إبراهيم:
تصبح كثوب ضم سبعين رقعة مشكّلة الألوان مختلفات.
إن الكتابة فن جميل يحتاج إلي قراءة واسعة ومعرفة عميقة بالتراث, والرحيل المتواصل لكنوزه, الراقدة في أمهات المصادر.
* الشخصية:
أي قصة أو رواية أو مسرحية، تقوم على حدث، والحدث يتطلب من يقوم به، قد يكون واحد أو أكثر، لكن في نطاق محدد، فكلما كان عدد الشخصيات محدودًا، كانت القصة أروع وأقرب إلى الكمال. أحيانًا ترد كلمة بطل على سبيل المجاز، لأننا نحتفظ بهذا المصطلح للرواية والمسرحية حيث يمتد الزمن، وتتعدد الأحداث، وتتوزع الأمكنة، ويحتد الصراع ويطول، ومن يواصل وينتصر جدير بأن يسمى بطلاً، أما الأمر في القصة فمختلف، وقلة من هؤلاء الأشخاص تقوم بدور حقيقي، وليسوا مجرد ضيوف شرف، يدخلون في المشهد، يعرضون أنفسهم ثم ينصرفون، أي أن أي قصة تحتوي على شخصيات رئيسية وأخرى ثانوية.
تحليلنا لهذه الشخصيات أن نقف عندها، وأن نتأمل دورها، كيف شكلها المبدع، ومن أين جاء بها؟ هل التقطا من عمل أدبي: كتابًا أو رواية أو مسرحية، أو من التراث الشعبي، بطلاً أو أسطورة، أو اختارها من عالم الواقع، شخصية عادية من لحم ودم. لكن أي واقع هو؟ من الريف، أو المدينة، أو البادية؟ من حي شعبي أو استقراطي أو برجوازي؟ هل هم الطبقة العليا أو الدنيا، أو يقفون على أكتاف هذه وتحت أقدام تلك، أو أهم من أناس أدنى من أن ينسبوا إلى طبقة؟ هل نسخهم من الواقع بأمانة، أم صاغهم من عناصر مختلفة، مأخوذة من شخصيات متعددة؟.
هل اختفى المؤلف وراء شخصية من هذه الشخصيات يمدها بتجاربه الذاتية الحية، وينفث من خلالها أفكاره وآراءه، أم هو موزع بين أكثر من شخصية؟ هل الشخصية تجسيد لرذيلة كالنفاق والبخل والجبن والانتهازية، أم اتخذ الجانب المقابل فجعلها الفضيلة نفسها تتحرك على قدمين، وجعلها مثلاً أعلى للعفة والطموح والواجب والشجاعة وغيرها؟
أحياناً يسعد المؤلف أن يبالغ، فيشوه حقيقة مخلوقاته فيجعل منهم شخوصًا جاسية تتسم بالفظاظة المنفرة، أو يلبسهم أردية كاسية من المثالية العالية، تصدر في كل سلوكها عن أخلاق ملائكية، وهو أمر يقع فيه الكثير من الكتاب الشبان، حتى أولئك الذين يرفعون راية الواقعة، قلة فقط، من الفنانين الناضجين تقاوم الرغبة في المبالغة، فالقصة فن واقعي، كلما بدا شخوصها أقرب إلى الحياة فعلاً، ارتقى ذلك بمستواها الفني، والإنسان في حياته على الأرض ليس ملاكًا مصفى، ولا شيطانًا رجيمًا، وتقديمه على هذا النحو يعد عيبًا جوهريًا في القصة، إذ الواقع أن أيا منهما، الملاك والشيطان، خليط من الأمرين، وإنما نعتبر الشخص ملاكًا حين تغلب عليه الصفات الخيرة، وشيطانًا حين تمثل الرذيلة الجانب الأوضح في حياته، أي أن حياة كل منهما مزيج مما هو إيجابي ومما هو سلبي، مما هو طيب ومما هو خبيث.
أيًا كان الحال تعتري الشخصية إحدي الصفات الثلاث:
نموذجية: وهي التي تمثل الفضائل الكاملة المتجانسة, سواء كان واقعًا أم منسوب إليها وتكون اكثر استقرارًا ويمكن أن نلتقي بها في كل العصور مثلا: عنترة, شهرزاد, دون كيخوته, دون جوان, عطيل.
وقد يكون النموذج خاص بأصحاب العاهات أو الشواذ الخارجين عن المعتاد, وأشهرهم عاهة الأحدب وتكثر في القصص الروسي وأشهرها رواية "أحدب نوتردام" لفيكتور هوجو.
نمطية: وهي الشخصية التي لا تمثل فردًا فحسب, وإنما ترمز للجماعة التي تنتمي إليها طبقة أو جماعة أو حرفة: طالبًا, عاملاً, وفي هذه الحالة غالبًا ما ترد في الصقة بصفتها لا بإسمها مع ملاحظة أن في بعض الأحايين تجمع الشخصية بين صفات النمطية والذاتية.
الذاتية: وهي التي تمثل الشخصية نفسها, ولا تنصرف مواقفها وسلوكها إلي أخرى و في الغالب تحمل إسمًا محددًا, يشي بأنها كيان مستقل, متميز, وأنه مسؤل وحده عن سلوكياته.
ويتسع السؤال لمعرفة اتجاهات الشخصية: هل هي محافظة أم مرتبطة بالماضي, تراه الأمثل والأفضل, أم هي شخصية ثائرة حالمة مندفعة غارقة في المستقبل وتؤمن بتحقيق التغيير؟
ومازال هناك الكثير من الأسئلة التي يمكن أن نبحث لها عن جواب: هل هي شخصية متفائلة أو متشائمة, ثرثارة, قلقة, متوترة, أم كسولة.
عادة يقدم لنا القاصّ جانبًا من جوانب الصفات الحسية والمادية مثلا:
ملابس الشخصية, لونها، عمرها, ملامحها, طولا وعرضا.
أما الصفات المعنوية: الذكاء, الفطنة, الثقافة, اللباقة, الجهل.
فنادرًا ما يوضحها القاصّ وعلي الناقد استنتاجها من النص.
فإذا افتقد الناقد هذا البعد العملي أمكن أن يفسره في ضوء ثقافته.
* المكان والزمان:
إذا انتهينا من دراسة المادة الإنسانية ندرس المسرح الذي جرت عليه الأحداث، الوسط الذي كانت تتحرك عليه هذه المجموعة من الشخصيات. وأول ما يرد في الخاطر عند دراسة هذا الجانب أن نتبين: هل جاء رسم المبدع له وليد ملاحظة مباشرة أو غير مباشرة، في الحالة الأولى يرد السؤال الآتي: هل التقط ملاحظاته عن الأرض التي جرى عليها الحدث من خلال رؤية مباشرة أو من خلال رحلة خيالية مختزنة في الذاكرة، وفي الحالة الأخرى، غير المباشرة، يتناول البحث الوثائق التي اعتمد عليها واستخدمها، مثل كتب الجغرافيا والرحلات والصحف والروايات.
مع مراعاة أن مسرح الأحداث لا يشمل الأمكنة فقط، وإنما يتجاوزها – بداهة – إلى الوسط الذي يشغله، والجماعات التي تعمره ويرد السؤال عليها: هل عرفها المؤلف مباشرة؟ أو اعتمد على إشارات الآخرين، أو على الحدس والظن؟ هل عبر عنه كما هو؟ أم دخل عليه شيئًا من التغيير؟ جمّله، أو قبّحه، أو أضاف إليه الكثير مما ليس فيه واقعًا.
قد تجرى الأحداث في شارع من مدينة، أو في طريق يؤدي إلى الريف، أو في حي شعبي، أو في قرية صغيرة، ويغلب أن يكون مكانًا عامًا متاحًا لكل الناس: مدرسة، جامعة، مقهى، حديقة، سينما، ويشيع استخدام وسائل المواصلات بأنواعها المختلفة: العربات والقطارات والحافلات والبواخر، وجاء توظيف القطار بتأثير واضح من الأدب الروسي، حيث نلتقي بذلك كثيرًا في قصص تشيخوف (انظر قصته شقاء، وقصة محمد تيمور: في القطار) يمكن أن نقف عند اختيار المكان، ماذا كان وراء اختياره؟ هل فرضته طبيعة الأحداث؟ أم ثمة ذكريات حنون ارتبطت بالمكان فاض بها داخل المبدع، فأراد أن يقف به، وأن يبكيه طللا؟ أو أنه مكان أحب أن يعيش فيه يوما فلم تهيئ له الأيام أن يحقق أمانيه واقعا، فعاشها خيالاً، وسجلها أدبًا، والأغلب أن يتم ذلك بغير وعي منه.
وربما كان هذا المكان مسقط رأسه فارقه ولم يعد إليه، أو عاد إليه بعد زمن طويل تعلقت به مشاعره، فأراد أن يخلده ولو في قصة (انظر قصة الغبار لعبد الوهاب الأسواني)، أم أن المكان ارتبط بحدث ما، تاريخي أو وطني أو سياسي أو اجتماعي، فألهمه الأحداث نفسها؟
وقد يكون الاختيار لأسباب ذاتية خالصة، كأن يعجب الكاتب بالمكان جمالاً طبيعيًا، أو مناخًا اجتماعيًا، أو سكانا ومعمارًا، وأجواء إنسانية شعبية، وكل ذلك كان وراء جانب كبير من أعمال نجيب محفوظ في قصصه ورواياته.
ويبقى أن نقف ونسأل: هل وفق في اختيار المكان، فجاء ملائمًا للأشخاص والأحداث، وأنه أحسن وصفه وتقديمه، وطبعًا لا ننسى توفر وحدة المكان في القصة، وعدم الخروج عليها إلا من خلال الوسائل الفنية التي سوف نعرض لها حين نتحدث عن الزمان.
فيما يتصل بالزمان ليس لدينا ما نقف عنده مع القصاص غير مساحة الزمن، وقد درسنا ذلك الجانب، ونحن نتحدث عن تحديد الخصائص، وأغلب النقاد يرون أن الحد الأقصى يومًا كاملاً، أربعة وعشرين ساعة، ومن تقدم تقنيات القص التي ألمحنا إليها من قبل، وسنشير إليها فيما بعد، أصبح في مكنة المبدع أن يوسع مساحة الزمان والمكان، أما امتدادهما، وغيبة الوحدة، بعيدًا عن هذه التقنيات فيهبط بالقصة إلى مستوى الحكاية.
* تقنيات السرد:
يمكن التوصل إلى بناء القصة في ضوء قواعدها المقررة، التي أجملناها في تحديد الخصائص، بأكثر من طريقة:
* أن تجىء في الضمير الأول، ضمير المتكلم، أي على لسان الراوي، وهو الشخصية الأولى في القصة:
(البطل مجازا وفي الرواية)، وفي هذه الحالة يصعب التمييز بين آراء الكاتب الشخصية، وبقية الآراء الأخرى التي يتطلبها تطور الحدث.
* وقد تجيء القصة في الضمير الثالث، ضمير الغائب، أي أن المبدع يتحدث عن غيره، ويقف بعيدًا عن الأحداث، ولا يستطيع أن يقحم نفسه فيها، وإذا أراد أن يعلق أقام معادلا موضوعيا، بأن يوجد شخصية أخرى مشاركة، يقول على لسانها ما يريد، وهذا البناء يمنح الكاتب مجالاً فسيحًا كي يحرك الأحداث والأشخاص على النحو الذي يبغيه الكاتب، وإلى المدى الذي يجرى به خياله.
* وقليلاً ما تأتي القصة في الضمير الثاني، أي ضمير المخاطب، وذلك حين تأخذ شكل رسائل متبادلة بين شخصين أو أكثر.
وإذا كان قانون الوحدات الثلاث: الحدث والمكان، والزمان، ظل مراعى منذ نشأة القصة الحديثة عالميًا في القرن التاسع عشر، ونشأتها عربيًا منذ مطلع القرن العشرين، فإن الكتاب رأوا فيه قيدًا مرهقًا، في العالم الغربي أولا، وفي العالم العربيى فيما بعد، فابتدعوا من الوسائل الفنية ما يعينهم على التغلب عليه، دون المساس بقواعد القصة الأساسية، فاستحدثوا: تيار الوعي، والمناجاة، والحوار الداخلي، والاعترافات، والمذكرات والرسائل، وتوظيف الحلم، وأسلوب الارتداد، وأسلوب التداعي، والقصة الدائرية، وكل هذه التقنيات لها نماذج فيما يضم هذا الكتاب من قصص.
* الأخطاء والعيوب
أي فنان، مهما كان عبقريًا يمكن أن يسهو وأن يزل ويخطيء، وإذن فليس هناك من يعلو على النقد والمؤاخذة، والإشارة إلى ما في عمله من نقص أو هفوات على أن هذا لا يقلل من قيمته، لأن المبدع لا يغض من شأنه مثل هذه العيوب العابرة، فنحن لا نقيمه بقصة واحدة، ولا نحكم على هذه القصة الواحدة بهفوة فيها، وإنما نحكم على القصة كلاً، وعلى إبداعه إجمالاً، لا نتردد في الإشارة إلى ما نراه خطأ، ولكن لا نهول من أمر هذا الخطأ؛ ولا نقلل من خطره، وإنما نراه، ونحكم عليه بموضوعية وحياد. أوضح هذه العيوب التي يمكن أن نأخذها على المبدع:
- إهمال قانون الوحدات الثلاث بغير الوسائل الفنية.
- تدخل الكاتب مباشرة، مصححًا، أو معلقًا، أو مبررًا، مثنيًا أو ناقدًا.
- المبالغة المفرطة في رسم الشخوص والأحداث.
- الأخطاء التعبيرية والأسلوبية والنحوية.
- الحشو.
بانتهاء تحليل المحتوى والشكل، تأتي مرحلة التقييم النهائي، ويتمثل في الحكم على العمل فنيًا، وإجمالاً في ضوء القواعد التي ألمحنا إليها، وربما في ضوء قواعد علمية أخرى يعرفها الدارس.
ثم يضع النقطة النهائية، بأن يعلق الباحث على القصة ذاتياً، إن أراد بأن يقول فيها رأيه الشخصي، معبرًا عنه في ضوء ما يؤمن به من آراء سياسية أو دينية، أو اقتصادية، إعجابًا أو معارضة، وهذا الرأي الذاتي لا يقيده في إبدائه إلا شيء من المنطق فهو ينطلق فيه من ذوقه ومزاجه، واتجاهاته، على أن يكون موجزًا ومختصرًا ومبررًا.
* القصة وهموم الانسان العربي:
بذلت محاولات كثيرة لتصنيف موضوعات القصة وكلها كانت محاولات عابثة, لأن التنوع بين الموضوعات يمضي بلا نهاية, إذن من الأفضل أن نلاحظ كيف تعكس القصة في كل عصر اهتماماته المختلفة, ومشاغل الإنسان المتنوعة علي أيامها.
ولنلق الأن نظرة علي عصرنا الحالي:
فهو يشهد الكثير من الأحداث الكبري التي عدلت مفاهيم الفن والأخلاق والعلاقات الدولية, تطلبت أشكالاً جديدة للتعبير عنها, ويكفي أن نفكر في أزمة الإسكان والمواصلات, وتفجر السكان وقلة الغذاء, وفي إنسان يزداد كل يوم صغرًا في مواجهة عالم يزداد كل يوم ضخامة, في إنسان يجيد أروع التقنية لصعود القمر ولكنه لم يتغلب علي الموت ولا التعاسة ولا الشيخوخة وحيرته الميتافيزيقا.
وقد أخذ الأدب شكلاً ومحتوي يعكس هذه الحقائق ومن ثم يجب ألا نندهش من جملة سارتر حين يقول:
إني أكتب لزمني لا يهمني من سيجيئون بعد"
لقد عشق العربي القصيدة بطولها المحدود وموضوعها الواحد منذ القدم والقصة أقرب ألوان النثر إلي الشعر, وفيها الكثير من خصائصه, وإن إبداع القصة كإبداع الشعر يومض فجأة ويأتي عفويًا, وقد تمضي أيامًا والقصّاص لم تأتي له فكرة لأي قصة, وقد تتساقط في أفكاره عشرات الأفكار الممكنة يعجز عن حملها إلي الورق, وقد تأتي له الأفكار وهو يتنزه أو يتسكع في الشوارع أو يقرأ, أو في القطار, أو في السينما , أو يجلس علي مقهي, أو وهو يري الأمواج.
والمشاعر والأحاسيس التي تثيرها فينا قصة جميلة لا تبعد في نفوسنا عن شرارة ما تجعله فينا قصيدة شعرية جميلة وكل ذلك يجعل منها فنًا.
إن كتّاب القصة مدعوون إلي أن يكونو في مستوي همومنا, وما كان جديدًا في الخمسينات من المطالبة بجلاء المستعمر, ودعوة الفكر اليساري إلي ربط الفن بالحياة, والألتفات للطبقات المطحونة أصبح في الستينات أمرًا مقررًا.
لقد نقلت القوانين الاشتراكية ملكية المؤسسات الكبيرة للدولة, وتمتعت الطبقة العاملة بالحماية من الفصل التعسفي وبالتأمين الصحي والأجتماعي, ولكن إلي جانب ذلك, جدت في غيبة الدستور والقانون, وقسوة الرقابة وبطش الأحكام العرفية.
هموم من لون جديد ربما كانت أقسي وأشد خفاءً, صمت عنها كبار الأدباء قرًا, لأنهم قبضوا الثمن, ترفا قاتلاً, وجاهًا مزيفًا, ولم يلتفت إليها القصّاص الشبان, لأن حظهم من المعاناة والتجارب محدود, ومعرفتهم بما يجري قاصرة.
حتي إذا جاءت هزيمة 67 م بكل ما فيها من عار ومرارة, فهي أحدثت شرخًا في جدار الخوف, تنفس الفكر معه وقال للناس شئ وبدأت قلة من القصاص تسلط الضوء علي بطائن السوء والصفقات المريبة, واللصوص الكبار
وعادوا من جديد يكتبوون القصة في صورتها القديمة, يعكسون قضايا تجاوزها الزمن.
إن القصة في صورتها الجديدة التي نتوقها, وطال شوقنا إليها في مصر, هي التي ترد للناس إيمانهم بالوطن, وولائهم للعمل, وتشيع فيهم التفاؤل والأمل, وتقوي بينهم روح المقاومة, وتبشر بوطن جديد, تزدهر فيه الحرية والديمقراطية والعدل الاجتماعي, وبغد جميل لا قهر فيه ولا إرهاب, تفعل ذلك فنًا يتسرب إلي النفس في خفاء, ويعمل في داخلها دون ضجيج, وليس خطابة رديئة, ولا وعظًا ساقطًا.
* نجيب محفوظ
عنبر لولو
قام الكشك في الوسط من الحديقه الجنوبي, كشك مصنوع من جذور الأشجار على هيئة هرم تكتنفه أغصان الياسمين. وقف فى وسطه كهل أبيض الشعر نحيل القامه ما زال يجرى في صفحة وجهه بقية من حيوية, جعل ينظر في ساعة يده ويمد بصره إلى الحديقة المترامية مستقبلا شعاعًا ذهبيًا من الشمس المائلة فوق النيل نفذ إلى باطن الكوخ من ثغرة انحسرت عنها أوراق الياسمين. ولاحت الفتاة وهي تتجه نحو الكشك سائره على فسيفيساء الممشى الرئيسي, أحنت هامتها قليلا وهي تمرق من مدخل الكشك القصير, ومضت نحو الكهل بوجهها الأسمر وعينيهما الخضراوين تصافحا ثم قالت بصوت ناعم ونبره اعتذار:
- إنى خحجلة!
- فقال الكهل برقة:
- يسرني أن ألقاك.
- لا يحق لى أن أنهب وقتك.
- لا يعد ضائعًا وقت نمنحه لعلاقه إنسانية.
- شكرًا لطيبة قلبك.
أشار إلى الأريكة داعيًا إياها للجلوس فجلست ثم جلس.
وقالت:
- لم تسعفني الجرأة على طلب مقابلتك إلا لأني فى مسيس الحاجة إلى رأي حكيم.
- كل إنسان عرضة لذلك, غير أن من يراك فى الإدارة لا يتصور أنك تحملين هما!
- دعك من المظاهر!
فهز رأسه موافقا فواصلت:
- وتساءلت طويلا إلى من يحسن بي أن الجأ, حتى هداني التفكير اليك.
- أستغفر الله.
وتريثت لحظات ثم قالت:
- إنك لا تعرفني إلا كزميلة في إداره السكرتارية.
- بلى.
- فعلي أن أقدم نفسى الحقيقية:
- أهلا بها.
- هى نفس مقضي عليها بالسجن المؤبد فى شقاء دائم ..
- أرجو أن تنكشف بعد تبادل الرأي عن مغالاة عاطفيه ..
- بل هي حقيقه واقعية.
نجلي الاهتمام فى عينيه وهو يقول:
- إنى مصغ إليك.
فقالت: وهي تتنهد:
- حسبي أن أعرض عليك الفصل الأخير من المأساة ..
فتجلى الاهتمام بصورة أوضح.
- إني يتيمة الأبوين, لى إخوة ثلاثة صغار, نقيم فى بيت زوج المرحومة أمنا ..
- وضع معقد ..
- وأبعد ما يكون عن الراحة ..
- لا يمكن إنكار ذلك.
- وهو رجل عنيد متعجرف.
- زوج المرحومة؟
- دون غيرة.
- أهو عجوز مثلي؟
- بل أكبر , وهو لا يحبنا!
- هل انجب لكم إخوة؟
- كلا, إنه عقيم!
- ذلك مدعاة لحب الأطفال.
- ولكنه شاذ, وقد أفهمنى عقب وفاة والدتى بأننى المسئولة وحدي عن إخوتي.
- وساد الصمت مليًا حتى استطردت قائلة:
- لعله بقراره لم يجاوز العقل!
- بلى ولكنه جاوز الرحمة ..
- على أية حال أنا لا أطمع فى رحمته!
- مفهوم.
وهو يمن عليا بالمأوى وببعض المساعدات وإن يكن يحتسبها ديونًا مؤجلة.
هز الكهل راسه دون أن ينبس فقالت متنهدة:
- لعلك تخيلت الصورة التي أعيش فى إطارها, والحق أنى لا أملك النقود اللازمة لملابس فتاة موظفة ..
- وشابة فى عز شبابها!
- هكذا تمضي الأيام في قسوة ومرارة, تحت رعايه عنيفة لا تعرف الرحمة, بلا أمل, أي أمل في غد أفضل!
- فقال الكهل كالمحتج:
- لا يجوز أن ننظر إلى الحياة بهذه العين.
- ولو كانت بالحال التي ذكرت؟
- ولو كانت!
ثم تساءل وكأنه يناجى نفسه:
- منذا يقطع بما يخبئه الغد؟!
فرفعت منكبيها زهدا فى مناقشة فكرته وقالت وهي تتنهد:
- واذا بي أشعر بزحف الزمن, ومن خلال حياة التقشف والمرارة أخذ الزمن يطاردني ..
- ولكنك ما زلت فى مطلع الشباب.
- إنى فى الرابعة والعشرين من عمرى.
- عز الشباب!
- ولكنه فى مثل حالتي يعد مرحلة من الشيخوخة.
- لا داعي للمبالغة , إن وضعك, ليس الوحيد من نوعه في بلادنا, ما أكثر أشباهه, وان اختلفت الظروف والأسباب.
فرمته بنظرة غامضة وقالت:
- ولكني لم أحدثك بعد عن المشكلة الحقيقية!
- الحقيقية؟!
- التى تتحداني فى اليقظة والمنام!
- غير ما سبق ذكره؟
- ما حدثتك عنه حال يمكن اعتيادها كما يعتاد المريض مرضه المزمن.
فرفع الكهل حاجبيه متسائلا فقالت:
- أصبحت أشعر بشبابي لا كفترة من العمر تتسرب فى ضياع ولكن كقوة دافعة قوة قاهرة كهبة مقدسة, وحق إلهي! ..
نظر الكهل فى بريق عينيها الخضراوين كالمأخوذ فقالت بنشوة وحماس:
- كم تنازعني نفسي إلى أشياء وأشياء، إلى كل شيء، إلى الوجود كله!
ثم هي وتخفض عينيها ونبرة معتصرة بالحسرة والحزن:
- أود أن أرقص وأغني وأمرح!
اختبأ الكهل في صمته وهو يطبق شفتيه متفكرًا, ولما طال انتظارها قالت:
- لعلي دهمتك بصراحتي!
فأصر على الاختباء فقالت:
- لم تتوقع ذلك, فأصبحت الأكاذيب وجبات يومية متكررة، ولكن ما جدوى هذا اللقاء إذا لم أكاشفك بدخيلة نفسي؟!
فتمتم الرجل بحذر:
- صراحتك مشكورة!
- وكان علي أن أعلن ما في نفسي أو أجن، أو لكن كان علي أيضا أن أختار الرجل المناسب، وكنت تخطر على بالي دائمًا، رجل وقور ومحبوب وذو سمعة طيبة، له تاريخ مجيد قضى عليه بأن يكون ضحية فتعلقت به قلوب الضحايا!
- أشكر لك إنسانيتك ولطفك.
- لا أنكر أن لي صديقتين حميمتين في المصلحة ولكني لم أفد من رأيهما ما يذكر!
- هل كاشفتهما بما كاشفتني به!
- كلا ولكني سألتهما الرأي في مناسبات جادة وخطيرة!
- بم نصحاك؟
- بدت لي إحداهما أبعد ما تكون عن الرحمة!
- زيديني ايضاحًا.
- ليس الآن موضعه.
- والاخرى
- إنها غاية في الغرابة قالت لي: إن مشكلتي عامة وإن بدت خاصة وأنها لا تحل بالحلول الفردية وإن علينا أن نغير تفكيرنا من جذوره لنحقق تغييرًا عامًا وشاملاً ..
فابتسم قائلا:
- ليس رأيها بالجديد على مسمعي ولكن كيف كانت استجابتك لها؟
- لم يستمر ما بيني وبينها طويلا بعد ذلك فقد ألقى القبض عليها فجأة.
- عرفت المعنية بحديثك, أليست هي زميلتنا السابقة بالحسابات؟
- بلى, وهكذا لم أجد أحدًا سواك.
فقال بلهجة أبوية:
- إنك تنظرين إلى الأمور بمنظار أسود, ونسيت أنك قد ترزقين بابن الحلال غدا أو بعد غد!
- أبناء الحلال متوفرون ..
- ألم يقع اختيارك على أحدهم؟
- كلا, إنهم موظفون شبان في مستوى مادي لا يختلف عن مستواي، وقبول يد أحدهم يعني التخلي عن أخوتي, ودعنا من تكاليف الزواج ومشاكلها!
فقال الكهل بإصرار:
- عسى أن يجىء عريس غنى يقوم بكافة التكاليف ويسمح بالنزول عن مرتبك لإخوتك!
- هذا حلم وليس عريسًا!
- الأحلام توجد كما توجد الحقائق.
- أرفض أن أقيم ميزان حياتي على الأحلام إني أعيش فى جفاف قاتل وبلا أمل, ونفسي تتحرق إلى الحياة والسعادة, وفى كلمة أود من اعماقى أن ارقص وأغني وأمرح.
رجع الكهل إلى حيرته وصمته فقالت بوضوح:
- هذه هى مشكلتي الحقيقية!
ولما وجدته مصرا على الصمت عادت تقول:
- يسعدني أني وجدت أخيرًا الشجاعة لمصارحتك بها!
فجعل يغمغم بكلمات مبهمة فقالت باسمة:
- وطبيعى أن أنتظر منك شيئًا غير الصمت.
فجمع عزمه وقال:
- إني بطبعي وتاريخي أرفض التسليم بوجود طرق مسدودة!
- ولكن طريقي مسدودة!
- ما تزال.
- أرجو أن نعتبرها كذلك إكرامًا لي، أنا لم ألجأ اليك إلا مطاردة بسياط الجزع، وبعد كفر بالأحلام والخوارق!
فقال بوضوح:
- لا رأى عندي دون مراعاة كاملة للكرامة!
- الكرامة؟
- أعني السلوك الخليق بفتاة محترمة.
فقالت: بتحد:
- لقد جئتك وأنا على علم غزير بالنصائح التقليدية!
- طيب, هل تتوقعين لدي رأيًا آخر؟
- نعم!
- أن أسوغ لك السقوط؟
- نعم!
فتساءل الكهل بذهول:
- ألم تخبريني مدفوعة بما ذكرت عن تاريخي وحسن سمعتي؟
- بلى!
- وتصورت بعد ذلك أن أبارك سقوطك؟
- نعم!
فضحك الكهل على رغمه وقال:
- الحق أنى لا افهمك.
- ولكننى واضحة كضوء الشمس!
- نعم!
- خبريني عما تتوقعين مني؟
- أن تصرح لي بأن النهل من متع الحياة ليس سقوطًا!
- ولكنه ينقلب كذلك أردنا أم لم نرد!
- وإذن فما علي إلا أن أصبر حتى أذوي وأذبل وأموت؟
- بل حتى تفرج.
- كلام لن يكلفك شيئًا ولكنه سيكلفني حياتي ..
فقال متحايلا للهروب من حدة الموقف:
- حدثيني عن رأي صديقتك الأخرى, أعني التي لم تعتقل؟
- كان الحديث لمناسبة تقدم شاب لخطبتى فطالبتنى بأن أقبله دون تردد, وأما عن أخوتي فقد قالت ليس من حق أحد أن يضحى بحياة آخر في هذه الدنيا قصيرة الأجل!
فهز الكهل رأسه فى حيرة صامتًا فقالت:
- ولكني أرفض التضحية بإخوتي!
- يالك من فتاة نبيلة!
- ولكني من حقي أن أحب الحياة وأن أستمع بهذا الحب.
- إذا فقدنا الكرامة فإنه لا يطلب لنا شيء
- من الذي خلق الكرامة؟
- خلقتها السماء كما خلقتها الارض ..
- ألم تسمع عما يقال عن الفتاة الأوربية؟
- إنها تنتمي إلى حياة أخرى في أوروبا ولست أملك المعرفة ولا أملك الحكم عليها.
- ولكنها أثبتت لنا أنه من الممكن الاستهانة بالتقاليد الموروثة دون التضحية بقيم إنسانية باهرة!
- قلت: إني لا أملك الحكم عليها ..
- هل تهرب من مواجهة الحقيقة؟
- بل أتكلم بما أعلم ..
- أخشى أن تعدني مسئولية ثقيلة اعترضت طريقك الهادىء؟
- بل أود مساعدتك بكل قلبي ..
فقالت برجاء:
- إذن قدم لي نصيحة مبتكرة
- مبتكرة!!
- أجل لم أعد أومن بالماضي , لقد ورثت تعاستي عن الماضي، لذلك أكره كل ما يمت اليه بصلة, هبني نصيحة مبتكرة ولو هزئت فى النهاية بما سميته بالكرامة!
- ولكنى صارحتك بما أومن به.
- إنك رجل غير عادي، لابد أن تنبع منك أفكار مبتكرة، أفكار لا تستمد سدادها من قول سلف أو من عادة أثرت ..
- من حقي , ومن واجبي أن أكون مخلصًا لطبعي أبدًا.
فقالت: وهي تنظر فى عينيه بجرأه.
- أحيانا يخيل إلي أن شرًا عصريًا أفضل من خير بال!
- أي ثورة تنطوي عليها جوانحك الرقيقة الجميلة!
- الحياة توشك أن تفلت من بين اصابعي تحت شعارات متهرئة, ترددها ألسنة محتضرة.
- هذه انعكاسات أزمة كفرت بحكمة الصبر.
- صدقنى فإن حياتنا وقف قديم متهدم تتحكم فيه وصايا الأموات.
- كل ذلك لأنك تودين أن ترقصي وتغني وتمرحي؟
- لأنى أود أن أعيش حياتي.
- وربما تودين غدا أن تقتلي الأنفس وتشعلي الحرائق وتهدمى الجدران؟
- فضحكت قائلة فى حبور:
- أود حقًا أن أقتل زوج أمي, وأن أحرق من يتطاول علي رميي بالسقوط وأن أهدم جدران الإدارة!
- ابتسم الكهل وهو يرمقها بحنان أبوي وقال:
- لعله الحب؟
- هه؟
- لعله حب يائس الذى أضرم فيك نار الثورة!
- لا يوجد حب معين الآن, أحببت مرات وخبت مرات , أما الآن فأنا أحب الحب وحده!
- لا شك أن للحب عندك قصة!
هزت منكبيها فى استهانة وقالت:
- أنت تعرف حب المراهقة ومصيره المحتوم، ذاك واحد, وحلمت يومًا بحب ممثل, وكان كلما تقدم لي خاطب ابدى قلبي استعدادًا طيبًا للحب لا يلبث أن يذهب بذهابه ..
- لا قصة حب الآن؟
- أكبر قصة حب, حب الحب نفسه!
وتبادلا نظرة طويلة ثم سألته:
- بم تنصحني يا سيدي النبيل؟
فقال باسما:
- أنصحك بالرقص والغناء والمرح والقتل والتحريق والهدم.
- أتسخر مني يا سيدي.
- معاذ الله, بل إنك تغرينني بالتعلق بك!
- حقا؟
- ما أكثر أوجه الشبه بيننا!
- فيم؟
- في التعاسة على الاقل؟
فقالت باستطلاع:
- لقد سمعت عنك الكثير ..
فلاحت في عينيه نظرة حالمة وقال:
- كنت يوما ذا شباب يافع ومستقبل مرموق.
ثم وهو يبتسم
- وذات يوم قررت الانضمام إلى الجموع الثائرة
وسكت لحظة ثم تمتم:
- ولم اكتف بذلك فجازفت بالعمل في السراديب.
ثم واصل وهو يضحك ضحكة موجزة:
- ثم قضيت من حياتي خمسة وعشرون عاما في السجن ..
- أول ما لفتنى إليك حديث بعض الزملاء في المصلحة عندما أشاورا إليك وقالوا هذا الرجل بطل من أبطالنا القدامى!
- وقد خرج البطل من السجن بعد أن جاوز الخمسين وبعطف من البعض ألحقت بالوظيفة, بمرتب مبتدىء وعما قليل سأترك الخدمة دون أن أستحق معاشًا, وقد فاتني الحب والزواج والأسرة, وإن امتد بي العمر فلا مفر من التشرد والجوع ..
- يا للبطولة!
- لذلك قلت: إن بيننا أوجه شبه.
- لكنك بطل!
- لا يذكرني اليوم أحدا!
ترامت إليها في الكشك ضحكات هامسة وهي تقترب. مرق إلى الداخل فتاة وشاب سرعان ما تبادلا عناقا حارًا, أسلمت الفتاة رأسها إلى كتف الشاب وأغمضت عينيها, قلبت رأسها، ولما فتحت عينيها وقع بصرها على الكهل والفتاة السمراء ذات العينين الخضراوين. ابتسمت بلا ارتياب يذكر ثم سحبت فتاها من يده وغادرا الكشك. ضحكت السمراء وابتسم الكهل وسألته:
- لم اخترت هذه الحديقة مكانا للقائنا؟
- كنت أتردد عليها فى الزمان الأول.
- لا علم بما يدور فيها اليوم؟
- كلا, كنا نتخذها أحيانا مخبا ننقض منه على أعدائنا ..
فقامت برشاقة آخذة إياه من ذراعه, فمضت به إلى جدار الكشك, مدت بصرها من الثغرات بين أوراق الياسمين داعية إياه إلى النظر. نظرا معا وهما شبه متلاصقين حتى فغر الكهل فاه. وهمست فى أذنه:
- انظر الى الحديقة!
- ثم هي وتكتم ضحكة:
- كم أنها مرصعة بالعشاق.
- فوق مايتصور العقل.
- العقل يستطيع أن يتصور كل شيء لو تخلت عنه القبضة الخانقة.
فقال فى انفعال ظاهر:
- انظري إلى هذه الفاجرة.
- يا لها من سكرى بالحب!
- أهذه حديقة عامة.
- لا عيب فيها إلا أنها تشبه الجنة ..
- إنها فى عمر الورد؟
- الحديقة؟
- الفاجرة!
- يخيل إلي أنه لا زوج أم يرهبها ولا سجن يهددها!
رجع الرجل إلى مجلسه وهو يلهث, تراجعت الفتاة إلى وسط الكشك وقفت كأنما تستعرض جسمها الرشيق.
دارت حول نفسها مرتين كأنما تشرع في الرقص, سألها وهو لا يتمالك نفسه:
- لم وقع اختيارك علي بالذات؟
- لانك الرجل الذي قضى زهرة عمره فى السجن.
- كيف ظننت انك واجدة رأيًا جنونيًا عند رجل مثلي؟!
- تخيلت انه لن ينتشلني من الموت إلا رجل كان الموت لعبته!
- يا له من مزاح!
- قلت لنفسي سأجد عنده رأيًا جديرًا ببطل!
فتردد قليلا ثم سألها:
- الم تخشي أن اغازلك؟
- ليس ثمة ما أخشاه في ذلك!!
هز الكهل رأسه مغلوبا على أمره فعادت إلى مجلسها إلى جانبه وهي تسأله:
- اليس فى حياتك جانب لهو؟
فأجاب دون اكتراث:
- اقرأ بانتظام وأذهب إلى السينما بين حين وآخر.
- تعيش وحدك؟
- نعم, لا أقارب لي في القاهرة.
- ولا أصدقاء لك؟
- منهم من قتل فى الثورة ومنهم من تبوأ يوما الوزارة فبعد ما بيني وبينه ..
- والنساء أليس فى حياتك نساء؟
- ولَّى موسمهن فى عمري.
ففكرت قليلا وقالت:
- أود أن أعترف لك بسر!
في تلك اللحظة ترامى إلى سمعيهما صوت رصاص ينطلق بقوة وغزارة. بهت الرجل وارتجفت الفتاة.
تساءلت:
- ما هذا؟
- رصاص من بندقية سريغة الطلقات ...
- كيف؟ .. لم.
- لا أدري ..
- غارة؟
- ولكن صفارة الإنذار لم تنطلق, لعله تمرين.
وسكت الضرب, لبثا يرهفان السمع ولم يزايلهما القلق
تساءلت:
- هل يعود؟
- لا علم لي ..
- هل تستأنف الحرب؟
- من يدري
- الكلام عن ذلك لا ينقطع.
- وهو ينتهي حيث يبدأ
- اتفكر فى ذلك كثيرًا؟
- إنه ظلنا ومصيرنا.
وفصل الصمت بينهما طويلا. حتى قال:
- إن الرصاص يحرك غرائز في أعماقي، لقد زلزل كياني في هذه اللحظه القصيرة.
- يؤسفني أنني كدرت صفوك.
- لنعد إلى ما كنا فيه, أكنت تتحدثين عن سر؟!
فابتسمت قائلة:
- أجل هناك سر ..
- فرمقها بنظرة مستطلعة فقالت:
- ثمة رجل في حياتي.
- حقا؟
- شاب غني من طنطا!
- ها هو الحلم يتحقق ..
- كلا, إنه متزوج
- ما مهنته؟
- تاجر.
- أتقبلين أن تكوني الزوجة الثانية؟
- لكنه يمقت فكرة تعدد الزوجات.
- هل سيطلق زوجته؟
- ويمقت فكرة الطلاق.
- وماذا يريد إذن؟
- إنه يحبني!
- كذاب!
- أعتقد أنه صادق.
- هل ... هل ..
- تقابلنا في مشرب شاي مرتين.
- ماذا يريد؟
- يريد أن أقابله مرة ثالثة ..
- لا كرامة في ذلك
- رجعنا إلى الكرامة!
- واضح أنه يريد العبث بك.
- أو أن أعبث به!
- كوني بريئة بقدر ما أنت صغيرة ..
- وحدثني عرضًا عن شقة يملكها في الهرم!
- الداعر!
- لم اقطع برأي بعد.
فهتف بحدة:
- الرقص والغناء والمرح.
- لا أحب لك أن تغضب
ومالت نحوه فلثمت جبينه وجعل ينظر إليها باهتمام وتوقد. سألته برجاء:
- ألا تريد أن تمن علي برأي؟
- عليك أن تصبري حتى يجيء الفرج كما أن علي أن أصبر حتى يجيء الموت!
فقامت, وهي تقول:
- شكرًا, وإذا فيجب أن أذهب
هتف باستنكار.
- تذهبين .. !
- لم أجىء لأقيم هنا.
- انتِ ذاهبة إلى الشاب الغني من طنطا ..
- كلا, ليس موعده اليوم ..
- لا يمكن أن تذهبي ..
- آن لي أن اذهب ..
قام إلى جدار الكشك ورمى بصرهإ الى الخارج ثم قال بعصبية:
- الحب لا يتوقف لحظة واحدة ..
- متع بصرك ..
تحول إليها وهو يقول بانفعال:
- كأنك ابنتي!
ومال نحوها فلثم جبينها وهو يقول:
- لا تذهبي إلى مشرب الشاي.
- ليس اليوم.
- إنه يريد عشيقة!
- لم يصرح بذلك.
- أنت ساذجة؟ أنت ماكرة. ما أنت؟
- أنا مصممة
- أنت جميلة وأنت فاتنة, اصبري.
- يجب أن أذهب
- إنه يرفض أن يطلق ويرفض أن يتزوج ثانية لماذا؟
لعل زوجته غنية, لعلها رأسماله الحقيقي، وغير بعيد أن تكون أكبر منه سنا، لذلك جهز شقة للعبث, يجي إلى القاهرة باسم التجارة ليمارس الدعارة, هذه هى الحقيقة
- أشكرك ولكن آن لى أن أذهب.
قبض على يدها ثم على ساعدها وقال وهو يزداد انفعالا:
- لن تذهبي
ابتسمت قائلة:
- لقد تأثرت لحالي أكثر مما يجوز ..
- لا حدود لما يجوز فى ذلك.
- شد ما أزعجتك.
- أكثر من سبب يشد أحدنا إلى الآخر.
- ولكن الوقت يسرقنا وزوج أمي رجل شرس.
- فلنسحق رأسه ولكن لا تذهبي إلى الشاب الغني من طنطا.
- إني راجعة إلى البيت.
ففرقع بأصابعه وقال:
- جاءتني فكرة طيبة
- فكرة؟
- إنك مشغولة بالحياة ولا خوف عليك من كهل مثلى فلنذهب سويا إلى عنبر لولو.
- عنبر لولو؟
- حديقة في صحراء سقارة، في المركز منها بركة مترامية من ماء الورد، وتنتشر بها المقاصير المغطاة بالأزهار، وشعارها غير مكتوب افعل ما تشاء.
فاتسعت عيناها دهشة وقالت:
- أنت تدعوني إلى ذلك؟
- مع آمن رفيق!
- لا اصدق!
- لا يعز شىء على التصديق.
- ولكن .. ولكن ليس الوقت مناسبًا.
- كل وقت فهو مناسب لزيارة عنبر لولو!
- لم أسمع بها من قبل.
- إنها جنة الأحلام, كل حلم فهو واقع فى عنبر لولو.
- إنك تتكلم بصوت جديد, وعيناك تنطقان بمعان جديدة.
جذبها من يدها إلى جدار الكشك فنظر من الثغرات داعيا إياها إلى النظر وقال محمومًا:
- انظري, جميع هؤلاء حمقى لأنهم لم يعرفوا الطريق إلى عنبر لولو.
- تلك الحدائق النائية عرضة للخطر!
- إنها ترقد فى حضن الأمان وآى ذلك أنه لا يوجد بها شرطي واحد!
- وماذا تفعل هناك؟
- كما تهوين, لا أحد يرى الآخر في عنبر لولو.
- انظر إلى هذه الفتاة الفاجرة!
-إنها فاجرة لأنها تلهو بعيدًا عن عنبر لولو.
- إنك تخيفيني!
- لا ظل للخوف في عنبر لولو.
تراجعت عن الجدار فلحق بها فى نشاط غير معهود وهو يشد على يدها وتساءل:
- الم تجيئي لتسمعي نصيحة من كهل؟
- إني أمقت النصائح!
- اذهبي معي إلى عنبر لولو.
- رباه .. إنى أتراجع, لعل حديثك الحكيم أثر في أكبر مما توقعت!
- حديث عنبر لولو؟
- حديث الصبر والكرامة!
- إنك لا تؤمنين بالألفاظ الصفراء.
- ولكنك تؤمن بها؟
- إن ربع قرن في السجن خليق بأن يخل الميزان.
- إنك تخيفني.
- كلا, ولكنها حيلة نسائية بالية!
- اهدأ, فلنجلس, أود أنأاعترف بسر جديد.
- اعتراف آخر؟!
عادا إلى مجلسهما وهو يلهث. وقبل أن تفتح فاها تدافعت اقدام مهرولة تند بين ضحكات شابة متوثبة. اندفعت إلى الداخل فتاة يطاردها شاب. لمحا وجود الكهل والفتاة, ولكنهما لم يلقيا إلى ذلك بالا. مضت تحاوره وهو يتحين غفلة للانقضاض عليها. وفجأة وثبت الفتاة فوق الأريكة الوحيدة التي يستقر عليها الكهل وصاحبته وتخطت الرجل فاختفى لحظة بين ساقها ثم قفزت إلى الباب, ومنه إلى الحديقة والشاب في أثرها. سوىَّ الكهل هندامه وتمتم كأنما يناجي نفسه:
- ما أجمل أن يذهبا إلى عنبر لولو!
ثم قال لفتاته بضيق:
- نحن نضيع وقتا ثمنيا لا يعوض!
فقالت تذكره:
- ولكن ثمة اعتراف جديد!
- لا قيمة الآن لأي اعتراف!
- أود أن أعترف لك بأن حكاية الشاب الغني من طنطا مختلقة من جذورها ولا أساس لها في الواقع!
- حقًا؟
- بالصدق أعترف لك.
- ذاك يعقد الأمور ولا يبسطها!
- وعلى أن اذهب الآن.
- كلا ,لن تذهبى.
- لا شيء يدعونا للبقاء.
- بل علينا أن نفهم الأسباب التي دعتك إلى اختراع الحكاية.
- لا أهمية لذلك البتة.
- كلام غير علمى فالحلم له أسبابه كالواقع سواء بسواء.
- اكرر ألا أهمية لذلك.
فهز رأسه مفكرًا وقال باهتمام:
- دعينى أفكر.
ومسح على جبينه واستطرد:
- شاب .. تاجر .. غني .. من طنطا .. شقة خاصة فى الهرم.
- كدت أنسى تلك التفاصيل.
- لا يمكن أن تنسى.
- أنت ظريف ولكنك عنيد.
- اصغي إلي, شاب تخيلته شاباـ الشباب رمز الجنون, يحب الحياة, وأنت تهيمين بحب الحياة لحد الجنون.
- لكني تغيرت.
- كذب, لم يمر وقت يسمح بالتغيير.
- يخيل إلي أني عاشرتك في هذا الكشك عمرًا.
- اصغي إلي يا عزيزتى, .. تاجر .. ما معنى تاجر؟ إنه نقيض الموظف, الموظف رمز الروتين, التاجر رمز الحركة, الموظف ظل الاخلاق التقليدية, التاجر ظل الانطلاق واللا أخلاقية.
فتساءلت ضحكة:
- أتراني حلمت بقرصان؟
- وأكثر يا عزيزتي, إنك تدعينا للإيمان بإبليس كما آمن إبليس بنفسه, إنك تنبذين آدم مخلوق الخطيئة والاستغفار, وتعشقين إبليس مخلوق الإبداع والكبرياء, إنك تعيدين للنار كرامتها حيال التراب.
- سامحك الله .. أنت خفيف الروح.
- وما معنى غني؟، الغني هو الذي يملك المال والقوة, ولكننا لم نعد في عصر الأغنياء، أي غني اليوم هو كاللص الذي لم يهتد إلى أثره بعد, ستطبق عليه يد العدالة فى المساء أو عند منتصف الليل, فالحلم يريد شابًا, غنيًا, لفترة محدودة، إنه يخشى المعاشرة الطويلة, يخشى أن ينكشف مع الزمن عن شخص حقير شرس مثل زوج أمك, فأنت ترغبين فيه وتكرهين في الوقت نفسه فكرة دوامه, سوء ظن مكتسب من ماض تعيس ..
- أتقرأ الفنجال أيضًا؟
- من طنطا! .. ماذا بقول الحلم؟ , طنطا هي مثوى السيد البدوى, صاحب الكرامات والمجزات, الذي كان يجىء بالأسرى من الأعداء .. فهمت يا عزيزتى؟!
- فهمت يا سيدنا الشيخ.
- وشقة الهرم؟ .. الشقة مفهومة ولكن لماذا فى الهرم؟ الهرم فى ظاهره قربه ولكنه فى حقيقته يشكل تحديا للزمن .. للموت ..
- تفسير مسل وجميل, ولكن يجب أن نفكر في الذهاب.
- ابصقي هذه النية من فيك وهلمي إلى عنبر لولو.
- بل إلى البيت.
- ماذا في البيت مما يغريك بالعودة إلبه؟
- هو بيتي على أي حال.
- سيتغير طعمه ومذاقه عقب زيارة لعنبر لولو.
- رمقته بنظرة ارتياب وسألته:
- ما علاقة كهل وقور مثلك بعنبر لولو؟
- فيه خلوة للعجزة, كل شيء في عنبر لولو.
- ترى .. ترى أأنت جدير بالسمعة الطيبة التي تتمتع بها؟
- أنسيت رأيك في الوقف القديم ووصايا الأموات؟
- لكني تعلمت أشياء جميلة من معاشرتك الطويلة هنا!
- لا تسخري من رجل قضى زهرة عمره وراء القضبان.
- اغفر لي فأنا لم أجاوز الأربعة والعشرين ربيعًا من عمري!
- ولكنه في حالتك يعتبر مرحلة من مراحل الشيخوخة!
وقامت متجهمة فقام في أثرها بحال توحي بالاعتذار، وقال:
- لا معنى للغضب بعد أن تعارفنا على خير وجه!
فقالت بنبرة ساخرة:
- شيدت قصرًا ولكن على الرمال!
- حقا؟
- الشاب الغني من طنطا حقيقة من صميم الواقع.
- بل خيال فى خيال!
- حقيقة من صميم الواقع.
فقبض على ساعدها بعنف وهو يطلق على عينيها نظرة من نار. وتوثب ليقذفها بسيل من الكلمات التي انصهر بها شدقاه ولكن شخصا غريبا اقتحم الكشك على غير توقع, اقتحمه وكأنما ألقى به إليه. مشعث الشعر, أغبر الوجه, يتصبب عرقًا .. رفع بنطلونه وحبكه حول وسطه, ضرب الأرض بقدميه بشدة ليزيل عن حذائه ما يطويه من طين. بادلهما النظر صامتًا دون أن ينبس. مضى إلى طرف الأريكة وارتمي عليها في إعياء جعل صدره يرتفع وينخفض ورائحة عرقه تنتشر. حل بالكشك صمت كالشلل. لكن الفتاة كانت أول من خرج منه. خلصت يدها من قبضة الكهل وقالت:
- أستودعك الله, إنى ذاهبة.
فقال الكهل برجاء:
- انتظري, يحسن بك ألا تسيري وحدك في الطرقات الخالية في هذه الساعة من الأصيل!
وإذا بالشاب الغريب يقول:
- ليست الطرقات بالخالية!
فرماه الكهل بنظرة مغيظة متسائلة فقال الشاب:
- جميع الطرقات مطوقة برجال الشرطة
فتحول غيظ الكهل إلى دهشة وسأله:
- لم؟
فسأله الشاب بدوره:
- ألم تسمعوا طلقات الرصاص؟
- بلى, منذ وقت غير قصير, ظننته تدريبًا عسكريًا.
- لم يكن تدريبًا عسكريًا.
فسألته الفتاة:
- أكان غارة جوية؟
- لم يكن غارة جويه.
فسأله الكهل:
- هل بلغتك عنه أنباء صادقة؟
فهز الشاب رأسه بالإيجاب، وأجاب النظرات المتسائلة قائلا:
- صعد شخص إلى قمة البرج وأطلق الرصاص من بندقية سريعة الطلقات.
- ما هويته؟
- لا يدري أحد!
- وما الهدف الذي أطلق عليه الرصاص؟
- أطلقه على كافة الجهات, على جميع الناس!
- يا للخبر, وكم عدد الضحايا؟
- لم يصب أحد!
- غير معقول.
- يبدو أنه أراد أن يطلق الرصاص لا أن يصيب أحدًا.
- حادث غامض.
- إنه لكذلك.
- هيهات أن يثبت عدم الشروع في القتل.
- ذاك واضح, ولكن ربما صفحته خالية من السوابق!
فقال الكهل باستياء:
- ليس خلو الصفحة من السوابق بالشهادة الطيبة دائمًا, ولا العكس بالصحيح.
- قول لا يخلو من حكمة.
- أهنئك على حسن إدراكك.
- شكرًا.
- لكن لنعد إلى مطلق الرصاص, لعله مجنون؟
- كلا ..
- إنك تتحدث عنه بيقين!
- بل أردد ما تناقله الناس في الطريق.
- ولكن لم يطلق النار في جميع الجهات دون أن يقصد إصابة أحد؟
- ذاك بعض السر الذي يسعي وراءه رجال الشرطة.
- فقالت الفتاة:
- لعله مجنون بالشهرة.
- لا يبدو كذلك.
فعادت تقول:
- لعله كان فى حاجة ملحة إلى الترفيه!؟
فابتسم الشاب قائلا:
- لا أظن الامر كذلك.
وسأله الكهل:
- ماذا يقول الناس عنه أيضا؟
- يقال إنه كان ضمن وفد دعي إلى زيارة الجبهة ومعسكرات اللاجئين.
- حقًا! ... لعل أعصابه اهتزت فوق ما يحتمل.
لكنه لم يفقد توازنه قط والا لقتل الناس بالعشرات
- أطلق النار وهو فى كامل وعيه!
- وكامل عقله!
- ياله من حادث غامض!
وقالت الفتاة:
- كم أود أن أراه.
فقال الكهل:
- سترينه في جرائد الغد, كذلك تجري الأمور منذ قديم!
ثم التفت إلى الشاب وهو يقول كأنما يقدم له نفسه:
- أنا أيضا ولعت يومًا بإطلاق النار!
ثم بنبرة اعتزاز:
- ولكن الرصاص انصب على الأعداء!
فقال الشاب بامتعاض:
- يقال إن صاحب البندقية المجهولة هتف قبل أن يختفي "ليستقر الرصاص في قلب العدو الأكبر"
فقال الكهل في حيرة:
- حتى القتل أصبح غامضًا رغم أنه أوضح فعل في الوجود!
- ليس ثمة غموض ألبتة ..
فتساءل الكهل بغيظ:
- أكان العدو الأكبر يسير فوق رؤوس المارة؟
- أو خلفهم أو أمامهم أو تحت أرجلهم!
فقالت الفتاة بانفعال:
- واضح أو غامض, لا يهم كم هو جميل أن يطوف إنسان بالجبهة وبمعسكرات اللاجئين ثم يصعد إلى برج القاهرة ليطلق النار في جميع الجهات!
فسألها الكهل:
- هل وضح ما غمض عليَّ؟
- نعم.
- ولكن كيف؟
- إني أفهم بطريقتى الخاصة!
وسادت لحظات من الصمت ارتفعت خلالها ضجة في الخارج. ثم تبين على وجه اليقين أن ثمة ضجة تجتاح الحديقة.
هرعا إلى ثغرات الياسمين فرأيا العشاق يتجمعون فى الممشى وقد تولاهم الوجوم والارتباك. ثم رجال الشرطة وهم يحتلون الأركان. قالت الفتاة بانفعال.
- أصبحنا في قلب الحدث.
فقال الكهل:
- وقد يقع صدام دام.
والتفتت الفتاة نحو الباب وقالت له:
- واضح أن رجال الشرطة يعتقدون أن صاحبك المجهول في الحقيقة معنا!
فقال الشاب بهدوء:
- وهو فرض محتمل!
فقال الكهل:
- ولم يعد ثمة مجال للهرب ..
فقال الشاب:
- إن من يقدم على ما أقدم عليه لا يمكن أن يركن إلى الهرب إلى ما لا نهاية.
فقال الكهل وهو يحدجه بمودة:
- وعليه فخير سبيل أن يذهب إليهم بنفسه ...
- اتظن ذلك؟
- وابتسم ثم قام بهدوء حياهما بإحناءة رأسه قائلا:
- إلى اللقاء ...
ومضى نحو باب الكشك فمرق منه إلى الحديقة وهما يردان وراءه:
- إلى اللقاء!
واقتربا من باب متلاصقين وراحا يراقبان ما يحدث في الخارج ولبثا وقتا غير قصير ثم رجعها إلى مجلسهما فيما يشبه الإعياء والحزن وقال الكهل وكأنه يناجي نفسه:
- فاتنى أن أستوضحه بعض الأمور, كان الوقت قصيرًا وحرجًا!
فقالت الفتاة:
- وفاتني أن أدعوه إلى شيء من اللهو!
فقال لها معاتبًا:
- ما زلت قادرة على المزاح!
- أنسيت هيامي بالرقص والغناء والمرح؟
فقال بامتعاض:
- آن لك أن تذهبي إلى شابك الغني من طنطا!
فضحكت قائلة:
- دعنى اعترف لك بأنه حلم لا أساس له في الواقع!
فهتف غاضلا:
- لقد أرهقتني اعترفاتك المتضاربة ..
فقالت بتسليم:
- هلم بنا الى عنبر لولو!.
ونهضت قائمة لكنه جذبها برقة من يدها فأ جلسها مرة أخرى وقال وهو يحنى رأسه:
- دعينى أعترف لك بأن عنبر لولو لم توجد بعد.
فاتسعت عيناها دهشة وتمتمت:
- ماذا قلت؟
- كانت مجرد مشروع!
- مشروع؟
- أجل.
- ماذا تملك اتنفيذه؟
- رسمنا له خطة عظيمة في غيابات السجن!
- السجن؟
- كان حياتنا الحقيقية أنا وبعض الزملاء وقد اشتققنا اسمه من عنبر السجن وأضفنا إليه "لولو" على مثال هونولولو.
- وماذا عن تمويله؟
- فكرنا في ذلك بطبيعة الحال, وبالإجماع اتفقنا على وسيلتين لا ثالث لهما وهما السرقة والقتل.
فضحكت متسائلة:
- وماذا أخركم عن التنفيذ منذ تم الافراج عنكم؟
- الخيانة!
- الخيانة؟
- إذا بالزملاء يتوبون إلى الله ويؤدون فريضة الحج في عام واحد, هكذا تعطل مشروع عنبر لولو!
- يا للخسارة ..
- العين بصيرة واليد قصيرة.
وفرق بينهما صمت واجم ثقيل حتى قال الكهل:
- آن لنا أن نذهب ولكن لا يجوز أن نفترق!
- حقا؟
- ألا ترحبين بذلك؟
- من المؤسف أنك لن تحسن الرقص ولا الغناء ولا المرح.
- ولكني صاحب مشروع قيم!
- عنبر لولو؟
- أجل .. لكنه لا يمكن تنفيذه بمجهود فردي؟
- إذا اتفقنا أمكن أن تصنع شيئا ذا بال ...
- وماذا فى وسعي أنا؟
- أصغي إلي, نحن نملك مواهب لا تقدر بثمن ..
- ما أريد إلا أن أرقص وأغنى وأمرح.
- لن أطالبك بأكثر من ذلك.
- ماذا تعني؟
- عنبر لولو, جنة الأحلام, ما قيمتها بلا رقص وغناء ومرح؟
فابتسمت الفتاة بأمل وتساءلت:
- وأنت؟
فقال بفخار:
أنا مولع بالقتل منذ قديم الزمان
قام فقامت. أعطاها ذراعه فتأبطتها. مضيًا نحو باب الكشك وهو يقول:
- سأطلق الرصاص في جميع الجهات وسنرقص ونغنى ونمرح .. (*)
* * *
(*) كتب الأستاذ نجيب محفوظ هذه القصة صيف عام1967، بعد هزيمة 5 يونيه، ونشرها فى جريدة الأهرام ثم أعاد نشرها فى مجموعة قصصه التى تحمل عنوان: "حكاية بلا بداية ولا نهاية" ونشرت الطبعة الأولى منها عام 1971، مع ملاحظة أنه نشر قبلها مجموعتين من القصص القصيرة، أولاهما: خمارة القط الأسود، ونشرت عام 1969، والأخرى: تحت المظلة، ونشرت فى العام نفسه.
* إحسان عبد القدوس
الله محبة
كان كل شيء بينهما يبدو طبيعيًا، كما يبدو بين كل فتى وفتاة .. وليس فيه شذوذ. و لا غرابة, ولا ينذر بمأساة ..
كان شقيقا لإحدى صديقاتها، وكانت تراه دائمًا كلما رأت شقيقته، ثم أصبحت ترى شقيقته كلما رأته، ثم أصبحت تراه دون أن ترى شقيقته! ..
وإذا بها فى شوق دائم إليه .. إلى وجهه الأسمر فى لون البن المحروق .. وعينيه السوداوين الذكيتين, وقامته المديدة كأنه فرعون صغير، ولم يكن يميزه عن فرعون إلا أدبه الكثير، وصوته الخفيض، وكلماته التي ينطقها ببطء كأنه ينتزعها من بئر عميقة، وينطقها بلهجة صعيدية يحرص عليها رغم أنه لا يزور الصعيد إلا في كل عام مرة أو مرتين ليجمع محصول أرضه ..
وإذا بها تعيش دائمًا معه, في ذكرى: لفتاته ولمساته وابتسامته النادرة .. وإذا بها تضحك كلما تذكرت لهجته الصعيدية، ثم تقلده فيها حتى كادت هي الأخرى التي تنطق بها.
وعندما التقت شفتاها بشفتيه لأول مرة, عرفت أنها تحبه .. وإن لم تعرف إلى أي أحد يمكن أن تحبه!.
ولم تكن في شك من أنه يحبها .. إنها تقرأ الحب فى عينيه, وتشربه من شفتيه, وتسمعه مع أنفاسه ..
إنها تحبه .. ولكن إلى أين؟ ..
إلى أين هذا الحب؟!! ..
وحاولت أن تهرب من تساؤلها .. حاولت أن تهرب من مستقبلها .. حاولت أن تهرب من الحقيقة التي تجاهلتها منذ أن رأته ومنذ أحبته ..
إنه قبطي ..
وهي مسلمة ..
ومضت الأيام في عذاب وذبلت عيناها تحت ثقل دموعها، وذوى عودها حتى كأنها تجف، وسقطت سحابة فوق وجهها فبدت كأنها تعيش دائمًا في سحاب .. وكانت تراه فترى دموعها في عينيه وترى كأنه مع عودها في سباق نحو الجفاف وتراه يعيش معها في سحب .. كانت تعلم أنه يتعذب مثل عذابها وأكثر .. وبرغم ذلك لم يواجهها الحقيقة ..
لم يقل لها إلى أين .. ولم تسأله إلى أين.
ولكنها لم تستطع أن تهرب طويلا من تساؤلها، ولا من مستقبلها .. كانت كلما ضم شفتيه إلى شفتيها سمعت دقًا كأنه دق دفوف الزفاف، وكلما أراحت رأسها على صدره أحست أنها في "الكوشة"، وكلما رأته آتيا نحوها من بعيد خيل إليها أن الملائكة ينشدون من حولها: مبروك عليك العريس الخفة"!!
وكان يجب أن تبحث عن حل .. عن نهاية يستقر عندها حبها ..
وبدأ تفكيرها يتخذ خطوطًا عملية .. إنه يستطيع أن يشهر إسلامه .. ويستطيع بعد ذلك أن يتزوجها ..
إنها مجرد شكليات .. أن يذهب إلى المحكمة الشرعية ويقول أمام القاضي: "أشهد أن لا إله إلا الله, وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله" ثم يصحبها بعد ذلك إلى المأذون ..
واستراحت إلى هذا التفكير وقررت أن تدفعه إليه ..
وكأنهما كانا على موعد .. فلم يكد يلتقي بها ويسحب شفتيه من فوق شفتيها، حتى قال بصوته الخفيض وكأنه ينزع كلماته من بئر عميقة:
- لقد فكرت طويلا .. يجب أن ننتهى إلى حل ..
قالت: وكأنها تزغرد:
- هل تشهر إسلامك؟!
وصمت طويلا وكان شفتيه الرقيقتين قد اختفتا من وجهه، وعادت تقول وقد انهارت فرحتها:
- إنك لا تريد. لا تريد أن تتزوجني.
وتحركت شفتاه ببطء
- لي سؤال واحد ..
- ماذا؟ ..
- هل لو طلبت منك أن تخرجي عن دينك .. تخرجين؟
وأجابت فورًا، وكأنها لم تفكر، ولا تريد أن تفكر:
- نعم ..
ثم سكتت ولم تعلق بشيء، وكأنها أحست بخطورة ما وافقت عليه .. أحست بأن شيئًا كبيرًا مجهولا قد تخلى عنها، وتركها معلقة بين السماء والأرض، وسلط عليها هواء رطبا يملأ صدرها ويعصف في عروقها ..
وابتسم ابتسامة حانية وقال وهو يحتضنها بابتسامتة، ويمسح بيده فوق رأسها كأنها يد قسيس طيب تباركها:
إلى هذا الحد؟!!!
قالت وهي لا تنظر إليه، وليس في صوتها سوى حشرجه:
لقد قلت إننا يجب أن ننتهى إلى حل .. أي حل!!
قال: وقد أحس ما بها:
إن كلا منا يريد أن يضحي للآخر بأعز ما يملك .. ولكني لا أريدك أن تضحي، أو على الأقل لا أريد أن أضحي بديني لمجرد أنه مفروض في أن أضحي به! لنترك الله يختار بيننا .. فهو صاحب دينك ودينى ..
وكيف يختار الله؟!!
- لنجرب الحظ. فهو أبسط مظاهر حكم القدر ..
وأخرج من جيبه قطعة نقود فضية، وقدمها إليها قائلا:
- اختاري لك وجها ..
وابتسمت، أو حاولت أن تبتسم، واختارت أحد وجهي قطعة النقود، واختار هو الوجه الآخر ثم وضع قطعة النقود في يدها قائلا:
أقذفى بها في الهواء .. والوجه الذي يسقط إلى أعلى يغير صاحبه دينه!! ..
وحاولت مرة أخرى أن تبتسم، ولكنها لم تستطع ووجمت، وأحست أنها مقدمة لتسير فوق الصراط المستقيم .. وعندما قذفت بقطعة النقود في الهواء أحست أنها تقذف بقلبها ..
وانحنت إلى الأرض وقد جحظت عيناها، وكتمت أنفاسها .. ثم شهقت شهقة خافتة، ورفعت رأسها وقد تصلب وجهها وتاهت نظراتها ..
أصبح عليها أن تغير دينها وتعتنق المسيحية.
وارتبك وهو بجانبها، ولم يدر ماذا يقول، ثم افتعل ضحكة جافة .. قائلا:
هل صدقت؟!! لقد كنت أهزر إنها نكتة أردت أن أسليك بها .. لا تأخذيها على محمل الجد .. إن الإنسان لا يقامر بدينه وهذا نوع من القمار ..
قالت وهي لا تزال ساهمة:
إنه القدر .. والحب قدر!!
لا .. لن أسمح لك ..
لا تتعب نفسك .. لقد قررت ..
- قل لي .. هل كنت تشهر إسلامك لو رفضت أنا أن أعتنق المسيحية؟!
ولم يجب، ولكنها لمحت دموعه في عينيه .. دموعا تشهد على حبه، وتقسم بجميع الأديان أنه لها .. فانكفأت على صدره تبكى .. وجمعتهما الدموع في دين واحد ..
ولم تنم ليلتها ..
ولم تحس بالإسلام وبأنها مسلمة .. قدر ما أحست هذه الليلة ..
بل خيل إليها أن كل حياتها وكل ذكرياتها كانت كلها للدين .. أشياء صغيرة مرت بها ولم تكن تذكرها أصبحت تذكرها وكأنها قطعة من حياتها .. الحاجة أم إبراهيم مربية والداها التي تأتي لزيارتها كل أسبوع لتبخر البيت ثم تطوف فوق رأسها بالمبخرة وهي تقرأ الأوراد وتتلو الأدعية .. وأم عبده "الماشطة" التي كانت تدخل معها الحمام في صغرها وتدلك جسدها البكر وهى تسكب فوقه الماء الساخن، وتتمتم "اللهم صلي عليه وسلم .. قل أعوذ برب الفلق من شر حاسد إذا حسد" .. وزيارتها "للقرافة" لتقرأ الفاتحة .. وصوت المقرئ الذي ينبعث من الراديو ويتلو القرآن وقسمها بالنبي صلى الله عليه وسلم في كل مناسبة أي نبي تقصد عندما تقسم اليوم؟!! ...
إنها مسلمة ولم تكن تدري أن الإسلام يعيش في حياتها إلى هذا الحد .. إنها لا تصلي ولا تصوم، ولكن هناك من الإسلام شيء أكثر من الصلاة والصوم شيء يختلط بدمها ويتردد مع أنفاسه ولم تكن تحس به لأن الإنسان لا يحس بدمه ولا يعد أنفاسه ..
وكادت تجن ..
يارب .. لماذا لم توحد الأديان.
يارب .. وإذا كانت هذه إرادتك فما ذنبي أنا!!
وقامت في الصباح مقرحة الجفنتين، كأنها أفاقت من إغماء. وذهبت للقائه، وصحبها إلى قسيس ليسألاه عن الاجراءات المتعبة .. وكانت تسير بجانبه صامتة، متصلبة العود, شاردة النظرات كأنها آتيه من عالم آخر .. وكانت تسمع صوته وكأنه آت من بعيد .. من بعيد جدًا ولا تجيب عليه إلا بهزات رأسها وكان الناس فى هذا العالم الذي آتت منه ليس لهم ألسنة ..
ونظرت إلى القسيس دون أن تراه .. وخيل إليها أنها أمام عملاق ضخم مجلل بالسواد .. وأن رأسه كبير .. كبير جدا .. وذقنه سوداء تتدلى حتى ركبتيه. ولم تسمع شيئًا مما كان يقوله الرجلان وهي بينهما .. إنما شردت عيناها تطوفان بالغرفة، ثم سقطت فوق لوحة معلقة على الجدار .. ولمحت شيئًا مكتوبًا على هذه اللوحة .. حروفًا لا تستطيع أن تلتقطها بعينيها الشاردتين، إنها هي تهتز وتتموج كأنها حروف مكتوبة فوق الماء ..
وأجهدت عينيها ودققت النظر وحصرت ذهنها إلى أن اتضحت الحروف أمامها ..
وقرأت: الله محبة ..
وابتسمت ابتسامة باهتة .. ثم ابتسم وجهها كله .. وارتخت أعصابها المتصلبة، وارتاحت عيناها الشاردتان ..
وأحست أن قلبها يهلل ويضحك ويملأ الدنيا كلها ضحكًا ..
إن الله محبة .. الله الحب ..
إذن فهي مع الله، لأنها تحب، ولأنها هنا من أجل الحب .. والتفتت إلى القسيس لتراه لأول مرة. وخيل إليها أنه جميل .. وجميل جدًا .. أشبه بكيوبيد إله الحب الذي يصورونه في الكتب ..
اقترب منها القسيس وربت على كتفها بيد حنون وهو يقول في صوت كأنه نغم مزمار .. مزمار داوود "بارك الله لك يا ابنتي"!
وطأطأت رأسها وقد استبدت به السعادة حتى خجلت منها.
ثم انصرفت مع فتاها ..
- وسألته وهما في الطريق
- إلى أين؟
- إلى المحكمة الشرعية ..
- لماذا؟
- ألم تسمعي ما قاله القسيس!!
- لا ..
- إنك لا تستطعين أن تغيري دينك لأنك لم تبلغي سن الرشد بعد ..
- وما العمل؟
- سأعتنق أنا الإسلام ..
وتعلقت بعنقه وأخذت تقبله في أنحاء وجهه ..
وقال وهو يقود سيارته:
- هذه المرة .. إنه القدر!
وتم إشهار إسلامه .. ولم يكن الأمر لديه يتعدى مجرد شكليات يفرضها عليه المجتمع، ومجرد ورقة يوقعها إرضاء للحكومة إن ما بينه وبين الله في قلبه وفي سريرته لا شأن للمجتمع ولا للحكومة ولا للمشايخ ولا للقسس به، والله ليس في حاجة إلى هذه الإجراءات ليعرف إيمانه وهذه الإجراءات أيضًا لن تبدل شيئا مما بينه وبين الله ..
أشهر إسلامه وهو لا يشعر بشيء إلا شعورًا أشبه بالتحدي ..
تحدى قومه وتحدى قوم فتاته .. وربما ارتجفت شفتاه وهو يتلو الشهادتين وربما ارتعشت يده وهو يوقع الأوراق ولكنه كذب رجفته وأنكر رعشته وأقنع نفسه بأنه يؤدي واجبًا يفرضه عليه النبل والشهامة والحب وكلها صفات من صفات الله ..
وكان عليه بعد ذلك أن يذهب إلى شقيق الفتاة ليخطبها منه إلى نفسه وكانت هذه الخطوة أصعب عليه من تغيير دينه .. بل إنه لم يحس أنه قد خرج عن دينه إلا وهو جالس إلى شقيق الفتاة كالتلميذ المرتبك أمام لجنة الامتحان .. يحاول أن يتذكر كل ما اختزنه في رأسه فلا يذكر منه شيئا ..
وقال الأخ الكبير في هدوء:
- إنى لا أستطيع أن أعترض، فأنت تملك جميع صفات الزوج الكامل ولكن ..
وسكت الأخ قليلا، وتعلقت أنفاس الفتى بشفتيه.
واستطرد الأخ قائلا:
- هل تجيبني بصراحة لو سألتك؟! ..
- سأحاول ..
هل أشهرت إسلامك إيمانا منك بالإسلام، أم لمجرد الزواج من شقيقتي.
وسكت الفتى طويلا .. واحتقن وجهه .. وأخذ يضغط بيده على الأخرى .. ثم قال وهو يختار كلماته بدقة حتى لا يخطىء، وكأنه يختار مواضع قدمه في طريق مليء بالأشواك:
الواقع أني لم أكن متدينًا أبدًا .. كنت قبطيًا بالوراثة، وكنت أشترك في القليل من مراسم الدين بحكم العادة وبحكم وجودي بين أفراد عائلتي .. ولكني لم أحاول أبدًا أن أعي الديانة وعيًا كاملا أو أؤمن بالدين إيمانًا مفصلا .. إنما كنت دائما أومن بالله إيمانًا مطلقًا مجردًا، وأخافه، واتقي غضبه، وكنت أومن بالصدق والأمانة وبقية المثل العليا دون أن أربط هذا الإيمان بالدين .. فإذا كان هذا حالي وأنا قبطي فلا تنتظر مني أن أقول إنى أومن بالإسلام كدين مفضل، بل إني أعترف لك أني لا أعلم من الإسلام إلا أنه دين سماوى.
- إذا فأنت لا تؤمن بالاسلام ولا بالمسيحية!!
- إن الإيمان يحتاج إلى قواعد يرسو عليها، وإلى خطوط تحدده حتى لا يكون إيمانا مانعًا يخضع لهوى النفس ولأطماع البشر .. والله عندما فرض علينا الإيمان فرض علينا أيضًا صور هذا الإيمان وتفاصيله وربط نواصيه ربطًا محكمًا حتى لا يترك فيه ثغرة يدخل منها المجادلون وبصحبتهم الشياطين ليضللوا العباد باسم الله سبحانه وتعالى ..
إني أحسدك على إيمانك، وهو نوع من الإيمان يحتاج إلى قوة روحية لا أملكها .. ولكني لا أريد أن أتزوج شقيقتك في الآخرة، وإنما أريد أن اتزوجها في الدنيا .. والدنيا لا تتطلب مني كشرط لزواجها إلا أن أكون قادرًا على إسعادها، فاكتف بهذا وأنت تحاسبني ودع الله يحاسبنى على الباقي.
- إن الإيمان شرط لحياة الدنيا وحياة الآخرة والله يحاسبك في الدنيا والآخرة .. وأنا أحاسبك بسم الله، وبكتاب المسلمين وكتاب الاقباط.
- إنى أحبها والله مع الحب!
- إن الحب إيمان .. والإيمان يبدأ بالله والدين!
- إن الله جمع بين قلبينا وأنت تريد أن تفرق بيننا إنك تتحدى الله.
- أستغفر الله ولو كان الزواج هو مجرد الجمع بينكما، لتركتكما لله يصدر فيكما حكمه .. ولكن الزواج هو الأولاد وهو المجتمع .. وأنا لا أستطيع أن أغمض عيني عن جريمة ترتكب في حق أولاد لم يولدوا وفي حق المجتمع .. تصور أولادك عندما ينشأون وهم لا يدرون إن كانوا مسلمين أو اقباطًا .. لا يعرفون نبيًا يقدسونه، ولا يعرفون قديسين وأولياء يتشبهون بسيرتهم، ولا يسمعون هذه القصص الدينية التي تبدو ساذجة، ولكنها تترك في نفوس الأطفال خطوطًا عميقة تنمو معهم وتصون مبادئهم، ولا يمارسون هذه التقاليد والطقوس الدينية التي تبدو فطرية تافهة، ولكنها تحيط القلوب الصغيرة بأغلفة من السمو الروحاني وتقطر فيها الإيمان قطرة فقطرة حتى تصبح قلوبا كبيرة محصنة أمام الشر وأمام الخطيئة ..
وسكت الأخ الكبير كأنه يقيس وقع كلامه على الفتى، بينما الفتى منكس الرأس يدق الأرض بقدمه دقات خفيفة متوالية كأنه لا يريد أن يسمع ولا يريد مزيدًا من الكلام ..
واستطرد الأخ قائلا:
- انظر إلى نفسك، إنك فتى صالح، أتدري سر صلاحك وقوة خلقك؟ إنهما في طفولتك وفي نشأتك .. لقد نشأت وأنت تعرف دينك، وتعرف نبيك، وتربت مخافة الله معك، وشربت الصدق والإخلاص وبقية المثل العليا مع لبن أمك، حتى لو أنك اليوم تنكر الدين، وتنكر تفاصيله، وتنكر طقوسه .. إنى أريد أولاد أختي أن يكونوا مثلك ومثلى لا أريدهم حيارى بين أم تؤمن في قرارة نفسها بالإسلام، وأب يؤمن في قرارة نفسه بالمسيحية، وكل منهما يخاف أن يفصح عما في قرارة نفسه خوفًا من إغضاب الآخر، وكل منهما يخاف أن يروي لأولاده قصص دينه، ويمارس أمامهم تقاليدهم .. وطقوسه ثم المجتمع .. و ..
وقاطعه الفتى وهو يصفع ركبته بكفه فى حركه عصبية:
- يبدو أننا لن نتفق .. وقد كدت أيأس!
- خير لك أن تيأس ..
- إذا فلن توافق على الزواج ..
- وسأمنعه بكل ما في من قوة.
- وتتركنا للعذاب!!
- إنى أوفر على أختي عذابًا كبيرًا
- وتظن أن الله يرضى عنك؟
- إني اتقى غضب الله!
وانتفض الفتى واقفًا، ومد يدا باردة إلى الرجل، ثم اتجه نحو الباب .. وفي البهو الخارجي التقى بالفتاة واقفة وبين عينيها سؤال متلهف، قرأت جوابه في وجهه المربد وعينيه الغاضبتين وشفتيه المزمومتين حتى كادتا تختفيان من وجهه. فشهقت ووضعت كفها فوق شفتها حتى تكتم شهقتها وارتفعت في عينيها نظرة فزع وألم كأنها رأت قلبها يذبح أمامها ..
ووقف الفتى قبالتها برهة. ينظر إليها ولا يتكلم ولا يمد لها يدا. ثم نقل عينيه إلى أخيها .. ثم خرج!!
وفي الليلة نفسها صحب الأخ شقيقته إلى عزبته، ومعها دموعها .. وهناك مرت بها الأيام وهي في كل يوم تفقد شيئا من نفسها حتى خيل للناس أنها فقدت عقلها ..
جفت حتى أصبحت كعود الحطب لا يرويه ابتسام ولا ترويه دموع وشرد كل ما فيها حتى لم يعد فيها شىء .. ولم تعد تتكلم، ولم تعد تسمع شيئًا مما يقوله لها أخوها، ولم تعد تحس بجوع أو بشبع، ولا بظمأ أو ارتواء. ولم تعد تقف أمام مرآتها أو تضع الطلاء على وجهها. أو تمشط شعرها أو تبدل ثوبها. أصبحت كيانًا مذهولا يطوف كالخيال بين أربعة جدران ..
لم يعد فيها إلا شىء واحد علامة الحياة .. عيناها .. كان فيهما دائمًا بريق خاطف وكانتا دائما مفتوحتين، وكانتا دائمًا تبحثان عن شيء .. ربما شيء في عقلها أو شيء في قلبها أو شيء وراء الحياة ..
ثم بدأت تميل إلى امرأة معينة من نساء العزبة .. تدعوها دائمًا إلى صحبتها ولا تتناول شيئًا إلا من يدها، ولا تتكلم إلا معها .. وأحبتها المرأة، وحنت عليها ودللتها، وأخلصت في خدمتها ..
وجلست يومًا تكتب خطابًا .. خطابًا قصيرًا. بضعة كلمات مرتعشة:
"حبيبي"
لم أعد أحتمل .. إني أحس بالجنون يزحف فوق صدري .. سأذهب إلى الله .. ربي وربك .. ربما التقينا هناك! "
وأعطت الخطاب إلى المرأة لتلقيه في صندوق البريد في خفية من أخيها. ثم أرسلتها بعد يومين لتقف عند باب العزبة في انتظار موزع البريد، ربما يأتي إليها برد
وجاء الرد .. قصيرًا .. بضعة كلمات مرتعشة:
"حبيبتي"
"لا تذهبي وحدك: انتظري، سأذهب معك .. أخبريني كيف تذهبين ومتى تذهبين .. التاريخ والساعة بالضبط، حتى نصعد سويًا فلا يضل أحدنا طريقه إلى الآخر .. إن الله موافق على زواجنا والملائكة يعدون حفل زفاف .. "
وفي يوم معين في ساعة معينة، ارتفعت صرختان من ألم في وقت واحد .. إحداهما في عزبة شكري بكفر صقر والثانية في شارع شيكولاني بحي شبرا ..
وخرجت سيارة من عزبة شكري تطوي الأرض نحو المركز لاستدعاء طبيب، وكان الطريق طويلا والطبيب متكاسلا، وعندما عادت به السيارة إلى العزبة كانت الصرخة قد سكنت .. الى الأبد!!
واستدعى الطبيب القريب فى حي شبرا فجاء سريعًا .. واستطاع أن يطرد الموت من حول الفتى وأن يسترد السم من أمعائه قبل أن يفتك بها.
كانا قد اتفقا على كل شيء .. اليوم، والساعة، ونوع السم، ولم يبق أمامهما إلا الزفاف إلى السماء.
لكن الله أرادها وحدها .. وتركه في الدنيا وحيدًا مع عذابه في انتظار زفافه إليها .. إنه يعيش منذ عامين يستجمع شجاعته ليحاول اللحاق بها مرة اخرى .. والطريق صعب وقد جربه، مرة وذاق أوله، فلم يستطيع أن يجربه مرة أخرى ..
إنه يعيش هيكلا متداعيًا من ذكريات حبه .. هيكلا يضم من الروح نسمات هافتة .. ويضم من الموت فراغًا كبيرًا هائلاً ..
يعيش وهو ينثر العذاب من حوله .. فقد عرفت الفتيات القبطيات قصته، وحاولت كل منهن أن ترد له الحياة وتبعد عنه الموت، فلم تنل منه إلا أن تعذبت معه وبه ..
ابعدوا عنه .. إنه معذب ينثر العذاب!
ولكن أين الأخ الكبير الجليل؟ ..
إنه يصلي!!
* * *
* يوسف جوهر
الأفيون
أحقًا يا سيدي الطبيب تستطيع أن تشفيني؟! إني لا أرى في يدك سماعة وحجرتك خالية من أسلحة الجراحة وأجهزة الأشعة .. فكيف أنت مستطيع أن تستأصل الدواء الوبيل .. أبهذه الصورة على الحائط؟ ما اسمها؟ .. الأمل .. أين هو؟! إن الفتاة تبدو حائرة وفي يدها قيثارة ممزقة الأوتار .. آه .. بقي واحد .. خيط رفيع .. دقيق .. كأنه وهم .. أممكن حقًا أن ينبعث منه نغم .. وأن يوحي بالأمل .. حسنًا .. إني أصدقك .. وسأستلقى على أريكتك المريحة وسأتكلم في الضوء الخافت .. وأطلق لأفكاري العنان .. بلا خجل .. لن أحبس خاطرًا واحدًا في رأسي .. سأعطيك الفرصة كاملة لتحللني وتغربلني .. من يدي .. لعلك تنجح حيث أخفقت العقاقير ..
* * *
في تلك الأيام البعيدة .. كنت تلميذة صغيرة .. وكنت أذهب كل صباح إلى محطة قريتنا أنتظر قطار الدلتا الذي يحملني إلى مدرستي في البندر المجاور. ولم يكن القطار يصل في موعده أبدًا .. فإن العطب كان كثيرًا ما يصيبه في الطريق، كما أن بيت السائق كان يقع على الخط .. ولم يكن يجد بأسًا من أن "يربط" هناك ليشرب كوبًا من الشاي ..
ولم يكن ذلك يضايق أهل قريتنا الذين تعودا ذلك .. واستغلوه .. وصاروا يشيرون للقطار إذا خرج من المحطة وهم في طريقهم إليها فلا يجد "عم مصطقى" بأسًا من الوقوف .. وإذا تصادف ورأى زوجًا من الفراخ، في يد قروية فإن الوقفة تطول وهو "يفاصلها في الثمن ..
وكانت الوجوه التي تركب القطار من قريتنا معروفة على مر السنين .. وكنا نستعين بالحديث على انتظار عم مصطفى وقطاره .. وكانت المحطة تتحول في الصباح إلى ما يشبه القهوة .. وقد ساهم "تعلب" في ذلك.
ولم يكن "تعلب" حيوانًا .. ولكنه كان عجوزًا طيبًا له لحية بيضاء وعينان ثاقبتان تحب النظر إلى بريقها العسلي، وهو يصنع الشاي تحت شجرة الجميز العتيقة ويوزع أكوابه على الزبائن.
ولم يكن تعلب طيبًا في شبابه .. هكذا كان يقول للناس في المحطة .. ويعترف أنه كان من رجال الليل .. وطالما شن مع العصابات الهجوم المسلح على العزب. وسحب المواشي من حظائر الخاصة الملكية وكبار الأغنياء، وكان يحرص على أن يؤكد أنه لم يسط أبدًا على ناس على قد الحال .. لوم يلوث يديه بدم ولا شرفه بالهجوم على عرض .. والمعاصرون لشباب تعلب كانوا يتغامزون أنه مؤلف قصص كشاعر الربابة الذي يجيء أحيانًا إلى المحطة وينسب إلى عنتر والزناتي بطولات من نسج الخيال. وعلى أي حال فإن حكايات تعلب كانت لذيذة، وكان بدني يقشعر من وصفه لمغامراته ومخاطراته مع العفاريت، وصراعه مع مارد الطاحونة عندما كان يهزأ بالخوف ويمشي وحده تحت ليل بلا نجوم.
وكنت أشارك في هذه المناقشات المثيرة بالاستماع فقط .. فإن الأدب كان يفرض على التلميذات الصمت في المحطة .. وحتى التلاميذ لم يكن يتحدثن إليهم. كلام الأولاد مع البنات كان عيبًا في قريتنا .. وكل القرى ..
كانت أمي تقول لي منذرة: "عمرك الآن ثلاثة عشر عامًا .. إني حملت بك وأنا في هذه السن إياك أن ترفعي عينك من الأرض وأنت ماشية في الطريق"
فإذا كان أبي حاضرًا التحذير فإنه يعلق ضاحكًا وهو يلف سيجارته. ويقول معارضًا وكأنه فقيه واسع الإطلاع: "أولادكم خلقو لزمان غير زمانكم .. بنتك الآن تقرأ الجرنال فهل كنت أنت تعرفين الألف من النبوات .. " ثم يلتفت إلى مكملا جملته وهو يمر على "البفرة" بطرف لسانه: "كانت أمك حاملا بك .. ومع ذلك كانت تشتري بمصروفها حلاوة .. واسألي حنضل".
ولم يكن أبي كاذبًا. فإن حنضل كان "جروبي" قريتنا. وكان كل الصبيان والبنات يعرفونه .. ويعرفون عصاه الطويلة التي يعلق عليها حلواه ويمط منها قطعة بأصابعه كلما امتدت إليه يد بمليم.
وكان وجه أمي يحمر كأنه يذكرها بفضيحة وتقول في خجل فتاة الثالثة عشرة "وما ذنبي، إني كنت أتوحم".
لم يسأم أبي أبدًا هذا التعليق .. ولم تسأم أمي الرد .. وإني لأدرك الآن وقد امتدت بي الأعوام أن نقاشهما ذالك كان نوعًا من الغزل.
* * *
ومع أن أبي كان يطلب إليَّ أن أفتح عيني ولا أرخيهما إلى الأرض فإني لم أكن أفعل .. وكان مجرد التفكير في أن يصبح في بطني طفل كما حدث لأمي يملؤني غرابة واضطرابًا وإحساسًا بخطر مجهول يقترب مني .. وزاد شعوري بالخطر أن أمي صارت تتحدث عن حجزي في البيت وكيف أن أخوالي غير راضين عن استمرار خروجي وسفري .. لأن ذلك يكاد يكون عارًا .. وكانت أمي تشفع ذلك بقولها إن ثيابي صارت تضيق على صدري بشكل يلفت الناظرين .. ثم تميل على أذني هامسة: "هل حدث لك ما يحدث للبنات في سن البلوغ" وإذا سألتها في دهشة ما هو الذي يحدث؟! تغطي ابتسامتها بكفها وتقول لي وهي أشد مني خجلاً: "ما دام الأمر لم حدث .. فليس من الضروري أن تعرفي الآن" ..
* * *
وكان القلق الذي تبثه أمي في نفسي بهذه الأحاديث يصاحبه قلق آخر أن أحجز من المدرسة .. فقد كانت أنيتي أن أحصل على شهادة الثقافة، وكنت متفوقة على زميلاتي تفوقًا جعل معلماتي يباهين بي المفتشات .. وقالت لي الناظرة إنها تستطيع أن تلحقني بعد الثقافة بمعهد الفنون للمعلمات في القاهرة .. وملأت رأسي بأحلام جميلة عن المستقبل .. إنني ما دمت دائمًا في المقدمة فإن تعييني في القاهرة أو الإسكندرية مضمون بعد تخرجي.
وكنت ذهبت غلى الإسكندرية مرة واحدة في حياتي .. وعند عودتي شككت أن تكون الجنة بمثل هذا الجمال .. وصارت الحياة في الإسكندرية هي حلمي الأول والأخير .. وربما كان ذلك هو الذي حفزني أن أكون الأولى بعد أن كنت في الترتيب الثانية أو الثالثة.
* * *
وعندما وصلت إلى "الثقافة" كنت البنت الوحيدة التي تظهر في محطة القرية مع أنها في السادية عشرة. أما زميلتاي سعاد وبثينة فقد كفتا عن الدراسة والسفر. تزوجت سعاد ظابط النقطة .. وتزوجت بثينة نجل العمدة وهو شاب لم يفلح في المدارس ولكنه لمع في تجارة المواشي .. وأقام العمدة ابتهاجًا بزفاف ابنه فرحًا هائلاً وذبح لمدعويه عجلا كبيرًا وجاء من القاهرة بفتحية أحمد وشكوكو لإحياء الليلة ..
وذهبت إلى بثينة أهنئها. وعرفت منها أن ابن العمدة خطبها من المحطة، وأنه هو الذي دل صاحبه ظابط النقطة على سعاد .. ثم همست: أني ما دمت أداوم على الذهاب إلى المحطة كل صباح فستنفرج. وكان ذلك من بثينة مداعبة فإنها كانت تعرف اني أحلم بالمدينة ومعهد الفنون.
وبينما هي تودعني على السلم فوجئنا بالعمدة والد العريس صاعدًا .. فمد يده مسلمًا وهو يسألني: "بنت مين؟! " .. وأجبته متلعثمة وأنا أقبل يده: "بنت إبراهيم صالح .. " وأضاف ضاحكًا وهو يهز يدي من جديد "تبقى بنتنا" .. وكيف أمك أمينة .. هل تعلمين: لقد حضرت مع أبوك قبض مهرها، وشهدت على عقد الزواج، وليلة الدخلة أحضرناها بالرفاص عبر النيل من بيت المرحوم جدك .. وكان الرفاص لا يريد أن يرسو أمام بلدنا لضعف الجسر في الفيضان .. ولكني هددت السائق بإطلاق الرصاص على رأسه إذا لم يذهب إلى الشاطئ حيث ينتظرنا الطبل .. ولما غاص الرفاص في الوحل حملت أمك على كتفي وقفزت بها إلى الشاطئ .. كانت عيلة .. وقال الناس إنها لن تحمل .. ولكنها حملت .. وأنت الدليل .. يا زينة البنات" ..
هذا كل ما وعيته من حديثه .. فقد كان يخلط كلامه بالضحك .. وكان صوته حنونًا وأبويًا .. ومع أن وجهه كان سمينًا فإنك كنت تجد فيه ملامح الأربعين وتحس أن الصحة شيء يمكن أن يمسك باليد في محياه المتورد ..
ومن لهجته الودية تخيلت أنه لو كان رآني وهو على هذه العلاقة القديمة بأبي لفضلني على بثينة وخطبني لابنه .. وحمدت الله أنه نجاني .. ثم تذكرت باطمئنان أن ذلك لم يكن ليحدث فإن صداقته لأبي مردها ولا شك التواضع .. فإن أبي نجار بسيط. يصلح سواقي القرية .. والقرى المجاورة .. وإذا ابتسم الحظ له .. استدعى لترميم بعض القوارب عند نزول النيل وركود النشاط .. والبيت الوحيد الذي رضي صاحبه أن يضع له أبي الشبابيك والأبواب كان بيتنا .. وكان دائمًا يقول متنهدًا: "لو كان عندي حظ لتعلمت في صباي نجارة الدواليب والأطقم .. فات الأوان الآن .. ويدي يبست" .. ولما وصلت إلى البيت أخبرني أبي بما قاله لي العمدة .. وأجابني أبي مزهوًا: "هل صدقت" وبدأ يحكي لي من جديد الحكايات التي حفظتها عن ظهر قلب .. وكيف أنه والعمدة لم يكونا يفترقان في شبابهما .. لأن الفقر والغنى لا يهمان في الوداد .. وإنما الشهامة هي التي تجذب الرجل إلى الرجل.
* * *
وأمضيت ليلتي ومحطة الدلتا تملأ أحلامي بعد أن عرفت من بثينة وسعاد أن الرجال يختارون من هناك عرائسهم ..
وعندما وقفت في المحطة في الصباح خيل إلي أني نهب العيون الفاحصة، وأصابني ذلم بارتباك شغلني عن قصص تعلب وجعلني أغض بصري كما أوصتني أمي .. وبينما أنا كذلك شعرت بعينيه ترقباني .. وفي لحظة خاطفة عرفت أن شعوري كان صادقًا ..
وعندما وصل القطار تمهل في الركوب .. ثم تبينت أن ذلك كان عن قصد .. وأنه تريث لكي يختار المقعد المقابل لمقعدي ولم أعد في حاجة إلى أن أختلس النظر لكي أتبين أنه يتأملني ..
* * *
وكنت أعرف "أحمد" منذ الطفولة. ولكني لا أدري متى كفننا عن أن يتحدث أحدنا إلى الآخر فإن ذلك حدث تدريجيًا منذ بدأ الشعر يظهر على شفتيه، ومنذ بدأت تظهر في صوته خشونة تخيف .. وتذكرني بتحذيرات أمي.
وكان أحمد يركب القطار مثلي إلى المدرسة الثانوية في البندر ثم نجح في "الثقافة" وذهب إلى كلية الطب .. عرفت ذلك من تعلب .. فقد كان يناديه بقوله: "يا دكتور .. وكان يتحداه بصحته ويفخر أنه لم يزر طبيبًا قط، وسيموت في المائة دون أن يلمسه الأطباء وكان يقول لي: إن المدينة هي التي جاءت بالأمراض وأن الناس هزلت أجسامهم من الماء المقطر .. وأن هؤلاء النحويين الذين يغسلون الفجل والجرجير تصيبهم العلل ويموتون وعمرهم ناقص.
وفي ذلك النهار أثناء الدراسة لم يغب وجه أحمد عن عيني وأنا أنظر للمعلومات وأصغي للدرس.
وعند العودة وددت لو أجد معي أحمد في القطار .. فلما ظهر وجلس قبالتي لم أستطع أن أنسب الأمر إلى المصادفة وأيقنت أنه لي بالمرصاد، وأن نظراته التي تتجنبني تتعقبني .. وفي المحطة التالية نزل الركاب الذين كانوا معنا في الديوان وصرنا وحدنا ..
وتوقعت أن ينتهز الفرصة ويكلمني وأحسست الدم يلهب وجهي. فحولت عيني إلى النافذة، ومضيت أتشاغل بالنظر إلى الشمس الغاربة وغيوب يناير تنهال عليها كأنها جبال من الثلج .. ولكنه ظل محتفظًا بصمته، هادئًا في معطفه الثقيل ويداه في جيبه ..
ومن خلال زجاج لم يعرف النظافة أخذت أنظر إلى قطرات المطر وهي تكبر وتتحول إلى حبات من البرد ..
وأحسست كأن حبات من الكآبة تسقط في قلبي .. وملأني عويل العاصفة رهبة .. واحتجت إلى ابتسامة من هذا الجالس أمامي أرد بها وحشتي ولكنه بقي مغطى بمعطفه وسكوته ..
وفجأة اهتز القطار هز عنيفة .. وبعد لحظة سمعنا الناس وهم يتصايحون خارجه، وحاولت أن أفتح النافذة العتيقة لكني لم أستطع. فخف إلي وشعرت بأصابعه وهي تنحي أصابعي الباردة حتى خيل إلي أنها تركت على جلدي أثرًا .. وأطللنا معًا لنسمع "عم مصطفى" يسب ويلعن .. لقد خرجت القاطرة عن الخط بعد أن ذهب المطر بصلابة الأرض تحت الفلنكات .. وصاح عم مصطفى: "من أراد المبيت في القطار فليشرف فإنه لن يسير قبل الصباح" ..
وكانت قريتنا تقع على بعد كيلو مترين تقريبًا ولم يكن الوصول إليها سيرًا على الأقدام، عبر الحقول الموحلة في الظلام الحالك، من هين الأمور، وأخذ الركاب القلائل ينظرون من النوافذ في تردد وإشفاق .. ثم ذهب البرد والملل بالحذر .. وبدأوا يغادرون القطار تباعًا وهم يسيرون ويسخطون ..
ومرت الدقائق بطيئة ثقيلة، وصرت أعاني من البرد والجوع والخوف .. ومن صمته. وسألت نفس ماذا هو صانع؟ هي سيحمل نفسه ومعطفه ويتركني؟ أم سيبقى هكذا بقية الليل يعذبني بصمته وبروده؟!
ووجدتني أبكي .. ولو لم يتحول بكائي إلى نشيج عال لما فطن إلى دموعي ولما انبعت صوته يسألني: "خائفة انت" .. كلمتان ولكنهما كانتا مملوءتين عطفا وشعرت كأنه يربت بهما على خدي ويطمئنني .. وأجبته وأنا أحاول أقمع شهيقي: " هل أستطيع أن أمشي في ونسك إلى القرية" .. قال ضاحكًا ضحكة خفيفة: "منذ ساعة وأنا أنتظر أن تتحركي فقد عز علي أن أتركك وحدك" ..
وكان سلم القطار القطار يعلو عن الجسر قرابه متر فسبقنى الى النزول ومد يديه يتلقانى بهما وارتعشت وهو يحملنى ولم تكن رعشه البرد ولكنها كانت اول يد غريبه تلمسنى ..
وكان الظلام حالكًا لف فى عباءته السوداء النجوم والسحاب والشجر .. والمطر ما زال يهطل غزيرا وكأن السماء عجزت عن أن تمسك منه شيئًا ..
وفي لحظة صارت ملابسي لاصقة بجسمي, فخلع معطفه ووضعه على رأسي ولكني أشفقت عليه من الغرق وقلت له إنه يكفينا معا .. وسرنا تحت هذا الغطاء ونحن لا نتبين موضع أقدامنا وكان متعذرًا أن أمشي خطوة فى الأرض الزلقه بغير معونته .. فتشبثت بذراعيه وأحسست وانا إلى جواره كأني فى أمان من غضب الطبيعة وكأني صرت فجأة، والمعطف يظللنا معًا، كأني داخل قوقعة سعيدة .. ووجدت الدفء يسري في أوصالي وهو يقول لى إنه يذكرنى منذ أن كنت طفله ذات ضفائر وأنه كان يحلو له دائمًا أن يرقبني وأنا أنط الحبل فى الساحه أمام الدار .. ثم ذهب إلى القاهرة ليدرس الطب .. وهناك كان ينساني تمامًا شهورًا بأكملها ثم يتذكرني فجأه دون أن يدري لذلك سببًا .. وقد يجيء ليراني من بعيد ..
وكانت كلماته وهو يبوح لي بذلك تتضح صفاء وكأن المطر سقط على صوته وغسله .. ولم أعد أدري هل أنا أترنح لأن قدمي تغوص فى وحل الحقول أم لأن اعترافه المفاجيء أدار رأسي .. وأحسست في تحفزه لنجدتي أنه يخاف على السقوط خوفًا حنونًا .. ثم يزعم بعد ذلك أنه لا يعرف السبب الذى يجعله يتذكرنى فجأه! ..
أما أنا فعرفته .. وأيقنت أنه .. الحب ..
وحتى لو كنت غبية بليدة لكان حتما أن أعرف .. فقد حملني آخر الأمر بعد أن ذهب الخوض فى الوحل البارد والانفعال الحاد بما بقى من قواي .. ومضى بي مترنحًا من ثقلي وأحسست وصدرى ساقط على صدره وساعدي محيط بعنقه أنه لا هو برغم عبئه ولا أنا برغم الانفعال الذى يطرق ضلوعى نريد لهذه الرحلة أن تنتهى ..
ولكن نورًا كان يتحرك من بعيد ويقترب منا .. وقال أحمد وصوته لا تخفي فيه الحسرة: إن النور قادم نحونا .. ولعله يبحث عنكِ .. وبعد قليل لن نكون وحدنا ..
ثم أضاف فجأة .. " قلت لنفسى إنى ربما أراك .. ويشاء القدر ألا أراك بل إن أبوح لك أيضًا بما كنت أريد أن أفاتحك فيه على طول المدى .. والآن فى هذا الظلام الدامس يتوهج حلمي ويضيء حتى كأنى أرى نفسي طبيبًا لهذه القرية البائسة، أداوى أهلك وأهلي وأنت إلى جواري زوجتي .. فقولي أنكِ ترين المستقبل كما أراه" وحاولت أن أتكلم ولكني صوتي هرب مني فانبرى يتعجلنى فى لهفة: "تكلمي قبل أن يصل الرجال .. قولي إنكِ لي وظللت خرساء .. ولكن يدىً تكلمت وهي تمسك بيده وتعانقها ..
وفهم أحمد .. وفوجئت بشفتيه تمسان خدي، وكأن نارًا هي التي مستني وصعقتني .. ونقلتني فجأه إلى غيبوبه أفقت منها على صوت الرجال الذين يحملون المصابيح وإذا نحن أمامهم وجهًا لوجه ..
* * *
وكان "العمدة" هو مرافق أبي ومعه عباس شيخ الخفراء تلمح في النور الخافت ماسورة بندقيته وهى تتأرجح على كتفه .. وقال أبي وقد هدأ قلقه "إننا كنا ذاهبين لنأخذك من القطار" ..
وفجأه اخترق الصمت والمطر والصقيع ضحكة العمدة وهو يسأل: "ماذا كنتما تصنعان تحت المعطف طول الطريق؟ " وعند ذلك تنبهت إلى أني لا أزال مستظلة مع أحمد تحت معطفه فنحيته عن رأسي وأنا أعانى الخجل والارتباك .. وأحسست أن صوت العمدة هو أسوأ ما لقيته فى ليلتي .. أسوأ من المطر الذي شربته ثيابي .. ومن الصقيع الذى تجمدت منه أطرافي ..
ووجدت أبي شديد الزهو بأن العمده شاركه فى البحث عني .. وضايقني أنه يحتفي به غير حافل بأحمد الذي نقع نفسه فى الوحل من أجلي ولو لم يقل له العمدة: "كيف أمك يا ابن وهيبة؟ " لصار نسيًا منسيًا .. وأضاف العمدة وهو يسقي بالضحك صوته السىء: "كانت أمك تلعب معنا ونحن أطفال حفاة وكنا نعيرها بأصبع سادسة فى قدمها، ولكن وهيبة صار لها ابن دكتور .. ما شاء الله " ..
وكأن أحمد لم يعجبه الحديث فاستأذن ليميل مع الطريق إلى بيته .. وصاح العمده فى أثره: "لاتدخل تحت العباءة مع البنات مرة أخرى. فإننا في الفلاحين لا فى البندر يا ابن وهيبة" ..
وضحك العمدة وشيخ الخفراء للدعابة، ولكن أحمد لم يضحك، ولم يجب بشيء ومضى لسبيله .. وكرهت من العمدة ولعه هذا بنداء الأبناء بأسماء أمهاتهم، كأن الأولاد فى قريتنا ليس لهم آباء ..
* * *
وأبديت ونحن نتناول العشاء نفوري من طريقة العمدة في الحديث .. ولكن أبي دافع عنه وقال: إنه رجل حلو الدعابة .. ثم صاح مداعبًا أمي وهى تصب على يديه الماء من الأبريق: " رزق جديد .. العمدة شرع في بناء طابق ثالث, والشبابيك والأبواب والترسينة أنا سأصنعها .. مع أنه عندما بنى البيت جاء بالنجارين من مصر, فتصورى فضل الله " ..
* * *
وضحكت وأنا في فراشي من بساطة أبى .. وقلت لنفسي ماذا يسمى صنيع الله لو عرف أن ابنته ستصبح زوجة طبيب.
وتذكرت عند ذلك ما قاله لي أحمد, وكيف أنه يريد فتح عيادته في قريتنا .. وتمنيت لو يطلع الصباح .. وأراه فى المحطة وأسأله إن كان يستطيع أن يعدل حلمه قليلا ويسكنني في مصر الجديدة ولو لفترة .. فقد تمنيت كثيرًا أن أعيش هناك ..
ولم يقدر لى أن أبوح بأمر أحمد لأبي.
فإن أحمد .. مات في الصباح .. أصابته رصاصة وهو واقف في المحطة ينتظر القطار .. ودخل في نفسي حين بلغني النبأ أني اشتركت فى قتله فلعله لم يبكر إلا لينتظرنى.
وسقطت مريضة .. وكنت أبكي وأصرخ وأتوجع وأدعي الألم في عظامي, وهو في قلبي ..
ولم أكن أمسك دمعي إلا لأسأل: "هل وجدوا القاتل" فإن أبي كان يقول إن العمدة لن يستريح إلا إن قبض عليه ..
وكانت الشبهه محصورة فى أسرة بينها وبين أسره أحمد ثأر قديم ..
وقال تعلب أنه رأى أحد شبان هذه الأسرة واسمه سرحان في المحطة وشرب عنده الشاي ولكنه لم يره وهو يطلق النار.
وقبض على سرحان .. ولكن النيابة لم تستطع أن تحصل منه على اعترف.
ومضت شهور والتحقيق معلق. وذات ظهر قال لنا أبي وهو متهلل:"ستسمعان خبرًا غريبًا "
وظننت أن أبى سيخبرنا أن سرحان قد أقر بجريمته, ولكنه قاطعني قائلا:"ما لنا والقاتل والقتيل .. تصوري الطابق الذي بناه العمدة والشبابيك التى صنعتها بيدى والترسينة .. إنها لكِ .. كل هذا العز لكِ .. فإنك ستكوني حرم العمده .. ألم أقل لكما أن الفقر والغنى لا يهمان وأن الشهامة هي التي تربط الرجال بالرجال " ..
وصرخت معترضة. ولكن صرختي صرعتها لطمه قاسيه .. وأيقنت أنه لن يسمح لى بحرمانه من فخر حياته.
وانتقلت إلى بيت العمدة وأنا أحس لطمة أبي على وجهي وعلى قلبي ..
والحق أنه لم تكن لي رغبة في المقاومة .. فإنما يقاوم من يحب الحياة .. أما وقد ذهب أحمد فإن كل الأمور صارت تستوى عندي .. وكنت أعتبر الأيام التي جئت أقضيها في الطابق الجديد أيام فتاة أخرى لا يعنيني أمرها.
وكانت صديقتى بثينة زوجة الابن تسكن الطابق الذي تحتي. وكانت تصعد إلي كلما وجدتني وحدي وتحاول أن تسليني وتقول لتضحكني: "من كان يظن أن زميلتي المدرسة تصبح إحداهما حماة الأخرى .. أتعلمين أنك الآن أمي فى القانون .. زوجى ابن زوجك ولكنه شاحب هزيل يبدو كأنه أكبر من أبيه سنًا" ..
والحق أن العمدة كان فحلاً .. وكان يدخن الحشيش مع أصحابه في الطابق الأسفل ثم يصعد إلىً وقد انتصف الليل .. وكان علىً أن أحتفظ بعشائه ساخنًا، وبنفسي فى أبهى زينة، لكي يلتهمنا معًا بشهية الوحوش وفظاظتها.
* * *
وفي تلك الليلة وأنا في انتظاره رأيت وأنا في الترسينة أصحابه منصرفين .. وانتظرت طويلا أن يصعد ثم خفت أن يكون غلبه النوم في المندرة كما يحدث أحيانا عندما يبدأ سهرته بالحشيش ويختمها بالأفيون، وقررت أن أهبط إليه حتى لا يلحقني تأنيبه .. ولكني توقفت فى آخر السلم فقد سمعت صوته يرتفع غاضبًا وهو يناقش شخصًا وكان الصوت الآخر هو صوت تعلب بائع الشاي فى المحطة يقول في ارتباك: "وماذا أفعل في أقوالي أمام النيابة. شهدت أني رأيت سرحان في المحطة لكني لم أره وهو يطلق النار" ويصرخ زوجي في غضب "تذهب إلى النيابة وتغير أقوالك .. وتقول .. إنك رأيت سرحان وهو يقتل أحمد .. وإنك سكت لخوفك من أهل سرحان .. هذه عشره جنيهات هل تريدها أم تريد أن أضربك بالنار كما ضربت أحمد؟ ".
* * *
كما ضربت أحمد! ...
وجدت نفسي في فراشي أعض الوسادة وأخفي فيها لوعتي .. ومع ذلك تحاملت على نفسي وكنت في استقباله رقيقة مرحة وكأنما ألهمت بالغريزة أن المرأه سلاحها الضعف والرياء.
وجلس لاهثًا ليستريح من صعود السلم وقد أحال الغضب عينيه إلى كأسين من الدم. وقال لي: "أحضري الجوزة .. فقد أضاع النكد النفسين اللذين شربتهما تحت".
وجئت بالجوزة. وكان قد علمني كيف أضع الفحم على الطباق .. وجلست عند قدميه كالجارية أنفخ النار .. وسألته في شفقة عن سبب نكده.
قال: وهو يمر بيده الغليظة على شعري: "شغلانة العمودية متعبة .. أريد أن أثبت التهمة على قاتل أحمد .. ولكن الناس لا يساعدوننى " ..
فأخذت بيده وقبلتها وأنا أقول له: "يا لك من شهم " ..
قبلت اليد التي قتلت أحمد ومسحت خدي فى ركبته ..
وشغفه ذلك فرفعني وأجلسنى فى حضنه ..
وصعد إلى رأسه دم النشوة ودوار المخدر, وقال: وقد ذهب حذره ومضى يسحقني على ضلوعه: "الولد أحمد بن وهيبة أحسن صنعًا بموته فلو أنه الآن حي لكان في وسعه أن يقول إنه مشى مع حرم العمدة من المحطة إلى القرية تحت عباءة واحدة .. وأن أشياء حدثت في الطريق " ..
* * *
وتمنيت لو أنشبت أظافري في عنقه وأصرخ: "ألهذا كلفته حياته ثمنًا .. أم أنك توقعت أنني لن أرضى بك وأنني هاربة معه. ولن أكون فريستك وهو حي" ..
ولكن بدلا من أن أخنقه مددت أصابعى في القصبة التي يدخنها، ولأول مرة وضعتها على فمي واستنشقت دخانها المعطر وهو في دهشة من أمري، فطالما حاول أن يغريني بمشاركته ولكني عصيته ..
وكان على حق في دهشته .. من أين يعرف أني كنت في حاجة إلى أن أغيب عن وعيي لكي أقوى على البقاء مع قاتل أحمد في حجرة واحدة وفي فراش واحد ..
وسبب آخر كان يحبب إلي الغيبوبة .. كنت أريد أن أنام إلى الأبد ولا أحس حركة الجنين البغيض الذي أودعه القاتل في أحشائي .. كانت هناك وثيقه زواج لكني لم أقتنع لحظة أنه ابن شرعي لي ..
وأنام إلى الأبد أيضًا حتى يقع الحدث الذي كنت أنتظره ..
فقد كتبت إلى أهل أحمد رسالة بلا توقيع أخبرهم فيها أنهم يستطيعون أن يشتروا من تعلب الحقيقه .. و من أجل ذلك كان الانتظار قاسيًا ورهيبًا ..
كنت في حاجة إلى الغيبوبة لكي أستطيع أن أصبر .. وكنت في حاجة إليها لكي أنجو من مواجهة الحدث حين يحدث ..
ومن أجل هذا امتدت يدي إلى الأفيون الذي كان العمدة يحتفظ به فى مخدعه ..
* * *
ولولا الأفيون وعالم الذهول الذي أرسلني إليه لظللت ساهرة وسمعته يأن وينزف الدم فى بئر السلم ..
هناك وجدوه في الصباح جثة هامدة وفي رقبته وصدره طعنات كلها في مقتل ..
ووجدت نفسي أصرخ .. وظن الناس أني مفجوعة فيه, ولم يعرف أحد أن فجيعتي كانت في أحمد، وأني وجدت الفرصه لأبكي عليه بلا رقيب ..
وورثت العمدة .. ورثت عنه تسعين فدانًا .. لكنني رفضت الميراث الذى تركه فى أحشائي وخلصتني منه إحدى القابلات ..
ولما وجدت المال فى يدي جئت إلى المدينة وعشت فيها .. وأعطتني كل ما يشتريه المال لكنها لم تعطيني النسيان .. وعدت إلى المخدر لكي ينعم عليا بالغيبوبة الطويلة ويريحني من التفكير المرير .. إن كل من مروا في طريقي كان نصيبهم القتل .. "أحمد والعمده والروح البريئة التي لم ترى النور " ..
عشر سنين الآن أيها الطبيب وأنا عبدة للمخدر .. أغضب عليه في الصباح واضرع إليه في الضحى .. وكأنه عاشق نذل وهبته حياتي ..
* * *
هذه هي يا سيدي الطبيب قصتي .. قصصتها عليك مفصلة ولم أخفِ عنك شيئًا .. وبقي أن تفعل أنت شيئًا .. فهل أنت مستطيع بهذه الصورة على الحائط التي توحي بالأمل .. وبهذه الأريكة المريحة التي تغري بالهذيان والاعتراف .. هل أنت مستطيع أن تشفيني؟ .. ليتك تستطيع .. خذ كل ما أملك .. الأرض الملعونه .. والحلى والنقود .. وأرجعني طالبة تقف في المحطة .. تنتظر القطار .. وتصغي خلية القلب لقصص تعلب ..
* * *
* أمين يوسف غراب
العوالم السفلى
عندما يقبل المساء، وتزدحم شوارع القاهرة الرئيسية بالعابرين وتمتلئ أرصفة شارعي سليمان وفؤاد بالفارغين من الناس الذين حرموا موارد الامتلاء، فراحوا يبحثون عنها في وجوه بعضهم البعض، وفي عيون الحسان، وخلف زجاج الفترينات وألوان المرايا التي تصور لهم سرابهم البعيد ماء زلالا وجدولا عذبًا تكاد تمتصه شفاهم الجافة، ويصوره لهم الجوع طعامًا شهيًا تلعقه عيونهم النهمة ونظراتهم الظامئة، كما تصوره لهم أحساسيهم تصويرًا لذيذًا لما يجب أن يكون، فيزيدهم هذا تمسكًا بما هو كائن.
ويظلون كالقطيع يروحون ويجيئون ويلفون ويدورون حول الأمريكين، والأكسلسير ومامبو، كما يلف الثور المغمي في الساقية يقطع آلاف الخطوات وهو في مكانه، وينظر إلى الدنيا بأسرها ولكن من فوق قبة عينيه المعصوبتين.
في هذا الوقت بالذات، وفي مغرب كل ليلة، يبدأ (أبو خطوة) عمله بعد ان يكون قد شرب قدحًا كبيرًا من القهوة السادة الممزوجة بالأفيون، وتناول ساقه الخشبية وثبت تكَّاتها المبطنة باللباد تحت إبطه، ولف ذراعه عليها كما يلف الثعبان نفسه على فرع شجرة ميتة، وأمسك بأصابه هذه اليد نفسها ما يزيد على العشرين ورقة من أوراق اليانصيب القديمة التي مرت عليها شهور، بعد أن يكون قد لوثها قبل أن يحملها بتراب الطباشير أو الحبر، وهو يمسك بها في هذه اليد بالذات لأنه لا يملك يدًا أخرى.
ذلك لأنه فقد ساقه اليسرى وذراعه اليمنى في حادثة سقوطه بين عجلات الترام، حينما كان يحاول نشل نقود أحد الريفيين منذ عشرين عامًا.
ويذهب أبو خطوة إلى منطقة نفوذه، وهى المنطقة التي يحددها غربًا فندق الناسيونال، وتمتد شرقًا إلى ناصية الأمريكين، وتنتهي عند نهاية مبنى محكمة القضاء العالي ... ويسقط أبو خطوة وسط هذا الزحام كما يسقط الحجر في الخضم المتلاطم فلا تعرف له أثرًا، ويروح يتفرس في وجوه الغابرين والذين يدوروم في الساقية ويقطعون آلاف الخطوات وهم في مكانهم لا يبرحونه.
وكانت لع قدرة عجيبة في معرفة الناس من مجرد النظر إليهم، فهو بنظرة واحدة يستطيع أن يعرف إن كان هذا الأفندي ريفيًا أم حضاريًا، وإن كان هذا موظفًا أم تاجرًا، وهل هو زير نساء أم مدمن مخدرات، وهل هو ثري يحمل نقودًا أم مفلس يتظاهر بالثراء، وكان ذكاؤه خارقًا في سبر أغوار نفوسهم ومعرفة ألوان الطعام الذي يشتهونه، فيخاطب كلا منهم برائحة الشواء الذي يحبه، فعندما يشعر أن هذا الرجل "مثلا" يشتهي رائحة الأنثى، يقترب منه، وكأنه يعرفه من زمن بعيد، ويهمس في أذنه وهو يشير إلى رزمة أوراق اليانصيب في يده ويقول:
- حاجة لوز ... ورقة ... ملبن.
فيجيبه زير النساء على الفور، مدركًا بأحاسيسه كل شيء:
- بس أوعى تكون (دبة).
- فشر، وشرفك (غزالة).
ثم يضحك وهو يغمز له بعينه ويتمتم:
- والسحب الليلة.
- فين؟
- قدام الإسعاد.
- يعني انتظر؟
- ما تتحركش ... عيب!
ويتركه أبو خطوة، بعد أن يكون قد خط على كتفه أو ذراعه، دون أن يدرك، خطًا أو أكثر بأوراق اليانصيب الملوثة بالطباشير ... ثم يغيب بقدمه الواحدة كما يغيب الدب في الظلام، تاركًا الرجل ينتظره، وهو مطمئن إلى أنه سينتظره حتى ولو يقضي الليل كله، ثم يروح يتفرس في وجوه الآخرين، إلى أن يرى وجهًا تصطرع في عينيه ثورة المراهقة، وتتقد على شفتيه قيلولة الظمأ، فيتسلل إليه يخاطب نفسه:
- آخر طبعة من باريس.
فيدرك الشاب على الفور، ويقول فرحًا ناسيًا نفسه:
- وريني.
فيهمس أبو خطوة، وكأنه يهمس بأمر خطير:
- وطي صوتك 6 أو 12 أو 24.
فيقول الفتى فرحًا:
- دبل
- كله دبل. بقول لك آخر طبعة من باريس.
فينطلق الفتى وكأن أحاسيسه هي التي تنطلق:
- 24.
- حيلك ... ح تدفع 3 جنية.
ثم ينظر إلى الفتى، وإلى الأسى الذي ارتسم سريعًا على عينيه.
ويقول:
- ومع ذلك انتظر. سأرسل لك من يحملها.
ثم يتركه أبو خطوة في مكانه مسمرًا، ويغيب بقدمه الواحدة في زحمة الناس، ويظل يسير حتى إذا ما اكتفى بصيد ثالث، ورأى عينيه مظلمتين محمرتين تشبهان عينيه هو تمامًا، بعد أن يشرب القهوة السادة الممزوجة بالأفيون، اقترب منه ودندن مغنيًا وكأنه يطرب نفسه:
- أنت وبس اللي حبيبي.
فيفهم على الفور رجل المخدرات المدمن اصطلاح هذه الشفرة المتعارف عليها، ويجيبه على الفور، وكأنه يحيي معه أحاسيسه المحترقة، وهو يبتسم ويتلفت حواليه في خوف:
- والعذال؟!
- نعكنن عليهم.
ثم يروح أبو خطوة في ذكاء ولباقة يطمئن الرجل، حتى إذا ما اطمأن، تفاهم معه في آخر ما ورد من بضاعة، وآخر ما وصلت إليه من جودة، وما تعرف عليه من اصطلاح، وكيف أن (ليه خلتني أحبك) تختلف عن (دليلي احتار)، وكيف أن (والله ما أنا سالي) تزيد في الطرب عن (يا أمه القمر ع الباب) ثم بعد أن يتفاهم معه أبو خطوة على ما يريد يتركه على أنه سيرسل له صبية بالبضاعة، دون أن يعقد معه أية صفقة، وأبو خطوة لا يعقد صفقات مع أحد ولا يأخذ شيئًا من أحد، وكل الذي يقوم به هو التعرف على شخصيات الزبائن واكتشاف ميولهم، ثم يتركهم بعد ذلك لصبيانه يفعلون بهم ما يشاءون وهم يتعرفون عليهم من خطوط الطباشير التي يرسمها على أكتافهم أو ظهورهم.
وبعد أن ينتهي من جولته هذه التي لا تستغرق ساعة أو بعض ساعة كل ليلة، يذهب إلى ذلك المنحنى المظلم الذي يفصل بين مبني محكمة القضاء العالي ونادي القضاة، حيث عصابته من الصبية والغلمان والفتيان والفتيات، وهي تتخذ لنفسها في الظاهر صفة التسول أو بيع أوراق اليانصيب أو جمع أعقاب اللفائف.
وأبو خطوة يعرف أفراد عصابته معرفة جيدة، وقدرة كل منهم على امتصاص دم الفريسة. والصبي يعرف الفريسة على الفور ويدرك ميولها أيضًا من خطوط الطباشير التي خطها (المعلم) وإذا كان الخط على الظهر، فهو ينتظر ذات الحسن، وأما الزبون الذي يتوسم فيه أبو خطوة الذكاء، ويعرف أنه صعب المراس، وليس من السهل القضاء عليه سريعًا ... هذا الزبون يكلف به (زبدة) وهي فتاة رائعة الجمال، بدأت حياتها جامعة أعقاب في عصابة أبو خطوة.
كانت وظيفة (زبدة) في أول الأمر التلصص على رجال الشرطة وقت الإيقاع بالفريسة، ثم تخصصت بعد ذلك في النشل، وقد برعت في ذلك براعة فائقة، وكانت لها قدرة عجيبة على تجريد راكب أو راكبة السيارة من كل شيء في لحظات خاطفة، عندما يتعطل المرور وفي اللحظة التي تمد يديها الجميلتين بعقد الفل داخل السيارة، وكان يساعدها على ذلك جمالها وفتنتها وأنوثتها الصارخة التي تفجرت وراحت من خلف الثوب البالي والسروال الممزق تشع نورًا يخدر الزبون بمجرد النظر إليه.
ولما توسم فيها أبو خطوة هذه المهارة الفائقة وهذا الذكاء النادر، وخفة اليد التي لا نظير لها ادخرها للصعب من الأمور، فإذا جاء هذا الصعب، وخرجت زبدة للقنص، خرجت مزودة بأسلحتها التي تعرف جيدًا كيف تستخدمها، فهي تحكم على جسدها الثوب الممزق، وتضع ثقوبه دائمًا فوق النقط التي تمزق الثوب من أجل إبرازها، فثقب على الكتف من أسفل بحيث يبرز تثنية الإبط لامعة باهرة تتشوق لها العين، وأخر في مكان معين فوق الصدر، بحيث يكون متأرجحًا لا هو فوق الثدي ولا هو منحدر، وإنما بين بين بحيث يستمد نوره دائمًا من مجرى القمتين، وآخر بجانب الخط الأيمن، بحيث يجاور تمامًا فتحة الجيب، وهذا الثقب بالذات يضيق ويتسع حسب رغبتها هي، فإن أرادت أن تلقي طعامًا كثيرًا للقنص، بحيث توقعه في الشباك سريعًا ودون عناء. وضعت يدها في جيبها وضغطت قليلا فيتسع الثقب ويكشف عن تثنيات الخصر النزق المرن الذي تتموج بشرته الناصعة البيضاء، وتنثني مع همسات أنفاسها الدافئة التي تخدربها أعصاب محدثها، ولذلك كان النجاح حليفها دائمًا، لأنها كانت تستطيع مطمئنة أن تفعل كل شيء وتأخذ كل شيء، والفريسة لاهية بالنظر إلى هذا الثقب أو ذاك، وكان أبو خطوة يعرف ذلك جيدًا، ولذلك كان لا يفرط فيها إلا إذا تأزمت الأمور.
وذات يوم تأزمت الأمور، واقترح (مطوة) و (شقرة) و (دبوس) و (شلفط) وهم فتيان أبو خطوة الذين لهم رأي ... اقترحوا ضرورة خروج (زبدة) لهذا القنص، والسفر خلفه إلى بنها للقضاء عليه هناك، أن التجارب العديدة أثبتت أن صيده متعذر في القاهرة. ووافق المعلم على الخطة التي وضعها شلفط ودبوس، وزود زبدة بتعاليمه، كما زود غيرها بتعاليمه أيضًا ثم تركهم كالكلاب المفترسة، كل يذهب إلى فريسته ويصنع ما يشاء، اما هو فإما أن يذهب إلى بعض الأحياء الأخرى كالسيدة، أو شبرا، أو العتبة، حيث يوجد بعض الزبائن والعملاء ... وإما أن يذهب إلى وكره في حي معروف، حيث يكون (القط) وهو خادمه الخاص قد أعد له القهوة الممزوجة بالأفيون، وزجاجة الكونياك، ثم عشاءه المفضل المكون غالبًا من الفطير المحشو بالدجاج، وهناك تكون في انتظاره إحدى محظياته.
ومحظيات أبو خطوة كثيرات ومعروفات وهن لسن من أتباعه أو أفراد عصابته، فهو دائمًا يفرق بين نفسه وعمله، ويعتقد أن الجمع بين الاثنين عمل لا تستقيم معه الأمور، ولذلك فمحظياته دائمًا من طبقة غير طبقته، ومن أحياء غير حيه، أو منطقة نفوذه، فهذه من السبتية وتلك من القللي، وثالثة من زينهم، وهن معروفات لدى عصابته جميعًا، ولدى منافسيه أيضًا، ومع أنه كان يختارهن من صفوة الجميلات اللواتي تهفو إليهن العين ويتمناهن القلب، إلا أن أحدًا لا يجرؤ حتى على مجرد التطلع إليهن، لأن من يفعل ذلك مصيره الموت بطريقة لا تتغير، وهي أن يغمد أبو خطوة سكينه التي يعلقها في رقبته من عشرين عامًا في صدره ببساطة، وكانه يغمدها في عنق دجاجة!
بيد أنه في هذه الليلة لم يأمر القط، كالعادة أن يهيئ له إحدى محظياته، وهو أيضًا لم يذهب إلى حي آخر من تلكم الأحياء التي اعتاد أن يطوف عليها من حين إلى آخر، وإنما شعر بشيء من القلق على (زبدة) التي سافرت من الصباح إلى بنها ولم تعد، كما أحس أيضًا بشيء من القلق على (شلفط) الذي ذهب مع الزبون إلى إمبابة ليجهز عليه هناك ... لكنه أمر القط أن يعد له العشاء فقط وزجاجة الكونياكن ريثما يجيء خلفه. وبعد حين كان يدق الأرض بقدمه الواحدة كالدب الأعرج في الظلام، حتى بلغ حي معروف، ومن ثم تسلل إلى حارة درب النعناعية، وعرج منها على زقاق الزناتي، وهو زقاق ضيق مسدود من نهايته، يبدو في الليل أشبه ما يكون بمخزن للظلام الأسود الكريه فلا تستطيع أن ترى قدمك، ولا ترى حتى الطريق الذى تسير عليه من كثرة الأوحال والمياه القذرة العفنة ذات الرائحة الكريهة، وظل يدق في الظلام والليل بقدمه الواحدة حتى بلغ نهاية الزقاق، ومن ثم أسند جسده على الحائط، ومد يده الواحدة إلى الخيط المعلق في رقبته ومنه تتدلى السكين ذات النصلين، تناول من جانبها مفتاحًا حديديًا كبيرًا وفتح بابًا صغيرًا، ثم دلف منه إلى دهليز مهجور كان فيما مضى طاحونة وأصبح الآن مأوى ووكرًا لأبي خطوة وعصابته، وبعد ذلك تسلل في الظلام إلى سلم خشبي مرتكز على حائط الدهليز المهدم، وراح يصعده بمهارة فائقة، وما إن بلغ نهايته حتى أحس به القط ففتح له باب الوكر الذي يسكنه ويقضي فيه أسعد لياليه. وهو عبارة عن كشك من الخشب القديم الأسود، وضع به دولاب حديدي كان أبو خطوة قد سرقه فيما مضى من مخلفات الجيش الانجليزي، وأمامه على الأرض مرتبة من القطن ملوثة ببعض حروق من أعقاب السجاير وفحم الجوزة، وعليها بطانية من الصوف الخشن الأسود، ثم حول المرتبة امتلأت الأرض بزجاجات الخمر الفارغة، وأوراق "الحسن كيف" الفارغة أيضًا.
أما على الحائط فوق المرتبة، فقد علقت جوزة وثلاث غابات وضعت على هيئة سيوف متعانقة، ثم طبلية أمام المرتبة من الخشب تآكلت أطرافها وشوهتها جمرات الفحم التي تركت آثارها السوداء عليها، أشبه ما تكون بآثار الجدري على الوجه، ونزع أبو خطوة فردة حذائه الواحدة، وألقى بساقه على المرتبة، وهي جلسته المفضلة عندما يتناول عشاءه الشهي الذي يعده له القط، ثم أخذ يلتهم الطعام ويحتسي الخمر، وأمامه القط يأكل معه حينًا، ويحتسي الخمر حينًا آخر، ويشغل نفسه مرة بالنار التي يعدها للجوزة، كل ذلك وهما يتحدثان أحادديث متفرقة، تارة عن أفراد العصابة والمهام التي تلقى على بعضهم، وأخرى عن قلق المعلم الزائد على زبدة، وكيف انها لو ضبطت أو فقدتها العصابة، تكون قد فقدت ركنًا هامًا يعتمد عليه، وتركت فراغًا ليس من سبيل إلى ملئه، إلا أن يخرج أبو خطوة بنفسه من جديد للقنص، لأن هناك من الأمور ما لا يمكن أن يعتمد فيها على شلفط مثلا، أو مطوة، وانتهز القط الحديث وشجعته الخمر التي لعبت برأسه على أن يتحدث إلى المعلم فيما لا يستطيع أن يتحدث به إليه وهو متمالك قواه، ومن ثم راح يحدثه عن غرامه بزبدة، وحبه الزائد لها، وكيف انه لا ينام الليل إلا من أجلها، وكان هذا الحديث كان مفاجأة كبرة للمعلم: لأنه التفت في دهشة كبيرة وسأله:
- كيف ... أتضن عليك زبدة بجسدها؟
- أبدا، ولكنها تعطيه لي كما تعطيه لمطوة وشقرف وشلفط تمامًا.
- وما الفرق بينك وبينهم؟
- إنني خادمك.
فازدادت دهشته وقال:
- وهم، ما وظيفتهم إذن؟
فارتبك القط ولكنه قال:
- خدم لك، ولكني أكثر منهم صلة بك، إنني أعد لك الطعام والشراب، وأحمل مفتاح بيتك، كما أحمل أيضًا أكثر أسرارك ...
فصمت المعلم برهة ثم قال:
- وماذا قالت هي في ذلك؟
- في النهار تعدني، وفي الليل أفتح عيني على الدهليز فأراها كالكرة، تتقاذفها أحضانهم جميعًا.
فأطبق أبو خطوة بده الواحدة على عنق الزجاجة التي أمامه ورفعها إلى ثغره وشرب منها طويلا، ثم أعادها إلى الطبلية وهو ينظر إلى القط بعينيه المحمرتين ويقول:
- والبنات الأخريات؟
- الذي يهمني زبدة فقط.
فصمت أبو خطوة حينًا، وبعد أن التهم ورك الدجاجة مسح على شفتيه الملوثتين وقال:
- وشقرف أيضًا يتقاذف معم الكرة؟
- أجل.
- وأنت معه.
فنكس القط رأسه وقال في خجل:
- لقد حاولت أن أقطع ما بيني وبينه.
- فضحك ابو خطوة حتى كاد أن يستلقي وقال:
- وانقطعت؟
فصمت القط ولم يجب، وضحك أبو خطوة مرة أخرى وهو يتناول الزجاجة التي فرغت ويقذفها ويتناول زجاجة أخرى، ثم أراد أن يقول شيئًاوهو يبعد عن وجهه بيده الواحدة امواج الدخان الأسود الذي لفظته الجوزة والمفحمة وتكدس في الكشك، بيد أنه سمع باب الدهليز يفتح يودخل منه أفراد العصابة بعد أن عادوا من جولاتهم، وراح شقرف وشفلط ومطوة ودبوس وبعض الغلمان يتسلقون السلم الخشبي في الظلام أشبه بجرذان الليل، ثم دخلوا على المعلم وكره محيين في أدب وجم، واحترام زائدن وكل يتثدم خطوة ويضع أماه فوق الطبلية ما ظفر به من غنيمة، حتى اكتظت الطبلية أمام المعلم ببعض النقود، وعدة أكياس مختلفة الأحجام، وثلاث ساعات ذهبية، وخمس نظارات ثمينة، وعدة أقلام أمريكاني غالية ... إلا أن المعلم لم يلتفت إلى شيء من هذا كله، وإنما نظر إلى ساعة واحدة ورأى عقاربها وقال في ضيق شديد.
- وزبدة ألم تحضر بعد؟
وقبل أن يتم كلمته كان الباب قد فتح فجأة ودخلت زبدة كما يدخل النور والإشراق، لكنها كانت مجهدة لذلك ما إن دلفت إلى الكشك حتى ارتمت بجوار المعلم على المرتبة وهي تخرج من صدرها منديلا وتضعه أمامه على الطبلية، وقد جمعت أطرافه على حزمة أوراق كبيرة من النقود التي تزيد على الخمسين جنيهًا، ولم يكد المعلم يرى ذلك حتى تهللت أساريره وأطبق على الزجاجة من عنقها وافرغ ما يقرب من نصفها في جوفه، ثم مسح شفتيه وهو يهدر كما يهدر الحيوان الضخم، ونظر إلى زبدة التي ما زالت بجانبه على الفراش، وانحنى عليها ليقبلها وهو مخمور يترنح، فرأى شيئًا كأنه لم يره من قبل .. رأى ذلك الثقب الذي فوق الصدر يتأرجح ويستمد نوره القوي من القمتين معًا، وكأن النور بهر عينيه فوقف عنده قليلا، ولكنه فجأة وكأن شيئًا أفزعه أطبق على عنق الزجاجة ثانية، ولم يرفعها إلى ثغره كالعادة، وإنما قدمها إليها، وأمرها في عنف أن تشرب، ثم راح ينظر إليها وهي تشرب من الزجاجة، فلما دقق النظر رأى ثانية ذلك الثقب الذي فوق الصدر، ورآه في هذه المرة كثب صغير جدًا في نافذة يزدحم خلفها نور كثيير، وكأنه اشتهى أن يرى النور كله، لأنه فجأة رفع يده الواحدة ومد أصابعه الخشنة المتحجرة إلى الثقب ثم هبط به على أسفل فانشق الثوب كله، وكانت هذه المفاجأة لزبدة، ومفاجأة أيضًا للجميع، وكانت فوق ذلك أمرًا بالانصراف، فانصرفوا جميعًا، ومن خلفهم (القط) الذي حرص قبل أن ينصرف أن يغلق الباب عليهما.
ونظر أبو خطوة، وهو متكور في مكانه بساقه الواحدة، كما يتكور الكلب الأجرب على الأرض ... نظر إلى القوام الفارع الذي أمامه، ولم تخف زبدة ولم تضطرب، وإنما غمرتها فرحة كبيرة وهي واقعة أمامه على الأرض، وقد غرقت أقدامها بين الزجاجات الفارغة المكدسة حولها، تمامًا كما غرق جسدها في الدخان المتراكم في قلب الغرفة، فغدت وهي عارية أشبه بغانية من غانيات الأساطير تسبح قبيل الفجر وراء الغمام، وقالت ضاحكة:
- ماذا تريد؟
- فقال وهو يئن أشبه ما يكون بحيوان مذبوح:
- أريدك.
- الليلة فقط.
- كل ليلة.
- إذن سأكون محظيتك.
- والمفضلة عليهن جميعًا.
ثم مد يد الواحدة، وهو يلهث كالثور، وأنشب أظافره الخشنة المدببة في شعرها، وأمرها أن تأتي له بزجاجة ثالثة، فنهضت متخاذلة وقدمت له الزجاجة فراح يشرب وهو ينظر إلى عينيها وصدرها فرحًا ويقول:
- حدثيني إذن. ماذا فعلت في بنها اليوم. وكيف أوقعت فريستك في الشرك.
فقالت مبتهجة وذراعها ما زالت على كتفه:
- أهم شيء فعلته في بنها هو أنني زرت قبر أمي.
فقال في دهشة وهو يجاهد نفسه ليفتح عينيه اللتين بلون الدم.
- أمن بنها أنتِ؟
فقالت ضاحكة:
- يقولون ذلك.
- إذن نحن من بلدة واحدة. أنا أيضًا من بنها.
- كلها بلاد الله.
فقال، ولكن بعد حين، وهو ينظر إليها وسط الدخان المتكاثف، وكأنه ينظر إلى خيالات تتراقص أمام عينيه من بعيد:
- وكانت لك أم؟
فضحكت حتى استلقت وهي تقول:
- وهل هناك من لا أم له؟!
- هؤلاء الذين تعيشين في وسطهم لا أم لهم ولا أب أيضًا.
ثم مسح على شفتيه واستطرد ولكن دون أن ينظر إليها.
- ولذلك يسمونهم بأبناء السبيل.
فقالت وهى تتناول الثوب المشقوق، وهي تضعه على جسدها العاري:
- ليتني كنت كذلك.
- أعذبتك أمك؟
- لم أرها.
- ماتت وعندي عشر سنين.
- وكيف إذن لم تريها؟
- وولدتني وهي في السجن، وماتت وهي في السجن ايضًا.
فقال مفكرًا في صمت، كمن تذكر شيئًا من بعيدًا، وكانه يخاطب نفسه:
- في السجن؟
- أجل.
- لماذا.
فقامت دون اكتراث، وهي تضع طرف الثوب على فخذها التي ما زالت عارية.
- يقولون إنها قتلت أبي.
فأحس فجأة كان شيئًا مخيفًا يقترب منه، وكأنه يطبق بأنيابه على قلبه فاضطرب وجحظت عيناه جحوظًا مخيفًا وهو يصرخ في وجهها:
- ما هو اسم امك؟
فلم تجب، لأنها صمدت في مكانها خائفة تنظر إليه، فغرس أظافر يده الواحدة المدببة سريعًا في ذراعها العارية، وهو يصرخ ثانية كالمجنون:
- قولي ما اسم أمك؟
فتمتمت خائفة ترتعش، وهي تنظر إلى عينيه الجاحظتين، وشعرات رأسه التي تصلبت فوق جبهته كالحراب تمامًا:
- ماذا اخافك؟
فصرخ وهو يطبق على عنق الزجاجة ويريد أن ينهال بها على رأسها.
- قلت ما اسم أمك؟
قالت سريعًا وكأنها لا تدري ما تقول:
- اسمها مازنة حسنين.
فتخاذلت ذراعه وسقطت الزجاجة من يده وهو يغمض عينيه رويدًا ويرتمي في مكانه ناشبًا أظافره في الحشية القذرة الملوثة التي دفن وجهه فيها وهو يتلوى في ألم شديد ويتمتم بصوت مبحوح مختنق أشبه بفحيح الأفعى.
- إنها أمي ... أمي.
فانفجرت شفتاها المرتعشتان عن صرخة مكتوبة وهي تنظر إليه:
- أمك .. أمك.
فلم يجب وإنما فتح عينيه فانفرطت منها الدموع غزيرة جدًا وظل يبكي والدموع تنهمر كل ذلك وهو ينظر إلى أشياء كثيرة لا يرى منها شيئًا، ويتمتم بألفاظ مضطربة متقطعة ... لا يعرف لها معنى ... شقرف .. مطوة ... ويروح وينظر إلى الجوزة ودخانها الذي تمتليء به الغرفة ... الزجاجات الفارغة المكدسة أمامه على الأرض .. الطبلية وما عليها من أشياء غالية ... ساعات ذهبية ... ثمينة ... أقلام حبر كثيرة ... نقود متعددة القيم والأحجام. منديل جميل ضمت أطرافه على رزمة كبيرة من أوراق النقد تزيد عن الخمسين جنيهًا، ثم رأى ثقبًا صغيرًا على صدر جميل يرسل نورًا باهرًا، ثم الأصابع الخشنة التي مزقت الثقب وهبطت به إلى أسفل، ثم رن في أذنه حديث قصير، قصير جدًا .. بنها .. السجن ... مازنة حسنين. الزوج الذي قتل ... الابنة التي ضلت ... الأخت الذي ذلت ... الأخ الذي ..
وفجأة جحظت عيناه مرة أخرى، وراحت نظراته في جنون غريب تعربد بكل شيء ... الجسد العاري الذي أمامه ... الحشية الملوثة التي يجلس عليها .. الزجاجات الفارغة التي حوله .. ساقه الخشبية الملقاة هناك ... الدخان الذي يكتم أنفاسه .. ثم راى مع ذلك كله شيئًا لم يكن قد رآه، مع أنه طول العمر يحمله على صدره، فطرب سريعًا لرؤيته حتى لكأنه يراه لأول مرة، وأطبق عليه أصابع يده الواحدة سريعًا، وفي عنف شديد حتى لا يفلت منه، وفجأة أيضًا وفي نفس السرعة وبنفس الضعف الشديد أغمد الخنجر في صدره وأرتمى عليه بجسده الثقيل حتى تساعده قواه جميعًا على الوصول به أيضًا إلى المكان الذي يريد، ورأت هي ذلك وأرعبتها رؤية الدم الذي انبثق من صدره على الحشية كالرقعة الحمراء، فانفجرت شفتاها عن صرخة مدوية قفزت على أثرها الجماعة التي تنام في الدهليز، وتسلقت السلم سريعًا كالجرذان الهلعة، وفتحت الباب وازدحم الكشك بالجميع .. شقرف .. ومطوة .. والقط .. وشلفط .. ودبوس .. وأم سنة .. وكيداهم ... وما إن رأوا ما رأوا حتى وقفوا ذاهلين، ينظرون إلى المعلم والسكين التي في صدره والدم الذي يتفجر منه ويسيل دافئًا تحت أرجلهم، ثم ينظرون إلى زبدة وقد وقفت عارية كتمثال من الحجر.
وفتح أبو خطوة عينيه، ونظر إليهم جميعًا، وإلى الخنجر الذي في صدره، والدم الذي يتفجر من حواليه، ثم إلى زبدة وتمتم وكأنه يلفظ مع بعض الكلمات أنفاسه أيضًا.
- أتعرفون ... زبدة ... زبدة التي كان محظيتي هذه الليلة.
وأراد أن يقول شيئًا آخر، بيد أن زبدة لم تجعله يتمتم، إذ انقضت عليه سريعًا مربدة السحنة كما تنقض الصاعقة تمامًا، وفي سرعة خارقة، سحبت الخنجر من صدره وأغمدته في عنقه، وقالت وهي تجهز عليه قبل أن يلفظ السر الكبير:
- لقد أراد بي سوءًا فقتلته.
ثم أطبقت ذاهلة عن كل شيء إلا العنق الذي ما زال في يدها تجهز عليه، وتجتثه من جذوره لتجتث معه سرها.
ومنذ تلك الليلة التي ذهبت فيها زبدة إلى السجن حتى اليوم، وشلفط .. ومطوة ... وشقرف .. ودبوس ... والقط ... يتساءلون فيما بينهم عن هذا السوء الذي كان المعلم يريده بها.
* * *
محمد أبو المعاطي أبو النجا:
ذراعان
تباعًا كانت الأضواء الهادئة تختفي في حديقة سينما الكرنك، وهبت نسمات رقيقة اهتزت لها الأشجار التي تصنع سورًا أخضر حول الصالة يخفي وراءه السور الحجري الحقيقي، واهتزت خلالها تلك المصابيح الملونة التي كانت ترسل ضوءًا لا يتجاوز الممشى المجاور لها، قبل أن يسود الظلام صالة العرض.
خف قليلا إحساس بحرارة الجو، الجريدة المصورة تطوف حولنا خلجان العالم وتصف كيف يصيدون الأسماك بينما تحجب قامات الذين يبحثون عن مقاعد خالية صورة السفينة الضخمة التى يركبها الصيادون، المقاعد حولى لا تزال خالية ولن يمر وقت طويل حتى تمتلي، وأحرم من تلك الجلسة التي أمد فيها قدمي وذراعي بحثًا عن نسمة عابرة، قائد السفينة، يشبه كثيرًا أستاذ التاريخ الذى دفعتنى محاضراته إلى هذا المكان، بعد أن ظللت أستذكرها طوال النهار، أستاذ التاريخ يختفي، والرحلة حول العالم تمتد، والمقاعد تمتلئ، وبجوارى تجلس فتاة كانت تتقدم الأسرة الصغيرة التى احتلت المقاعد الأربعة عن يميني، كان من الضروري أن أعتدل في جلستي، خاصة وأنني ارتدي قميصًا بنصف كم، وجارتي تلبس فستانًا بلا أكمام، والمقاعد من النوع الذي يفصل بين كل مقعدين فيه مسند واحد، لا يتسع إلا لذراع واحدة أو ذراعين صديقين!!
كانت مجرد فتاة مجهولة، وكان وجودها بجواري .. مجرد صدفة .. وجوها يعتبر مصادفة طيبة، لا ينبغي أن أغامر بفقدها، ولهذا تعمدت ألا أتصرف بطريقة تجعل جارتي تفكر في تغيير مقعدها، وأسعدني أن اللحظات قد مضت دون أن تصدر الجهات المسئولة والموجودة بجوار الفتاة أي تعديل في الأوضاع!
ومع أنني لم أحاول أن ألتفت ناحية الفتاة خلال هذه اللحظات فقد كنت أحس بها تسلل إلى وجودي المتحفظ الرزين، كأن النسيم يحمل إلى عطرها الهادئ، وصوتها الذي يشي بعمرها في هذا الظلام بأكبر مما تستطيع ملامحها، كان واضحًا أنها تحب مغامرات "توم وجيري" التي بدأ عرضها، كانت تضحك من قلبها وتضرب الأرض بقدميها، فأبصر برغم تحفظي شعرها وساقيها، وأحس بهذا التحفظ وهو يهتز مع كل حركة مرحة تصدر عنها، من المؤكد أنها فتاة بسيطة وطبيعية، وأنني لم أكن أخشى سوى مخاوفي، ومن الطبيعي أن أتصرف ببساطة، على الأقل مثلها وبدأت أمارس واحدًا من حقوقي. . . أبسط هذه الحقوق. . أشرت إلى (الجرسون) الذي كان يمر قريبًا مني وطلبت زجاجة "كوكاكولا" كانت فرصة مشروعة ليتحرك ذراعى من المكان الذى حددت فيه إقامته ليأخذ الزجاجة ويرتفع بها إلى فمي في مرات عديدة بطيئة وفي إحدى المرات اصطدمت ذراعي بذراعها، فاكتشفت لحظتها أن جارتي قد اعتبرت المسند الوحيد المشترك خالصًا لها، فأسندت ذراعها إليه، كيف لم ألاحظ هذا من قبل؟ لم أكن قد مارست حق الالتفات إليها بشكل كامل، وحين وقع ذلك الصدام الذي لم يستغرق سوى لحظة عابرة تركزت حواسي كلها حول مكان الحادث في انتظار قلق لرد الفعل، ومع اللحظات الحاسمة التي تلت ذلك الصدام، تحول الانتظار القلق إلى شعور عميق بالراحة حين لم تستجب جارتي بما يعبر عن ضيقها بما حدث، كانت الذراع الرقيقة الناعمة لا تزال تحتل مكانها على المسند المشترك، لا شك أنها فهمته كحادث عرضي لا يعني شيئًا، لم أعد أشك في أنها فتاة عاقلة، وأن ذراعها – وبالتحديد الجزء الذي لمسته منه – أرق وأنعم شيء لمسته في حياتي، وبدات أحس بهذا الجزء الآخر من ذراعي الذي تلقى هذا الإحساس، كشيء مغاير لي تمامًا شيء ينتمى إلى ذلك الكيان الرقيق الناعم الذي يجلس بجواري ويشيع من حوله جوًا من البهجة واالسعادة لا يستطيع كائن بشري أن يقاومه، ولم أستطع أن اقاوم رغبتي في الالتفات إليها التفاتًا كاملا هذه المرة، يستطلع هذا العالم الذي غمزنى سحره، لا شك أن هذا واحد من حقوقي أيضًا.
وفوجئت بها مشدودة إلى الشاشة، لا تكاد تحس بي، مما ضايقني لأول وهلة، ولكنه أتاح لي أن أكتشف شيئًا هامًا جدًا، كانت ذراعها لا تحتل من المسند المشترك سوى نصفه الخلفي، فقد كانت تستند إليه بكوعها فقط، بينما بقي النصف الأمامي خاليًا، ومن الممكن لو تقدمت، قليلا في مقعدي أن أستند إليه دون أن يلتصق ذراعانا وحتى لو حدث ذلك فسيكون محض صدفة، ربما لم تعرها أدنى اهتمام كسابقتها، لماذا تبدو اللعينة كأنها لا تحس بي؟ بينما يعذبني الخوف من إزعاجها، سأمارس كل حقوقي حتى لو أغضبتها، فهذا أفضل ألف مرة من أن تبقى هكذا غير شاعرة بي!
واستندت بمرفقي على الجزء الأمامي من المسند مطمئنًا إلى أن ثمة حاجزًا من الفراغ يفصل بين ذراعينا. .!
"توم وجيري" يواصلان مغامراتهما على الشاشة فيثيران في الصالة عاصفة من المرح، تنساب مع نسمات الصيف التي تخرج بين العطور والضحكات والأصوات التي تفقد ملامحها في هذا الظلام الرقيق!!
وفي لحظة أحسست أن حاجز الفراغ الذي كنت أستند إليه قد تلاشى تمامًا، وربما كانت عاصفة الضحك هى المسئولة عن ذلك، كانت الذراع الناعمة قد مست ذراعى في رفق، وأشاعت في كياني كله يقظة مفاجئة، ولم يلبث حاجز الفراغ أن عاد يفصل بين ذراعينا، ولكنه هذه المرة كان رقيقًا جدًا يتلاشى مع كل عاصفة مرحة يهتز له جسد جارتي الذي أحسست به قريبًا مني!
حتى هذه اللحظة لم أحاول أن أختلس من جارتي أية نظرة، كنت أجلس فى مقدمة مقعدي، وكانت تجلس في مؤخرة مقعدها، وكانت أية نظرة تحتاج إلى أن أدير رأسي إلى الوراء بشكل يلفت نظر الجهات المسئولة، والواقع أنني شعرت أن علاقتنا قد انحصرت في هذا الحاجز من الفراغ الذي أصبح يربط بين ذراعينا أكثر مما يفصل بينهما!
كيف فكرت أن جارتي يمكن أن تضيق بشيء كهذا؟ صحيح أنها حريصة على ألا تستمر لحظة اللقاء تلك، وألا تخرج عن كونها شيئًا يقع دون قصد، وأنها دائمًا تسحب ذراعها إلى الوراء قليلا في كل مرة تحدث ولكن من المؤكد أنها ليست حريصة على ألا تحدث. . .فبمقدروها أن تسحب ذراعها من على المسند لو أن ذلك كان يضايقها!!
مغامرات "توم وجيري" توشك أن تنتهي، وعواصف المرح تهدأ ولحظات اللقاء بين الذراعين تتباعد، وحاجز الفراغ يستعيد صلابته ولكن. . . اللحظة الأخيرة من هذا اللقاء تبطئ وتفقد معناها كلحظة. . . وتيار عميق وهادئ من النشوة يتسلل إلى كياني كله عبر هذا الجزء من ذراعي التي تلتصق بعضدها، وأصبحنا في تلك اللحظة الممتدة صديقين!!
لست أشك في أنها كانت تحس بي في تلك اللحظة أكثر مما كانت تحس بأمها التي كانت لا تكف عن الثرثرة معها!
لا لم أكن في حاجة إلى أن أنظر إليها، ولا حتى أبادلها الحديث، فهناك تفاهم عميق يوشك أن يتم بين ذراعينا، مع أول ضوء لمع فى الصالة، كان هذا السلوك جزءًا رائعًا من الحوار الصامت الذي بدأ، بل كان أكثر الأجزاء روعة، وكان ردي عليها أنني سحبت ذراعي أنا الآخر حتى لا ترى الأم بين مقعدينا سوى الفراغ، ولم يكن لهذا كله من معنى سوى أننا قد اهتدينا إلى الكلمات الأولى في لغة بسيطة وعميقة لن يفهمها أحد سوانا فى هذا المكان!
مع أنني كنت أنتظر بصبر نافذ لحظة الضوء هذه لأرى كيف تبدو جارتي، فإنني لم أتعجل النظر إليها، كنت مستريحًا لهذا التفاهم الذي تم بين ذراعينا دون كلمة أو حتى نظرة، وكنت أحس أن الضوء قد يزيدنا تفاهمًا، وأيضا يلغي ما وصلنا إليه، كما كنت أخشى أية نزوة قد تؤدي إلى تغيير الأماكن في فترة الاستراحة.
ولكن جارتي أعفتني من محاولة التعقل هذه، حين وقفت، ودارت برأسها، في جميع الجهات تبحث عن بائع المثلجات ثم تشير إليه، وتنحني على أمها، وتضحك، وتعابث أخاها الصغير وهي تناول زجاجة الليمون، وخلال ذلك كله لم أكن أشك أنها تفحصني، وبطريقة عجزت أنا نفسي عن ضبطها مرة واحدة!.
وفي الحقيقة أنها بدت في الضوء رائعة جدًا، حتى لقد حسدت نفسي لأنني كنت منذ لحظات صديقًا لهذه الفتاة الرائعة، وأن ذراعها كانت تلتصق بذراعي، لا أظنها أتمت العشرين ربيعًا، عيناها سوداوان تظللهما أهداب ثقيلة دون أية زينة، شعرها قصير ناعم تحركة أقل اهتزازة من رأسها الذي لا يكف عن الحركة، فتبدو في كل لحظة في صورة جديدة وجميلة معًا، فستانها غامق الزرقة يفضح بشكل حاد بشرتها الناصعة، وينم من خلال فتحاته عن جسد بديع، يعبر في كل حركة عن ضيقه بما يحيط به من قيود حريرية ناعمة!
لم أشعر بالراحة إلا بعد أن عادت إلى الجلوس في نفس المكان وبدأ العرض!
كنت أعتبر مجرد بقائها في نفس المكان نوعًا من النجاح، ورحت أتابع العرض في هدوء لم يقلقه اكتشافي أن المسند المشترك بيننا لا يزال خاليًا، كنت أعتقد أن هذا نوع من المناورة ليس غير، وأنه لا يجب بحال أن يسبق ذراعي ذراعها إلى المسند!
- تبدين خائفة كأن الرجال نوع غريب من المخلوقات!
- هذه أول مرة أجد نفسي مع شخص مثلك، كنت مع أبوي في منطقة صحراوية لاستخراج البترول، وهذه أول مرة أركب فيها سفينة وأتحدث إلى شاب غريب.
- إذن فأنا أول شاب يسعده الحظ برؤية هذا الجمال؟
- لست أدري كيف ينبغي أن أتصرف، ولا ماذا أقول؟
- أجمل شيء ألا يعرف الإنسان ماذا ينبغي أن يفعل؟ بل أن يفعل فقط ما يحب!
- أحب أن أراك. . . وأن. . .
- هنا كل ليلة سأنتظرك على ظهر السفينة!
- دون أن أخبر أبوي؟
- لا. . سآتي معك الآن لنخبرهما معًا!
المسند بيننا لا يزال خاليًا. ربما شغفها الحوار بين البطل والبطلة فنسيت وجودي، وربما لم تكن هناك مناورة، لم يكن الحوار بين ذراعينا سوى حديث نفس واهمة. . . بينما جارتي لا تحس بي!.
"جون وماري" يلتقيان كل ليلة على ظهر السفينة ويكتشفان روعة البحر والليل والحب والحياة، بينما يتحول المسند بيننا إلى مجرد حاجز خشبي وموجة سخط هائلة تحمل ذراعي إلى المسند الخالي، وإذا كانت جارتي لا تحس بي فلماذا لا أستعمل حقي في هذا المسند؟ ولتتضايق، ولتغير مكانها فهذا أفضل من هذه اللامبالاة التي لم أعد أحتملها. . .!
- ومتى سنتزوج يا جون؟
- حين أعود من تلك الرحلة التي أتسلق فيها قمة "الأنديز".
- ليتك لا تذهب يا حبيبي!
- سأعود بطل العالم في تسلق الجبال!
- أحبك هكذا، أما أنت فتحب أن تكون بطلا!
- لا أرضى أن تكوني زوجة لأقل من بطل!
****
آه يا عزيزتي لا أدري كيف أعتذر لك عن ظنوني القاسية.
صحيح أنك لا تعرفينها، ولكن كيف أغفر لنفسي أنني ظننتك لا تحسين بي؟ كانت لحظة رائعة تلك التي أحس فيها ذراعي بذراعها يعود إلى المسند المشترك. . يعود هذه المرة في ثقة ... عارفًا مكانه ... كطائر لا يضلله الظلام عن عشه ... مستريحًا خلف الذراع الذي ظل ينتظر ... ! كانت لحظة لقاء حقيقي بين صديقين لا حد يعرف تاريخ صداقتهما، وكأنه لم يعد ثمة مجال للتردد أو حتى انتظار الأسباب ... !
"الغريب أن لحظة اللقاء بين ذراعينا تأتى مع اللحظة التي يقترن فيها "جون وماري" في الميناء!
وفي إحدى مزارع كاليفورنيا حيث استقرت أسرة "ماري" نحس بوجود "جون" في كل مكان، فعلى المائدة لا تتحدث "ماري" مع أبويها إلا عنه، وفي الصحف لا تقرأ إلا أنباء المسابقة المنتظرة في تسلق الجبال، والأزهار التي يعشقها تربى في أحواض خاصة – تتعهدها هي – ليجدها حين يعود قد نمت، والمهاري الصغيرة التي يهوي ركوبها تدرب في انتظاره، وحتى "كلارك" الذي يشرف على تربية الخيول في المزرعة، والذي يكتم حبه "لماري" كما يكتم حلمه بأن يصبح كاتبًا مشهورًا، يجد نفسه في النهاية ولا عمل له سوى الاستماع إلى أحاديث ماري عنه، أما الرسائل التي تصل منه، فقد سمعتها الطيور والأشجار والخيول في المزرعة كما سمعتها مع جارتي، وأحسست أن دائرة سحرية تنبعث من كلماتها الحارة لتخترق جسدينا معًا، وتتصل الدائرة عبر ذراعين تشدهما خيوط غير منظورة، وأحس في لحظة أن ما بيني وبين جارتي ليس مجرد مصادفة أو وهم، ما الذي ينبغي أن يحدث لكي يحدث الحب، لا شيء أكثر من أن يلتقي شاب وفتاة، ثم تخلق المبررات خلقًا، ولا أعتقد أننا في حاجة إلى كلمات، كل شيء يقع من تلقاء نفسه، وأروع ما وصلنا إليه أننا اكتشفنا معا لغتنا تلك التي لا يحسها أحد سوانا!
ربما كان هذا هو ما تفكرين فيه ... ! ها نحن معا، وبين ذراعينا مكان لا يستطيع الهواء أن ينفذ منه ... وأروع الألحان يعزفها لنا أمهر العازفين، وكاتب لا نعرفه .. يعرف ما في قلبينا، ويكشفه لي ولك ولأبويك وللناس الذين نخافهم، ومزارع كاليفورنيا الشاسعة الجميلة تستدرج أحلامنا خارج حدود المكان، والخطوة القادمة يجب أن أبدأها أنا ... منذ البداية كنتِ رائعة وبسيطة، ولا أظنك سعيدة بي وأنا أكلم نفسي طوال الوقت، يجب أن يحث شيء ينتمي إلى هذا العالم الرائع الذي أصبحنا جزءا منه، فالحقيقة الباردة أننا لا نزال نحتمي بالظلام، وبالمسند المشترك وبالمصادفة! وامتدت يدي هذه المرات لتلمس يدها في رفق وحنان، ولم أتصور لحظة ان يدها ستختلج في يدي للحظات خاطفة وكأنها ترددت خلالها قبل أن تسحب يدها من على المسند كله ... ؟!
لقد مرت لحظات كنت خلالها عاجزًا عن تقدير المواقف!
أي جنون قادني إلى هذا السلوك؟ كان كل شيء رائعًا ... ! دون حاجة إلى هذه الحماقة التي دمرت كل شيء، كنت أحس تردد أنفاسها! وشعرها يكاد يلمس وجهي، وذراعها ملتصقة بذراعي ... ! ولكن كل شيء يبدو وكأننا غير مسئولين عنه!! أما الآن؟
مستحيل أن يكون وهما كل ما يحدث! لقد أحسست أنها ترددت، أجل ترددت قبل أن تسحب يدها من يدي، لست واهمًا هذه المرة كأنها لم تفاجأ بيدي! كأنها كانت تنتظرها، وربما خشيت أن ترى أمها يدينا مشتبكتين! يكفي أنها سحبت يدها في هدوء دون أن يشعر أحد، ويكفي أنها لا تزال بجواري، كانت دائما فتاة عاقلة، ولكن سهول كاليفورنيا أفقدتني صوابي، وحتى في هذه السهول تقع أحداث جديدة ... !
- مستحيل يا ابنتي أن تبقي هكذا لا تأكلين ولا تنامين لأن جون لم يعد يكتب لك ... ربما لم يكن جادًا في علاقته بك!
من السهل أن تنسيه لو أردتِ ذلك!
- نعم يا ماما ... ولكني لا أريد ذلك!
- أنت صغيرة يا عزيزتي لا تعرفين الناس والحياة!
- وأنت يا ماما لا تعرفين جون، أنا واثقة من أنه سيعود.
- لماذا لا يكون لك بعض هذه الثقة في نفسك وفي أبيك وفي!
وتصرخ "ماري" وهي تخرج وقبل أن تصفق خلفها الباب:
- أحبه أكثر من نفسي ومنك ومن أبي!
وبلا شعور وجدتني ألتفت إلى جارتي، لأضبطها هذه المرة ملتفتة إلي ولأول مرة أحس أن الدائرة السحرية تتصل من جديد ... وبرغم الظلام أبصرت في عينيها الرائعتين نظرة نفذت إلى قلبي ... لا .. لست واهما هذه المرة، ولست آسفا لأن الذراع لم تعد إلى مكانها، كانت النظرة السريعة الخاطفة النافذة أكثر رقة وصلابة في نفس الوقت من ملمس ذراعها الناعمة ... !
وحتى حين عدنا نستمع إلى الحوار الذى كنت أحس أننا نسمعه معا:
- مكالمة خارجية لك يا ماري!
وتهرع ماري في جنون، لابد أنه جون فليس في العالم الخارجي أحد سواه:
- من ... جون؟
- لا، أنا والده، من أنت؟
- ماري، أين جون؟
- يا ابنتي! .. لدي أخبار لك عنه!
- ماذا؟ قل.
- لقد فقد كلانا جون يا ابنتي ... سقط من فوق الجبل ... كان، يعتزم الحضور لو أنه عاد!.
....................
....................
. جون لن يعود إذن؟ لم يعد ذلك في مقدوره فما الذي يمنعها من أن تذهب هي إليه؟ أجل يجب أن تذهب إليه! يجب. .! ولا ينقذها من الموت غير "كلارك" الذي لا يزال يكتم حبه لها!
- يا ابنتي، يا روحي. . لا زلت صغيرة، والزمن سيمحو جراحك وستجدين في الحياة مسرات كثيرة.
- الحياة بدونه لا تساوي شيئًا يا ماما!
- لماذا لا تفكرين لحظة في حياة أبويك بدونك؟ إنك تريدين قتلنا يا ماري دون ان يعيد لك هذا جون!
- كنت يا ماما تظنينه وغدًا! يجب أن تأسفي لذلك! الموت هو الذي منعه من المجيء. . .! لا شيء غير الموت كان يؤخره!
وتلتقي نظراتنا من جديد، كأنها على موعد .. لا لست آسفا على هذه الحماقة، قبلها لم يكن من حقي أن أجد في هذه النظرات أي معنى! أما الآن و "ماري" تمنح الحب كل هذه القداسة، وملامح جارتي ترق وترتعش ... وشيء ما يسقط من يدها تحت قدمى، فلتنحنى للبحث عنه، وأنحني معها لأعيد لها المنديل، فتلتقي يدانا وعينانا في لحظة ذاهلة، أحس خلالها أنها غفرت كل شيء دون كلمة! لا لن أحلم بما هو أكثر. .! يكفي أننا عدنا صديقين حقيقيين هذه المرة. . لن أترك شيئًا مما يفسد الأمور بيننا ... !
لست مستعدًا لأن أخسر هذا الشعور الرائع بأن هذه الفتاة التي لا أعرف لها اسمًا قد عادت صديقتي! ..
كنت أتابع مبهورًا قدرة الحياة وقدرة "كلارك" على أن يأسو جراح "ماري" حين أحسست بذراع جارتي تعود إلى المسند ... ! تعود هذه المرة لتتمدد بجوار ذراعي تماما وتلتصق بها! ودون أن ألتفت إليها، وعيناي مشدودتان إلى الشاشة، كانت أصابعي تمر في رفق على يدها الوداعة المستسلمة، وكانت ذراعانا قد تراجعتا معا – كأنما تحركهما إرادة واحدة – عن مقدمة المسند بحيث أصبحتا بيننا تماما كسر نخفيه حتى عن عيوننا، منذ تلك اللحظة لم نتبادل نظرة واحدة!
كانت كل مشاعرنا مع السر الرقيق الذي تخفيه يدانا المرتعشتان كطائر نخشى أن يموت أو ينفلت!
- ليس ما يدهشني يا "كلارك" أنك أخفيت حبك لي منذ عرفتني، بل إنك ظللت تحبني برغم أنك تعرف كل شيء!
- ما أعرفه عنك جعلني أحبك أكثر!
- لا أدري يا كلارك كيف كانت ستصبح حياتي لو لم تكن هنا؟ إنك لم تكتف بأن تنقذني من الموت بل أنقذت منه "جون" أيضا بعد أن كتبت عنه روايتك الرائعة ... !
وفي اللحظة التي يضم فيها كلارك ماري إلى صدره، ترتعش يدانا وينفلت الطائر الذي كنا نخفيه بينهما!
ومع أول شعاع من الضوء لمع في الصالة، عاد المسند المشترك مجرد حاجز خشبي وبرز الناس فجأة وكأنهم أتوا من الضوء، وبدونا وسطهم، صغيرين عاجزين، بدت المسافة الضيقة التي تفصل بيننا، وكأنها وجدت لتبقى ... ! كانت جارتي تقف خلف أمها، وتسوي ملابسها، وتتبادل معها كلمات متقطعة، وتتحاشى النظر إلي ... ! وكانت المسافة التي تفصل بيني وبين جارتي تفصل بين جميع الخارجين الذين كانت تبطئ خطواتهم فجأة حتى لا يخدشوها ... مرة واحدة التفتت جارتي خلفها قبل أن تغلق خلفها باب التاكسي الذي ركبته الأسرة أمام "السينما" كنت واقفا على الرصيف في انتظار تلك النظرة التي كانت آخرعهدى بتلك الفتاة! وحتى بعد أن اختفى التاكسي في نهاية الطريق، وبعد أن أصبحت المسافة بيننا كبيرة جدا إلى درجة لا تصدق! كنت أحس أنه لا فرق أبدًا بينهما وبين تلك المسافة الضيقة التي كانت تفصل بيننا حين برز الناس فجأة!.
* * *
* نزار قبانى
قصة قصيرة
1
لا تقنطي أبدًا من رحمة المطر ...
فقد أحبُك في الخمسين من عمري
وقد أحبكِ والأشجارُ يابسةٌ
والثلجُ يسقط في قلبى وفي شعري
وقد أحبك حين الصيفُ غادرنا
فالأرضُ من بعده تبكي على الثمر
وقدأحبك - ياعصفورتى - وأنا
محاصرٌ بجبال الحزن والضجر
قد تحمل الريح أخبارًا مطمئنة
لنا هدَيك، قبيل الفجر، فانتظري
لن تخرجي من رهان الحب خاسرهٌ
عندي تراثي، وعندي حكمهٌ الشجر
فاستمتعي بالحضارات التي بَقيت
على شفاهي .. فإني آخرُ الحضَر
2
قرأتُ شعري عليها .. وهي نائمهٌ
فما أحسَت بتجريدي ولا صوري
ولا تحمَّس نهداها لقافيةٍ ..
ولا استجابا لقيثار ولا وتر
هززتُها من ذراعيها، فما انتبهت
ناديتُ: يا قطتي البيضاء .. ياعمري
قومي .. سأهديك تيجانا مرصَّعة
وأشتري لك ما فى البحر من دُرر
وأشترى لك بلدانا بكاملها ..
وأشترى لك ضوء الشمس والقمر ..
3
ناديتُ .. ناديتُ لكن لم يجب أحدٌ
في مخدع الحب .. غيرالريح والمطر
أزحتُ أثوابها عنها .. فما اكترثت
كأنها يئست مني .. ومن خطري ..
4
وكان ليلي طويلا مثل عادته ..
وكنت أبكي على قبرين من حجر .. !
* بثينة الناصري
غرفة في فندق رخيص
السلم، في النهار، يشبه أي سلم آخر: مثلوم الدرجات، مقشر الجدران، لكنه في الليل يطفح بالرطوبة والعفونة اللاذعة والخوف.
امتدت إلى برودة الحائط يد راعشة. كان يرتدي سترة فضفاضة وبنطلونًا واسعًا متهدلاً. تأرجحت إحدى القدمين في الهواء مترددة ثم هوت على الدرجة الأولى. اتكأ الرجل على الحائط فيما رفع قدمه الأخرى، لكنها لم تلمس الأرض.
وإذ ندت عنه صرخة المفاجأة وإحساس داهم بالخطر، انزلقت رجلة إلى هوة .. وقبل أن تجد القاع لطت حافة السلم ركبته، ودوى في رأسه انفجار .. مسح يائسًا الأرض حوله .. انكسرت؟
دلته الرائحة وبركة السائل الذي راح يسيح على الدرجات فتعثرت يده بكسرة زجاج. كان القعر سالمًا لا يزال، يحوي بقية العرق. ضمه إليه ونظر إلى السلم. احتار غي أن يصعد مجازفًا بالخمرة الباقية أو يحتسيها توًا. تلفت حوله زائغ العينين .. هل يتركونه حتى يشربها؟
عبَّ العرق ثم تناثرت الزجاجة وهي ترتطم بالجدار. لمَّ سترته حول جسده، فانخمش قلبه للحنان الذي أحس به نحو نفسه، وفي غمرة الدفء لم يعد وحيدًا. نظر إلى فوق .. ما عاد السلم مضنيًا .. صارت غرفته أقرب .. وبدا له أنه يستطيع النجاة على أية حال.
حين يقترب من باب الغرفة يلقى بثقله عليه فينفتح .. يندفع إلى الداخل .. يقف برهة يبحث بسرعة عن مخبأ .. تحت السرير كما اعتاد أن يفعل .. يقرفص هناك .. يسوي أطراف الغطاء .. ويبلع لهاثه. صار في فضاء معتم .. ينزوي في ركن من السرير كاتمًا أنفاسه، منصتًا لوقع أقدام تصعد السلم .. تتبعه .. تدخل الغرفة .. تقف عند السرير .. يكتم أنفاسه، وتنشق الظلمة فجأة عن وجه أمه. كان وجهًا غاضبًا قبيحًا في غضبه .. تمد يدها عليه .. يزحف بعيدًا .. لكنها تمشي إليه على أربع. تنقض حتى يختفي وجهه الصغير تحتها، ويحس بأسنانها في كتفه .. وشيئًا فشيئًا يتخدر لحمه كما يحدث دائمًا. ويعرف عندئذ أنه يستطيع أن يتحمل الألم إلى مالا نهاية.
وقفت المرأة إلى جانب سريره. أحس بوجودها فجأة. رأته يحرك يده برخاوة. أراد أن يقول شيئًا لكن لسانه كان حجارة ثقيلة.
رآها تجلس دون أن تعبأ به على كرسي قريب وتمد ساقيها إلى حافة سريره. مطت يدها إلى المرآة المدورة التي يرى فيها وجهه أحيانًا .. وبدأت تصلح زينتها. لعقت أصبعًا وسوَّت حاجبيها .. كانت تثرثر بأخبار زبائنها. نزلاء الفندق المستديمين الآخرين .. عرفهم جميعًا من خلالها .. جاسم يضاجع مرتين في الزيارة الواحدة .. أبو علي مسافر إلى البصرة .. غرفة رقم 2 بها زبون جديد طالب من الأرياف. كان ينظر إلى فمها يتحرك .. يفتح .. ويعوج .. أشار إليها بضعف أن تسكت وتتركه في حاله. أدار ظهره وكوَّر نفسه في الفراش لاصقًا ركبتيه بصدره. قامت إليه المرأة دثرته بالغطاء، وربتت على مؤخرته وخرجت.
مؤخرته مدماه. حاول أن يخفي ذلك عن أمه لكنها صرخت على حين غرة ومزقت عنه الدشداشة واختلط عويلهما.
كانوا أربعة كبار يلعبون معه .. ثم فجأة انقلبت سحناتهم واتحدوا ضده. كان قد فعل شيئًا. شتموه ودفعوه دفعًا إلى زاوية البستان حيث يلعبون. رآهم يتقدمون نحوه صفًا واحدًا انحصر في الحائط الطيني وتلفت حوله .. لم يكن ثمة من مهرب سوى أن ينفذ من بينهم بسرعة .. وكأنهم أحسوا بما نوى فوقفوا متماسكين حتى حجبوا عنه نور الشمس. وبدأ كل منهم يقترح نوع العذاب. ولكن أكبرهم، والذي ما فتئ طوال الوقت يحرك يده داخل بنطلونه، ضحك مهتاجًا، ولفظ الكلمة .. وسرعان ما تحول الذين كان يعرفهم إلى وحوش .. انتزعوه من الزاوية .. طرحوه أرضًا وصلبوه حتى أفخاذهم المتوترة. صرخ فكمَّ أحدهم فمه حتى اختنق .. دفع اللحاف عن وجهه .. حاول أن ينهض لكنه سقط منهكًا.
متى تركته المرأة؟ نظر إلى الباب بقلق .. ولماذا خرجت اليوم متعجلة على غير عادتها؟ ربما لم تات حقيقة؟ قد يكون حلمًا آخر .. لكنها اعتادت أن تأتي كل أسبوع في اليوم نفسه (أي يوم هذا؟ لا يمكن أن يكون الخميس لأن الحمام كان مغلقًا) واعتادت أن تجعل منه محطة استراحة ريثما تعدل زينتها قبل أن تنتقل إلى زبون آخر.
هل تدبر أمرًا ما؟ هل يمكن أن تكون واحدة منهم؟ حين استوعب عقلة هذه الفكرة، فتح عينيه بقوة وشعر أن عليه أن يبقيهما مفتوحتين مهما كلف الأمر .. كما أن عليه أن يصحو وينهض. هناك أمر يبيت ضده في هذا الفندق. أحس بذلك منذ وطئت قدماه عتبته .. ويجب أن يفعل شيئًا قبل فوات الأوان. لم يكن وهمًا إذن. طالما تصنت في الليالي السابقة إلى وقع اقدام خفية تروح وتجيء خارج غرفته. ربما تتجه نحو بابه الليلة؟ تراخى جفناه قليلاً فشدهما بيديه معتصرًا صدغيه النابضين بهاجس حارق. لهذا أرسلوا المرأة في غير موعدها لتتأكد من انه شارب ولا حول له .. كم مضى على خروجها يا ترى؟ ربما أوصلت النبأ الآن .. ولم يبق غير لحظات .. ولكن هل جاءت حقيقة؟
عذبته شهوة أن يستسلم لمصيره الذي يتربص له منذ أمد بعيد .. يغطي رأسه باللحاف ويهدأ وينتظر .. تسارعت دقات قلبه .. لكن .. لا بد من حلًّ عاجل لورطته لئلا يفاجأ وحيدًا أعزل .. أول شيء أن يغادر الفراش .. ان يصحو .. مدَّ يده إلى دورق الماء الموضوع جانب السرير ودلق الماء على رأسه.
ساحت البرودة داخل أذنيه وعلى صدره، وانسلت قطرات تجري على طول ظهره. كان يرقب بقبقات المطر في حوش الدار .. يحاول أن يجسها بأصبع حذرة .. يحس بفرح يمطر داخل جلده. تنتفخ الدشداشة بالهواء وهو يدور يدور .. يرفرف بذراعيه كجناحين ويطير يطير حتى ينقع المطر شعره وتلتصق ملابسه بجسمه الصغير مثل عصفور أغرق ريشه المطر.
وينتفض من لسعة برودة مفاجئة فيركض إلى الغرفة، يلبد قرب "البريمز" يحتضن جسده المرتعش بذراعيه الناحلتين ورائحة شاي العصررتملؤه بالدفء.
من الزاوية البعيدة التي قرفص فيها كان يرى ضوء الممر يترامى على عتبة باب غرفته خافتًا تقطعه بين حين وحين ظلال يتحرك .. تبطئ .. تقف .. تقترب .. تجتمع الظلال .. وتتفرق .. ثم تقترب حتى تحجب ضوء الممر .. إنهم عند الباب.
لقد جاءت اللحظة التي روادته في كل أحلامه .. في كل مرة كان الحلم ينتهي قبل أن يدقعوا الباب أما الآن؟ فلن تحميه يقظته من رعب الوجوه المنتظرة عن الباب.
استجمع قوته ودون أن يصدر أي صوت بدأ يحبو على أربع حتى وصل إلى السرير، وخبطت يداه جيب سترته. أخرج مفكرته وقلمه – اقتطع بعض وريقات وخربش على كل منها كلمة حاول رغم الظلمة وارتعاش يده أن تكون واضحة قدر الإمكان. زحف حتى النافذة وفتحها بما يسمح ليده أن تفلت الأوراق ثم أغلقها بسرعة وانسل عائدًا إلى زاوية الغرفة.
ترحكت أكرة الباب .. لا بد أن الأوراق قد سقطت إلى الأرض الآن .. تخلخل الباب تحت أكتافهم .. أستطاع أن يرى خطًا من ضوء الممر على طول حافة الباب. ولكن هل من فرصة في أن تقع الأوراق بيد أحد ما؟ كم بقي من الليل؟
خارج النافذة تهاوت أوراق صغيرة لعب الهواء بها .. بعضها علق في شجرة كالبتوس .. وبعضها هبط على الرصيف لحظة مرور الغفير الليلي الذي التقط الأوراق الساقطة، ونظر فيها وقلبها .. ثم استند بظهره إلى جدار .. وأرخى البندقية إلى جانبه .. وتفحص الأوراق مرة أخرى .. الكلمة نفسها على ما يبدو .. ابتدأ يتهجى .. أ. ن. ق. ذ. و .. و .. وني. وكرر: وني " وتنهد وهو يكلم نفسه (كان يجب أن أتعلم القراءة) ثم كور الأوراق ورماها إلى جانب الحائط، وامتشق بندقيته وواصل طريقه.
* * *
* الطيب الصالح
يوم مبارك على شط أم باب
من أين يجئ بكل هذا الحطب؟
قالت (رباب):
" هذا اللوح من السويد "
" كيف عرفت انه من السويد "
" ألا ترى الكتابة؟ هذه الأحرف آخر كلمة (سويدن).
لم يمكث طويلا في البحر كما ترى. لعله من صندوق سقط من سفينة "
" وهذا من أين؟ "
" هذا جزء من قناة "
" أعرف أنه جزء من قناة "
" من شرق أفريقيا. ربما من زنجبار "
" كيف وصل إلى هنا من زنجبار؟ "
" ألا تعرف أنهم كانوا يسقفون بيوتهم بالقنا في هذه المنطقة؟ هذه القناة عمرها على الأقل مائة عام. نقلتها المراكب الشراعية ربما إلى البحرين او عمان. على الأرجح إلى عمان "
" لماذا عُمان؟ ".
قالت، كأننى تلميذ بطيء الفهم:
" ألتا تعرف الصلة بين عُمان وزنجبار؟ "
ضحكت، وقالت (رباب):
" لعلهم هدموا البيت وبنوا مكانه بيتا من الأسمنت. أو تهتم وحيدة. ألا تعرف أنهم كانو يبنون بيوتهم على سيف البحر؟ "
" ما معنى سيف البحر؟ "
" يعنى شاطئ البحر "
" لماذا؟ "
" الهواء أبرد. وأيضًا لأن حياتهم كلها كانت على البحر "
" ماذا قال عنترة فى القنا؟ "
نظرت إلى نظرة عاتبة بعينيها السوداوين كأنهما بحيرتان جبليتان عند الغروب. بين السواد ولون البنفسج. بين اليقظة والنعاس. كانت تحب شعر عنترة، لكنها ظنت أني امتحنها فلم تجب.
جمع الأطفال حطبًا كثيرًا جعلوا منه كومًا هائلاً على ساحل البحر. أوقفتهم (رباب) صفًا مثل طابور عسكرى. وقسمتهم قسمين. قسمًا أمرته أن يتجه يمينًا وقسمًا يتجه شمالاً. جعلت على كل فرقة قائدًا، وهي القائد الاعلى. لم تكن أكبرهم سنًا، وكان فى الجيش ذكور. لكنهم أذعنوا لإمرتها بلا جدال.
في التاسعة من عمرها، وأشهر. وًلدت في الصيف، والآن أولُ الربيع. ابنتنا الوحيدة، بل هى كل من أنجبنا. تأخّرنا، لأننا ظللنا ينتظر أحدنا الاخر. (الرجل) في الخمسين، و (المرأة) في الأربعين. ليس خيالاً. هذا يحدث أحيانا. أغلب الناس يتزوجون كيفما اتفق لأن الظروف مواتية. لأن الشخص لا غبار عليه. لأن العمر يمضي. إنما قلة من الأرواح المختارة يطلب بعضها بعضًا. لاتستقر حتى تجد إحداها الأخرى.
في المدينة، وهما سائران من الحرم النبوي بعد صلاة الفجر. في اللحظة رفع وجهه إليها، رفعت وجهها إليه، تماسكت عيونهما، وكأن الضوء حول المأذن نبع يتفجّر من تحت أقدامها:
" أنت فلانة؟ "
" نعم. "
" من كيت وكيت؟ "
" نعم "
" وأهلك كذا وكذا؟ "
" نعم "
" ممن وراء أزرعات. آه. أنت أمّ رباب. "
" وأنت فلان؟ "
" نعم "
" من كيت وكيت وأهلك كذا وكذا. ياله من يوم مبارك! الحمد لله. "
" هل تعذبت كثيرًا ..... ؟ "
" وأنت؟ ......... سوف نتسلى بذلك في ليالي الشتاء الطويلة. "
بعد ان اعتمرتْ، جاءت إلى المدينة مع أخيها الاكبر وأمها وأختها. وكنت وحيدًا تزوّجنا في تلك الساعة عند باب المسجد. وعقدنا بعد صلاة العصر، وأولمنا ليس أكثر مما فعل الرسول في زواج فاطمة. ودعونا أهل الصُفة ومن وجدنا من فقراء المدينة.
حملتها في تلك الليلة، ووضعتها في سبعة أشهر، أردنا أن يتم الأمر في المدينة حيث بدأ. جاءت مكتملة متسربلة باسمها (رباب) مثل سحاب في طيّات سحاب. وجاءت لنا باسميْنا، فقد كنا قبلها (فلانًا وفلانة). ولمّا وقفنا بها في ذلك المقام، برقت عيناها الغريبتان، وأرهفت السمع لصوت ناداها وحدها.
كأنها خلاصة كل الذريّة التى لم ننجبها. قامت كأنها تركض ركضًا. واستوت فارغة العود، لها عُرْف ٌ أسود يتراكم على كتفيها كجريد نخلة، وعيناها تجرحان كسني برق نجدى. وصوتها له رنين مثل أجراس أدُيرة قديمة منقطعة في جزيرة. وكانت تتعلم كأنها تتذكر أشياء عرفتها من قبل.
انتفضت بغتة وجرتت إلى الشاطئ، ووقفت تنظر إلى البحر. ذهبتُ ووقفتُ معها. الحبور الذي أفعم قلبي منذ أول الصباح، بنى لي طرائق من الضياء، وصلت بين ضوء الضحى فى السماء، والضوء في الأفق، والضوء الآخر الذي ليس هذا ولا ذاك، أحيانًا كأنه برتقال وأحياناً كأنه عناقيد كرم أبيض، وأحيانًا كأنه حبٌ الرمّان. قالت رباب:
" هل تسمع الصوت؟ "
قلت:
"نعم. إنما النداء ليس لنا "
انفلتت وألقت بجسمها في اليم، وأخذت تسبح كما أعرفها تسبح، في ضربات قوية وسريعة من ذراعيها وساقاها تدفعان الماء كدولاب سفينة، وجسدها شفاف ينزلق على صفحة الماء، كما ينزلق الشعاع على التبلور. كان البحر ساكنَا سكونًا مطلقا، لا هبوب ولا موج.
لم أقلق وأنا أراها تنأى عن الشاطئ، فقد كانت تسبح ميلا وأكثر. ابتعدت جدًا، تختفي وتبين، والماء حولها كنثار القطن. تجمع الأطفال، ووقف بعض الرجال، وجاءت (الأم) ووقفت على الشاطئ. ألقيت نفسي في اليم على أثرها. فجأة قفلت راجعة. قالت وهي تضحك:
" هل خفت أن أغرق؟ هل الماء يغرق في الماء؟ "
ثم سارت وأشعلت النار في كوم الحطب، فاندلعت نار عظيمة، كأن نيران آبار البترول، تحركت من مواضعها وراء التلال، وجاءت وتلهبت على شاطئ البحر. وجاء الأطفال، وتحلقوا حول النار، وأخذوا يرقصون، وينشدون أناشيد بلغات قديمة منقرضة، يعلو فوق أصواتهم صوت (رباب) الكاهنة البابلية. وأقبلت سحابة، مدّت ظلها قليلا، ونثرت حبات من المطر، ثم جمعت ظلها وانصرفت.
وضعتْ (الطفلة) رأسها المبتل في حجر (الرجل). سكنت وعادت طفلة لم تبلغ العاشرة. مسح بيده على شعرها، وسألها برفق، حين رأى الدمع على وجهها:
" تبكين؟ "
" أبكي من شدة السعادة. هذا يوم عجيب. "
يعلم أنه يوم عجيب، بل كل أيامه عجائب، منذ وجد (المرأة) عند الباب، ووقف بالطفلة في الضريح، وسمع الصوت كأنما لأول مرة ورأى الضوء .. أصبح الحبور يسقيهم من نبع لا ينضب.
" ما العجيب في هذا اليوم؟ "
" لاأدري. الضوء. البحر. السماء. الصمت. ربما. "
" بل أنت. "
" وأنت. "
" وأمل "
ضحكت ورفعت رأسها والتفتت إلى التلال ناحية اليسار وراءها نيران آبتار البترول.
" انظر "
نظر فإذا جمل أحمر ضخم يقف على التل، ويحدّق في البحر، ثم يلتفت وراءه. قالت (رباب):
" الجمال تريد أن تصلي "
لكن الجمل لم يقدم، فقد دوى في اللحظة صوت مثل طلقات مدفع ثقيل. ظهر شاب يمتطي ظهر فرس من الحديد، تخرج من مؤخرته نافورة ماء، مثل الذيل. وكان الشاب منفوش الشعر، مربد الوجه كأنه عفريت.
قالت رباب:
" أعوذ بالله. "
أدار الشاب سكان القارب دورة حادة، ليوجهه إلى الخلف، فانقلب به، فغرق وأخذ يغطس ويطفو ولا يستطيع السباحة. أخرجناه وقاربه من الماء، فحمله في سيارته واختفى.
عاد الهدوء وابتسمت السماء، واشتد وهج الوء في الأفق. قلت لها:
" أنشديني من شعر عنترة "
ظلت ساكته برهة ثم أخذت تغني بصوتها الآخر، ليس صوتها البابلي:
لمعت نارها وقد عسعس الليل وضل الحادي وحار الدليل فتأملتها وقلت لصحبي هذه النار نار ليلى فميلوا.
آه! يا لحلاوة الصوت ويا لمضاضة الذكرى ويا لفداحة الشجن! قلت لها وقد دمعت عيناي من كثرة الحبور:
" تحبين الشهرزوري؟ "
" وابن الفارض. "
" وكاذا أيضًا؟ "
" أ؛ ب شئ إلىّ القرآن. "
قلت لها مازحا وقد سألتها مثل ذلك من قبل:
" من أنت؟ من أين جئت؟ "
قالت وكأنها تحدث نفسها:
" أنا من الله وإلى الله. أنا مسكينة فقيرة إلى الله. "
" تتصوفين مثل رابعة العدويّة؟ "
تأوهت آهة طويلة وقالت:
" متى نحج؟ "
" حين يجيئنا الآن. "
" هذا العام إن شاء الله. هل تعلم ان الحج هذا العام يوافق يوم مولدي؟
الوقوف في عرفات ليلة الجمعة. "
" ليس عليك الحج. "
" بلى. "
" ماذا تؤملين من الحج؟ "
" حين نصل المدينة سوف ترى. "
" يكون ماذا؟ "
" تنتظر عند الباب إلى أن يؤذن لنا بالدخول. ثم يكون ما يكون "
" أخاف أن تضيعي منا في الزحام. "
رفعت رأسها فجأة، وقالت:
" انظر "
رأيت البعير العود قد انحدر من التل، وساق وراءه الجمال. دخلت البحر وشربت، ثم جلست في الماء قالت (رباب):
" إنها تتوضا "
ظلت الإبل تتقلب في الماء زمناً، ثم خرجت وراء البعير الأحمر. جلس عند البحر، فجلست وراءه، وسكنت، تنظر إلى البحر. قالت:
" إنها تصلي "
نهض البعير العود، ونهضت الإبل وسارت خلفه. اختفت وراء الذى وراءه نيران آبار البترول، تصعد وتهبط مثل استغاثات غريق، وبقي الجمل الكبير واقفَا على الهضبة، ينظر إلى البحر، مشرئبًا بعنقه، كمن يترقب أمرًا.
لم يلبث أن جاء فوج من نسوة متلفعات بعباءات سود كنساء النجف، دخل وتوضأن في البحر، ثم وقفن للصلاة في المكان نفسه حيث كانت الجمال. نظرت رباب إلى ّ قلت لها:
" المسافة من (أم باب) إلى (الدوحة) تجيز لنا القصر والجمع. نحن على سفر "
قالت:
" يستطيع الإنسان أحيانًا أن يصلي بلا ركوع ولا سجود. ألا ترى ذلك؟ "
فجأة لم يبق أحد على الشاطئ. اختفى الناس واختفت النسوة. لم يبق غير الرجل والمرأة والطفلة، والبعير الأحمر الضخم، واقفا على الهضبة، يراقبهم ويراقب البحر. استدار الزمان بين العصر والمغرب، ووضح الصوت، ليس الصوت الذي يتكلم به الموج، بل الصوت الذى يصدر من البحر ذاته، إذ لا هبوب ولا موج. وبدأت الشمس تنزل معارج السماء خطوة خطوة، ومع كل خطوة تفتح نافورة من ضوء بحت، كسا السماء والأرض والبحر، وأخمد نيران آبار البترول.
أسندت الطفلة رأسها إلى كتف الرجل، والمرأة أسندت رأسها على الكتف الآخر، وأحاطها الرجل بذراعيه لبثوا ينظرون إلى البحر، كمن ينتظر قادمّا أو يودع مسافراً.
بغتة هب الرجل واقفًا، وقامت الطفلة وقامت المرأة، دخلوا البحر في وهج الضوء المحض، وهم في شغل عن البعير الذى رفع رأسه أكثر. أخذوا يسبحون بلا جهد، فقد كان الضوء كأنه يمتصهم إلى جوفه. ظلوا كذلك حتى كادوا يدخلون في معارج السماء. ولكن المرأة وقفت فجأة وأوقفت الطفلة، وراحتا تناديان نداء سمعه البعير، فتحرك كأنه يتأهب للنزول.
سمع الرجل النداء أولا يجيئه من أمام، من ناحية الأفق ثم كأنه استيقظ وأدرك أن النداء يجئ من الخلف. وتذكر المرأة والطفلة فانقلب يريد العودة. أخذ يسبح الآن بجسمه كله وطاقته كلها، وكأنه ثوب يتجاذبه البحر والساحل. وطاف به صوت الطفلة وصوت المرأة، وقد صارا صوتا واحدا ينشده نشيد الصفاء المقيم في الزمان المهاجر، فبكى بحرقة، ولم يدر هل المرارة في فمه من ملح ماء الدموع، ام من ملح ماء البحر، ولما تهيأ له أن يرى، رأى الشمس قد أخذت الأرجوان من نيران البترول، ونسجت منه ملاءة ألقتها على جسد الماء.
عاد إليهما، فقالت المرأة:
" ابتعدت عنا جدا، خشينا ألا ترجع. "
وقالت الطفلة:
" بلي. كان لابد أن يعود. نداؤنا يجئ من مصدر آخر، في زمان لآخر. هيا. علينا أن نلحق بالمدينة. "
ظل البعير العود يراقبهم حتى خرجوا من الماء. ولما دخلوا سيارتهم، وأداروا محركها، وأشعلوا ضوءها، أدار ظهره للبحر، وانحدر وراء التل، لاحقًا بأهله.
* * *
* نافلة ذهب
سليمة والرصاصة
عندما أحست أمه بطحالب الحزن تعكر يومها، انغرست في قلبها شوكة دامية، ولما أخبروها، قالت وهي تكبره بخمسة عشر عامًا فقط: إنها فقدت أخاها وشبابها إلى الأبد، وقصدت الباب، فاقتلعت دفتيه، وجلست تنتحب حذو المزراب الذي يقع في الجهة الشرقية من المنزل.
عندما سمعت سليمة بموته، ضحكت ضحكة مجنونة تشبه النواح، وارتفعت أناملها إلى القلادة التي تتوسطها الرصاصة المغلفة بالذهب فجرحت بها بشرة العنق البض، وعندما تقاطر الدم على صدرها في لون حبة الفراولة أيام الربيع، أعادت الكرة وقيل إنهم وجدوها مغمى عليها. نظراتها جامدة كنظرات الدمي في العتمة، تقول أمه: إن حظه حرون، ترك المدرسة في سن مبكرة فحذق لعب الكرة في الشارع وتلقن السباب والشتائم بصورها المتعددة، ولكنه كان يحبها ويعدها بالفوز على الحظ الحرون في يوم ما، لذلك لامست نظراته ما وراء البحر وسأم هذه الأرض الجرداء وإذ تعرف على ذلك الكهل الذي كان يؤم بلدته كل صيف لازمه حياته بنزواتها وشهواتها، ومأكولاتها ومشروباتها، وتعلم الدفاع عنه بشبابه، كما اعتاد السهر حتى الفجر فلا يجد الوقت ليحلم، ويصادفه الصباح وهو ما زال يشتهي السهر فيذهب لينام حتى الظهر، وفي المساء يجدد الأمسيات، وتعلقت آماله بالصيف وبالسهر، وحذق لغات كان يجهلها وأصبح يجني الدراهم الكثيرة، فغير لباسه ومظهره، وامتس السجائر المذهبة الطويلة فيما تواترت أحلامه وتضخمت مثل أمواج البحر.
كان مهتمًا ببيع الريح للمراكب الراسية هناك عند الميناء، تدفعها زفرات النوارس والنساء، ويقال: إن علاقته تواصلت مع الكهل الألماني الذي أصر على أن يلتحق به، ووعده بترسيمه في سوق الشغل.
كتب في رسالة إلى سليمة أنه عندما ركب الطائرة لأول مرة ارتجف قلبه فارتجف قميصه فوق صدره كما ارتجفت سترته، أما ساقاه فأصبحتا ككيسين من الرمل يفرغان ثم يمتلئان دون هوادة، فلا يقدر على الخطو.
قال إن ذلك الشعور أدركه في يومه الأول بالمدرسة، وكان وسط أطفال عديدين لا يعرف أسماءهم، وصوت المدير الفرنسي ينط بكلمات يجهلها، وينطق الأسماء العربية محرفة متعثرة، فأحس وكأنه نفق مظلم كثير المنعرجات، وقضم أظافره مرارًا حتى أدمى أنامله.
سليمة كانت تحبه، هكذا قالت، كانت تجهل السباحة، وكان هو يساعدها على الانتشار فوق الماء كالشراع، وكان يرمي بها في الزرقة فتصفع بطنها، تغطس فجأة فينتشلها سريعًا، تظهر فزعة كالسمكة، سليمة كانت تريد أن ينتشلها دائمًا، هكذا قالت سليمة. تريد أن تفزع ثم تلين وتضحك ضحكة مبتلة ويضحك .. ويضحكان.
سليمة كانت تحبه. هكذا قالت، وكانت تحب التدخين، سليمة تريد أن تدخن وهى جالسة أو ممددة على بطنها، وساقاها إلى فوق مثل "مارلين"، أخواها لا يحبان ذلك ولكنهما يدخنان، لذلك عندما ناولها سيجارة من النوع الرفيع وأنارها في حنو تنفستها بعمق فدمعت عيناها قال لها: "عندما تدخنين في المستقبل لن تدمع عيناك" ولكنها لم تعرف لماذا .. لماذا يا ترى .. تنخرط في البكاء الصامت كلما دخنت سيجارة؟
سليمة لم تهتم بعلاقته بالكهل الألماني. هكذا قالت –وقالت كذلك إنه يعيش حياته، قالت إنه لا يضر أحدًا، له قلب كبير كالبحر، ولا يرد من يطلبه كحاتم الطائي – هكذا قالت، أصبح يراسلها من ألمانيا وأخبرها أنه وجد عملاً في مصنع للرصاص. خافت سليمة، أمست تحلم بالدبابات تتسلق فراشها، وبالأجسام المقطعة الاجزاء تفرش أرض المنزل، وبأصوات الرصاص والقنابل تملأ التخوم والفضاء، ولكنها قالت ربما كان يعمل في مصنع "الرصاص الأبيض" فهو يدوي ولكنه لا يقتل .. لا يقتل أبدًا، وبمرور الأيام اعتادت على هذا التأويل فهدأت أحلامها، وأصبحت تقضي لياليها في جنائن ألمانيا المشجرة، وترى الجبن أكداسا مكورة، والتفاح والإجاص يملأ الشوارع والحوانيت، فتأكل وتقضم بنهم ما استطاعت، وعندما تحس بالشبع، أحيانا تتجشأ، فتخرج إلى المدرسة دون أن تأكل شيئًا. كانت تتغذى بأحلامها، عاد في الصائفة الفارطة، كان جماله العربي يفوق جمال الألمان، هكذا قالت سليمة، اتخذ له شاربين كجناحي خطاف، مشط شعره إلى الخلف فظهر جبينه عريضًا كراحة يد كريمة، عاد بسيارة ألمانية الصنع، محملة بالهدايا الألمانية. لم يعد معه الكهل الألماني في تلك الصائفة، لم تسأله سليمة عنه، وهي التي لم تهتم بهذه العلاقة قط وإنما حرصت على أن تعرف جوهر العلاقة بفطنة، وعلمت أن الكهل توفى بسبب علاقاته مع الشبان العرب، فكرت سليمة: الحمدلله جاءت سليمة، وابتسمت في قلبها فطفت الابتسامة بين جفونها فأسدلتها عليها.
في تلك الأثناء أهداها قلادة تتوسط رصاصة مغلفة بالذهب الوهاج، قال لها: إنه سيهديها في زيارته المقبلة قرطين من الذهب في صورة دبابتين قال إن في تصميم الحلي محاكاة للواقع، وقال: إن المصنع الذي يعمل فيه لا يصنع الرصاص الأبيض فحسب، بل كذلك الرصاص الذي يقتل وينفجر ثم يتفتت داخل الأجسام فيحرقها من الشرايين، وقال لها إن خبراء المصنع غالبًا ما يجربون اختراعاتهم المتجددة، فتراهم دائمي التجمع عند الظهيرة يرتشفون الجعة ذات الفقاقيع الصناعية. ويشاهدون أشرطة الفيديو التي تصور تلك الاختراعات. قال إنه شاهد طفل صغير، قال إنهم لا طموا الكؤوس بعضها ببعض من شدة الفرحة، أما هو فانتابه تحجر في أنامله دوامه أسبوعًا كاملا، قال إنه أحس بالخذلان ولكنه فكر في أنه يعمل هنا ليأكل خبزًا نظيفًا فلا يبيع جسده، وصدقته سليمة، ولكنها عادت إلى أحلامها الحربية فأصبحت تنام في النهار وتسهر بالليل حتى ترواغ أحلامها. لم تظهر سليمة خوفها أمامه، كانت تضحك دائمًا وتسأل عن حياته في أوربا، وعن الثلج أيام الشتاء، وعن غابات ألمانيا القطنية التي تسكنها الوعول، وتتكور سليمة كالعصفور وتتظاهر بأنها صردة، تصمت سليمة فيعانقها طويلا، فجأة يذوب الثلج في غابات ألمانيا فتجري المياه الشفافة تلعقها الوعول النافرة، تسمع سليمة خريرها فتغمرها حرارة جدُّ لذيذة.
قال لها: أحيانا عندما تخنقه الوحدة يلجأ إلى غرفته ويصب نور المصباح على صورتها فيحادثها طويلا، وتضحك سليمة فتمتد الضحكة حتى حلقها، فيرى اللهاة تتدلى من الحلق كعسلوج من نار.
يتذكر جسور نهر الراين والمياة تجري تحتها مسرعة تصطبغ بالألوان المختلفة كلما تقدم بها النهار، فجأة يصمت. عندما يأخذه الصمت الرهيب تتسلم منه سيجارة وتدخن، فتنخرط في البكاء الصامت ولا تواجهه بنظراتها، وإنما تغور في أعماقه فكأنه بيتها.
حدثها مرة عن صديقه الياباني وقصص الكاميكاز التي رواها له، وكانت هي مغرمة بـ "ميشيما" وتعرف حكايته مع الموت، صديقه الياباني أعلمه بوجهة هذا الرصاص الذي كان يسهم بحزم في صنعه.
قال وقتها إنه يفهم شعور الكاميكاز. أصبح يفكر في هذا النوع من البشر. أصحت تدخن بعصبية – أصابعها تكسر السيجارة.
في تلك الليلة، أحس بيدين خفيفتين تدفعانه إلى علبة الكبريت. إنهما يداها، يدا سليمة اخترقتا الجدران وعبرتا البحار وتعثرتا بين أغصان غابات ألمانيا، خدشتا مرارًا، في تلك الليلة أصابتهما شهب متوهجة، دفعهما المطر والثلج كأوراق الأشجار، فأصبحتا حبالا تنط وتضرب من يعترضهما.
ووصلتا إلى غرفته، فتحتا النافذة بتؤدة، وتحسستا النائم بحنان، كانتا تدمعان دمًا، ابتسم النائم وقبلهما في حنان، ربتتا على كتفيه: أن قم، خذ علبة الكبريت واذهب. ذهب مسرعًا وعلبة الكبريت في جيبه، ويدا سليمة تحتضنان ظهره.
مات هو. . وعاشت سليمة مبتورة اليدين.
* الطاهر أحمد مكي
الحمار دكتورًا. . مشكلة!
يحكى أن سبعًا عجوزًا أقعده "الروماتيزم" كان يعيش وحيدًا، معتزلاً بقية الحيوانات، في عمق كهف غائر، تحيط به طرفه وكتبه، يقضي وقتًا متأملاً: كيف تمضي الحياة، وكيف يجيء الموت، هادئ البال، ولا شيء يزعجه رغم أنه مقعد.
لقد فارق الجانب الأكبر من أصدقائه هذا العالم، ولا تكاد الأجيال الجديدة تعرف عنه شيئًا، وتمضي الأيام أسبوعًا وراء أسبوع دون أن يتلقى زائرًا، والرفيق الوحيد الذي آثر أن يبقى معه، وأن يؤنسه في وحدته، ضبع عجوز، تخدمه، وتساعده، تطبخ له، وتقوم على شئونه، وتقول عنه إنه عاد خرفًا لا يعي ما يقول.
والحق أن الرعية في الغابة ملته، وسئمت أحاديثه، فلم يبق فيها نمر أرقط، ولا ثعبان زاحف، ولا جرو أسد، ولا ثعلب محتال، ولا حتى ابن آوي، في كل المنطقة التي تحيط به، إلا وسمع منه للمرة العشرين بعد الألف، تاريخه في الصيد والقنص، والإعداد للحرب، والانتصارات على العدو، ومع ذلك فالذين حوله لا يسره رأيهم فيه، رغم موافقتهم له، وبشاشتهم في مواجهته، فهم يرونه أخبث سبع عرفته المنطقة، يرواغ ولا يواجه، ويتسرب إلى أهدافه خفية كالميكروب، ويكذب على الجميع وهو يدعو إلى الصدق، ويعيش في الوحل ويبشر بالطهر، ويتظاهر بالعفة ويلتهم في السر غذاء الأرامل والأيامى والضعفاء، يرتدي مسوح الزاهد ثم يكنز الذهب والفضة، يبشر بالقناعة ولا يتوقف عن التهام المزيد من الثروات، وحوله يلتقي المنافقون والانتهازيون، والسماسرة ...
ولكن السبع لم يكن خرفًا ولا هتارًا كما تقول عنه الضبع، وإنما أصيب بما يصاب به الكهول عادة، حين يعجزون عن الفعل، وتخلو أيديهم من القوة، فلا يبقى فيهم نشطًا غير اللسان، فيكثرون من التشدق بأنعمهم على قومهم في كل مناسبة، وحتى دون مناسبة، والتذكير بمآثرهم وبطولاتهم في سالف الزمان، وفائت العصر والأوان، وأدرك الأسد واعيًا أن رعيته ملت قوله هذا ودعاواه، فهو يريحها من حين لآخر، يتخلى عنها، ويذهب إلى خلوته، يقرأ المؤلفين الكبار، ويستمتع بالأعمال الفكرية الخالدة، فإذا شرد فكره، وذهل عما حوله، استسلم لخياله، وأمضى لحظاته وحيدًا يتفلسف.
وفي لحظة وجد سمع طرقًا بالباب، فامتلأ فضولاً، وفاض به الأمل، وأخذ طريقه إلى الباب مبتهجًا، فمنذ أيام طويلة لم يزره أحد، وأسرع يتوكأ على عصاه، يحاول أن يخفي ضعفه، وأن يكتم عرجه، فلما فتح الباب وجد الحمار واقفًا في مواجهته، فأخفى جاهدًا مظاهر الخيبة والألم، تصور الزائر شخصية مهمة فوجده حمارًا، ولاذ بالصبر على كره منه، فعندما يصبح المرْ كهلاً، يثقل حديثه، ويمل الآخرون مجلسه، وتمسك المخلوقات عن زيارته، ولا يبقى له منهم إلا القليل، وعليه ألا يبالغ فيما يحب ويطلب. وأخيرًا هو حمار، مثل أي حمار آخر، له أذنان كبيرتان قادرتان على السماع طويلاً، وصوت أجش قادر على الإسماع بعيدًا، فهو يجمع أبرز خصائص السمير، وقد رحب به السبع، ورجاه بأدب أن يتفضل، وقاده إلى قاعة مزينة برءوس الغزلان المختلفة، وقرون الجواميس المثبتة على قواعد متينة، في بروايز مزخرفة.
وقال الحمار في عذوبة وهو يبتسم:- سيدي، جئت طائعًا مواليًا، لا متمردًا ولا معاديًا، على الرغم من شيخوختكم وضعفكم، وتقدمكم في العمر، وقد جذبني إليكم حسن سيرتكم، وطهارة ذمتكم، وأناقة مظهركم، ومنذ كنت جحشًا صغيرًا وأنا أسمع الكثير عن مقامكم ومواقفكم، وبطولاتكم، وإنجازاتكم في عالمي الحرب والسلام، فأعجبت بكم، وأحببتكم. هل أستطيع أن أصبح تلميذًا لكم، أن أكون منكم ما كان أفلاطون من سقراط، أنتم تتكلمون وأنا أسمع وأدون، والحق أن في نيتي أن أهدي إليكم رسالتي للدكتوراه، وسوف أدون عن شخصكم، وجهودكم، وما أضفتم إلى التاريخ.
وأثار التصريح الحماسة والإعجاب في نفس السبع، فبدا له في الحال أن الحمار جميل الوجه، عذب التقاسيم، لماح المحيا، متدفق الذكاء، عالمًا موهوبًا، يرجى على يديه الخير الكثير، رفم ابتسامته البلهاء، التي تكشف عن أسنان ضخمة طويلة، صفراء فاقع لونها، تبدو وكأنها معزف بيانو غرس في لثة وردية اللون.
في هذه اللحظة نشأت صداقة فريدة لا يعرف لها التاريخ مثيلا، بين حيوانين مزاجهما مختلف، وطبيعتهما متناقضة، وغرائز كل واحد منهما تمضي في اتجاه، وازدادت صلتهما وثوقًا مع الزمن، ونما بينهما حنان ودود وأصدر السبع أمره إلى الضبع بأن تعد حجرة الضيوف الفاخرة لكي يقيم فيها الحمار، فقبلت على مضض، لأنها وهي كهلة في مثل سيدها قليلة اللباقة، لا تعرف كيف تداري، وحظها من المجاملات الاجتماعية محدود، ولم تتعود منذ زمن طويل على الضيوف المقيمين، فالكثيرون يأتون إلى سيدها، يحادثونه، أو يهادونونه، أو يسمرون معه، أو يسهرون إلى جانبه طرفًا من الليل ثم يمضون، أما الإقامة الدائمة، حتى ولو لحمار واحد، فهي عبء ثقيل، يكلفها مسئوليات متواصلة، ولم تستطع أن تخفي نظراتها الحانقة، تعكس نواياها السيئة، وهي تصحب الحمار إلى مخدعه، أو حين تتردد عليه في النهار تحمل له الطعام.
ولم يهتم الحمار بها، انصرف إلى عمله جادًا، يمضي أغلب وقته إلى جوار السبع يحادثه ويحاوره، ساعات وساعات، تشغل أحيانًا جل الليل وأطرافًا من النهار ولا ينفصل عنه إلا حين يتناول طعامه أو يأوى إلى فراشه. وخلال ذلك كله لا يتوقف السبع عن الكلام، والحمار يسمع قصصًا لا تنتهي عن حملات السبع الحربية، ومغامراته العاطفية، وعما يحب ويكره في أنثاه، أنه يفضل منهن ذوات العيون الآسرة الجميلة، والقوام الأهيف الممشوق، والشقية المرحة الفاتنة، وذات الدل الناعمة المثيرة، وحدثه كيف أحب وأخفق، وعاش جريح القلب يكتم ألامه كبرياء، ويخفي أحزانه تظاهرًا، وقص عليه أخبار رحلاته العديدة في أرض الله، وما رأى من أقوام وشاهد من خلق، وعرض لفلسفته في الحياة تفصيلاً، وأبان له آرائه في الأخلاق والحيوان والإنسان.
وسعل السبع وتنهد، ثم اعتدل واستوى، واستراح على مؤخرته، واستجمع قواه، كمن تهيأ لأمر جلل، وأخذته الجلالة فأخذ يقص له آخر لقاء له مع "الثعلوان": جاءني مزهوًا، عريض القفا، متورد الخد، بليد الروح، في حاشية من صبيانه، يسمعني آخر أشعاره. هو ينشد، وهم يتمايلون طربًا، ولم أجد لما قال صدى في نفسي، ومع أني لم أعالج الشعر لكني استمعت إلى كثيرين هنا ينشدونه بين يدي، وأزعم لنفسي، دون مبالغة، أني قادر على إدراك طيبه من غثه، وتمييز جيده من ساقطه، والتفرقة بين رائعه ومرذوله، وأشهد أن كل ما قاله لا صلة له بهذا الفن الجميل.
قلت للثعلوان رأيي بصراحة وهل ينافق مثلي؟!: ما تقوله يمكن أن نسميه أي شيء إلا أن يكون شعرًا، لا شعر بلا موسيقى، إنك تغالط نفسك، والذين حولك ينافقونك، وقبل أن تهرم ويشيب رأسك سوف تنساك الدنيا، وتنسى كل ما قلت من أشعار، وأنت تعرف أن التاريخ لا يداجي ولا يجامل، ولا تخدعه مظاهر الإعلان، ولا تجوز عليه أكاذيب الإعلام.
وكتم صاحبنا غيظه وانصرف، وأول أمس جاءتني الضبع تقول: إن أصحاب "الثعلوان" يتجمعون في طرف الوادي وسوف يبايعونه أميرًا للشعراء، وضحكت، ولو رأيته لاقترحت عليه أن يبايع نفسه أميرًا على الخنافس، إنها أخفض جناحًا، وأسهل قيادة، وأشد إصرارًا على العمل، ويرجى من ورائها خير كثير. وقالت الضبع في نبرة لا تخلو من خبث: الفرق بين الخنافس وأصحابه بسيط.
كان الحمار يستمع إلى السبع ثملاً بما يسمع، ونشوان إعجابًا. يسجل ملاحظاته، ويدون رأيه، وملأ بها صحائف وصحائف، وبدا له أنه تعمق في الفلسفة السبعية، وألم بأسرارها، وعايش صاحبها، وأنه معها يمكن أن يتحول سبعًا، في المستقبل البعيد على الأقل.
وتعود السبع أن يقول له:
يا حميري! إنك أحب مخلوق إلي في هذا العالم، إني أحمل لك حنانًا عارمًا وودًا متصلاً، كما لو كنت ابني، لم يستطع أحد أن يفهمني بأفضل مما فهمتني أنت، ولقد بلغ بي الكبر عتيًا، ولن يبعد بي الزمن طويلاً، وسوف ألقي نهايتي قريبًا، وعندما أرحل عن هذه الدنيا فكل ما أملك لك: الكتب، والمذكرات، والأثاث والبيت الذي يحتويها، كلها تصبح ملكًا لك!.
وشكره الحمار متأثرًا ومقدرًا، وأجرت هذه الكلمات الحنون السخية دمعه غزيرًا، وملأت بها عينيه الواسعتين الجامدتين. ولكن وضاعة الأصل التي تجرى في دمه، وتترك آثرها في سلوكه، رغم تظاهره بالسبعية، وحرصه على مراسم السادة، جعلت منه في اللحظة المناسبة مخلوقًا جبانًا، فلم يجرؤ على أن يوعز، أو حتى يومئ، لصديقه العجوز بأن يوثق وصيته هذه، وأن يشهد عليه في الشهر العقاري.
وشهدت الضبع الخادمة ما حدث، وكانت تكره الحمار من أعماقها، فانتهزت فرصة خروجها في حاجة من شئون سيدها، وذهبت لزيارة أسرته، من أحفاده الذين يعيشون بعيدًا عنه، وقصت لهم ما حدث، روته لهم بطريقة مثيرة، وحفزتهم للانتقام من هذا الحمارالدساس المكار الحقير، الذي تسرب إلى عرين جدهم وسيد الجميع، وغايته أن يستولى على ثروة السبع، وأن يحرم منها الورثة الحقيقيين.
ولفظ السبع العجوز أنفاسه الأخيرة بين يدي الحمار، فاعتنى به في مثالية نادرة، وإنكار فريد للذات، وتغشاه ألم عميق، فأخذ يردد حزينًا: "فقدت فيه أستاذًا، وأبًا، وصديقًا .. يالشقوتي وبؤسي من بعد ذهابه! ".
أما أحفاد السبع الذين تخلو عنه منذ أربع سنوات، أو تزيد، ولم يجيئوا لزيارة جدهم ولا مرة واحدة، فقد استجابوا لدسيسة الضبع، وظهروا في الدار بعد ربع ساعة من موته، وكان أول ما صنعوه أنهم ألقوا بالحمار إلى عرض الطريق، بعد أن أخذ حظه كاملاً من الركل واللطم والشتم والتهديد.
- وتضرع إليهم الحمار راجيًا:
- اسمحوا لي أن أخذ هذه المدية تذكارًا ..
وصرخ فيه أحد الأحفاد:
- يا لك من صديق صفيق!، أحمد الله على أن تركناك تذهب في أمان.
- لي رجاء ... على الأقل دعوني أجمع أوراقي وأرتبها.
وسأل الحفيد:
- أية أوراق؟
وعاد الحمار يتوسل ويرجو:
- أوراق رسالتي للدكتوراه، إنها تمثل عامين من الجهد المضني والمتواصل، اعملوا في معروفًا، هذا المعروف فحسب، إكرامًا لذكرى جدكم الغالي.
- بعدك! .. لن تخرج بشيء من هنا وعلى أية حال فنحن عازمون على إحراق كل الأوراق التى تركها جدنا، ونحن على ثقة أننا بهذه الطريقة نعبر عن أسمى رغائبه، وأغلى غاياته، وحيثما كان، أو استقر، فسيبارك عملنا.
وفي نشاط جم، غير متوانين ولا كسالى، انطلقوا من القول إلى العمل، وانطوى الحمار على نفسه كسيرًا، يتنهد حزينًا، ويسائل نفسه في خيبة أمل طافحة: "كيف جرى على أن أكون ساذجًا وبسيطًا على هذا النحو، فنحن الحمير لم نخلق قطعًا لنكتب رسائل دكتوراة عن السباع، إن علينا أن نقف بجهدنا عند كتابة الرسائل عن الحمير الأخرى فحسب، لقد أجهدت نفسي، وأردت أن أحقق جديدًا في مجال الدراسات العليا، وأن آتي بأفكار أصلية في عالم البحث الجامعي، وكان حظي أن عدت بخفي حنين: الإهانة والضياع! ".
د. الطاهر أحمد مكي
* * *
* عبد الحميد أحمد:
البيدار
(1)
حول الخيمة المشيدة فوق تلة رمل جنوب المساكن الشعبية تجمهر كثيرون: رجال، نساء، أطفال.
ثمة رجال ملثمون.، أطفال مذعورون.، نساء يولولن ويصطخبن.
صوت:
- الباب مغلق.
صوت آخر:
- الرائحة كريهة لا تطاق.
صوت ثالث:
- كأنها عفونة فئران ميتة.
الشمس حارقة، الرمل ساخن كالرماد تحته الجمر. . العرق ينضح من الوجوه. . مزيد من الناس يقبل تجاه الخيمة. . الضوضاء تعلو والصخب يتزايد.
تتشابك الأنفاس الحارة بروائح العرق. . تتكاثف الرطوبة. . ورغم ذلك يظل الرائحة المنبعثة من الخيمة صراخ حاد وجارح.
صوت:
- هذه خيمة " مريش " ... أليس كذلك؟
صوت آخر:
- لكن " مريش " تركها ورحل.
صوت نسائي:
- أخبرني بنفسه أنه راجع إلى عٌمان.
صوت:
- لمن ترك الخيمة إذن؟
صوت:
- لعله الحمار، حماره.
صوت:
- الأمر لا يخلو من غرابة.
الصوت الأول:
- " مريش " لن يترك حماره، حتما سيأخذه معه.
الرجال الملثمون يشددون اللثام على أنوفهم، همهمات، تأفف.
- أف ... ما هذه الرائحة؟
وسط الضجيج وأمواج الصخب والرطوبة سأل طفل أمه ببراءة:
- من هو " مريش " يا أمي
لكن أمه لم تسمعه.
(2)
حين تسلق النخلة " النحال " ووصل إلى قمتها فتح " الغيظ ". شم رائحة شبيهة برائحة المني، داعبت مخيلته، وازداد شوقه إلى المرأة التي يراها دائمًا وبسهولة، ولكنه لا يلمسها ... لم يلمسها في حياته أبدًا.
حمل " النبات " تحت إبطه، ورجع إلى خيمته في وقت الظهيرة، تناول حبات من التمر وشرب القهوة، أشعل " المدواخ " وراح ينتشي بطعم التبغ العماني في فمه، استلقى على ظهره، باعد بين الجريد ليسمح للهواء بالدخول، حاول أن يغفو.
الحمار يحمل المتاع ويمشي أمامها، يهشه بين فترة وأخرى بالعصا، قطعا الجبال والأودية الصخرية والصحاري الرملية، كم استغرقت الرحلة؟ مريش لا يتستطيع أن أن يتذكر، لكنها كانت رحلة طويلة وشاقة، قال له أخوة:
- الباطنة، صارت بعيدة الآن.
- علينا أن نصل الساحل.
- سوف أشتاق إليها يا " مريش ".
- المهم أن نعمل .. أن نكسب .. أن نعيش.
- ومتى سنرجع؟
- علم ذلك عند ربك.
أخوه صار محلوي بارعًا ذاع صيته في دبي كلها.
" مريش " استقر به المقام في الجميرة.
تذكر ذلك، دمعت عيناه، حاول أن يغفو مرة أخرى لكنه تذكر أن " بو جاسم " كان قد طلبه ليأتي إلى بيته ليذبح له خروفين لمناسبة ختان ولديه.
حمل السكين وخرج قاصدًا بيت " بو جاسم ".
(3)
صوت أول:
- الحرارة تزداد والرائحة تخنقنا.
صوت ثان:
- يجب اقتحام الخيمة.
صوت ثالث لشاب على عينيه نظارة طبية:
- علينا أن نستدعى الشرطة ورجال الصحة كذلك.
صوت:
- لماذا؟ هل نحن عاجزون؟
صوت الشاب:
- قد تسبب الرائحة وباء
صوت لرجل قد انبرى فجأة وسط الزحام:
- من قال إن " مريش " رحل إلى عمان؟
صوت نسائي:
- أخبرني بذلك.
صوت الرجل ذاته:
- لكنني رأيته قبل أربعة أيام يجلس في ظل نخلة، كان مهمومًا.
الصخب يختلط، الأجساد المتزاحمة ترفع حرارة الجو.
الضوضاء، تتكاثف، الأصوات ترن في الفضاء، عاد الطفل يسأل أمه:
- من هو " مريش " يا أمي؟
. لكن صوته ضاع في اللجة.
(4)
حزين، وحيد، دخن التبغ كثيرًا، مر به صديقه سالم البعير الذي لم يره منذ فترة طويلة، دخنا معًا، فكرا معًا.
قال له صديقه بدهشة:
- ولكن لماذا تريد العودة؟
هصره الآلم ... قال بأسى:
- كيف أعيش هنا؟ لا أحد يلتفت لي.
وبعد صمت، ارتعشت عيناه، همست شفتاه:
- النسيان لا احتمله.
- ولكن .....
قاطعه وقد شارف حافة البكاء:
- لم يعد أحد مهتمًا بالنخيل، والخرفان تذبح في مسالخ السوق.
- ولكن .. بإمكانك العمل، ناطور، مزارع للبلدية، فراش، كما عملت انا ناطورًا، أو لماذا لا تعمل مع أخيك في محله؟
حدجه بعينين مطفأتين، قال:
- مات أخى منذ عامين.
- يرحمه الله.
صب له فنجانًا من القهوة، قال وهو يحك أنفه بقوة:
- العمل يحتاج إلى هوية، جنسية، جواز، لا أحد سيقبلنى.
صمت، نهشه الحزن واليأس:
- أولاد الحلال ماتوا .. تفرقوا ... ولا أحد يذكرني الآن.
صمتًا ... تبادلا نظرات حائرة قلقة:
- أترحل بعد 30 سنة يا " مريش " وكأنك لم تأت إلى هذه البلاد؟
- أعود ... كما جئت، سأعمر مزرعة فى " الباطنة ".
لملم " مريش " حاجاته، نهضا معًا، وقبل أن يغادرا الخيمة قال:
- خذ الحمار يا سالم، لعله يفيدك.
أوصله إلى حيث أقى " مريش " فى " الوانيت " الذاهب إلى عمان.
عانقه طويلا، امتزجت أنفاسهما وانداحت قطرات من عينى " مريش " وهو يلوح لصديقه مودعًا.
(5)
كنت فى الثامنة، ذات يوم سمعت أن " مريش " سيأتى لمساعدة أبى فى تلقيح النخلة فى بيتنا، فرحت لأننى سأرى " مريش ". كنت سمعت عنه كثيرًا ولم أره.
سألت أبى ونحن جالسان فى ظل الجدار:
- ماذا يعمل " مريش "؟
- " بيدار " يا ولدي.
- وهل عنده أولاد.
- يعيش وحيدًا فى خيمته، لازوجة، لا أهل.
- لماذا لا يتزوج.
- إنه من عمان، وفقير، ومن سيزوجه؟
.، اوى ها ... اوى ها ... هود هل الدار، ثم سمعت نحنحة ورأيت رجلا أقبل يعرج، فى يده داس، لحيته سوداء، رأسه ملفوف بغترة مصفرة، عينان ضيقتان، فتحة أنفه اليمنى متآكلة محمرة، إزاره مخطط بالأزرق والأخضر، قميصه أبيض مبقع بالعرق والتراب.
داعبنى:
- هاه ... أنت " ولد مخبوق رأسه ".
وضعت يدي فوق رأسى أتحسس إن كان هناك " خبق ".
أبى أخذ يبتسم وقال لـ " مريش " الذى أصدر ضحكة لم أسمع مثلها من قبل:
- ألا تترك سوالفك يا " مرشان "؟
ثم شرعا يعملان وأنا أراقب " مريش ".
بعد أن انتهيا، قدمت لهما أمي تمرًا وبلاليط وقهوة.
قالت تخاطب " مريش " في دعابة:
سنزوجك " حنتومة "، ما رأيك؟
- أعرفها، امرأة سوداء مرحة، تجلب الماء من الحليو فوق حمار.
قالت لي مرة في خبث:
- أنت يا " بوسمبول " دائمًا متعلق في ذيل أمك؟
أجاب " مريش " ضاحكًا ضحكته الخاصة:
- لا أريدها .... اخ .... اخ.
. وأحببت " مريش ". صار أمرًا نادرًا ألا أراه في كل مكان، في الحي، في النخل، في البيوت، مع الرجال، والنساء، في الأعياد، في حفلات المالد، والختان والأعراس، فوق بئر الماء وفوق سيف البحر، يداعب الجميع وصدى ضحكاته المميزة يتردد في الأزقة والأسماع.
ومرت السنون، سافرت للدراسة، حين رجعت لم أسمع أحدا يذكره أو يتحدث عنه.
(6)
الخيمة تكاد تختفى خلف الأجساد المتزاحمة حولها الشمس تلعن المكان بضربات حامية، الأصوات تتصاعد، خليطًا من التساؤلات والهمهمات والثرثرة، مساحة الذعر والدهشة تتسع في وجوه الأطفال، الرائحة الكريهة ممزوجة بالعرق الآدمى نتفحل فى الجو.
صوت:
- يا جماعة ... يجب أن نفعل شيئا.
صوت آخر:
- ماذا؟ هل نستدعي الشرطة؟.
صوت أول:
- كلا ... نكسر الباب لينكشف السر.
صوت:
- الحر قاتل، لنكسر الباب، ليس أمامنا إلا هذا؟
أصوات:
- هيا إذن.
اشرأبت الأعناق، اندفع ثلاثة رجال بقوة صوب الباب.
سمع الآخرون فرقعة ودويًا، ساد صراخ وهرج، امتلأ المكان ببكاء نساء وحشرجات أطفال، تدفقت الرائحة قوية كأنها شلال، صفعت الوجوه، زكمت الأنوف ثم أخذت تتصاعد فى الهواء الساخن، علا بكاء النساء، بعضهن تأفف.
- تفوه ... أيه رائحة هذه؟
تصايح الرجال:
- لا حول ولا قوة إلا بالله.
(7)
في اليوم التالى جلست أم عبد الله مع جارتها أم حسين تتحادثان، قالت الأولى وفي عينيها دمعتان:
- ولحسراتى عليه ... مات مثلما يموت الحمار.
- يقولون إنهم وجدوه منتفخًا مثل القربة، وأقسم أبو حسين أنهم لم يستطيعوا معرفته، فقد كان وجهه متورمًا وعيناه مطموستين تحت اللحم، ويقول أبو حسين إنه رأى ديدانًا تخرج من فتحة أنفه وفمه.
بصقت أم عبد الله، دفنت بصقتها، قالت:
- أهكذا يموت بني آدم؟ ... تفوه.
- هذا زمان الأخ فيه ينسى أخاه.
بعد أن حوقلت أم عبد الله قالت:
- يقول بو عبد الله أن أبا ناصر قبل خمسة ايام سأله:
" لماذا تذهب إلى عمان؟ " فأجابه بأنهم منعوه من الدخول على الحدود سألوه عن جواز سفره، أخبرهم أنه عمانى لكنه يعيش في الأمارات، لم يصدقوه فرجع.
قالت أم حسين متأثرة:
- حرموه من رؤية أهله وبلاده؟
واصلت أم عبد الله:
- ويقول بو عبد الله إنهم لم يعطوه جواز الإمارات كذلك.
- الله يغفر له ويرحمه.
ساد صمت ثقيل كسرته أم حسين:
- أتعلمين يا أم عبد الله أن " مريش " لم يمت؟
اتسعت حدقتا المرأة دهشة، تساءلت:
- ماذا؟ لقد دفنوه البارحة.
- أعلم .. لكن الذين دخلوا عليه الخيمة قالوا إنهم وجدوا جروحًا كثيرة في بدنه، ورأوا في رقبته جرحًا عميقًا والدماء السوداء الجافة كانت تغطى الأرض تحته وعلى مقربة وجدوا " الداس ".
- هل نحر نفسه؟
تساءلت في وجل غير مصدقة، وضعت يدها فوق خدها.
سكبت القهوة من فتحة أنفها اليمنى، أغرورقت عيناها،
تمتمت:
- واحسرتى عليك يا " مريش " قتلك القهر فمت وحيدًا لا أهل ولا زوجة.
ثم انشغلت الحارة لشهر كامل في رواية ما جرى لـ " مريش ".
جرت قصته على ألسنة النساء والرجال ممزوجة بالدمع والرثاء و ... الأسف.
وقبل أن تهدأ عاصفة الحكاية التى أثارت الجميع جاء إلى أم عبد الله طفلها الأصغر، سألها:
- من هو " مريش " يا أمي؟
* * *
* عبد الله الطوخى
البرغوث .. سفيرا!
كل شيء في ذلك اليوم كان يقول بأنه الرجل الوحيد, الرجل المنفرد .. الرجل الذي اختارته الأقدار لكي تتجه إليه كل الأضواء بجوار ضوء الشمس .. أضواء كاميرات الصحافه, والتليفزيون .. وكذلك ميكروفونات الإذاعه ووكالات الأنباء .. ولم يكن في الأمر أي اصطناع أو مبالغة. فهو القائد الذي يعود لوطنه بعد أن انتصر على الأعداء في أخطر وأشرس معركة .... وهاهي الجماهير منذ الصباح, بعد أن انتشر خبر وصوله, تزحف إليه في بيته الصغير المطل على الميدان .... تهتف باسمه. يا للسحر الذي يحدثه في النفس الهتاف .. نشوه الطائر المرفرف بأجنحة هائلة في الفضاء .. والقامه, قامته, يحس بها وقد ازدادت واستطالت, وأن البشريه تبدأ من خلاله عصرًا جديدًا, إنه يحس مع زحف الجماهير واستمرار هتافاتها أنه يتعرف على نفسه لأول مرة. يكتشف ذاته: كأني كنت غائبًا عن نفسي, والآن رأيتها .. عرفتها ... من خلال أصواتهم وهتافاتهم .. آه .. ما أروع أن أصدق هذا الذي يقال. بل يجب أن أصدقه. فها أنا أسمعه خارجا من القلب .. صادقًا حارًا .. "يارسول الأقدار, يا منقذنا، يامزيل العار عنا .. " والهتافات متواصله .. كلما خفت حدتها في مكان, تجددت وتعالت في مكان آخر من الميدان تستعجل خروجه كي يطل عليهم.
لا بأس أن تطول اللحظه , فهاهم يحولون الهتاف إلى أغنيات , والأغنيات إلى رقصات صاخبة مالجة بالفرح , بينما هو في الحمام يغتسل .. وبعد الحمام يرتدي أجمل ملابسه .. الملابس التي تقتضيها اللحظه التاريخيه ... وثمه جوقه كبيره تحيط به وتشرف علي عملية ارتداء ملابسه بحماس جارف .. إلا أن زوجته ذات الوجه الفائق الجمال , كانت هي التي تختار من الثياب ومن الألوان هذا. وتستبعد ذاك , بصوتها الاّمر الحاسم , متصرفه كزوجه البطل , ولا بد أن تطمئن بنسها تماما على منظره العام , وهو يخرج الى الجماهير .. وتنثني عليه في حب ودلال عميقين , ثم تهمس في أذنه " أتعرف فيما أفكر الاّن؟ في أول يوم رأيتك فيه .. أول لحظه .. كان عندي حق أني وقعت في حبك من النظره الأولى .. الاّن أغار من الهتافات .. أغار من هذه الجماهير المتلهفه لرؤيه طلعتك "
- سيدى .. وفدًا من بلاد كاف نون الشقيق يريد مقابلتك لتهنئتك
- سيدى ... خمسه سفراء من بلاد الشرق , والغرب وصلوا فى لحظة واحدة.
قال فى ضيق: وهذه الجماهير التي تنتظرني من الصباح الباكر؟
- سيدي .. كلما طال الانتظار , زاد الحب , واشتعلت الأشواق.
- إنهم من فجر التاريخ ينتظرونك. لن يؤثر في الأمر أن يطول انتظارهم ساعه أو ساعتين أكثر.
في تلك اللحظه سمع ضجة صراخ عاليه. وثمه صوت هناك، باك يناديه ويستغيث باسمه .. نظر مستغربا مستفسرا ..
- سيدي .. لا تبالي .. منذ انتشرت أخبار النصر والمجانين بك كثيرون.
ماذا تعني؟
- رجل فلاح يدعي أنه قريب لكم ويدعي أيضًا أنه كان صديقًا لكم من أيام الطفولة وهو يبكي بشدة لكي يراك ويسلم عليك.
ثار فضوله، واتجه من فوره إلى الرجل، وما أن رآه، بجلبابه البلدي الفضفاض، وطاقيته الصوف المعزوله. وذلك السبع الاخضر، المدقوق على أعلى صدغه الأيمن. حتى عرفه على الفور، وصاح عليه باسمه: خضر عبد المجيد خضر؟ كيف أنت ... وكيف أحوال البلد ومن فيها جميعًا.
- آه بخير .. يكفيهم فخرًا أنك ابن بلدهم.
وفرد له كل ذراعيه في اشتياق وحب .. ففرد له هو الآخر , متأثرًا ذراعيه والتحما في عناق حار وانفجر الفلاح في البكاء فرحا وهو يحتضنه بقوة ويربت عليه.
يا لى من محظوظ .. جئت هذا الصباح من البلد لأقضي مشوارًا فلما رأيت المظاهرات في الشوارع وسمعتهم يهتفون باسمك أحسست كأنهم يهتفون باسمى أنا .. أنت تذكر طبعا أيامنا معًا في البلد .. آه ما أكثر ذكرياتنا وحكاياتنا.
لم أنس شيئًا .. يا خضر غير أن الظرف الآن كما ترى لا يسمح بتذكرات. سوف يأتي الوقت فيما بعد ونتذكر.
وتوجها الى الجوقه بنظره خفيفه على اثرها اندفعوا على الفلاح جاذبين اياه من ظهره ثم اخرجوه برفق عظيم
كان على البطل أن يخرج إلى الجماهير.
* * *
قبل أن يخرج إلى الشرفة ببرهة سبقه إلى الميكرفون أحدا أفراد الجوقه، صائحًا معلنا وصوله وما أن أطل عليهم حتى تأججت الساحه واشتعلت الحناجر بجنون الحب تهتف وعشرات الألوف من الرؤوس والعيون اشرأبت إليه وكل واحد يود لو يطوله ويأخذه في صدره ويحتضنه , أحس بقوة هائله تصطفق داخل صدره وأن ثمة أبراجًا بنيت وهو واقف فوقها وفكر مع نفسه .. كيف كنت غافلا عن نفسي كل هذا العمر؟ لا عليّ: يولد الابطال بين يوما وليله هكذا يقول التاريخ عنهم يكون عصر الفراغ والعدم ثم يأتون هم فيعطون المعنى للزمان والمكان ويملأونهما ويتم الاحساس بالوجود
وإذا هو سابح فوق أمواج النشوى طائرًا محمولا على محفة من أجمل الهتافات والتحايا والقبلات والورود الطائره إليه في شرفته على أجنحه للهواء والنسيم في تلك الليلة عذب ورائع فلا حر ولا برد كأن الأقدار ترسم لي حتى درجه حرارة الجو.
وبينما هو في هذه النشوة اذا بشىء غريب جدا ومتناقض تماما مع طبيعه اللحظه يحدث له .. لقد أحث فجأه أن شيئًا ما صغيرًا جدًا يلدغه قرب إبطه لدغات ليست بالقاسيه لكنها سخيفه جدًا ومقلقة وتدعوه لأن يهرش مكانه فهل يعقل هذا؟ هل يصح للبطل الواقف كالأسطورة الواقف في عز مجده أن يهرش وليتها هرشة واحدة يقوم بها سرًا بخفة ولباقة دون أن يلحظ أحد وينتهي الأمر إلا أن اللدغ كان مستمرًا وبطريقه أدرك معها فجأه انه برغوث ورأى أن الموقف فيه يعد مضحك ساخر.
فلا شىء يحرره الآن من حماقات هذا البرغوث التافه الحقير إلا أن يترك الاحتفال والجماهير معتذرًا للحظه ويدخل إلى حجرته ويغير ملابسه ويعود بسرعه إلا أنه استبعد الفكرة بشكل قاطع .. عليا أن أحتمل لقد احتملت أهوال المعارك ألا أحتمل سخافات البرغوث؟ ولكن (وقفز أمامه السؤال) , من أين وكيف جاءني هذا البرغوث رغم أني استحممت منذ قليل وغيرت ملابسي الداخليه؟
آه تذكرت هو ذلك الفلاح اللعين خضر عبد المجيد خضر وهو يعانقني .. انتقل منه البرغوث إليَ في بساطه دون أن يدري أنه بذلك يفسد عليّ جلال اللحظه التاريخيه ومتعتها.
خواطر كالومض كانت تمر مختلطة برأسه , بينما كان واحد من افراد الجوقه يلقي كلمة يقدم بها للخطبة التي سيلقيها بطل الأبطال .. وثمة صمت مطبق عميق في انتظار كلمته .. كانت عيناه حين ذاك على كتلة الجماهير الهائلة المتلاصقه .. رؤوس رؤوس وعيون عيون لا يمكنه أبدًا التوقف عند أحد معين منها. وفجأه ومن قلب كل هذا البحر الهائج المائج إذا بوجه بالذات يتحدد أمامه , واذا بعين هذا الوجه رغم أنهما في نهاية الصفوف الخلفية تصلانه وتصدمان مباشرة بعينيه أحس بثنه رجه داخلية هائلة قاومها بسرعة وقوة وأسرعت دقات قلبه .. ها قد ظهر رغم أنه كان قد اختفى.
وحول بسرعة عينيه عنه وإلا فلتت منه اللحظة التاريخية ودخل على الفور في خطبته ومن أول جملة نطق بها تأججت الجماهير بالحماس وألتهبت الأكف بالتصفيق , إذ ذاك استرد ذاته كما كان قبل أن يرى الوجه والعينين حتى أنه نظر إليه ليراه مرة أخرى لكنه لم يعثر عليه كان قد اختفى من جديد أو ربما كنت أتخيل أو فرط حساسية مني.
واستغرق تماما في خطابه، عاوده فيض النشوى والإحساس بعظمة البطولة، وجلال التفرد، دون أن شوبه لحظات تشويش أو قلق ومضى متدفقا، ومتجليًا في إلقاء خطابه .. مأكدًا أن اليوم علامة يبدأ بضوئها تاريخ وعصر جديدان في حياة الشعب العظيم.
ولولا أنه كان قد مرت عليه أيام طويلة دون أن يحظى بقسط وافر من النوم، لكان قد ظل هكذا حتى
الصباح بين الجماهير يمارس هذه النشوة التي ما بعدها نشوة, وخاصة أن البرغوث كان قد كف تمامًا عن مناوشته، أو .. ربما تركه ومضى لكنه كان مجهدًا وتذكر احتفالات الغد التي تنتظره والتي ستكون بمثابة التتويج .. لا بد إذن أن يكون فيها على أكمل صورة، وأطيب مزاج فليخطف ساعتين أو ثلات يغلق فيها عينيه وراسه ويستغرق في نوم هاديء عميق ..
- ويا أيتها الجماهير الحبيبه ... غدًا نلتقي من جديد.
ما إن دخل حجرته حتى أعلن عن احتياجه للنوم واحترم الجميع وأولهم الزوجة هذه الرغبة وعلى وجهها آيات الرضا: "كنت أحب أن نجلس معًا هذه الليلة بالذات بعض الوقت مجرد الجلوس لا أكثر. أفرح بك .. وأعبر لك عن مشاعري .. آه .. كم كنت رائعًا "
تمدد على السرير بكل جسده الضخم حقا؟ كيف؟ احكِ لى قبل ان انام.
وبدأت تحكي بكل الحب والحماس غير أنه لم تكد تمر دقيقه واحدة حتى كان قد سقط في جب النوم العميق.
حينذاك نهضت وأطفأت نور الحجرة ثم أغلقت بابها بهدوء شديد .. وحل على البيت وعلى الكون سكون عميق.
هي نصف ساعة ووجدا نفسه صاحيا .. ويهرش بعصبيه تحت إبطه .. وعلى الفور أدرك .. رغم أنه كان في نصف أو ربع وعيه، أنه .. البرغوث اللعين!
ويوشك باللا وعي أن يصرخ، إلا أنه، بجهد شديد، أمسك نفسه: بطل الأبطال يصرخ شاكيًا من برغوث؟ ثم فى وجه من يصرخ ويصيح؟ .. ،الذنب ذنبى، .. أنا الذي تركت نفسي لهذا الفلاح اللعين المدعو خضر ليأخذني في صدره ويعانقني فدفعت ثمن بساطتي وإنسانيتي لقد أفسد فرحتى مع الجماهير وها هو أيضا يفسد علي ساعات نومي .. أم .. تُراها مؤامرة؟!
وتولته رعدة مفاجئة , فقد ترائى له الوجه الذي طلع له للحظة من بين الجماهير. ثم اختفى - ها هو يطلع له مره أخرى مختلطا بوجه خضر دون أن يعرف إن كان يبتسم له أو يكشر عن أنيابه .. هل هناك علاقه ما بين الاثنين؟ .. وهز رأسه بشدة مبعدًا الصورة المختلطة .. وتدافعت أنفاسه .. كنت قد نجحت فى أبعاد شبحه طوال المدة السابقة، وها هو وجهه يعود مختفيًا ومختلطًا بوجه خضر، .. وفكر في استدعاء هذا الخضر واستجوابه، ورأى في ثورة غضبه أن الأمر قد ينتهي بتعليقه في فرع شجرة .. وأزعجته الصورة، أن يكون أول أعداؤه من أبناء بلده. وتذكر صورة الخضر وهو يفرد له ذراعيه ودموع الفرح في عينيه: "لا .. لا خضر يحبني خضر رمز البساطه والصفاء والنقاء .. وإن كان قد جاءني حاملا برغوثًا فلم يكن ذلك بقصد منه، إنما هى البلدة التي ما زالت مليئه بالروث والتلال والقاذورات .. بعثت به إلىً لكي تذكرني .. يا لها من طريقه سخيفه بل وشريرة. كم أنا متعب بسبب عدم النوم .. أيها البرغوث ابتعد أرجوك. إن غدًا يبدأ عصر جديد، ليس لي وحدي بل للوطن كله .. وليس من المعقول أن يفسد مسيرة التاريخ برغوث.
ولم يجد مفرًا من أن ينهض ويخلع ملابسه قطعة قطعة، بحرص وانتباه شديدين، مستعدًا للانقضاض على البرغوث في أى لحظه مثلما انقض على خصمه الخطير وأجهز عليه. هنا طالعه الوجه من جديد، فأسرعت أنفاسه وتولته الرعدة الداخليه .. ووجد نفسه يسأل نفسه:
- هل حقا أنا الذي أجهزت عليه؟ (وعادت اليه الصورة مجسمه)
لقد رأى بأم عينيه أحد جنوده الصغار وهو ينازل القائد الأكبر لجيش العدو .. كان الاثنان محصورين في خندق , والمعركة بينهما على أشدها. وفجاة, وبفعل ضربة من الجندي رأى الخصم يهوى مجندلا على الأرض مضرجًا في دمائه بينما استلقى الجندى منكفئا ببطنه على الأرض يلهث ويسترد أنفاسه المتقطعة .. ووقف مذهولا مبهورًا بما حدث .. وأوشك أن يصيح على جنده الصغير صيحه الفرح والنصر, إلا أنه تجمد في وقفته والصيحة أيضا تجمدت في حلقه. كان يحدث نفسه بحرقة: آه لو أنني كنت فعلتها كنت أتمنى أن أكون أنا الذي ظفرت به .. أية ضجة وتهاليل وأفراح واستعراضات كانت ستحدث .. وساورته أمنيه حارقه جارفة: لو تتوقف أنفاس هذا الجندي الصغير. يموت بسرعه وومعه سره .. وانحنى عليه ورفعه من رأسه ليعرف بالضبط حالته .. حين ذاك فتح الجندي الصغير عينيه ونظر إليه , هي نظرة واحد ممتزجة بابتسامه خابيه, ثم أغلق عينيه من التعب وعاود انكفاءاته الأرضيه.
في تلك اللحظه سمع ضجة آتية من بعيد. ولم يلبث أن لمح عددًا كبيرًا من جنوده قادمين .. وعلى الفور أمسك بجثة العدو وراح يجرجرها حتى أبعدها كثيرًا عن الجندي الصغير. ووقف على رأسها يلهث لهاث الخارج من معركه رهيبة .. وما إن وصل الجنود ورأوه واقفا معفرًا يلهث , وقائد الأعداء صريعًا غارقًا في دمائه .. صاحوا صيحة هزت أرجاء المكان. الله أكبر يا بطل .. بطل الأبطال أنت .. الله أكبر .. الله أكبر ..
حملوه على أعناقهم وساروا به هاتفين مهللين.
احتلته سعادة كبرى أن مخططه الذكي البسيط نجح بكل هذه السهوله وهذه السرعه الخاطفه, دون أن يقول هو أي شيء , إنما هم الذين قالوا وكرروا وفرضوا الأمر .. غير أن شعورًا آخر بالتوتر والتحفز كان يتصادم في داخله مع الشعور الأول .. كان خائفا من ذلك الجندي الصغير أن يفيق وينهض ويلحق بهم , ثم يصرخ عليهم بالحقيقه .. تراه يجرأ على ذلك؟ لما لا؟ .. وهو الذي واجه ونازل قائد الخصم الأكبر وصرعه .. و .. فجأة تولته رعدة هائلة أوشك على أثرها بالسقوط من على الأكتاف .. لولا أن الاذرع كانت ممسكه به بقوة. لقد رأى الجندي الصغير وقد راح يشق طريقه مترنحا بين كتله الجنود المحيطة به حتى تجاوزهم وأصبح وجهه لوجهه: تلاقت عيناه بعينيه .. وأدهشه جدا أن الجندي كان يلوح له بذراع جريحة ويهتف مع الجنود. الله أكبر. الله أكبر.
لحظتها تمنى لو يهبط من على الأكتاف ويأخذه في صدره ويحتضنه إلا أن هذا قد يثير التساؤلات .. وقد ينكشف السر على نحو ما .. هذا الجندي لا بد من تصرف ما معه , كيف .. وأنا لا اعرف حتى اسمه؟
وسرعان ما تبخرت هذه المشاعر المتناقضه وتبددت مع اندفاع المظاهرة. والجندي نفسه تراجع وضاع في المظاهرة. إلا أنه بعد قليل وجد نفسه وهو محمولُ على الأعناق , ينظر في كل الاتجاهات باحثًا عنه .. لكنه لم يجد له أثرا. فاستراح لذلك , لكنها راحه مشوبة بالقلق .. أن تنكشف الحقيقه على نحو ما في أية لحظة " آه .. من يأتيني بهذا الجندي؟ لا بد سأحصل عليه بطريقتي ".
وتراءى له الجندي قائلا في مسكنه وضراعه: أرجوك. اتركنى في حالي. وسيبقى السر في بئر. وحتى لو قلت ما حدث فلن يصدقني أحد , بل وسيكون مصيرى مستشفى المجانين. لا تقلق .. والمهم أننا انتصرنا .. أن الوطن انتصر.
حل عليه بعض الهدوء .. بينما كان ماضيًا في خلع ملابسه قطعة قطعة، متربصًا بالبرغوث، ورأى المرآه قريبة منه , فذهب إليها ووقف أمامها. ولاحظ أن , ... ,ليس متسقًا في هذه اللحظة مع قامته الشاهقه فأسرع يغلق باب الحجرة بالترباس, ثم استند بظهره على الباب , وقد شغلته حكية عدم الاتساق هذه .. لقد واتته فكره سببت له قدرا كبيرا من الانزعاج .. فحتى لو كان اتساق في أعضاء الجسم, فليس هناك اتساق بين كل هذا الجسم الضخم وهذا النصر العظيم الحادث .. , ..
وانتفض فجأه على دقات خفيفه بباب الحجره صاح بغضب وعصبيه: ماذا تريدون؟
لا شيء يا سيدي. فقد لاحظنا أن الحجرة مضاءة لمدة طويله بينما أنتم في حاجة إلى النوم.
بترالحوار: أعرف كل شيء "وخفف من عصبيته " لا تقلقوا .. كنت أقرأ في بعض الأوراق.
والآن سأعود للنوم.
كان قد غير كل ملابسه الداخلية. وعاد إلى سريره واسترخى. ثم مد يده وأطفأ النور. هذه الهواجس يجب أن تتوقف , وليصبح كل شيء في الظلام .. كل شىء: الحجرة والجمجمة , والخيال , أن يتلاشى بالنوم ببعض الوقت .. ينسحب إحساسه عن الواقع .. الموجود. ويصبح في مأمن. في قوقعو - مهما علت بها الأمواج وهبطت , إلا أن ما بداخلها فى مأمن. حتى يستعيد قواه , ثم يخرج الجان او العملاق من القمقم.
كان قد وصل إلى حالة قصوى من الإنهاك الجسدي والنفسي , وفكر مشجعًا نفسه: ها قد غيرت كل ملابسي الداخليه وتحررت تماما من البرغوث للاستسلام للنوم. استعيد أصوات الهتافات , وصوت الأمواج البشرية الزاحفه المشرئبة نحوى وأنام عليها ..
واستلقى بكل جسمه فاردًا كل ذراعيه باسترخاء, وأغمض عينيه مهيأ نفسه ليدلف إلى جوف القوقعة , إلا أنه وجد نفسه ينتفض بحركة عصبية , وأصابعه , رغما عنه - تهرش .. وكان الهرش هذه المره .. في آه .. عاود البرغوث اللعين بعد أن اختار لنفسه مكمنا اخر. وكتم صيحة كادت تكون باكيه: لا .. ليس هذا بالأمر الطبيعي .. كيف عاد البرغوث رغم أنه غير ملابسه؟ ام أنها مجموعه براغيث نقلها إلى هذا الجلف خضر؟ وباللا وعي طار به الخيال إلى تلك الأيام الذي كان مصاحبا فيها خضرًا باستمرار ..
وقفز أمامه وجه خضر .. ضاحكا .. لكنه لم يكن يضحك عليه - بل كان يضحك له مداعبا: أهكذا .. ؟؟ من برغوث يحدث لك كل هذا؟ خذها لعبه يارجل يعتبر الحادث من باب الفكاهه والمزاح .. أنسيت حسك العالى في هذا المضمار؟ يا ما كانت لك حكايات في هذا الباب .. ويا ما كانت لك عمايل لم تكن تعملها إلا من أجل أن تضحك وتضحكنا .. وأن الضحيه فأمرها لله .. هل نسيت يوم أن كنا نستحم في البحر وتسللت أنت خارجًا , وأخفيت ملابس أحد الاولاد المستحمين ثم عدت دون أن يشعر بك أحد؟ ويا لها من ضحكات ضحكناها حين خرجنا من الماء ورحنا نتفرج على الولد العريان الذي لا يجد ملابسه , ثم بعد قليل ذهبت أنت واحضرتها له متمما لعبه الضحك والإضحاك .. وكنت تحب انت تجمعنا حولك في الليل وتحكي لنا عن مغامراتك مع البنات والنساء وكنا نتشكك في سرنا فيما تقول , إلى أن رأيناك تستولى ببراعتك على عقل أجمل امرأه في البلد وجعلتها تتطلق من زوجها .. حامد النجولي .. الذي , على أثر المهانه - ترك البلد واختفى ولم يره أحد بعدها - من قال لك أني اختفيت؟
وانتابته رجفه هائلة , حتى أنه انكمش في نفسه وأحس بأنفاسه تنسحب منه , فقدر رأى وجه حامد النجولى ينقض عليه ضاغطًا على أسنانه , في غل دفين , أتحسب أنك فلت مني؟ لا .. لقد جاء الوقت .. وأنه يمهل ولا يهمل .. لسوف أدمرك كما دمرت حياتي .. يا من تغربت عن وطني بسبب غدرك ونذالتك و .. .
وهز رأسه بعنف طاردًا الشبح عنه , لكنه رأى وجه خضر ما زال يطل عليه .. ويبتسم بصوت كالفحيح .. الآن أدركت أنك متآمر .. هي حملة تقودها على .. أيها الحقير التافه .. أنت والبرغوث واحد .. لكنى سأهدمكم جميعا. وراح يجاهد ليمسك بانفاسه ..
كان قد وصل إلى درجه قصوى من التفكك وانعدام الوزن ومضى يتسمع أنفاسه وهي تروح وتجيء .. لابد أولاً من قتل البرغوث .. لكن المهم أولاً هو الإمساك به .. وقبل الإمساك به رصد حركته وضبطه .. و ..
وتنبه فجأه إلى ما هو فيه - راح ينظر إلى الصورة من أعلى , فوجد بطل الأبطال الذي لا يزال دوى الهتاف باسمه يحدث طنينا وذبذبات في الجو يطارد برغوثًا , ولا يستطيع الإمساك به .. وأحس بالخجل الشديد .. ها هو مرة أخرى يبدأ خلع ملابسه , ويتعرى .. وهذه المره لم يقف أمام المرآه ليرى عدم الاتساق العضوى .. هذا عدم اتساق تافه , وليذهب كل من يهمه هذا الأمر إلى الجحيم .. هناك عدم الاتساق العام , وهو الأبشع والأخطر .. المشكلة الآن كيف يتخلص نهائيَا من البرغوث؟
لا حل إلا أن اخلع كل ملابسى , واستلقى عاريا .. العرى الكامل هو الطريق الوحيد للنوم.
وفعلها ..
تمدد بجسده العاري على السرير مطمئنًا إلى أن باب الحجرة مقفول بالترباس. وحيث أن الجو لم يكن بردًا ولا حرًا , فقد تسرب إليه مع الإرهاق , شعور ناعم عزب وجميل وفكر: لو أظل هكذا بكل هذه الراحه الكاملة الناعمة: أجل .. لا أريد مهرجانات ولا هتافات, فكلها قائمة على كذبة كبيرة , ولسوف تظل هذه الكذبة تثقل عليا حتى أموت.
ورأى نفسه وهو بين اليقظه والنوم يقف في الشرفة ويخطب: أيها الناس: انتباه: آن لنا أن نعرف اللعبة أو الخدعة التي كثيرًا ما يسير بها التاريخ .. خدعة البطولة والأبطال المتألهين الذين يحركون بقدراتهم السحريه , ومواهبهم النادرة مسار التاريخ. بينما هم في الحقيقة لصوص , سارقون لشجاعة وعظمة وتضحيات الأبطال الحقيقيين الصغار أبناء الشعب الغلابة .. الصامتين العظام .. نعم أيها الناس , أسمعونى جيدًا .. لست أنا البطل في هذه المعركة .. البطل الحقيقي هو فتى أثر التراجع والاختفاء .. ودعوني أحكي لكم تفاصيل ..
ولم يكمل فقد انفجرت في وجهه عاصفة رعدية من الرفض والاستنكار .. وكانت الجوقه هى أول من أثار العاصفة , وفي الحال تبنتها الجماهير: لا .. لا .. ليس اليوم يوم التواضع إنكار الذات .. إننا لنعرف سلفًا افكارك عن الشعب وحبك لأولاد البلد وأبناء الشعب الطيبين , ولكن ان يكون هذا الحب طريقًا لكي تتخلى عن المسئوليه التي تنتظرك السنوات الطوال .. في تلك اللحظه وجد نفسه ينتفض بفعل قرصة من البرغوث إياه , رغم أنه كان عاريًا بالكمال والتمام .. قفز جالسًا وراح ينظر في غيظ مدققًا في كل اتجاه. لكنه لم يلمح شيئًا في الفراش , كما لاحظ أن انتفاضته هذه المره جاءت خفيفه , وأن الإحساس بالقرصه ضعيفًا أضعف بكثير من المرات السابقه ..
كان ثمة خدرشديد من فرط الإنهاك والتعب قد احتل رأسه وكل أطرافه , وبدأ يستسلم مهيأ نفسه للدغ البرغوث دون أن يهتز أو يقاوم .. ورأى بخياله المرهف زوجته تميل عليه وتستر جسده العاري ثم تهمس له مشجعه:
- أتعرف بماذا أصبحوا ينادونني؟ زوجه البطل .. زوجة الزعيم .. أليس ذلك يسعدك؟
- كيف لا يسعدني؟ على الاقل يخفف عني هموم عدم الاتساق .. لكن اتساقًا آخر أهم وأخطر وهو الذي يجب أن يشغلنا .. ولسوف أحدثكِ في هذا المعنى .. بعد أن ..
كان الخدر الناعم الشامل قد احتوى , وطاب له الاستسلام التام. وشيئًا فشيئًا مع فرط التعب وتجلط الإحساس سقط في البئر , وراح يهوى إلى القاع ببطء سحري شديد.
وحين استيقظ صباح اليوم التالي كان قد نسى كل شيء , وراح بمساعدة الجوقه التي تشرف عليها زوجته , يرتدي أجمل ملابسه ويستعد بشغف لتلقي هتافات الجماهير .. ,.
* * *
فؤاد قنديل:
أجمل رجل قبيح فى العالم
بكل زهو دس السيجار فى فمه، وتأمل خاتمه الذهبى الضخم
مر بيده - غليظة الأصابع - على كرشه الكبير المستدير الذي تكلف عشرات الآلاف من الجنيهات ليصبح بهذا الشكل المميز، قبل أن يحني رأسه باعتداد ليدخل سيارته محاطا برجال أمنه، تقدر أحد كبار المسئولين في مجلس المدينة وسلمه أوراقا معتمدة ومختومة .. تصفحها وابتسم، قرر مكافأته على جهده لتمرير التكليفات المحظورة على الجميع، أمر المحاسب بصرف رشوة مقدارها ثلاثون ألف جنبه. ما أنجزه الموظف الحكومي يدر ثلاثة ملايين من الجنيهات، تذكر أنه منذ أسبوعين على الأقل لم يعقد صفقة.
تحركت السيارة بين أحواض الزهور التي تمتد من أمام قصره بين أحواض الزهور التي تمتد من امام قصره حتى البوابة الحديدية لمسافة مائتي متر .. ابتسم .. تأمل وجهه الضخم المتورد وشاربه الذهبي المبروم وعينيه الواسعتين .. رضي عن المساحة الخضراء التي مازالت تلونهما .. سوري جناحي الشارب وهو يستعيد المقولات التى تردد في أجواء الأنديه والأحزاب:
س س أجمل رجل أعمال فى مصر
تنفس بملء رئتيه الهواء والاعتزاز والنشوة والسلطة ..
شعشع الكبرياء في رأسه وهو يستشعر امتداد أذرعه الطويلة إلى كل مكان. اليوم سيوقع عقد تعاون مع شركة أمريكية تعمل بموجبه مصانعه بالكامل طوال العام، وتحقق ربحًا لا يقل عن عشرين مليونا من الجنيهات سنويًا.
هز رأسه موافقا على تغيير سيارات أولاده الثلاثة .. رامي وشادي وكريم .. حتى سهى التى لم تبلغ السادسة عشرة ..
- من حقهم أن يغرقوا فى العز ..
هز رأسه موافقا على فتح شركة باسم الزوجة التي تود من كل قلبها أن يتضاعف ما تملكه.
لا بأس إنها أم الأولاد ولا بد أن تنشغل عن نزواتي، كما لا يجب أن تحمل هما في المستقبل إذا حدث شيء، خاصة إنها في انزعاج دائم من أخوتى.
أشعل السيجار وسحب أنفاسا طويلة بتلذذ .. صبر عليها حتى بلغت رئتيه ثم أطلق الدخان باستمتاع. أخرج مع الدخان بعض الذكريات المتعفنة والأيام المتكسلة، ونفايات المواقف الصغيرة واللحظات الحرجة، كأنه يقول:
وداعًا لكل السنين الصدئة.
لاحت في خاطره فكرة: نظف رأسك أولا بأول، ولا تبق على المائدة إلا الديوك الروية.
تنهد وبدأ واضحًا رضاه عن الدنيا، وعن نفسه .. قال:
غدا نمضي إلى الساحل الشمالي لنلهو بعيدًا عن الأسرة .. تكفي هيام ذات الجسد المشتعل .. بنت الجنية لا تتوقف عن الضحك .. لا مانع من تزيين رقبتها المرمرية بعقد الماس الذى طلبته.
مد ساقيه إلى أقصى طولهما في صالون السيارة الكبيرة، وتحسن شاربه الحنائي الكثيف .. رن الهاتف.
رد السكرتير .. بعد لحظات قليلة قال: خبر سخيف يا باشا.
انطق
رامي بك دهس أسرة مكونة من سبعة أفراد كانوا يجلسون على كوبرى روض الفرج
انطلق صوته وقد زاد خشونة:
يستاهلوا .. لماذا يجلسون هناك؟
يتنفسون الهواء الذي لا يدخل بيوتهم
كثرة النسل هي المشكلة وليس نقص الهواء.
العمل يا باشا؟
تعرف العمل .. تصرف أولا في محضر الشرطة ثم اصرف لهم خمسة آلاف.
أسرع يستعيد آخر نكتة قالتها له هيام في التليفون أمس .. ضحك طويلا .. لطالما أدهشته دماغها العجيبة .. أنثى مثيرة ومجنونة .. تتفجر حيوية، حتى بعد أن يغلبها النوم لا تهدأ، قال لها عندما التقيا:
أمامك ليلة واحدة لأصبح على يديك إنسانا آخر، تأمل وجهه الأحمر الضخم في المرآه .. قال لها:
يقول الناس إنني أشبه الملك فاروق.
- انت أكثر شبابا
فعلت به ومعه كل شئ. كانت تدرك بحس المرأه أن عقد الماس موجود .. أرهقته بلا شفقة، وأضحكته بلا رحمة، وأوسعته حبا وتدليلا حتى أوشك أن يتحلل.
مع ظهيرة اليوم التالى تناولا الغداء. خرج للقاء محافظ الإسكندرية .. رن التليفون. رد السائق .. قال وهو يكاد يمنع نفسه من الكلام:
خبر سخيف يا باشا
حتى انت!
بنت سعادتك الصغيرة سهى هانم حطمت كشكا فى شبرا
وما قيمة الكشك؟
كان به خمسة أولاد وأمهم.
أصيبوا؟
ماتوا .. الحادث كان في الفجر.
ارتاحوا .. لماذا ينامون في الكشك .. أولاد ال .. ؟
الفقر يا باشا
الفقر ليس مشكلة .. الغباء هو المشكلة .. اتصل بحسين .. يتصرف ويرمي قرشين.
زفر الهواء بامتعاض .. مضى إلى المحافظ .. عرض عليه مشروعه الكبير .. تناقشا طويلا حول التفاصيل بحضور المساعدين .. وافق المحافظ أخيرا .. انفتحت كل الأفواه على مصاريعها ابتهاجا بالمشروع الذي سيغير وجه الحياة في الثغر. أصر المحافظ على الغداء .. اعتذر الباشا وانطلق إلى الشاليه ليلحق بالشمس التى تتأهب للرحيل مكتسية ملامحها ببرتقالية أسرة وهي تودع الساحل من أقصى الأفق الغربي.
تذكر الحادثين بشكل عابر .. قال:
- الندوم غير مسموح له بالاقتراب مني. الندم يقصف عمر العظمة.
عندما وصل إلى الشاليه أمر السائق أن يختفي من الوجود ولا يظهر إلا إذا استدعاه.
طلب من هيام أن تملأ البانيو بالعطور فسوف يقضيان فيه الليلة .. يشربان ويأكلان ويتلاثمان وينامان .. وينتقمان من الحياة.
قهقه من أعماق قلبه، ومن كل شرايينه عندما قالت:
هذه ليلة مجانية .. الدنيا كلها لك وحدك. أفرد أجنحة نزواتك إلى منتهى قدراتك. إلتهم وإياك أن تشبع. إلتهم وإياك أن تشبع.
فاهم.
قال وهو يعانقها بفرح مراهق:
لن أشبع أبدا .. أبدا أيتها المنحدرة من سلالة جبارة ..
هيا ألقيني فى جحيمك اللذيذ.
طوته المرأة الجهنمية قوية البنيان، أغرقته فيما لم تعرفه الغرائز من قبل ولا خطر على بالاى شبق محموم، ومن أعماقه شعر بأهمية الفجور وروعته.
مع ظهيرة اليوم التالي أطلق سراح الهاتف المغلق ..
اندفع الرنين متلهفا
خبر سخيف يا باشا
زعق بأعلى صوت:
يا أولاد ال .. واثقا ..
لطمه المتحدث بالخبر:
سقطت عمارتا الوايلى
ابتسم من قلبه ثم تنهد وقال:
ياااااااه .. خبر انتظرته من سنين
يا باشا العمارتان وقعتا فوق السكان
لك مكافأة
أغلق الهاتف ليفرح مع هيام .. عانقها وقلبها.
حكى لها القصة. اشترى منذ نحو عشرين عاما ثلاثة بيوت متجاورة قديمة في حي الوايلي وتمنى أن تسقط فلم تتحق أمانيه .. سعى بكل الأساليب غير الشرعية للحصول على تصريح بهدم إحداها وحصل بالرشوة عليه .. أخرج منه السكان ثم أمر سائق البلدوزر بهدمه، ونفحه مائة جنيه كي يمنح العمارتين الأخريين كتفين مؤثرين بشفرة البلدوزر .. ها هما أخيرا سقطتا .. مساحة ثمنها لا يقل عن عشرة ملايين.
إننى عبقرى دون شك .. لم تلد مثلى ولادة .. إننى أستحق مكافأة كبرى.
أسرعت هيام تقول:
وجهى حلو عليك .. من حقى مكافأة
عانقها قائلا:
طبعا يا وش السعد تحلل منها ومن الجدران .. مضى إلى الشرفة يفتح صدره للبحر ليس أقل من رحلة إلى أوروبا تدوم شهرا ..
هناك من يختلفن كثيرا عن هيام تنهد من أعماقه وتمنى أن ينزل البحر ويحدثه عن صفقاته التي مازالت تختمر في رأسه، ولكنه شعر أن قلبه يدق بعنف واضطر أن يميل على الأريكة المريحة في صدر الشاليه .. كان يتنفص بصعوبة، ولم يستطع من خلال ضبابية النظرات أن يلمح هيام وهي تتقدم بجيوشها وعطرها، يخترق كل ما يلقاه ويصرعه.
إحدى قصص المجموعة الحاصلة على جائزة الطيب صالح عام 2011
* * *
منصورة عز الدين:
مطر خفيف
وجدت نفسها في مطار فخم بمدينة أجنبية، معها زميلان كأنهم جميعًا في رحلة عمل، كان الإيقاع سريعاً والناس يسيرون كما لو أن حياتهم مرهونة بمدى اتساع خطوتهم. لغات مختلفة تسابقت على احتلال الفضاء المحيط وشعور ثقيل بالتوتر انتابها بينما تتابع النظرات القلقه لزميليها. بدوا كأنما يتجاهلات وجودها عن عمد.
كانا مرتبكين مثلها وإن جاهدا بمحاكاة الآخرين ممكن يتحركون بسرعة واثقة اختفيا فجأة عن مجال بصرها ولم يشعرها هذا بالخوف أو الاندهاش.
{ثمة وسيلة حتماً للذهاب إلى فيسبادن}! قالت بصوت خافت.
أعادت ترديد الاسم فبدأ غريبا بدرجة كبيرة. فيسبادن؟ على أن أذهب إلى هناك؟ لم تجد جوابا مناسبا.
استرجعت ما تعرفه عن المدينة. لم تكن تعلم سوى أنها تقع في ألمانيا، وفي قصة تحبها لخوليو كورتاثر عن {خاكوبو} الذي حاول شبح امرأة إنجليزية تشبه خلد الماء، أن يحذره من المصير المحتوم داخل المطعم البلقاني الخاوي في ليل فيسبادن الماطر، وانتهى الأمر بهما إلى أن يصيرا معاً شبحين ينتظران في ليالي المطر.
بفضل العزيز كورتاثر، تحولت المدينة في مخيلتها إلى بقعة خرافية مسكونة بأشباح تجاخد لإنقاذ ضحايا محتملين من براثن قتلة باردي الأعصاب متخفين في مطعم صامت به شموع ينبعث منها ضوء شحيح، لذا كان مجرد التفكير في أن فيسبادن هي وجهتها التالية كفيلاً ببعث القشعريرة في جسدها، كأنها الضحية التالية الباحثة عن خاكوبو، وخلد الماء كي ينقذاها.
بفستان ملون قصير، وحذاء بكعب عال مدبب، سارت فوق الأرضية اللامعة للمطار.
خطواتها تدعي الطمانينة، وتخلف رنينًاً مزعجاً، بينما تفكر هي حائرة في أقصر الطرق للوصول إلى فيسبادن.
انتهت إلى أنها دخلت دهيلزًا خرجت منه إلى مفترق مجموعة من الممرات المعدنية المتقاطعة. لم تعرف كيف وصلت إلى هذه النقطة رغم اتباعها علامات إرشادية كان من المفترض أن تقودها إلى محطة القطارات المتصلة بالمطار لنقل الخارجين إلى المدن الراغبين في الذهاب إليها.
وحدها في غابة الممرات تلك. وقع خطواتها على الأرضية المعدنية بات لا يحتمل، ودقات قلبها أخذت تتسارع، ولا من شخص آخر في هذا الفراغ.
ثم تتلاشت محطة القطارات، ومعها المطار برواده المسرعين، وبقيت بمفردها تفكر في أنها محتجزة في اللامكان، واصلت سيرها بشكل عشوائي إلى أن فوجئت بنفسها في عمق مخزن عتيق، شبه معتم، ومزدحم بالخردة والروبابيكيا وصلها صوت إطلاق نار ورائحة حريق، كان العالم بأسره يتفحم ويحترق في الخارج.
أبصرت باباَ حديدياً يكسوه الصدأ، دفعته فانفتح متأرجحا. خرجت فإذا في مدينتها الأم وقد تحولت إلى فخ هائل يلونه دخان أبيض كثيف.
الشوارع اكتظت برجال الشرطة والأمن المركزي.
حواجز أمنية أغلقت المداخل، ومدرعات طوقت كل شبر، على مقربة سارت خمسينية بدينة بملابس سوداء، تحمل كيسًاً به خضر وفاكهة وأرغفة خبز طازج، كأن الحياة على وتيرتها المعتادة. نظرت بتجهم إلى {كوردون} جنود الأمن المركزى وهمهمت قبل أن ترفع صوتها بغضب: {هي حر، ولا كانت حرب؟!}
وأوصلت المرأة طريقها معتبرة أنها أدت حصتها من الاحتجاج، وتجاهلوها هم في ترقبهم الحذر خلف الدروع مدججين بأسلحتهم.
أصوات صراخ وضجيج كانت تأتي من بعيد، المدينة كلها، أضحت ضباباً كريه الرائحة، وهي أشاحت بعيدًا عن المرأة البدينة، وحرصت على عدم النظر في أعين الجنود والضباط.
ركضت فاتسع العالم وانهارت حوائط قديمة، كأنها بطلة في لعبة كمبيوتر، راحت ترتقي من مرحلة للتي تليها، ومع كل خطوة للأعلى تزداد الخطورة. تجاوزت حاجزًا أمنيًا فواجهها حاجز أصعب. تسللت من شارع جانبي إلى آخر أكثر جانبية بحثًاً عن منفذ إلى قلب الأحداث، لكن زخة من رصاص كثيف أجبرتها على الاختباء في مدخل إحدى البنايات.
في هذه اللحظات لم تكن ترتدي فستانها الملون القصير، ولا حذاءها الكعب العالي والرنين المزعج، إنما سروال جينز ضيق، سترة جلدية بنية اللون، حذاء رياضي، وكوفية حول رقبتها. المطار والمتاهة المعدنية صارا جزءا من واقع آخر مراوغ.
خطر ببالها اسم المدينة الألمانية فهزت رأسها بفتور فيما تتأمل المكان حولها {لست في قصة كورتاثر، بل في الحياة الواقعية} فكرت.
لم يكن ثمة شوارع خالية، ولا صمت مخيم ولا ليل ماطر، بل رقعة تتعمد بالدم وتشتعل تحت قصف جنوني، صارت المدينة بأكملها دائرة حمراء، تعج بأناس يهتفون بغضب، يحاصرها رجال عنيفون بأزياء رسمية داكنة.
لم تعد وحدها، هي الآن ضمن حشد كبير، نقطة في نهر، حبة رمل في صحراء شاسعة ومع هذا تشعر بفرديتها على نحو مكثف يجتمع الحشد في الشوارع ويتفرق تحت ضغط الهجوم عليه، ثم يعاود الالتحام.
عادت من جديد، طفلة بعينين متسائلتين. وشعر بني طويل تتسلق حافية القدمين، تلاً رملياً ذات ظهيرة حارقة، تدوس الرمل الملتهب بفعل الشمس، فيلسعها. ترفع إحدى قدميها بالتبادل مع الأخرى. للتخفيف عن حدة اللسع بلا فائدة.
حقل شاسع من الرمال الساخنة كان عليها اجتيازه، بعدما فقدت حذاءها وهي تركض خوفًا من كلب ضال طاردها قليلاً حذاءها وهي تركض خوفاً من كلب ضال طاردها قليلاً ثم عاد أدراجه مكتفياً برؤيتها تخلف الحذاء وراءها.
فوق التل جلست لترتاح وذهنها خال إلا من الألم المتسلل إليها من سخونة الرمال. لم يشغلها وقتذاك ماذا ستقول لأمها، ولا المدى الذي قطعته بعيدًاً عن بيتهم. تمددت وأغمضت عينيها مستحضرة النيل القريب وقت انحساره شتاءً تخيلت نفسها نقطة في مائه أو حبة من رمال التل منسجمة مع محيطها ومتوجدة به.
تماهت مع لحظتها تلك ولم تعد تشعر بأي شيء آخر وجدها أهلها، لاحقًاً بعد بحث مرهق، فاقدة الوعي ومصابة بضربة شمس. خافوا عليها. وظنوها في حالة خطرة، مع أنها حافظت على ابتسامة هادئة حتى وهي نائمة غير قادرة على الحراك.
بعد سنوات عديدة ها هي الآن، تراوغ الموت المتجول على مقربة منها. تسعل وتبكي، رغماً عنها، لكنها لا تكف عن الهتاف. طنين عجيب يرن في رأسها، كأن صدى هتافات العالم أجمع عبر تاريخه كله يحيط بها.
لم تعد تتذكر شيئًا عن خاكوبو أو خلد الماء أو ليل فيسبادن الماطر.
تكثف الضباب الأبيض ليغطي الأفق، كان ثمة رائحة حريق تلتصق بجزيئات الهواء، عربات مجنونة تدهس العشرات، وشظايا مطاطية تخترق الأجساد.
خرجت من مدخل البناية إلى ممر ضيق بين شارعين، كادت تتعثر في فوارغ قنابل الغاز، تجاهلت وجع ساقها وخطت بتثاقل.
جرت ساقها التي تحولت إلى عبء يثقل عليها، وواصلت سيرها، معظم المحال مغلقة، والبنايات أو صدت بواباتها بإحكام على قاطنيها. بعضهم شرع يتلصص بفضول قلق. من الشرفات أو عبر النوافذ المواربة. على ما يجري بالخارج.
والبعض الآخر حاول المساعدة بإلقاء زجاجات مياه أو أى شئ يحسبه مفيدًا لمن بالأسفل، أما الباقون فاعتصموا بالداخل كأنه رحم حنون يفيهم أهوالاً هائلة.
استمرت في الخطو فوق أرصفة متكسرة عيناها تؤلمانها، وقدماها لا تكاد أن تحملانها. قابلتها جموع تعدو، التصقت بباب حديدي قريب، فاكتشفت أنه غير مغلق.
دلفت إلى الداخل لتتعرف على المخزن المهجور بظلمته الخفيفة، بحثت بعينيها يائسة عن مساحة تستريح فيها. في النهاية تمددت على ظهرها فوق الأرضية وأخذت تحدق في الظلام ساهمة قبل أن تغمض عينيها وتغرق في ليل ماطر لمدينة باردة.
جاءها أزير الرصاص بالخارج كموسيقى تصويرية تؤطر العالم من حولها. رأت نفسها تسير تحت مطر خفيف في مدينة غريبة مع شخص لا تعرفه وإن بدا كـ {خاكوبو} كما تخيلته. كانت جميله كما لم تكن من قبل، جميلة كفكرتها عن الجمال.
مرت أمامها مشاهد متعددة من يومها الصاخب. شعرت أن خطوات ذات رنين معدني تتبعهما، استدارت فلم تجد إلا الفراغ، الرصيف المبتل بماء المطر انعكست عليه إضاءة المصابيح فامتد براقا.
مارس 2012
القصة المشار إليها هي {لقاء فى دائرة حمراء} والتي استلهمها كورتاثر من لوحة بالعنوان نفسه
(تعرف أيضاً بدائرة المجانين) للفنان الفنزويلي خاكوبو بورخيس!
الآن سيكون الأمر مختلفاً عن شئت .. من الآن سنكون اثنين نحضر في ليالي المطر، ربما هكذا يحالفنا الحظ وإلا سنكون مجرد اثنين فى ليالى المطر.
خوليو كورتاثر
**************
(لقاء فى دائرة حمراء)
* * *
* مكاوي سعيد:
الأرواح الهائمة
عندما عاد عم أحمد لطفي من مقر جريدته " الأهرام إبدو " إلى بيته، كانت الساعة الثانية ظهرًا، وكان اليوم هو يوم 25 يناير، والميدان شبه محاصر بالجنود من مداخله كافة، وكانت أعداد المتظاهرين مازالت قليلة ..
كانت حركة عم أحمد بطيئة وهو يصعد درجات السلم القليلة حتى باب شقته الكبيرة، في العمارة الضخمة المشرفة على التحرير، ومن شرفة غرفة مكتبه بالدور الأرضي بدأ يتابع ما يجري، كانت الجنود تستعرض قوتها أمام المتظاهرين، ويتابعهم مدير أمن العاصمة وهو جالس على كرسيه، وجواره يجلس رئيس تحرير جريدة معارضة يتأمل المتظاهرين بابتسامة، وسرعان ما توالت الأحداث، وامتلأ الميدان بأصوات الاشتباكات، وقنابل الدخان والقنابل المسيلة للدموع، التي طاردت عم أحمد في كل أرجاء الشقة ذات الغرف السبع ..
وكلما أوصد باب غرفة عليه، كانت الغازات تتسلل من شقوق الشيش وثقوب المزاليج وعقب الباب، وقد أجهدت هذه الغازات رئته العليلة، فبدأ يسعل بشدة، وسالت دموع عينيه .. ثم قرر قرارًا جريئًا بإغلاق كل منافذ الشقة، والذهاب إلى إحدى بناته المتزوجات ليبيت عندها هذه الليلة التي لا تبشر بخير .. وكان هذا القرار قرارًا خاطئاً جدًا، فرغم أن عم أحمد يسكن بهذا المكان المتميز منذ أكثر من ستين عامًا، وشهد أغلب ما مرّ على هذا الميدان التاريخي من أحداث، لكن هذه المرة خانه التوقيت، فبمجرد خروجه من مدخل البيت إلى الميدان، وجد المعارك محتدمة وجنود الأمن المركزي يطاردون الناس بحماس غبي ويضربونهم بقسوة ووحشية، ولم يستطع أن يلمح ممرًا آمناً يسمح له بالخروج من الميدان، تراجع عم أحمد كل المسافة القليلة التي مشاها من بهو بيته، وارتكن منكمشًا إلى جدار الممر الطويل المؤدي إلى بيته، بنيته النحيلة وسنه المتقدمة لم يحميانه من التدافع المجنون للجماهير الباحثة عن منفذ نجاة، كاد يقع من تيار هوائهم الذي يمر به وهم يجرون بسرعات هائلة، ويرونه بالكاد فيتجنبون الأصطدام به، والكمامة الطبية التي وضعها على أنفه وحرص على النزول بها، لم تستطع منع الرائحة النفاذة كلها وسمحت لبعضها بالتسرب إليه فهيجت صدره، والغاز أيضًا كان يسقط على زجاج نظارته من الداخل ويرتد إلى عينيه فيزيده ألمًا، أدرك عم أحمد في تلك اللحظات معنى ألا تفكر فى أي غد أو مستقبل، وأن تنتظر، فقط تنتظر، ما فطرنا عليه منذ ميلادنا، الغياب الأبدي، لكن عضلات قوية رأفت به، وحملته بسرعة إلى داخل الممر، دفن عم أحمد رأسه في صدر حامله، بعدما أشار إلى بهو بيته، دخل به الرجل البهو وصعد به الدرج، أطمأن عم أحمد عندما لمح باب شقته، أنزله الرجل وربت على كتفه وهم بالمغادرة، أمسك أحمد بيده وهو يفتح الباب وطلب منه الدخول، وانتبه عندما وجد خلفه بعض الهاربين من الاشتباك، كانوا يصعدون مثله على نفس الدرج، وكانوا ينظرون إليه بعيون متوسلة كأنهم ينتظرون دعوته، ورغم أن الخوف كان يملأهم إلا أن الخجل أيضًا تمكن منهم، فهم في وضع الاستعداد للصعود حتى أعلى البناية، هربًا من مصير مفجع، كانوا رجالا وصبية وسيدات، بصعوبة فتح لهم عم أحمد الباب على مصراعيه، فدخلوا وأغلقوه خلفهم، جلسوا منكمشين في الصالة الكبيرة، وهو غير قادر حتى على دعوتهم للتحرك بحرية في الشقة، غير قادر حتى على الإشارة إلى مكان الحمام والمطبخ لمن أراد أن يشرب شيئًا باردًا أو ساخنًا، لكن الرجل الذى كان بمثابة ملاكه الحارس منذ أن التقطه من الميدان، هذا الرجل هو الذى بادر بدعوة الجميع للتجول بالشقة كأنها شقتهم، وأمّن عم أحمد على كلامه بمجرد إيماءة، وتحركت أم مع طفلتها التي كانت قد نامت من عنف البكاء متجهة نحو الحمام الذي لمحت بابه مواربًا، وقام الرجل ثم انحنى ووضع كفيه تحت إبطي عم احمد ليساعده على النهوض، واستجاب له عم أحمد وهو يومئ بوهن تجاه غرفة نومه، غسل له الرجل وجهه ورأسه ومسحهما بعناية ممرض محترف، وانتظره عم أحمد خارج الحمام قليلاً حتى اغتسل هو الآخر ثم همس له أحمد وهما خارجان بأن يقدم للموجودين بعض الطعام والمشروبات، فبعضهم ظل لابدًا بكرسيه ومرجًا من التوغل في الشقة، كان صوت قنابل الغاز والطلقات مازال مسموعًا، لكن دقات حادة على خشب الباب أزعجت الجميع، هم الرجل بالاتحاد نحو الباب لكن عم أحمد ضغط على يده، فهم الرجل أن من الأفضل أن يفتح عم أحمد الباب نفسه، أمسك بيد عم أحمد واتجه إلى الباب، كان نبض اليد سريعًا وباطن الكف يتعرق، عندما فتح الرجل شُراعة الباب ليتعرف عم أحمد على القادم، ظهر وجه شاحب لجندي أمن مركزي، زاد توتر عم أحمد و الرجل يفتح الباب بحذر ويتراجع ليقف خلفة، حاجبا بجسدة الضخم رؤية ما بداخل الشقة، كان الجندى يتكلم بصوت خفيض وبنبرات مهتزة، ويده ممسكة بفتاة نحيلة تبدو على وشك الدخول فى غيبوبة قصيرة، بدا صوت الجندي وكأنة بتوسل وخوف يدفع برفق الفتاة تجاه عم أحمد و يقول: والنبى يا عم تدخل البنت دي عندك .. وتحافظ عليها كأنها بنتك .. الغاز كان حيموتها، أخذ الرجل البنت إلى الداخل وعم أحمد ظل يتابع الجندي وهو ينزل الدرج، تلقى عم أحمد نظرة امتنان جميلة من الجندي قبل أن يختفي جسده ثم وجهه، ولما استدار إلى غرف شقته وصالتها، كانت سيدة من المجودين قد غسلت وجه البنت بالبيبسى، وأخرى تدعك جبينها وتحاول أن تسقيها شايا دافئًا، وكان الرجل لقد انتبة إلى عم أحمد فهرع يساعدة، تناول عم أحمد دواءة ورقد على سريره فتركه الرجل ينام بعد ان أحكم تغطيته وخرج إلى الصالة، كانت الأصوات قد بدت تخفت، وثمة قطرات مياه على زجاج الغرفة تنتشر ببطء، ابتسم عم أحمد في رقدته وأحس بأن الله في جانب المتظاهرين، لأن نزول المطر في تلك اللحظات سيبدد الدخان، وبدأ بالفعل لا يحس بتأثيره، أو هكذا خيل إليه، قد تكون مرت ساعة أو ساعتان أو ثلاث، وصحا عم أحمد على لمسات الكف الضخمة التى تربت كتفه، أخبره الرجل بأن الأمور قد هدأت وأن الموجودين يرغبون في شكره والرحيل، طلب عم أحمد من الرجل أن يتقبل شكرهم نيابة عنه، وأن يحرص على خروجهم فرادى حتى لا يحتك بهم رجال الأمن.
كانت هناك أصوات خافتة تأتي إليه - وهو يدخل حمام غرفته - من الصالة، ويبدو أصوات الخارجين، وكان عم أحمد قد قرر أيضًا أن ينزل من شقته ويذهب ليبيت عند ابنته وأولادها في الدقي، فربما تزيد سخونة الأحداث ليلاً ولا يجد أحدًا بجواره يعتني به، ولما سمع صوت باب شقته وهو يغلق أثناء ارتدائه قميصه، وضع أدويته في حقيبته الصغيرة التي يعلقها على كتفه وهم بالخروج من غرفته، لكنه فوجئ بنفس الرجل مازال موجودًا بالمكان وينظر إليه بدهشة وهو يسأله بصوت رقيق: إنت خارج يا عم أحمد في الظروف دى؟ أخبره أحمد بصوته الخفيض عن السبب، تعاون معه الرجل فى إغلاق جميع منافذ الشقة والتأمين على مصادر المياه والغاز والكهرباء، وعلى إغلاق بابها بقفليه الداخلي والخارجي، وساعده في الخروج الآمن من المنزل، وصاحبه بين رجال الأمن المركزى المدججين بالسلاح والمستنفرين حتى أوقف له " تاكسي "، مد له عم أحمد يده الواهنة من نافذة السيارة ليودعه، لكن الرجل فاجأه بتقبيلها بسرعة وغادر المكان مهرولا، ولم يره أحمد بعدها إطلاقًا.
ثم تصاعدت الأحداث بعدها وأصبحت الليلة .. ليلتين ثم ليالي، وعم أحمد ذو الـ 76 عامل من العمر على كثرة ما شاهد من أحداث في ميدان التحرير، كان قلقًا ومنزعجًا حتى وهو بين ابنته وأحفاده بعيدًا جدًا عن الميدان .. حتى تلقى مكالمة من أحد الجيران بأن الثوار اعتلوا محل الحقائب أسفل شرفته ودخلوا الشقة ثم فتحوا الباب وأقاموا بها ..
في الصباح الباكر اتصل عم أحمد بأحد أصدقائه وذهبو لتفقد الشقة .. كانت فعلاً محتلة من الثوار .. يفترشون أرضيات الغرف، وبعضهم ينام في الممرات، وحمام الشقة الكبير جعلوه دورة مياه عمومية للسيدات المقيمات بالميدان .. كان عم أحمد غاضبًا وصديقه يتأهب للشجار .. لكن قابلته وجوه باسمة وديعة .. اعتذرت له بلطف ..
واستأذنوه دقائق لجمع حقائبهم، وانهمك بعضهم في كنس الشقة وتنظيفها بهمة كبيرة .. تفقد عم أحمد الشقة بأكملها .. " دواليبها " وجدرانها .. أسرتها وكراسيها .. لوحاته المعلقة .. ألبومات صوره .. تحفه الصغيرة المزينة للأركان .. فلم يجد شيئًا مفقودًا أو مهشمًا .. وعند تفقده لدرج مكتبه وجد نقوده كما تركها وبنفس لفتها وكانت أكثر من ثلاثة آلاف جنيه، طلب منهم عم أحمد أن يبقوا في الشقة ونزل هو وصديقه للتسوق .. عادا بكميات كبيرة من الأطعمة والعصائر ملأوا بها الثلاجة الكبيرة و " الديب فريزر " و الثلاجة الصغيرة التى بغرفة نومه ..
أقام معهم عم أحمد طيلة العشرة أيام العصيبة التالية .. يشاركهم طعامهم وشربهم وينام بغرفته التي أصروا على أن لا يشاركه فيها أحد منهم ..
عرفوا مواعيد دوائه ونومه وذهابه إلى عمله واهتموا بتنبيه عليها، أحس بينهم بطمأنينة وأمن لم يحس بهما إطلاقا وهو بعيد عن الميدان، وعقب تنحي مبارك استيقظ فوجد الشقة نظيفة ومرتبة وورقة بيضاء كبيرة معلقة لشكره ومدون بها أسماؤهم الأولى .. ولم يجد أحدًا منهم في الشقة، لكن أرواحهم جميعًا كانت تهيمن على المكان.
الأهرام 25 يناير 2013
* * *
* هدى المشالي:
مولد ثائر
فتح عينيه بصعوبة، ونظر إلى السقف فوجد دائة ضوئية كبيرة تشع ضوءًا قويًا وكأنها قرص الشمس.
أغمض عينيه في انزعاج من شدة الضوء، ثم عاود النظر حوله فوجد أشباحًا ترتدي ملابس بيضاء. شعر بدوار خفيف ورؤية ضبابية لما حلوه.
حاول رفع رأسه، ولكنه فشل وشعر بأن رأسه قد علق به ثقل كبير، قيده استرخاه حاد في جميع أعضائه منعه من الحركة، سمع صوت خطوات متزنة تقترب منه، نظر إلى مصدر الصوت فوجده لأحد الأشباح الموجودة بالغرفة، اقترب الشبح منه وأمسك بيده، وأخذ ينظر إلى ساعة يده ثم همس له: حمدًا لله على سلامتك .. حدق فيه جيدا وتذكر أنه الطبيب الذي أجرى له عملية استخراج الرصاصة، نعم الرصاصة التي أصابته، لقد بدأ بالفعل استرجاع ما حدث وكأنه شريط سينمائي يمر أمام عينيه، نظر إلى السقف وداعبت الأنوار عينيه وكأنها أنارت مصباح الذاكرة، شرد في خيوط الضوء التي تنبعت، لم يكن يريد أن يتحدث أو يفكر أو يبدى أيه ردة فعل، الصمت حرز الحيران، والصمت حديث الملائكة، أخذ التشويش يزداده فى خاطره، وصارت جنادب من أصوات لا يميزها تداعب خبايا ذهنه.
لم يكن سكوتًا ولا تشويشًا كاملاً. كان شبيهًا بكل هذه المسميات وليس شيئًا واحدًا بالتحديد! هاجمته رغبة قوية في الصراخ عندما تذكر الألم الذي شعر به أثناء دخول الرصاصة إلى جسده. كانت لحظة قاسية قصيرة ولكنها استقرت في أعماق نفسه لتترك وراءها ذكرى أليمة لأحداث ما كان يعتقد أنها سوف تمر به. كيف حدث هذا؟ كيف اختطفته هذه الجموع الغفيرة من الناس؟ كيف قادته خطواته إلى هذا المنعطف الجديد المثير؟ لقد نزل من بيته في طريقه إلى عمله، وهو مدرس ابتدائي منغلق على نفسه إلى حد ما، تسير حياته بشكل روتينى من المدرسة إلى الدروس الخصوصية في منزله، إلى صديقه وزميله في المدرسة مصطفى وجاره الرجل العجوز العم صادق الذي يضعه دائمًا في جدوله اليومي يزوره يوميًا ويأنس لكلامه ويستريح عندما يبوح له بما يجول في خاطره، ولكن هذا اليوم كان مختلفًا، ألأعداد كبيرة من الناس تملأ شارع المدرسة بل والشوارع المجاورة، وقف برهة ينظر إلى هذه الجموع في تعجب: إن هذه الجموع تضم كل فئات المجتمع، التفت إلى طريقه وتابع سيره، لكن فجأة شعر بيد قوية على كتفه تمسكه بقوة وتوقفه، ابتسم عندما رآه وقال: لقد أفزعتنى يا مصطفى.
ضحك صديقه بصوت عال قائلا: إلى أين أيها المعلم الفاضل؟ نظر إليه بدهشة وقال بالطبع إلى المدرسة، ولكن أمسك مصطفى بيده وسار في وسط الناس وهو يقول: ألم تشارك فيما حدث؟ قال: وهل ستغير مشاركتي مجريات الأحداث؟ أتركني أذهب إلى عملى أفيد، رد صديقه عليه: لتذهب معي لتعرف وتشاهد وفي النهاية القرار لك، وسار الصديقان إلى الميدان الفسيح في وسط هتافات الناس التي تعلو شيئًا فشيئا حتى أصبحت مرتفعة وقوية جدا، وكأنها تملأ الكون بأكمله شعر برجفة في قلبه وهو يسمع هذه الأصوات الهاتفة، واجتذبه منظر ولد صغير يهتف بقوة وهو ممتط كتف والده، وعندما رآه الولد وهو ينظر إليه لوح له مع ابتسامة بريئة، وفي وسط الزحام الشديد، وجد الكل يفسح طريقًا لكرسي متحرك تجلس عليه سيدة مسنة، ويقود الكرسي من الخلف ابنتها، وبالرغم من مرض هذه السيدة المسنة إلا إنها كانت تهتف بصوت قوي عريض وكأنما لمستها روائح الصبا، وأخذت الجموع في ازدياد مستمر، حتى أنه شعر بأنفاس الثوار الساخنة تدفئ جسده النحيف، تدافعت الجموع في ثورة حماسية خلف ثائر كان يهتف والكل يردد هتافه. اندفع مع من اندفع، لكنه وقع على ركبتيه من شدة التدافع. والغريب أنه وجد أجساد هؤلاء الناس تتلصق به وتساعده على النهوض رغم تدافعم، ووجد نفسه يسير محشورا في وسط هذه الجموع التي ساقته في اتجاهها. شعر باطمئنان شديد جعله لا يقاوم أو يحاول الخروج ليعود إلى الطريق الذى رسمه لنفسه دائما، الطريق الآمن البعيد كل البعد عن المخاطر وشعر بقوة تملأ كيانه، قوة قد استمدها من شرارة الحماس التي تملأ قلوب وكلمات هؤلاء الجموع.
مضى وقت طويل وهو يقف مع من يقف، يسمع مرة ويتكلم مرة حتى شعر أنه لبنة من هذا الكيان البشري المتجمع الذي يشبه البنيان المتماسك، لقد ارتبط بمن حوله برابطة قوية، ووجد الكل يجتمع على كلمة واحدة. الكل أتى من أجل هدم جسور الظلم والطغيان، ليعيش الجميع في كرامة وحرية، ولعلاج هذا الوطن من بثور الفساد المتقيح. أحس بشعور خفي يتسلل إلى أعماقه، يوقظ ذلك المارد الثائر الذي طالما حاول إخماده وفجأه .. وجد من حوله يسرع لإنقاذ المصابين من جراء الاعتداء عليهم لردعهم وإخماد نار الثورة في قلوبهم، لكن تجمع الكل في شكل بركان ثائر لإبعاد المعتدين وحماية المصابين، ووجد صديقه المعروف عنه هدوء الطبع يثور ويهتف بصوت أشبه بالصراخ، ويتقدم مع فلول الشباب الثائر، علت الطلقات النارية وأصبح صوتها يثير الزعر والصراخ. جرى مسرعًا صوب صديقه لإبعاده عن أى خطر، لكنه وجده يرمح في اتجاه المعتدين وكأنه أسرع حصان على وجه الكرة الأرضية، إلا أن يد الغدر كانت الأقرب إلى صديقه، جرى مسرعًا إليه، احتضنه ووضع رأسه بين كفيه، انهمرت الدموع من عينيه لتلهب شواطئ شفتيه، نظر مصطفى إلى صديقه نظرة دامعة وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة بصعوبة متكتمًا أناته بين الضلوع، وأعضاه العلم الصغير الذي كان يحمله، وشدد على يده وكأنه يسلمه شعله الجهاد والثورة، اندفع بعفوية وحماس ليكمل ما بدأه صديقه، أخذ يجري وهو قابض على العلم والدموع تملأ عينيه ويكاد لا يرى أمامه إلى أن أصابته الرصاصات الملوثة ليقع في بركة من الدماء، شعر باهتزاز الأشياء ودوارنها من حوله، وألهبته سخونة الأرض وكأنها كانت هي الأخرى ساخنة وسيقان تتخطى جسده مسرعة وكأنه وقع في غابة من السيقان، حتى غاب عن الوعي تماما ...
ثم سمع صوت العم صادق جاره الذى أعاده من رحلة ذكرياته الشارده قائلأ: حمد لله على سلامتك يابنى، ثم ربت على يده فى حنان.
كان قد استطاع أن يحرك يده ويتكلم ولكن بصوت خفيض، نظر إلى العم صادق وهو يمسك بيده وقال: إن لحظة صادقة فى حياة الإنسان قادرة على تغييره وولادته من جديد، ولقد ولدت من رحم الأحداث ثائرًا ولكني لن أكون إلا الثائر الحق.
25 يناير 2013
* * *
* روبين داريو:
ملك برجوازي
السماء مكفهرة والهواء ثائر، والنهار حزين، فتعال معي ياصاحبي نستروح طرائف هذه القصه علها تنسينا بواعث تلك الكآبة القلقة.
كان في مدينة عظيمة شهيرة ملك قوي قادر يملك ثيابًا غالية عجيبة، وجواري عاريات، بيضاوات وسوداوات، وأسلحة براقة، وكلابًا سلوقية سريعة العدو، وقناصين ذوى أبواق نحاسية تملأ الفضاء بدويها.
أكان هذا الملك شاعرًا؟
لا يا صديقى: كان ملكا برجوازيًا!
كان العاهل مغرمًا بالفنون، يغدق على أهل الطرب، والمداحين والرسامين والنحاتين والصيادلة والجحامين ومعلمي السيافة.
وعندما يذهب إلى الغابة يأمر الفحول من بلغائه أن يرتجلوا القصائد في تمجيده وهو إلى جانب ظبي دام، أو خنزير جبلي جريح، بينما يسكب السقاة في الأقداح نبيذًا ذهبيًا فوارًا وتصفق القيان راقصات .... وإذا ضجر من المدينة الهادرة فذهب إلى الصيد، ضاقت الغابة بالعجيج والضجيج من مواكبه، وخرجت الطيور مذعورة من أعشاشها، وتردد صدى الحلبة فى أعماق الكهوف، وحطمت الكلاب في عدوها العوسج بأرجلها المرنة وانحنى القناصون على رقاب الخليل، وجوههم ملتهبة، وشعرهم مرسل للريح.
وكان للملك قصر فاخر، ادخر فيه أموالاً طائلة وتحفًا عجيبة، يصل إليه خلال أحواض من الزئبق، وبرك واسعة وخدم وحاشية قد طأطأت اعناقهم تأدبًا ..
وكان يصعد إليه في سلالم تحفها أعمدة رخامية ناصعة البياض، وأخرى مرصعة بالزمرد على جانبيها أسود من مرمر. وتحيط بالقصر حديقة غناء، يذهب إليها ليشرح صدره، متصفحًا قصة جميلة أو يقرأ في كتاب عن النحو أو النقد الخفيف أو يتحدث إلى من حوله مدافعًا بكل قواه عن المجمع اللغوي وآرائه عن صحة الألفاظ وسلامة اللغة ونقاء الأسلوب في الفن الأدبي. إن له نفسًا رفيعة تحب الصفاء والتزام قواعد الإملاء.
وثمة تحف صينية ويابانية للزينة فحسب وحيوانات نحاسية متخيلة، فواغر الأفواه، ملتوية الأذناب، في مجموعات هائلة عجيبة، وأشجار مبتدعة من خشب اللك، تزينها اوراق وأغصان وأزهار وحيوانات من فصائل مجهولة، وفراشات على الجدار غريبة الأجنحة، وأسماك وديوك ملونة، ومساخر جهنمية التعبير، ذات عيون حية وسيوف نصالها عتاق، وقوائمها حيوانات خيالية تأكل نوار اللوتس وأصونة دقيقة فيها خلل من سندس رقيق كأنها نسجت من خيوط العنكبوت، وأباريق من قيشاني شرقي عريق، عليها رسوم لجنود من تتار يرتدون جلودًا سابغة، وفي أيديهم قسى متحفزة، وعلى ظهورهم هم جعاب مليئة بالسهام.
وثمة قاعة إريقية حافلة بتماثيل المرمر من الآلهه وربات الفنون وعرائس البحر والرعاة، وأخرى من العصر الرومانسي فيها لوحات لفاتو العظيم وشردين وثانية وثالثة ورابعة، فكم من القاعات يملك!
وكان العاهل يطوف بكل ذلك، ووجهه يفيض بشرًا، وكرشه يهتز في سعادة وعلى رأسه كما لو كان واحدَا من ملوك {الورق} الأربعة!
وذات يوم جيء له في قاعة العرش بصنف غريب من الناس، والحاشية تحف به، وأساتذة البلاغة والسيافة والرقص من حوله. وسأل الملك:
- ترى ما هذا؟
- إنه شاعر يا سيدي
كان الملك يملك أسرابًا من الإوز يسبح في البرك، وأخرى من الكناري والكراون تغرد في الحديقة، أما الشاعر فكان شيئًا جديدًا غريبًا.
- دعوه هنا
وقال الشاعر:
- سيدي أنا لم آكل بعد.
ورد الملك:
- تكلم، وستأكل.
وابتدأ الشاعر:
- سيدي من زمن وأنا أغني أناشيد المستقبل، ولدت في السحر، ونشرى جناحي في العاصمه، وأبحث عن الإنسان المختار، الذي يجب أن ينتظر بزوغ الشمس العظمى، الأناشيد في فمه والمعزف بين يديه، هجرت إلهام المدينة الوخيمة والمخدع الناضح بالعطور، وربات الشعر من البشر تملأ النفس ضآلة والوجوه غبارًا، حطمت قيثارتي المنافقة ذات الأوتار الخانعة، على أكواب بوهيميا وأباريق يفيض فيها نبيذ مسكر، ورميت الحلة التي جعلتني شبيهًا بالمهرج .. ولبست أردية وحشية خشنة ذهبت إلى الغابة، وعشت هناك، فتقويت من الحليب المغذي، ومن نبيذ الحياة الجديدة، ورحلت إلى سواحل البحر الصخيرة، وهززت راسي في العاصمة القوية السوداء كأنني ملاك أو إله أوليمبي.
حنوت على الطبيعة العظيمة، وفتشت عن حرارة المثل العليا، وعن شعر يوجد في كوكب في أعماق السماء وفي لؤلؤة في قاع المحيط، أردت أن اكون قويًا فلقد أزفت ساعة الثورات العظيمة كأنها المسيح كله نور، وكله حركه وقوة، فلنستقبل روحها بقصيدة تكون لها قوس نصر أبياتها من فولاذ ومن ذهب ومن حب!
سيدي! الفن لا يوجد في تمثال بارد من مرمر، ولا في اللوحات الزاهية، كلا ولا في السيد أونيت العظيم، الفن ياسيدي لا يلبس {بنطلونا} وليس كلامه برجوازيًا، ولا يضع النقط على كل الحروف، إنه جليل، قد يرتدي حللا من ذهب أو لهب أو يمشي عاريًا، يعجن ألوانه بالعرق، ويرسم موضوعاته بالنور، وهو عريض الثراء يضرب بأجنحته كالنسر، أو ببراثنه كالأسد.
يا لضيعة الشعر!
كيف تبتذل القوافي فتتغنى بخال امرأة، ويسف الشعر فيصبح نفاقًا أجوف، وينقد الإسكافي قصائدي، ويجرؤ أستاذ الصيدلة فيضع نقطًا وفواصل لإلهامي، وتسمح لهم أنت بكل ذلك يا سيدي!
المثل الأعلى .. المثل الأعلى!
وقاطعه الملك:
- سمعت، فما العمل؟
أجاب وتفلسف: إذا سمحت له ياسيدي يمكن أن يربح شيئًا يسد رمقه، نعطيه صندوقًا موسيقيًا وتضعه في الحديقة إلى جانب الغوز، فتنعم برؤيته في سويعات نزهتك.
والتفت الملك إلى الشاعر: نعم، وستأخذ هذا الصندوق، وتغلق فاك، وتدير يده، فيعزف انواعًا مختلفة من الموسيقى الراقصة، هذا إن لم تفضل أن تموت جوعًا، كل فاصل موسيقي بقطعة خبز، لا شيء من الكلام الفارغ أو من المثل العليا تعال .....
ومن ذلك اليوم، كان الشاعر الجوعان يرى على حافة بركة الإوز، يحرك يد الصندوق خجلاً من التفاتات الشمس الكبيرة، وكلما مر به الملك، او أحب أن يملأ معدته، ازداد صوت الألة رنينًا، يصنع ذلك أمام سخرية العصافير الحرة جاءت تمتص الندى من الزنابق المزدهرة، ومن حوله يئز النخل، فليسع وجهه، وتمتلئ عيناه دموعًا .. دموعًا مرة تتدحرج على خديه، ثم تستلقى على الأرض السمراء!
وأتى الشتاء، فأحس المسكين برودة في جسده وفي روحه، تجمد فكره، وتنوسيت أناشيده العظيمة، ولم يعد شاعر الجبل المتوج بالنسور ... لم يعد غير مسكين فقير، يحرك يد صندوق الموسيقى ...
وعندما تساقط الثلج نسيه الملك ورعاياه وتركه للزمهرير يعض لحمه ويجلد وجهه ألقى على العصافير أردية تقيها.
وذات ليلة، تساقط ثلج متبلور، وفي القصر وليمة وأنوار الثرايات تضحك مبتهجة فوق المرمر والذهب وحلل القادة الصينيين المرسوة على القيشاني العتيق، وصفق الندامى في طرب مجنون: {فى صحة السيد أستاذ البلاغة! ... } وتعالت قهقهات ثملة هاذية بأوزان الشعر بينما الشمبانيا تفور في الأقداح البلورية، وتزيد في رغوة مضيئة عجلة، يا لها من ليلة شتاء ... ليلة أعياد.
وكان ذلك البائس المغطى بالثلج إلى جانب بركة الإوز يرتعد متجمدًا من البرد، صريع الزمهرير، يحرك يد الصندوق ليستدفئ في الليلة المظلمة، فيتردد صدى تلك الموسيقى المجنونة بين الأشجار العارية، ومات وهو يفكر: إن الشمس ستشرق غدًا، ومعها المثل الأعلى، وإن الفن لا يلبس {بنطلونا} بل حلة من لهيب مذهب!
وفي اليوم التالي جاء الملك وصحبه فوجدوا الشاعر المسكين كعصفور قتله الثلج، على شفته ابتسامة مره ويده لما تنزل متشبثة بمحرك الصندوق .. !
آه ياصديقى!
السماء مكفهرة، والهواء ثائر، والنهار حزين، وكآبة باهته تطوف بالأفق. ولكن، كم يدفئ أرواحنا - في هذا الوجود الكئيب - جملة طيبة، مع مصافخة حارة من يد صديق:
إلى اللقاء
{قصة إسبانية - من أمريكا اللاتينية}
* * *
* خورخي كامبوس
الغريق
خبط وصاح، ثم تحرك وذرع بيديه، شعر بنفسه يغوص ثلاث مرات، ويطفو ثلاث مرات أخرى, وراح يضرب بساعديه في فوضى, ثم ترك نفسه مدفوعا حتى أمكنه أن يمسك أخيرًا بلوح عائم فتشبث به, تارة يركب عليه وأخرى يضطجع, والأمواج المقتربة تهزه، ترفعه برهة، ثم تقهقر لكي تخلي مكانها لأمواج أخرى تجيء بعدها, تدفعها أمواج تالية، وتتكرر اللعبة نفسها، وحوله بحر، بحر فحسب، وكرس الغريق كل وجوده ليمسك باللوح فى شراسة, وليبتلع جرعات من ماء مالح, وليتأمل ..
كان يفكر، لا شيء أن يتذكر وجد في العالم يومًا، منازل .. وخمور .. وترام .. وفتيات .. وأرض، وإنما كانت كلها وليدة خياله، فليس العالم غير غمر يطفو فوقه، وليست السماء كما تبدو له غير انعكاس لمعبر أمواج تعود لتضع نفسها من حيث جاءت، كممثلي الكومبارس على المسرح، يتظاهرون في عرض طويل خلف الكواليس، لكي يظهروا مرة، ومرة في نفس الفصل!
كان الماء يضربه بغير انقطاع، وكان يحاول أن يحسب، كم من الزمن تتأخر كل موجة حين تبتعد وترتد بسرعة لتعود ومعها حفنة ماء، فتقذف في معدته قليلا من الملح، لكن كان من المستحيل عليه أن يتبين الأمواج الماكرة!
واستمر على هذا المنوال يومًا, فيومين، فثلاثة، ومع الزمن أصبح أقل تفكيرًا، وقد تمدد على اللوح تاركًا ساقيه وذراعيه يقعان خارجه, كأنه مصلوب على صليب يوناني الطراز، وكانت معدته تلم جوانبه، ورأسه دائخ ملفوف في بخار الجوع، لا شيء .. لا شيء كان موجودًا في مرة في بركة، فكانت تعلو وتهبط وتسير في حركة دائمة على الأمواج الصغيرة الخضراء والزرقاء، ومع ذلك كانت في نفس مكانها ألا يمكن أن عقله هو الذي يخونه؟ أحقًا رمى كويرة الورق وتأملها؟ وربما كان هو من يرى نفسه صاعدًا هابطًا دون أن يتحرك من موضعه!
كان يغفو، في البدء لثوان قصيرة وأخيرًا لساعات طويلة، وفي مرة وقع من اللوح، فكان عليه أن يستنفد قوى هائلة لا يعرف من أين انتزعها لكي يصل إليه ثانية، وقد وعى جيدًا أن ذلك لو حدث مرة أخرى فسيصبح صريع الماء دون استئناف ودون إمكانيات التفكير في الكويرة ودارت تحت جمجمته دوخة زرقاء مالحة وأخذته غفوة ثم انتبه فبدل وضعه بكل عناية ونظر إلى الأفق الكليل ....
كيف ذلك؟ أكان ممكنا؟ .. نعم .. نعم!، كان في العالم خشب وقمصان ورجال ونساء وفجاة استرد وعيه من الكون سريعًا، وبعيدًا كان يبدو له رمث صغير، ذو رقعة من قماش ترفرف على سارية فأعطته البهجة شجاعة، وبدلت ضعفه قوة فوجه إليه مركبه الساذج بكلتا يديه وذراعيه لم يكن الطريق سهلاً واعتقد أنه إن ضعف فلن يتمكن من إدراكه أو يصل إليه ميتًا وكان في الرمث من يومئ إليه مشجعًا، حتى تلاقت الخشبتان في صدمة صماء فكلتاهما رطبة!
نعم, ليس ثمة أدنى شك، كان الإنسان موجودًا، وكان هنالك الحنان، والأخوة، واكتشف في كل الوجوه التي ركزت اهتمامها فيه، على الرغم من أنها عرضت له غامضة ذات ضباب، فرحة فائضة، غامرة، ساحرة، لا يمكن تفسيرها.
تركهم ينزعونه بقوة من تحت إبطيه، عن الجذع الذي كان ملتصقًا به وتمدد على الألواح الجديدة العريضة، الأقل رطوبة، مستريحًا في تراخ كامل، دون أن يضيق بمحاولة الحفاظ على توازنه، وألقى غير واع نظرة إلى الرجال، وتبسم في ضعف وتغافي، ولكنه استطاع أن يسمع بين الضباب صوتًا مهتزًا مرحًا، مجلّلاً بالتأثر يقول:
- بعثه لنا القدر! لم يرد أن أكون أنا الضحية، عندما خرج في قرعتي الأقصر المشئوم، وطلبت منكم معروفًا، أن تنتظروا عشر دقائق، تذكرت أن الله بعث كبشًا إلى إبراهيم، ولم يترك أمته الخاطئة تهلك في الصحراء، فشعرت بأنه لن يتخلى عني في هذه المرة!. (1)
وبعد أن بدل لهجته بأخرى أكثر حزنًا أضاف "ساندرس" بائع التوراة السمين في نبرة آسفة:
- تباركت العناية الإلهية،. وقد جاءتنا بالغريق الذي نحتاج إليه. كان سيموت على أي حال!
(قصة أسبانية)
-------------------------
(1) يشير إلى تقليدكان متبعًا بين البحارة في القديم: إذا نفد زادهم في عرض البحر اقترعوا على من يأكلونه من بينهم.
* * *
* ألبرتو مورافيا
AUTOMATA الآلة
في زيه الكامل نظر "جيدو" إلى المرآة وكالعادة غمره شعور من التعاسة، كان يرتدي ملابس جديدة فحسب، ومن أحسن الأنواع صديريًا رياضي الشكل، بنطونًا من الصوف الاشهب، ربطة عنق ذات خطوط زاهية، جوارب من الصوف الأحمر، حذاء من الشمواه، لكنه لم يكن أنيقًا على أي حال، كام يبدو كما لو كان دمية في عارضة متجر كبير!
ثم غادر حجرة نومه، فوضاها كانت تثيره، وذهب إلى الصالون، هنا كل شيء نظيف، منظم لامع، ومن ثم عاوده الهدوء من جديد، ولو أنه في ذلك الصباح منذ اللحظة التي استيقظ فيها، كانت تزعجه شبهة أنه نسي شيئًا.
موعد ..
مكالمة هاتفية ..
سداد دين ..
حفلة .. ؟
وهز رأسه أخيرًا، ثم اقترب من الحاكي ماركة أمريكية تعمل آليًا، الضغط على زر خارجي يجعل الذراع مع الإبرة يتحرك وحده، يمتد ثم يهبط، ويستقر على حافة الاسطوانة، وأخذ "جيدو" لا ارديًا، أسطوانة موسيقى خفيفة وضعها ثم ضغط على الزر، حيئذ حدث شيء غير متوقع، ارتفع الذراع ثم تحرك ولكنهلم يهبط، على العكس ابتعد بحركة يمكن أن يقال إنها مقصودة، وذهب أخيرًا ليستقر، لا على حافة الأسطوانة، وإنما في وسطها، وكان نشاز حاد، ارتد الذراع بعده إلى الخلف، ثم ارتفع من جديد، ومع صوت كفرقعة الأصابع عاد إلى مقره ليستريح!
نزع "جيدو" الأسطوانة وفحصها على ضوء النافذة، كانت تلفانة، وفي مواضع محددة منها رأى خدوشًا عميقة، لأول مرة تتوقف الآلية، وفي حيرة وضع أسطوانة أخرى، لكن الذراع في هذه المرة ارتفع ثم انخفض عاديًا بدون أخطاء أزيد، وقد سأل "جيدو" نفسه وهو يستمع إلى الموسيقى: ماذا وراء موقفي الحاكي الغريب، لكنه لحظ أن التفسير الفني المحتمل لن يقنعه.
في تلك اللحظة دخلت زوجه ..
كانت تمسك بيديها ولديها "بيرو" و "ولوسيا" كلاهما أصغر من خمس سنوات، ولهما وجهان ناعمان رقيقان، وبخاصة "بيرو" الذي بدا كما لو كان صورة شمسية من جيدو والده، عندما كان في نفس عمره، وقالت لهما: هيّا .. اذهبا فأعطيا والدكما قبلة، وبقيت في منتصف الصالة، بينما الصغيران، مطيعين محترمين، جريا ليقفزا على ركبتي والدهما فاحتضنهما بدوره، وهما على صدره بين ذراعيه، تطلع من فوق رأسيها المدورين إلى زوجته، ولاحظ، كما لو كان يراها لأول مرة، أنها طويلة ونحيفة مسطحة جافة فارغة بفعل الولادة، فقدت كل سحرها الأنوثي، ولاحظ أيضًا أنها تضع نضارة، وأن أنفها ضارب إلى الحمرة شيئًا، وترتدي فستانًا أزرق واسعًا، وبلوزة من الصوف الأزرق الأكثر عمقًا، وبدا له فجأة أن كل هذه التفصيلات لابد أن يكون لها معناها الذاتي، شيء هكهذا كتفصيلات الألغاز، التي تفسر عادة في كلمة واحدة، لكن زوجه لم تمهله لكي يجدها، فنادته قائلة:
- هيا بنا .. هيا، لقد تأخرنا، وإذا انتظرنا أطول فقد نتعرض لخطر وجود الشوارع مليئة بالعربات!
ورد "جيدو": هيا، وتابع زوجه، بينما عادت هي فأمسكت بذراعي ولديها من جديد.
كان سكنهما يقع في الطابق الأول من عمارة جديدة في شارع "باديولي" ويطل باب مدخله على حديقه صغيرة، ذات طريق مسفلته، ومربعات مفروشة بالخزامى وأشجار مقصوصة، مدورة الشكل أو مثلثة، وعبرت الأسرة الحديقة، ثم خرجت إلى شارع ضيق ذي عمارات حديثة على جانبيه، غاص بالسيارات، على امتداد طواريه، وسأل "جيدو" نفسه من جديد أمن الممكن أن ينسى ما حدث هذا الصباح؟ وبينما رأسه مليء بهذه الأفكار، أركب زوجه وطفليه السيارة، ثم أدار جهازها فتحركت، وهبطت مسرعة في شارع "فلامينيا" عبر الجسر، وبدأ يجري بها على امتداد نهر "التيبر" وهدف الرحلة بحيرة "ألبانو".
كان اليوم أحدا، يوم جميل كما لاحظت الزوجة، التي كانت تجلس في الخلف إلى جانب البنت، وقد أسفت في عمق، لأنهما لن يستطيعا تناول غذائهما على الحشائش، فقد أمطرت السماء من قريب، ولا تزال الأرض رخوة بعد، ولم يجب "جيدو" على هذا بشيء، فاستمرت هي في حديثها العادي، توجهه بمهارة، مرة إلى الزوج، وأخرى إلى الأطفال بينما هو من جانبه ركز كل اهتمامه في الشارع، الذي كان متضخمًا كما هو دائمًا وباناس يتميزون اليوم بأرديتهم الأنيقة، مما يحتاج إلى تعقل أكثر في القيادة، ومهارة فوق ما هو معتاد.
وبعد أن قطعت السيارة مسافة طويلة في شارع "أنتجوا" تابعت سيرها في شارع "نوفيا" وكان "جيدو" يسير بسرعة عادية، غير عالية، حتى ولو بدا الشارع أمامه خاليًا، وعيناه خلال ذلك كله، تلاحظان عديدًا من الأشياء، كانت تبدو مسلية، ولكن معناها على الدوام كان يفلت منه: بريق النيكل لعربة سوداء، تتبعه، البياض الجميل المتناثر، من صهريج أسطواني، نصف مختف بين أشجار ربيعية منسقة، الصفاء المنعكس من بعض البيوت، اللون الفضي لطائرة تهبط أفقيًا عبر السماء، لكي تستقر على أرض المطار في "شيابينو"، البريق الفجائي لنافذة كان يسقط عليها شعاع من شمس، طلاء الإشارات المرسومة فوق جذوع الأشجار على امتداد الشارع، كل هذه الأشياء البيضاء لامعة مشعة، تتناقض على نحو عنيف مع مجموعة كبرى من السحب الداكنة، تغزوة السماء، وتهدد بالقضاء على جمال اليوم، وتتناقض أيضًا مع الحقول الواسعة، غضة في خضرة فاتحة أقرب إلى لون اللبن، وتكاد تصبح نشازًا في عمق قاتم عاصف!
ومرة أخرى. سأل "جيدو" نفسه: ماذا يمكن أن يكون وراء هذه المتناقضات؟ لكنه لم يجد شيئًا على الرغم من أنه متأكد أن ثمة شيئًا ما!.
كانت الزوجة خلف تتحدث إلى البنت. بينما جلس الابت بركبتيه على المقعد إلى جانبه. وشارك في الحديث بين أمه وأخته. وكان صوت الطفلين رقيقًا وهما يسألان. وصوت الأم هادئًا رزينًا وهي ترد. يخفي على التأكيد أيضًا معنى ما، لكنه بالنسبة إليه، كان ككل الأشياء الأخرى، التي كان يلحظها شيئًا فشيئًا. لم يستطيع أن يمسك به، على الرغم من أنه كان مقتنعًا بوجوده!
ثم سكت الطفلان، وفيما تلا ذلك من سكوت لاحظت الزوجة صمت "جيدو"، فسالته:
- ماذا حدث لك .. هل انت قرفان؟
- لا. لست قرفانًا.
- ولست منشرحًا على أي حال.
- متوسط .. مزاجي العادي.
- بالضبط، ذلك ما أقدره فيك أكثر، مزاجك المعتدل كما تقول. ولكني أشعر أنك قرفان!
- ولماذا تحبين مزاجي المعتدل؟
- هكذا .. إنه يجعلني أشعر بالأمن. أحس أنني في رفقة رجل يمكن أن أضع فيه ثقتي كاملة.
- هذا الرجل .. هو أنا؟
- نعم، أنت.
كانت تتحدث بهدوء في موضوعية كما لو كانت شخصًا ثالثًا: أثق فيك لأني أعلم أنك زوج طيب، وأب طيب، أعلم أنني معك لا يمكن أن أتوقع مفاجآت ما، فأنت دائمًا تعمل ما هو حق وعدل، وهذه الثقة تجعلني سعيدة.
- هل أنت سعيدة معي؟
- نعم.
وبدت كأنها تفكر لحظة مع تردد.
- نعم .. إنني سعيدة، يمكن أن أقولها بلا زيادة .. إنني سعيدة، لقد أعطيتني كل ما أحب .. أسرة وأطفالا وحياة مرحة مطمئنة .. ألا يسرك أنني سعيدة معك؟
وانحنت الزوجة، وبدأت تداعبه برفق في حنان على مؤخر عنقه، ورد " جيدو":
- نعم يسرني.
في تلك اللحظة كانت السيارة فد تركت شارع "نوفيا" إلى شارع "لوس لاجوس" مسرعة بين حقول خضراء، ترى فوقها هنا وهناك سحبًا بيضاء صغيرة مرتعشة محمرة من ازدهار الأشجار المثمرة، فشجرة مصفرة إلى جانب بيت أزرق، ثم بعض أشجار بابلية، محملة الأغصان بزهور حمراء في لون النبيذ.
وقال "جيدو":
- لم أكن فرفانًا، وإنما كنت أفكر فحسب، في شيء حدث منذ قليل ..
- أي شيء؟
قص لها حكاية الأسطوانة، وعطل الحاكي الآلي، ثم أنهى حديثه: والآن: فإن الأسطوانة تلفانة، لكني لم أستطع بصفة خاصة أن أقنع نفسي لماذا توقف الحاكي؟
وقالت الزوجة منكتة:
بعض الآلات فيما يبدو، تتعب من كونها آلات، وترد أن تظهر أنها ليست كذلك.
- نعم .. ربما كان الأمر من هذا القبيل!
كان الطفل ما يزال جالسًا الفرقصاء في المقعد إلى جانب "جيدو" وسأل أمه فجأة عما إذا كانوا سيأكلون فراولة في هذا اليوم، فردت عليه: لا توجد فراولة في هذا الفصل من العام، الفراولة فاكهة والربيع على العكس من ذلك، هو فصل الزهور، أمر تستطيع أن تقتنع به إذا تطلعت إلى الحقول، استمع "جيدو" برهة لشرح زوجه، ثم قام بمحاولة أكثر ضعفًا، وأخيرة، ليتذكر ما كان مقتنعًا بوجوب نسيانه هذا الصباح، لكنه لم يتذكر شيئًا رما كان موعد عمل لغد، الاثنين، يتصل بمهنته، على أي حال في مكتبه دون كل شيء في المفكرة، وسيكون من السهل التعرف عليه.
ثم وصل إلى الشارع الذي يمتد حول بحيرة "ألبانو" لم يكن من الممكن رؤيتها بعد، لأنها كانت مختفية بين حدائق عزب كثيرة، وفي المنحنى، بدأت تظهر قليلا ملحقاتها المبعثرة مغطاة بسطح كثيف من الخضرة الغامقة، ثم تحت إلى أسفل، كما لو كان في عمق قمع، كانت البحيرة ساكنة مظلمة، بينما ضفافها العالية والسماء المسحبة، تنعكسان عليها في ظلال متباينة.
نظر إليها "جيدو" في احتقار، ثم عاوده الشعور من جديد بأن معنى ما يختفي وراء هذه التفصيلات العديدة المتكررة، وفي نفس اللحظة كان يبدأ الطريق صاعدًا، فغير السرعة من الرابعة إلى الثالثة، وفي قمة المطلع كان يرى روشنا معلقا في السماء، ويظن أن وراءه هوة يبلغ طولها عدة مئات من الأمتار.
ومر "جيدو" فجأة بإحساس من يخرج من كهف إلى سطح الأرض، إحساس من يخرج من هواء ناعم ساكن إلى آخر صاف منعش، وعرض له إلى جانب ذلك تفكير دقيق، أن يدفع سيارته بكل سرعتها في ذلك الفراغ الذي يتنهد هناك بعيدًاوراء المطلع، وأن يرمي بنفسه في البحيرة مع زوجه وابنيه، سوف تقفز السيارة مائة متر أو مائتين، وتسقط مباشرة في الماء، ومعها سيكون الموت فوريًا!
وتساءل "جيدو" أبغضه لأسرته هو الذي أوحى إليه بمثل هذا التفكير؟ لكنه ما لبث أن لحظ أن الأمر ليس كذلك بل بدا له على العكس، إنه لم يحبهم في حياته يومًا كما يحبهم الآن، وفي اللحظة التي يرغب فيها أن يقضي عليهم، ولكن .. أكان ذلك التفكير حقًا، أم أنها محاولة؟ .. محاولة لا تكاد تقاوم كحلو مميت متشبث مفترس، يشبه ما توحي به تقوى لا تريد أن تظل عاجزة!.
وانحرفت السيارة نحو الشمال حتى احتكت بحافة الطريق، صاعدة في سرعة نحو الروشن، وما إن تجاوزت النقطة الأكثر ارتفاعًا، حتى وجد "جيدو" نفسه أمام حقل صغير لم يكن يتوقعه، وأنه قد ترك الهوة وراءه وان الفرصة قد فاتت، فالوقوع في الفراغ شيء طبيعي، أما الانحراف للوقوع فيه فجريمة، وتوقف "جيدو" وضع فرامل اليد، وظل عاريا من اي شعور محدد، كل ما هنالك كان يبدو له، أنه ترك الهواء المنعش ليواجه الهواء الناعم الساكن، وقالت الزوجة وهي تهبط من العربة، لقد صنعت طيبًا عندما توقفت هنا هيا نلقي نظرة على سطح البحيرة.
عندما كان الأربعة على حافة الروشن منحنين يتأملون البحيرة، تذكر "جيدو" فجأة كل ما كان قد نسي من قبل، في هذا الأحد يقع عيد زواجه، ولقد تناقش حوله مع زوجه في الليلة السابقة، بعد أن نام الطفلان، ثم تقررت هذه الرحلة خصيصا .. احتفالا بهذا اليوم!.
(قصة إيطالية)
* * *
فن
رسم الكاريكاتير
فن رسم الكاريكاتير
مقدمة
الكاريكاتير في مصر
الأشكال
مقدمة
…الكاريكاتير CARICATURE هو فن، يعتمد على رسوم، تبالغ في تحريف الملامح الطبيعية، أو خصائص ومميزات شخص أو حيوان أو جسم ما. وغالباً ما يكون التحريف في الملامح الرئيسية للشخص، أو يتم الاستعاضة عن الملامح بأشكال الحيوانات، والطيور، أو عقد مقارنة بأفعال الحيوانات.
…والكاريكاتير اسم مشتق من الكلمة الإيطالية "كاريكير" (Caricare)، التي تعني " يبالغ، أو يحمَّل مالا يطيق " (Overload)، والتي كان موسيني (M 0 sini) أول من استخدمها، سنة 1646. وفي القرن السابع عشر، كان جيان لورينزو برنيني Gian Lorenzo Bernini، وهو مثّال ورسام كاركاتيري ماهر، أول من قدمها إلى المجتمع الفرنسي، حين ذهب إلى فرنسا، عام 1665.
…وفن الكاريكاتير فن قديم، كان معروفاً عند المصريين القدماء، والآشوريين، واليونانيين. فأقدم صور ومشاهد كاريكاتيرية، حفظها التاريخ، تلك التي حرص المصري القديم على تسجيلها، على قطع من الفخار والأحجار الصلبة، وتشمل رسوماً لحيوانات مختلفة، أُبرزت بشكل ساخر (انظر شكل بردية عام 1150 قبل الميلاد، وشكل قطعة من الفخار، وشكل بردية من دير المدينة، وشكل بردية ترجع إلى عصر الرعامسة)؛ اضطلع برسمها العاملون في تشييد مقابر وادي الملوك، بدير المدينة، في عصور الرعامسة، ويرجع تاريخها إلى عام 1250 قبل الميلاد. ولا تُعرف الغاية، التي توخاها الفنان المصري من هذه الرسومات؛ فلعلها كانت إشارة غير صريحة، إلى العلاقة غير المتوازنة، بين الحاكم والمحكوم، التي كانت سائدة في تلك الفترة، جسّدها النحاتون في أسلوب ساخر، خفي المعنى.
…وجديرُ بالذكر، أن فن الكاريكاتير، كان شائعاً عند اليونانيين، الذين ذكروا أن مصوراً يونانياً، يدعى بوزون، صوّر بعض المشهورين من أهل زمانه، في شكل يدعو إلى السخرية، الأمر الذي أدى إلى عقابه غير مرة، من دون أن يرتدع. وذكر بلنيوس المؤرخ، أن بوبالوس وأتنيس، وهما من أشهر مثّالي اليونان، صنعا تمثالاً للشاعر الدميم ايبوناكس، وكان التمثال أشد دمامة، إلى درجة أنه كان يثير ضحك كل من كان ينظر إليه؛ فاغتاظ الشاعر منهما، وهجاهما بقصيدة لاذعة، لم يحتملاها، فانتحرا.
…وقد ازدهر فن الكاريكاتير في إيطاليا، فأبدع الفنانون الإيطاليون كثيراً من الأعمال الفنية. ومن أشهرهم تيتيانوس (1477 - 1576)، الذي عمد إلى مسخ بعض الصور القديمة المشهورة، بإعادة تصويرها بأشكال مضحكة.
على أن فن الكاريكاتير الحديث، لم ينشأ إلا في نهاية القرن السادس عشر، على أيدي الإخوة كاراتشي (Carracci)، في مدينة بولونيا، الذين وضعوا أساساً لأسلوب من التصوير، عرف باسمهم، وكثيراً ما كانوا يصورون أصدقاءهم صوراً، تدعو إلى الضحك.
…وفي خلال القرن السادس عشر، لم يكن لهذا الفن أي صبغة سياسية، بل كان معظم فناني الكاريكاتير، يهاجمو البروتستانت، أو الرومان الكاثوليك، خلال الثورة الدينية، التي عرفت بحركة الإصلاح الديني.
…وباستثناء الصور، الموجودة في المعابد المصرية، لا يوجد ما يثبت، أن فن الكاريكاتير السياسي، كان معروفاً قبل أواخر القرن الثامن عشر. ويبدو أن أول من صور صورة كاريكاتيرية سياسية، بالمعنى الصحيح، هو الإنجليزي جورج تونزند، الذي عكف على تصوير الأشخاص، البارزين في ميادين السياسة. وشاع الكاريكاتير السياسي، بعد ذلك، ولاسيما بين الهولنديين، ولعل أول ملك، كان هدفاً لهم، هو لويس الرابع عشر، ملك فرنسا.
…والكاريكاتير في إنجلترا، له تاريخ طويل، كذلك. فيوجد في المتحف البريطاني بلندن، فهرساً للصور الكاريكاتيرية، جمعها رجل، يدعى ستيفنس. وقد ذُكر في هذا الفهرس، جميع الصور، التي كانت معروفة حتى يومه (عام 1770). ويُفهم من بيانات هذا الفهرس، أن الأسْرة المالكة في إنجلترا ظلت بعيدة عن ريشة المصورين الهزليين، إلى إن جاءت أسرة هانوفر، وبدأ الهجوم على الملوك بالرسوم الهزلية؛ وفي مقدمة الذين هوجموا جورج الأول، مؤسس الأسْرة، الذي كان الهزليون يصورونه صوراً غاية في السخرية. وفعلوا أكثر من ذلك بخَلِفَه، جورج الثاني.
…ولما ارتقى جورج الثالث العرش، كان التصوير الهزلي، قد أصبح فناً معترفاً به. ونبغ، يومئذ، مصور ماهر، هو جورج تونزند، الذي نحا منحى جديداً، هو التصوير على البطاقات وورق اللعب؛ وقد وصفه ستيفنس، بأنه مبتكر فن الرسم الهزلي الحديث. إلا أن هذا الوصف فيه شئ من المبالغة، فإن فضل تونزند ينحصر في إتقانه للفن. والفضل في بعض الصور، التي أشتهر بها، يرجع إلى حماسته السياسية.
…وفي العقد السابع من القرن الثامن عشر، بدأت الجرائد الإنجليزية تنشر الصور والرسوم الهزلية، في موضوعات سياسية واجتماعية. وكانت هذه الصور تتناول أشخاصاً معروفين (من ملوك وساسة)، أو أشخاصاً خياليين؛ وفي الواقع، لم تنشر الجرائد صوراً هزلية، قبل عام 1761. اشتدت الخصومات السياسية على إثر انتشارها.
…وفي نهاية القرن الثامن عشر، وبدايات القرن التاسع عشر، ظهر عدد من رسامي الكاريكاتير البارزين، فقد تألق جورج كروك شانك، وجيمس جيليري، وتوماس رولاندسون، في كثيرٍ من الرسوم الكاريكاتيرية اللاذعة، حول الأمور السياسية والحكومة في إنجلترا.
…ولم يكن للمصورين الهزليين، في فرنسا، قدر من الحرية، التي أتيحت لأقرانهم، في إنجلترا. وكان القانون شديد الوطأة، على الذين يصورون الأشخاص تصويراً، يجعلهم سخرية. ولذلك، قلما وُجد في فرنسا أثر للصور الهزلية، في أوائل القرن الثامن عشر، إلا ما كان منها سياسياً، يتناول أشخاصاً خياليين.
…على أن هذا التشديد، لم يحل دون نبوغ طائفة كبيرة من المصورين، الذين كثرت أعمالهم الهزلية السياسية، ولا سيما أثناء الثورة الفرنسية، وحروب نابليون. وكانت الحكومة الفرنسية، تشجعهم على تصوير أعدائها تصويراً، يدعو إلى تحقيرهم والحط من شأنهم.
…يذكر شانفلوري، في كتابه "تاريخ التصوير الهزلي الحديث"، أن هذا الفن، اتخذ، في فرنسا، على أثر ثورتها، شكلاً أكثر انطباقاً على آداب السياسة والاجتماع، من الشكل الذي كان عليه أثناء تلك الثورة وحروبها. وكان دوميه (Daumier)، في مقدمة مصوري هذا العهد، وقد بلغ بالفن أرقى مستوى. ولم يسلم الملك من ريشته، فقد كان يرمز إليه بصورة حبة كمثرى، لا يراها الناظر إلا ويدرك أنها رأس الملك. وقد اهتم دوميه، بصفة خاصة، بالطبقة الوسطى، الصاعدة في فرنسا، فانتقد أزياءها وذوقها الفني.
…وأتى بعده شارل فيليبون، وكان من رجال الصحافة، ومن أعظم المصورين، في عصره. وقد أنشأ جريدة أطلق عليها "الكاريكاتير"، لم يسلم أحد من عظماء ذلك العصر، من سهامها اللاذعة. وكانت السبب برفع مئات من الدعاوى عليه. ولا شك أن مجموعة الصور الهزلية، التي نشرتها هذه الجريدة، هي أثمن ما كان في نوعها، من الوجهة الفنية.
…كما وضع أساس فن الكاريكاتير، في الولايات المتحدة الأمريكية، رجل من أصل إسكتلندي، يدعى ويليم تشارلس، أرُغم على مغادرة وطنه، والنزوح إلى أمريكا، في أوائل القرن التاسع عشر. وكان أكثر أعماله طعناً في بريطانيا العظمى، وتشهيراً بجون بول.
…وفي عصر الرئيس جاكسون، نبغت طائفة من المصورين الهزليين، ابتدعت أسلوباً جديداً، وهو وضع الكلام المراد النطق به، ضمن دائرة بشكل عقدة الأنشوطة، أو بشكل آخر، متصل بفم الشخص المصوَّر.
…ولعل أعظم المصورين الهزليين، الذين أنجبتهم أمريكا، هو توماس ناست (Thomas Nast). وهو فنان منفرد متميز، أجاد رسم الصور الهزلية الشخصية (انظر شكل رسم كاريكاتيري، لتوماس ناست). كما أبدع كثيراً من الرسوم الرمزية؛ فقد ابتكر حمار الحزب الديموقراطي، ونمر قاعة تاماني، في مقر المؤسسة الديموقراطية، في نيويورك. وكان الرئيس لنكولن، يعدّ أعماله من أعظم عوامل الحرب الأهلية الأمريكية.
…وقد بلغ فن التصوير الهزلي، في أمريكا، في الوقت الحاضر، شأناً عظيماً من الإتقان؛ فقد رصد كثيراً من المتغيرات، التي شهدها العالم المعاصر (انظر شكل نموذج للرسوم الأمريكية الحديثة). وهناك جائزة سنوية، تعرف بجائزة بوليزر (PULIZER PRICE)، تمنح، سنوياً، لمن يبدع أحسن صورة كاريكاتيرية.
الكاريكاتير في مصر:
…وفي مصر، ظهرت نخبة من رسامي الكاريكاتير المتميزين. اتجه معظمهم إلى نقد جوانب المجتمع، السياسية والاجتماعية، مع الإشارة إلى التناقضات البارزة فيه. ففي الأربعينيات من هذا القرن، لمع نجم صاروخان، وطوغان، ورخا. وابتُدعت شخصيات مصرية أصيلة، استخدمت كأداة لنقد المجتمع، منها. ابن البلد، ورفيعة هانم، والمصري أفندي، وغيرهم.
…وفي النصف الأخير من هذا القرن، لمعت أسماء عديدة، من رسامي الكاريكاتير، مثل: جورج البهجوري، وناجي، وصلاح جاهين، ومصطفى حسين، الذي انفرد برسم كاريكاتيري يومي، في جريدة "الأخبار". وقد ابتدع هذا الفنان كثيراً من الشخصيات الكاريكاتيرية، مثل: كمبورة، وقاسم السماوي، وعبده مشتاق، وعلي الكوماندا، وفلاح كفر الهنادوة، وغيرهم.
…وقد جسد فنانو الكاريكاتير، في مصر، نبض الشعب، وأمانيه، وأحلامه، ورفضه للقهر بكل صورة وأشكاله. ففي شكل كاريكاتير عن مجلة روز اليوسف (1)، يئن "المصري أفندي" من وطأة الفساد والاحتلال، ويقولها صراحة، في رسم، نشر في 18 فبراير 1952، أي في وقت كانت فيه قوات الاحتلال الإنجليزي جاثمة على صدر البلاد. وفي شكل كاريكاتير عن مجلة روز اليوسف (2)، تتعجب الشخصية نفسها، التي تجسد أفكار الشعب، من الظلم، الذي استشرى في البلاد.
…أما الرسومات، التي نشرت بعد هزيمة يونيه 1967، فكانت ترفض الهزيمة، وتؤكد أن الشعوب العربية لا تتجزأ، وأنها كيان واحد، بغض النظر عن علاقات حكامها بعضهم ببعض (انظر شكل كاريكاتير، لصلاح جاهين (1)).
…أما الرسم، في شكل كاريكاتير، لصلاح جاهين (2)، فيتحدث عن مشكلة اجتماعية؛ إذ يعبر عن الدعوة إلى أداء حكومي أكثر كفاءة. فعلى سبيل المثال، إذا كان هناك وزارة للصناعة، تشرف على آلاف المصانع المنتجة، فلا بدّ لها أن تهتم بعنصر الصيانة؛ فقد كان يوجد شح كبير في قطع الغيار، وفي الفنيين المدربين على أعمال الصيانة في ذلك الوقت.
…وعقب نصر العرب، في حرب أكتوبر 1973، نجد فنان الكاريكاتير المصري، يساند جنوده، في خطوط القتال، ويقلل من شأن المساعدات الخارجية لعدوهم (انظر شكل كاريكاتير، لصلاح جاهين (3)، وشكل كاريكاتير، لصلاح جاهين (4)، وشكل كاريكاتير، لصلاح جاهين (5)، وشكل كاريكاتير، لصلاح جاهين (6)، وشكل كاريكاتير، لصلاح جاهين (7)). ويبارك القرار التاريخي للدول العربية المنتجة للنفط، بوقف ضخه إلى الدول، التي تمد إسرائيل بالسلاح والعتاد (انظر شكل كاريكاتير، لصلاح جاهين (8)).
…وبعد حرب 1973، والتطور الذي حدث في نوعية المقاتل العربي يبارك فلاح كفر الهنادوة (شخصية مجسدة للشعب المصري) هذا التطور (انظر شكل كاريكاتير، لمصطفى حسين (1)). وفي أعقاب غزو العراق للكويت تتعجب هذه الشخصية مما حدث، ولا تكاد تصدقه (انظر شكل كاريكاتير، لمصطفى حسين (2)).
الأشكال
·…جزء من بردية، يرجع تاريخها إلى عام 1150 قبل الميلاد (يُرى في البردية: قطة، ترعى سرباً من الإوز؛ وثعلب يعنى بقطيع من الماعز)
·…قطعة من الفخار، من دير المدينة يرجع تاريخها إلى عام 1150 قبل الميلاد (يُرى في القطعة قطة تؤدي دور خادمة، تروّح عن سيدتها، المرسومة على هيئة فأر، ممسكة بزهرة اللوتس)
·…جزء من بردية، من دير المدينة ترجع إلى عصر الرعامسة (يبدو في البردية أسداً منهمك في مباراة مع غزال. ويبدو تعبير الانتصار على وجه الأسد. كما يبدو أن الأمور تسير إلى الأسوأ، بالنسبة إلى الغزال)
·…جزء من بردية، ترجع إلى عصر الرعامسة (البردية تصور منظراً هزلياً، يرى فيه قطة تضطلع بدور مربية لفأر طفل، ملفوف بحمالة، تحتضنه بحنان)
·…رسم كاريكاتيري، بريشة الفنان الأمريكي توماس ناست Thomas Nast
·… نموذج للرسوم الكاريكاتيرية الأمريكية الحديثة
·…كاريكاتير عن مجلة روز اليوسف (1)
·…كاريكاتير عن مجلة روز اليوسف (2)
·…كاريكاتير، لصلاح جاهين (1)
·…كاريكاتير، لصلاح جاهين (2)
·…كاريكاتير، لصلاح جاهين (3)
·…كاريكاتير، لصلاح جاهين (4)
·…كاريكاتير، لصلاح جاهين (5)
·…كاريكاتير، لصلاح جاهين (6)
·…كاريكاتير، لصلاح جاهين (7)
·…كاريكاتير، لصلاح جاهين (8)
·…كاريكاتير، لمصطفى حسين (1)
·…كاريكاتير، لمصطفى حسين (2)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق