السيناريو الفني والسيناريو غير الفني
أولاً السيناريو الفني
مقدمة
الفصل الأول: ماهية السيناريو ومبادؤه
المبحث الأول: مدخل إلى السيناريو
المبحث الثاني: التكوين الشكلي للسيناريو
المبحث الثالث: الانتقالات ووسائل الربط
المبحث الرابع: مبادئ عامة للبناء الدرامي
الفصل الثاني: عناصر السيناريو
المبحث الخامس: الحدث
المبحث السادس: الشخصية " Character"
المبحث السابع: المشهد والمكان والزمان
المبحث الثامن: الحوار
الفصل الثالث: مصادر السيناريو
المبحث التاسع: الرواية الأدبية، كأحد مصادر السيناريو
المبحث العاشر: "الواقع والقضايا السياسية والأحداث" كمصادر للسيناريو
المبحث الحادي عشر: المسرح كأحد مصادر السيناريو الروائي
الفصل الرابع: بناء (كتابة) السيناريو الروائي
المبحث الثاني عشر: القصة في السيناريو السينمائي
المبحث الثالث عشر: المعالجة الدرامية
المبحث الرابع عشر: السرد والحبكة
المبحث الخامس عشر: بناء الشخصية
المبحث السادس عشر: الحوار والتشويق
المبحث السابع عشر: الشكل النهائي للسيناريو
المبحث الثامن عشر: علاقة كاتب السيناريو بعناصر الإبداع الأخرى في الفيلم
الفصل الخامس: لغة السينما
المبحث التاسع عشر: أسس اللغة السينمائية
المبحث العشرون: "المساحة ـ الصورة ـ الديكور ـ الممثل ـ الحوار" في لغة السينما
المبحث الحادي والعشرون: التشكيل المرئي
المبحث الثاني والعشرون: الصوت في لغة السينما
الفصل السادس: السيناريو التليفزيوني
المبحث الثالث والعشرون: أشكال السيناريو التليفزيوني
المبحث الرابع والعشرون: أشكال التأليف الدرامي التليفزيوني
المبحث الخامس والعشرون: كتابة السيناريو للتليفزيون
المبحث السادس والعشرون: السيناريو والتمثيلية التليفزيونية
المبحث السابع والعشرون: السيناريو والفيلم التسجيلي التليفزيوني
الأشكال
المصادر والمراجع
مقدمة
هل السيناريو دليل أو رسم إجمالي للفيلم؟ أم هو مخطط لبرنامج عمل؟ أم هو رسم بياني؟ أم سلسلة مشاهد تُروى بالحوار والوصف؟ أم هو مجموعة صور متجاورة ومدونة على الورق؟
كلها تساؤلات تدور حول ماهية السيناريو. وفى الواقع أن السيناريو: "عبارة عن قصة تروى بالصور، وهو أشبه باسم علم، عن شخص أو عدة أشخاص في مكان ما، أو عدة أمكنة، يؤدي أو تؤدي عملاً ما".
وفى الحقيقة، فإن كاتب السيناريو يتعامل مع ثلاثة جماهير، هي ما يُسمى "جمهور التنفيذ"، وهو الذي يتعامل معه بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وتشمل المنتج والموزع والمخرج والممثلين والمصور ومهندسي الديكور والمونتير، والجمهور الثاني هو ما يسمى "جمهور المؤسسة السينمائية أو التليفزيونية"، وهو يشمل النقاد والرقابة ولجان المسابقات والمهرجانات، في الداخل والخارج، وما يحكم ذلك من قيم ومفاهيم فنية واجتماعية وأخلاقي وسياسية. أما الجمهور الثالث فهو "الجمهور العام" الذي يشاهد العمل النهائي على الشاشة.
ومهمة كاتب السيناريو هي كتابة النص السينمائي أو لتليفزيوني، الذي يُطلق عليه اسم "سيناريو" (Scenario) أي النص المرئي، أو مشروع البرنامج، أو الفيلم، أو التمثيلية. ويتولى "السيناريست" كتابة السيناريو، بطريقة خاصة، بحيث يُمكن ترجمته بواسطة الكاميرا إلى مشاهد ولقطات، تحكى قصة أو موضوعاً. لذا يمكن تعريف كاتب السيناريو: "بأنه الشخص المتخصص، الذي يُهيئ المادة أو الموضوع لعرضه على شاشة التليفزيون أو السينما"، وقد يكون السيناريست هو صاحب العمل الأدبي، وقد لا يكون، في أغلب الأحيان. والمعروف أن معظم الأعمال القصصية والروائية تكتب وتُعد للنشر، بطريقة سردية للقراءة.
ومن ثم ينبغي إعدادها بطريقة أخرى، وتهيئتها ومعالجتها كي تتحول إلى صور ومشاهد، عند تقديمها إلى الشاشة، وهذا ما يُطلق عليه اسم "السيناريو".
وتُعد "الحركة" هي المادة الأساسية للسيناريو، مثل "الألفاظ" في عملية التأليف بالنسبة للمؤلف، فالحركة هي التي تضفي على الصورة مغزاها، وتكسبها خاصية التعبير عن مضمونها، وإذا كان على الكاتب أن يركز على الحركة، باعتبارها مادة السيناريو الرئيسية، فإن ذلك ينبغي أن يخضع للاختيار والانتقاء. وتأتى الحركة عادة في الفيلم السينمائي، أو التمثيلية التليفزيونية، من ثلاثة مصادر، هي: حركة الممثلين والمرئيات داخل القصة، وحركة الكاميرا وهى ثابتة في مكانها، وحركة الكاميرا إلى الأمام أو الخلف أو مرافقتها لشخص متحرك.
ويهتم كاتب السيناريو ـ غالباً ـ بتحقيق التوازن في العمل، من خلال المحافظة على اهتمام المتفرج بجميع الشخصيات الرئيسية فيه بدرجة واحدة، وكذلك تحقيق التوازن في بعض الحالات بإدخال بعض اللقطات والأحداث الجانبية العارضة. وتوجد أساليب عديدة لتحقيق هذا التوازن، وهنا تلعب حركة الكاميرا وتكوين المناظر والمشاهد، دوراً مؤثراً في هذا الصدد.
الفصل الأول
ماهية السيناريو ومبادؤه
عندما بدأت السينما عام 1895، لم تكن بدايتها تعبر عن تقديم فن جديد، كما قدر لها أن تكون، بل ظهرت كاختراع، أو بدعة علمية، بالدرجة الأولى. فقد مّر ذلك الاختراع خلال سلسلة من الجهود المتواصلة، التي شارك فيها كل من المخترعين والمهندسين والصّناع والمصورين الفوتوغرافيين. وكان هدفهم في البداية، هو كيفية التوصل إلى تصوير عنصر الحركة، والأجسام المتحركة، في الحياة الواقعية، ثم إمكانية صنع آلة الإعادة، لتحريك ما تم تصويره أمام المشاهدين.
وكانت هذه الصورة البدائية المحدودة، كافية لكي تنال رضاء كل من محققي هذا الاختراع وجماهير المشاهدين. فالسينمائي الأول، لم يكن الأمر يتطلب منه أكثر من اختيار أي موضوع متحرك من الواقع، ثم يضع الكاميرا أمامه ليدير ذراعها حتى ينتهي ما بداخلها من فيلم خام، ليخرج بقطعة محدودة الطول، بالغة القصر.
وفي حدود هذا الإطار، لم تكن السينما - بداهة ـ في حاجة إلى تعدد الشخصيات، التي قد تشترك في تكوين الفيلم السينمائي، بل كانت هناك شخصية رئيسية واحدة، يقع على عاتقها المهمة الأساسية لتحقيق ذلك، وكان هذا يتمثل في شخصية المصور.
وكان المصور يمسك زمام الأمور في يده، دون الحاجة إلى مخرج أو سيناريست أو مونتير؛ فقد كان هو كل أولئك. ثم بدأت السينما تتحول تدريجياً، من مرحلة تسجيل الأشياء المتحركة فقط، إلى مرحلة تصوير موقف له بداية ونهاية، أو موقف ينمو ويتطور.
ومع هذه التحولات، وجدت السينما طريقها لأن تصبح فناً، يبدأ في قطع رحلته الطويلة مبتدءاً بخطواته البدائية الأولى. ومن ثم فقد بدأ عمل المصور، أو الشخص الأوحد في عمل الفيلم السينمائي الأول، يتدرج نحو التشعب والتعدد، إلى الدرجة التي أصبح يوجد معها صعوبة في تنفيذ الفيلم، وعلى ذلك فقد كان على المصور أن يتخلى من بعض المهام الرئيسية ليوكلها إلى مساعدين له وكانت إحدى هذه المهام هي كتابة خطة لتصوير الفيلم، يتم التنفيذ طبقاً لها. وكانت تلك الخطوط هي الأولى على طريق كتابة السيناريو.
وفي هذه المرحلة، لم يكن التخصص في كتابة السيناريو يتخذ شكلاً متكاملاً، أو مواصفات محددة، سواءً من حيث شكل كتابة السيناريو أو الشخصية. وكان كل ما يهم هو الإعداد لموقف متطور، بصورة تقريبية، تحمل في جوهرها الخط الرئيسي للفيلم، وطريقة تسلسل أجزائه الأساسية.
ومن هنا، فإن شخصية السِّيناريست الأولى لم تظهر كشخصية واحدة، تتولى كتابة السيناريو كاملاً، بل بدأ ظهورها في إطار عدد من الشخصيات، تكمل بعضها، من أجل إعداد السيناريو ككل.
فقد كان هناك نوع من الُكّتاب، تنحصر مهمته الرئيسية في تكوين الفكرة العامة للفيلم، وكاتب آخر مهمته كتابة المواقف، التي تطغي على الموضوع الأصلي من خلال استخدام عنصري التشويق والتسلية، وكاتب ثالث متخصص في تعديل المواقف، مع إضافة اللمسات الكوميدية إليها، ثم كاتب رابع مهمته ربط سياق الفيلم، عن طريق كتابة عناوين الشّرح وعبارات التعليق، في المواقع المناسبة، لتوضيح أحداث الفيلم، أو سد النقص، الذي لا تغطيه الصورة.
كما كان هناك مشرف أخصائي، يُشرف على عمل كل هؤلاء الكتاب، بالتوجيه والمراجعة، ثم توحيد أعمالهم في سبيل تكوين السيناريو التقريبي للتنفيذ.
وربما بدت هذه الصورة الأولى لكتابة السيناريو، كأنها صورة لنوع من التخصص الدقيق، لكنها جاءت نتيجة لشكل الإنتاج السينمائي في مراحله الأولى، حيث كانت تُنتج الأفلام بأطوال محدودة وقصيرة، وأعداد كبيرة، يتم الانتهاء منها في أسرع وقت ممكن. وأياً كانت الصورة، فقد كانت تلك هي البداية لنشأة السيناريو.
المبحث الأول
مدخل إلى السيناريو
أولاً: تعريف السيناريو:
لعل من الظواهر الشائعة في هذا المجال، أن غالبية السينمائيين يفكرون في معنى السيناريو على أنه القصة السينمائية، أو أنه القصة أو الرواية المكتوبة بلغة السينما، التي تعتمد على الصورة. والخطأ الأساسي في مثل هذا التصور، يبدو في افتراضه أن السيناريو يعنى بالضرورة تكويناً روائياً، أو قصصياً، على وجه التحديد. وقد يعود الوقوع في هذا الخطأ إلى غلبة تأثير القالب الروائي على معظم أفلام السينما. وقد يرجع، كذلك، إلى أصل كلمة "سيناريو" ذاتها، المأخوذة أصلا من اللغة الإيطالية، كاشتقاق من كلمة (سينا) " Scena" أي المنظر، التي شاع استخدامها في اللغات الأوروبية في القرن التاسع عشر، لتعني النّص المسرحي، بما فيه من مواصفات فنية.
وسواء كان هذا أو ذاك، فإن كلمة سيناريو في السينما ينبغي أن يُغطي معناها كل الفصائل السينمائية الرئيسية، من روائية أو تسجيلية أو جمالية، وليست الفصيلة الروائية فقط. ولعل هذه الضرورة هي التي أنشأت مصطلح " Screen Play" لتعني "السيناريو الروائي"، ثم مصطلح Script، ومعناها الحرفي "النص الكتابي"، لتعني أية صورة أو فصيلة من فصائل السيناريو السينمائي.
وعلى ذلك، فإنَ محاولة إيجاد تعريف علمي لطبيعة السيناريو، يقتضي تأمل بعض التعريفات، التي وردت في كتابات دارسي السينما، وتعكس شيئاً من التباين، مرجعه نقطة الانطلاق التي يختارها كل كاتب، على الرغم من أنهم جميعاً يعنون الشيء نفسه.
وعلى سبيل المثال، فإن لويس هيرمان Lewis Herman عرَف السيناريو بأنه خطة وصفية تفصيلية مكتوبة في تسلسل، يجمع بين كل من الصورة والصوت، وتقديم هذه الخطة إلى المخرج، الذي يتولى تنفيذها أي تحويلها إلى واقع مرئي سمعي".
أما ريموند سبويتوود Raymond spoitood، فإنه يعرَف السيناريو من خلال تحليله لطبيعة دور الكلمة المستخدمة في كتابه، فيقول: "إن السيناريو هو تسجيل المعاني المصورة، باستخدام الكلمات، التي يمكن ترجمتها فيما بعد إلى انطباعات مصورة بواسطة الكاميرا والمخرج، وعلى ذلك فإن السيناريو على الرغم من اعتماده على الكلمة في كتابته، فإنه ينشأ من الصورة أولاً".
أما يوروفكين Yorofkin فيعرف السيناريو:" بأنه فيلم المستقبل" .. أو بعبارة أخرى "هو الفيلم المكتوب على الورق".
وقد يُمكن، بعد استعراض كل ما تقدم، الوصول إلى تعريف آخر للسيناريو، قد يجمع بين كل مميزات التعريفات السابقة، أو يغطى نقصاً قد يشوب إحداها، وهو "أن السيناريو هو التأليف، أو الصياغة السينمائية، لموضوع الفيلم، في شكل كتابي يوضح تفاصيل وتسلسل الصور البصرية ـ الصوتية، التي ستظهر فيلم المستقبل".
ثانياً: الفصائل الرئيسية للسيناريو:
إن معرفة كاتب السيناريو لطبيعة اللغة السينمائية، والقواعد العامة، التي تحكم كتابة السيناريو، لا تعنى بالضرورة أنه قادر على إتقان كتابة كل سيناريو يعرض عليه، ذلك أنَ للسيناريو أنماط متباينة لكل منها طبيعة خاصة، بينما قد يكون كاتب السيناريو بارعاً أو موهوباً في كتابة نوعية معينة دون أخرى، أو أن نوعية السيناريو قد تتطلب استعداداً خاصاً من كاتب السيناريو بصرف النظر عما قد يتمتع به من براعة أو موهبة شخصية.
ومن الناحية الأخرى، فإنَ النظرة إلى كتابة السيناريو كعمل خلاق، لا تعنى بالضرورة أن حرية الخلق عند كاتب السيناريو تمارس بالقدر نفسه، في كل فصائل السيناريو، بل قد تهبط إلى حدها الأدنى في فصيلة معينة، وترتفع إلى حدها الأقصى في فصيلة أخرى، وذلك حسب نوع كل فصيلة، وما تتيحه طبيعتها للكاتب الفنان، في مجال يمارس في حدوده قدرته الخلاقة.
وتنقسم فصائل السيناريو إلى شرائح ثلاث رئيسية، هي:
·…الأفلام ذات الصيغة الموضوعية Objective Films.
·… الأفلام ذات الصيغة الذاتية أو الجمالية Subjective or Aesthetic Films.
·… الأفلام ذات الصيغة الروائية Narrative (Theatrical) Films
1. الأفلام ذات الصيغة الموضوعية Objective Films:
ويقصد بها ذلك النوع من الأفلام، الذي يأخذ شكلاً موضوعياً، ويعتمد أساساً على البحث عن الحقيقة، ويأخذ مادته من الواقع مباشرة، أو إعادة تكوينه للهدف نفسه، وهو تقديم تلك الحقيقة بطريقة موضوعية.
وبعبارة أخرى، فإن هذا النوع من الأفلام، يأخذ الصيغة التسجيلية، التي تقوم على تسجيل وشرح وقائع وأحداث الحياة العامة واليومية، والموضوعات العلمية أو التوجيهية، وذلك بنقل حقائقها وتفاصيلها في أسلوب موضوعي أو علمي. ويُسمى هذا النوع من الأفلام "الفيلم التسجيلي Documentary Film"، خاصة عندما يتناول تسجيل وقائع وأحداث الحياة، أو أسلوب الحياة في بيئة محددة، أو لفئة معينة من الناس، أو قد يُسمى "فيلم الحقيقة Film of Act" أو الفيلم غير الخيالي " Non- Fiction Film"، أي الذي لا يتدخل فيه خيال الفنان، لأنه لا يهدف إلا إلى تقديم الحقيقة.
وأيا كانت التسميات، التي تُطلق على هذا النوع، فإنها تحوى في داخلها بعض أنواع تابعة تستلزم في بعض الأحيان تسميات خاصة بها، كتحديد أدق؛ ومن أمثلة ذلك:
أ. الأفلام التعليمية " Educational Films"
وهي التي تتناول موضوعاً علمياً، سواء بجميع تفاصيله في الحياة أو الكتب، وذلك بهدف إعداد فيلم لغرض تعليمي أو وثائقي.
ب. الأفلام الإرشادية " Instructional Films"
وهي التي تتناول تقديم معلومات وتوجيهات معينة، لفئة خاصة، أو للجمهور عموماً، مثل فيلم عن قواعد المرور، أو فيلم عن الوقاية من قنابل النابلم، أو أخطار الحرب.
ج. الأفلام التدريبية " Training Films"
وهي الأفلام، التي تُسجل تفاصيل وخطوات المراحل التدريبية الخاصة باستخدام جهاز معين، أو آلة خاصة، بهدف شرح كيفية استخدامها، أو تدريب فئة مخصصة عليها.
د. الأفلام الصناعية أو التجارية " Industrial and Commercial Films"
وهي الأفلام التي تتناول تفاصيل صناعية معينة، أو مراحل إنتاج سلعة أو منتج ما.
وهذا النوع من الأفلام تحكمه قواعد عامة، عند كتابة السيناريو، مثل:
(1) التزام الموضوعية في الكتابة والتكوين، لأن هذه الأفلام تهدف أساساً إلى البحث عن الحقيقة، ونقل صورة صادقة عن الواقع.
(2) الإتقان في الترتيب المنطقي للأفكار، في إطار سلس ومؤثر، حتى تستحوذ على انتباه المشاهد لمتابعة الفيلم في كل جزئياته من البداية للنهاية، خاصة أن بعضاً من هذه الأفلام تكون مادتها جافة، وتستلزم نوعاً من البراعة في توصيلها للمشاهد.
(3) الاعتماد على التعليق بالصوت، من حيث شرح الصورة أو تكملتها، بمعنى أنه يشرح المعلومات التي يصعب تصويرها، ومن هنا تلعب الكلمة دوراً مهماً في هذا النوع من الأفلام، لا تقل أهميتها عن دور الصورة.
(4) محدودية مجال الانطلاق الخلاّق للفنان، الذي قد يصل إلى حده الأدنى، وذلك من حيث أن التعامل هنا يتم أساساً مع نقل الواقع أو الحقيقة، في صدق وأمانة.
وهناك أنواع أخرى خاصة من هذه الأفلام، هي الدعاية السياسية، ويبدو هذا النوع في ظاهره كأنه يقدم حقائق موضوعية، ولكنها تُخفي في باطنها الكثير من وسائل صب هذه الحقائق في قالب محدد، قد تصنعه المبالغة، أو التعريف المستتر، أو الإخفاء المتعمد لتفاصيل معينة، تقلل من صدق أو قيمة المعلومات المقدمة. وكل ذلك يحدث لأن هدف الفيلم الأساسي دعائي محض.
2. الأفلام ذات الصبغة الذاتية، أو الجمالية " Subjective or Aesthetic Films"
هي الأفلام التي تعتمد أساساً على توظيف جماليات السينما، وإعطاء حرية واسعة لذاتية الفنان، كي ينطلق بخياله وقدراته الخلاقة، إلى حد يصل عدم التقيد بالواقع أو المنطق، بل ينطلق بخياله إلى آفاق يعمد فيها إلى تحريف الواقع وإخضاعه لرؤيته الفنية الخاصة، فيقدم الفيلم في شكل فني خالص، قد لا يحمل مضموناً. أي أنه يقدم ما يُسمى بالسينما الخالصة، أو الفيلم المطلق " Absolute"، حيث يعتبر الشكل المجرد لتكوين الصور، وتركيبها مع الصوتيات.
وعلى ذلك، فإن هذا النوع من الأفلام يضع الفنان السينمائي في موقف مخالف تماماً لموقفه من الأفلام ذات الصبغة الموضوعية. فبينما هو في تلك يكون في وضع المرتبط بالواقع أو الملتزم بالموضوعية والمنطق، فإنه في هذه يصبح ممتلكاً لحرية البعد الكامل عن كل ذلك، وبعبارة أخرى، فبينما يصبح التزامه بالواقع والموضوعية محدداً لحريته الخلاقة، فإنه يصبح في مجال الأفلام الذاتية، مالكاً لأقصى درجات حرية الخلق.
وفي مثل هذه الأفلام، فإن هدف الفنان قد يتمثل أساساً في تحريك مشاعر المشاهد وحواسه بالدرجة الأولي، إلى حدٍ قد يصل إلى خلق الأحاسيس المجددة فقط. فقد يهدف الفيلم إلى خلق جو نفسي أو خيال خاص، مثل إحساس عام بالجمال، أو التوتر، أو القلق، أو الخوف، أو مزيج من هذه المشاعر كلها.
أما عن هذا النوع من الأفلام، فقد يتسم شكلها العام بمظهر المحاولات التجريبية، من حيث تقديم استخدامات جديدة في توظيف الكاميرا، أو الوسائل المونتاجية، أو تركيب بعض عناصر الواقع تركيباً جديداً. فيُسمى الفيلم، من هذه الناحية، تجريبياً " Experimental Film". وقد يقترب هذا النوع في الشكل العام، من المذاهب المعروفة في الفن التشكيلي، فتكتسب صفتها، كأن يُعد الفيلم تعبيرياً أو سيريالياً. وقد يسمى الفيلم جمالياً " Aesthetic Film"، عندما لا تنطبق عليه المواصفات، التي تدخل تحت تسمية محددة.
3. الأفلام ذات الصبغة الروائية " Narrative Films"
ويقصد بها، تلك الأفلام التي تأخذ قالب الرواية أو القصة، وهي تأخذ موقعاً فريداً متميزاً بين الأنواع الأخرى للأسباب الآتية:
أ. تُمثل السينما الشائعة، التي تؤثر في أوسع قاعدة جماهيرية ممكنة.
ب. بينما تمثل الأفلام ذات الصبغة الموضوعية، التزاما أساساً بالصدق في نقل الواقع، وبينما تجنح الأفلام ذات الصفة الذاتية إلى قمة الخلق الحر، فإن الفيلم الروائي يأخذ مكاناً وسطاً بينهما. فهو، من ناحية، يحاول أن يحاكى الواقع، أو يرتبط بمضمون، أو موضوع نابع منه، ولكنه من الناحية الأخرى، يُقدم لنا ذلك من خلال قالب ابتكاري نابع من ذات الفنان. وعلى ذلك فالفيلم الروائي يُقدم من خلال إطار يمتزج فيه الجانب الموضوعي مع الجانب الخيالي، وبدرجات متفاوتة تخضع لنوع الفيلم الذي يتم التعامل معه. وتتعدد أنواع الفيلم الروائي بشكل كبير يجعلها تتراوح بين قمة الجدية وقاع الهزل، أو بين الاقتراب الشديد من الواقعية والجنوح الكبير إلى الخيال. ومن أمثلة هذا النوع " دراما المشاكل الاجتماعية، والكوميديا الهزلية، والأفلام الحربية، وأفلام الرعب، والأفلام الموسيقية، وأفلام الجريمة، والأفلام الرومانسية، وأفلام السيرة الشخصية، والأفلام الميلودرامية، والأفلام البوليسية، وأفلام الخيال العلمي، والأفلام النفسية، والأفلام الروائية التسجيلية".
ويخضع تركيب الفيلم الروائي في تكوينه العام، لمزيج من القواعد الأساسية للتأليف المسرحي (الدراما)، وتأليف الرواية الأدبية، ألا أن الطبيعة الخاصة لوسائل التعبير السينمائية تميزه بفوارق رئيسية، عن كل من وسائل التعبير المسرحية والأدبية، وهذه الفوارق هي التي تؤسس أهم دعائم الفيلم الروائي، التي يوظفها في نقل الرواية إلى المشاهد، ومن هنا تأتي أهمية دراسة هذه الفوارق.
أ. المقارنة مع المسرح:
تتميز السينما عن المسرح، أساساً، بمرونة فائقة في عنصري المكان والزمان، فبينما يخضع كل من عنصري المكان والزمان في المسرح لوحدة موضوعية، فإن السينما يمكنها تشكيل هذين العنصرين بمرونة فائقة، وفقا لمقتضيات سرد أحداث رواية الفيلم، وما يراد التعبير عنه. ولذلك نطلق على عنصر المكان في السينما "المكان الفيلمي" (Filmic Space) وعلى عنصر الزمن، الزمن الفيلمي (Filmic Time) وتوضح المقارنة أدناه بين المسرح والسينما، من خلال هذين العنصرين، المقصود بهاتين التسميتين، كما تشرح ما تتميز به السينما عن المسرح، من مرونة في التعبير:
(1) تتميز السينما عن المسرح بإمكانية تركيب الفيلم من لقطات متعددة، محدودة في الطول الزمني لكل منها، كما يمكن لأي منها أن تحوي مكاناً مغايراً، إذا أُريد ذلك، أو اقتضاها السرد السينمائي. ومن ثم فإن السينمائي يمكنه تشكيل الزمن الموضوعي (الواقعي)، الذي يعايشه في الواقع وفقا لما يريد، أي يمكنه ضغط الحدث الذي يشغل في الواقع حيزاً زمنياً مداه ساعة، مثلاً، إلى دقائق معدودات، أو أكثر أو اقل. والعكس صحيح، ففي بعض الحالات يمكنه إطالة معادل الوحدة الزمنية الواقعية سينمائياً، إلى ما يزيد عليها في الواقع، إذا اقتضت الظروف ذلك.
(2) أما في المسرح فإن الوحدة الزمنية تتدفق بكاملها، كما يحدث في الواقع دون اقتطاع منها أو إضافة إليها. وبالمثل إذا أريد الانتقال من وحدة زمنية إلى وحدة زمنية أخرى في المسرح، فإن ذلك لا يتم ألا بإنزال الستار، أو إنهاء المنظر بإظلام المسرح، أو باستخدام المسرح الدائري.
(3) ويستطيع السينمائي دائماً الانتقال اللحظي من وحدة زمنية إلى أخرى جديدة، حال وصله لنقطتين بعضهما ببعض، وكذلك الأمر في المكان الفيلمي، فإن السينما تستطيع الانتقال اللحظي أيضاً من مكان إلى آخر جديد، الأمر الذي لا يمكن تنفيذه في المسرح ألا بإنزال الستار أو الإظلام، كما في تغيير الوحدة الزمنية.
(4) تستطيع السينما تغيير وجهة نظر المتفرج داخل المكان الواحد، من حيث المسافة والزاوية، فتقترب الكاميرا في عمق المنظر، أو تبتعد منه، وتُغير وضعها إلى اليمين أو اليسار، وإلى أعلى أو إلى أسفل. أما في حالة المسرح، فإن المتفرج يظل ناظراً إلى المسرحية من وجهة نظر واحدة وثابتة، من حيث الزاوية والمسافة. وعلى هذا الفارق الرئيسي تترتب للسينما ميزات مهمة تتفوق بها على المسرح. فهي تنقل المشاهد إلى قلب الحدث ليرى أدق الأشياء، التي قد تكون صغيرة بطبيعتها، كما يرى أدق التعبيرات الصادرة من الممثلين، وقد تغنيه عن الكثير من العبارات التي قد يلجأ إليها المسرح، لتوصيل المعنى للمشاهد.
(5) إن ما تتميز به السينما عن المسرح، من مرونة في عنصري المكان والزمان، يتيح لها ميزة نقل المشاهد إلى قلب الأحداث ليعايشها بصورة أقوى، ويندمج وينتقل معها بصورة أشد تأثيراً من المسرح.
…ب. المقارنة مع الرواية الأدبية
على الرغم من استخدام كل من السيناريو والرواية الأدبية، الكلمة وسيلة للتعبير، إلا أن دور الكلمة في كل منهما يختلف اختلافاً بينا، ويرجع ذلك أساساً إلى العديد من الاختلافات بين طبيعة كل من السيناريو والسينما عموماً، من ناحية، والرواية الأدبية، من الناحية الأخرى، وتتمثل هذه الاختلافات في الآتي:
(1) إن السيناريو السينمائي يُكتب بلغة خاصة، موجهة إلى الفنيين الذين يتولون تحويله إلى فيلم سينمائي، يتلقاه المشاهد مباشرة كصورة مرئية ـ صوتية " Aural Amage Visual". وعلى ذلك فإن دور الكلمة في كتابة السيناريو، دور مؤقت لوصف كل ما يمكن رؤيته وسمعه فقط، وبعبارة أخرى، فإن الكاتب السينمائي في كتابته للسيناريو مقيد بحدود الواقع الملموس، أي الواقع المادي Physical Reality .
(2) أما على الجانب الآخر، فإن أهم ما يميَز طبيعة عمل مؤلف الرواية الأدبية، هو استخدام الكلمة، ليقدم للقارئ صورة ذهنية " Mental Image". أي أنّ الأديب يستخدم الكلمة لترجمة خياله، وعلى القارئ أن يعيد تجسيد الصورة في خياله من خلال الكلمة، أي أن القارئ لا يتلقى هذا الخيال بصورة حية مباشرة، كما يحدث في حالة مشاهد الفيلم السينمائي.
(3) يترتب على ذلك الفارق الجوهري، بين طبيعة وسيلتي التعبير، أنّ الكاتب السينمائي مقيد في لغته بحدود الواقع المادي فقط، بينما الأديب الروائي يمكنه تجاوز هذه الحدود إلى مجال أوسع، حيث تتناول لغته أيضاً الواقع النفسي أو الروحي، كما تتناول أدق الأفكار المجردة. فعندما يتعرض كاتب السيناريو للواقع النفسي لشخصية ما، فإنه مقيد بوصف الانعكاسات الخارجية المَحسوسة، التي تترجم هذا الواقع وتعبر عنه بكل من الصوت والصورة، أما الروائي الأديب فإنه يستطيع أن يتوغل داخل النفس البشرية، ليصور ما يحدث في داخلها، فيصف انفعالاتها بما شاء من الأوصاف المجردة، والتشبيهات والاستعارات والرموز، التي لا يستطيع الكاتب السينمائي استخدامها، أو قد يستخدمها بحذر شديد وفي حدود ضيقة جداً، وللتوضيح فقط، وليس لتجسيدها كصورة.
ج. إضافة إلى الفارق الجوهري بين طبيعة كل من الوسيلتين، فإن هناك عدداً من الفوارق الأخرى، التي تشكل الصورة العامة للاختلاف، بين رؤية السينمائي ورؤية الأديب الروائي، وهي:
(1) أن الفيلم السينمائي يعرض على المشاهد في تدفق مستمر ودفعه واحدة، ومن ثم فإن المشاهد يفتقد إمكانية استعادة ما يكون قد صعب عليه فهمه، أو رغبته في تأمل المعنى الكامن في مشهد سابق، أما قارئ الرواية، فيستطيع، بالطبع، أن يُعيد قراءة بعض أجزائها أو التوقف لتأمل معاني بعض الفقرات. هذا فضلاً عن إمكانية قراءة الرواية على فترات زمنية متفرقة، متقاربة أو متباعدة.
(2) يستطيع الروائي أن يسهب في إعطاء الصفات المميزة، أو المحددة لشخصية ما دفعة واحدة، أو في حيز متصل، فضلاً عن قدرته على التوقف عند كل شخصية جديدة لوصفها على حدة، بينما يُقدم العمل السينمائي أوصاف الشخصية من خلال رؤيتها، ومن خلال أفعالها وأقوالها، التي تتوزع على مراحل الرواية، وتتشابك مع أفعال وأقوال الشخصيات الأخرى.
(3) تعطى الرواية الأدبية انطباعاً بوقوع أحداثها في زمن ماضي، بينما يُعطى سرد الفيلم انطباعاً بوقوعها في الزمن الحاضر.
(4) يتمتع الروائي بحرية واسعة في إيقاف التدفق الطبيعي للأحداث، والارتداد إلى حدث سابق ليسرده في إسهاب، بينما الكاتب السينمائي يعود إلى أحداث الماضي في حدود ضيقة، عندما يتطلب التكوين الخاص بالسيناريو، مثل هذا الأسلوب.
المبحث الثاني
التكوين الشكلي للسيناريو
يبدأ تكوين السيناريو بالتحديد الدقيق لفكرته الرئيسية، التي يتم تطويرها خلال عدة مراحل وفقاً لطبيعة، أو نوع الفيلم، تسجيلي، أو يغلب عليه الطابع الذاتي والجمالي، أو الروائي.
وبينما يكون التركيز في السيناريو التسجيلي موجهاً أساساً، إلى الترتيب المنطقي لسرد مفردات مجموعة حقائق، أو مفردات مادة عملية، فإن السيناريو ذو الصبغة الذاتية أو الجمالية يركز أساساً على تكوين الصورة، وعلاقة الصور ببعضها ببعض، ثم تفاعلها مع عنصر الصوت.
أما في السيناريو الروائي، فإن التركيز يوجه في المقام الأول إلى الحدث، أو الموقف الرئيسي والمواقف المحتملة، حتى يصل في النهاية إلى خاتمة مقنعة.
ويمر تطوير الفكرة الرئيسية لسيناريو ما، عادة، بمراحل ثلاث هي:
ملخص أو إطار الفكرة الرئيسية Synopsis.
المعالجة السينمائية Treatment.
السيناريو (الشكل السينمائي) Script.
وعند تطبيق هذه المراحل، على السيناريو الروائي، فإن المراحل الثلاث تتم كآلاتي:
1. كتابة ملخص الفكرة الرئيسية:
ينبغي لملخص الفكرة الرئيسية للسيناريو الروائي، أن يحدد بوضوح الموقف الرئيسي، الذي سيتولد منه، أو يبنى عليه تسلسل أحداث الفيلم، ثم تطوره في خط متصل إلي ذورة الأحداث، ثم إلى الختام.
ولضمان تحقيق ذلك، فيسُتحسن دائماً أن يُكتب الملخص في ثلاثة أقسام، هي:
أ. الموقف Situation:
وفي هذا القسم يتم تأسيس الخطوط العريضة لمشكلة، أو قضية ما، أو وضع معين، أي تحديد الموقف الرئيسي، الذي يحتم انطلاق الأحداث منه، أو يفجَّر عنصر الحركة، التي ستمثل قوة الدفع للبناء السينمائي ككل، مع تحديد الشخصية أو الشخصيات الرئيسية فقط، التي تتأثر بالموقف مباشرة، أو تؤثر فيه.
ب. التطوير (النمو) Development:
أي تطوير الموقف الرئيسي، من خلال التركيز على الأحداث المهمة، التي تنبع منه أو تترتب عليه. ويشترط في تسلسل هذه الأحداث أن تبدو منطقية، أو محتملة الحدوث، من حيث ارتباطها بالموقف الرئيسي أولاً؛ ثم ببعضها ثانياً، بمعنى أن كل واحدة منها تأتى نتيجة لما يسبقها، ثم تقود بالاحتمال أو الضرورة لما يليها، أو تجمع بين كونها نتيجة منطقية لما يسبقها، ثم تقوده في الوقت نفسه إلى الحدث التالي.
وأخيراً، فإن هذا التسلسل المنطقي للأحداث لابد أن يصل إلى ذروة رئيسية، أو قمة رئيسية لتصاعد هذه الأحداث، بحيث تمهد مباشرة إلى ختام السّياق الروائي.
ج. الختام (الحل) Resolution:
ويقصد به الختام المنطقي للموقف الرئيسي، الذي تم تأسيسه في بداية الملخص، وكما يبرره تطور الأحداث، التي قادت إلى الذروة.
قد ينتهي الختام إلى نهاية محدودة (سعيدة أو مأساوية)، أو تكون نهاية "مفتوحة" بمعنى أن ينتهي السيناريو بوضع احتمالين، أو أكثر، للقيمة المعروضة، أو يثير في داخل المشاهد تساؤلاً جدلياً عن الموقف ككل، أو ليجعل من النهاية نقطة انطلاق، نحو إثارة قضية عامة.
2. المعالجة Treatment:
وهي عبارة عن سرد موسع لملخص الفكرة الرئيسية. وفي هذه المرحلة فإن السرد يضيف إلى الأحداث الرئيسية، التي وردت في الملخص أحداثاً تكميلية أو فرعية، لتعميق الخط الأصلي للأحداث، وجعل تسلسله منطقياً. ومن الناحية الأخرى، فإن المعالجة تضيف ـ من ثم ـ الشخصيات الثانوية، التي تخدم علاقاتها بالأحداث وبالشخصيات الرئيسية.
وعموماً، فإن المعالجة تتضمن كل العناصر، التي من شأنها التأثير في تطور الأحداث وتبريرها، وتعمل على توازن بناء الموضوع ككل.
وتكتب المعالجة دون حوار، بل يُكتفي بكتابة مضمونه العام كلما لزم الأمر، كما قد تُكتب بعض الجمل الحوارية المحدودة في حالة الضرورة، كأن يكون ذلك لتوضيح نقطة ما، أو لتفسير صفة إحدى الشخصيات.
ومن الناحية الأخرى، فإن المعالجة يمكنها أن تتضمن بعض الأوصاف والعبارات الأدبية، كنوع من الإيجاز أو التوضيح، ذلك أن مرحلة كتابتها لا تعني أنها تُكتب بلغة سينمائية كاملة.
3. السيناريو Script:
وأخيراً تحوّل المعالجة إلى شكل سيناريو، مع كتابته بلغة سينمائية خالصة، أي كتابته في هيئة مشاهد أو لقطات، تقول بالصورة والصوت ما يمكن رؤيته أو سمعه فقط. فالسيناريو هنا يعنى بالطبع، الشكل السينمائي المبدئي، الذي سيقوم المخرج بتجسيده ليصبح فيلم المستقبل.
ويأخذ السيناريو منذ كتابته أشكالا مختلفة، ترجع إلى الأسلوب، الذي يختاره كاتبه. واختلاف الشكل هنا قد يرجع، من ناحية، إلى شكل العلاقة بين الصورة والصوت، ومن ناحية أخرى، إلى مدى تفصيل السيناريو وإعداده للتنفيذ، وذلك كما يلي:
أ. شكل العلاقة بين الصورة والصوت:
قد يأخذ السيناريو أحد شكلين رئيسيين، فيما يختص بعلاقة الصورة والصوت، فهو إما أن يكتب بطريقة الشكل المتوازي" Parallel Form" أو يكتب بطريقة الشكل المتقاطع " Cross Form" كالآتي:
(1) الشكل المتوازي:
كتابة السيناريو في شكل متوازي يعنى تقسيم صفحة السيناريو عمودياً إلى قسمين، يخصص الجانب الأيمن منها لكتابة تفاصيل الصورة، ويخصص الجانب الأيسر لكتابة مكونات عنصر الصوت، من حوار ومؤثرات صوتية وإشارات عامة لألوان الموسيقى المطلوبة.
وهذا الشكل في كتابة السيناريو (وهو الشكل الشائع في مصر)، يقصد به محاكاة شريط الفيلم النهائي فيما يتعلق بتوازي الصورة والصوت.
إلاّ أن هذا التشابه، الذي يبدو منطقياً للوهلة الأولى، ليس إلا تشابهاً شكلياً أو نظرياً أكثر من كونه تشابهاً واقعياً. وذلك لأنه بينما تعمل حاستي البصر والسمع في امتزاج كامل أثناء مشاهدة الفيلم السينمائي، ويكون الإحساس بتأليف الصورة والصوت إحساساً موحداً، فإن قراءة السيناريو المتوازي لا تعطى تخيلاً صادقاً لهذا التآلف، لأن القراءة والكتابة تتم بالانتقال المستمر ما بين عنصري الصورة والصوت كل على حدة، الأمر الذي يختلف عن واقع امتزاج العنصرين، ووجوب الإحساس بتآلفهما.
ولكن هذا العيب للشكل المتوازي، يقابله مميزات عملية أخرى، قد تكون هي الدافع الرئيسي وراء استخدامه، وهي تتركز في إمكانية حصر العنصر الصوتي أثناء تنفيذ الفيلم، ويسهل ـ تبعاً لذلك ـ إعداد الممثليين لحفظ الحوار، كما يمكن تحديد أجزاء الحوار، التي سيتم تركيبها بطريقة الدوبلاج، هذا إضافة إلى إمكان تحديد المؤثرات الصوتية، التي يلزم إضافتها أثناء عمل مونتاج الفيلم.
(2) الشكل المتقاطع:
أما في حالة استخدام أسلوب الشكل المتقاطع، فإن كتابة عنصري الصورة والصوت يتم في تقاطع متسلسل دون تقسيم الصفحة. وعلى ذلك فإن تفاصيل الصورة تكتب بعرض الصفحة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، بينما يكتب العنصر الصوتي المصاحب للصورة في الثلث الأوسط فقط من الصفحة. هذا ويُشار خلال كتابة العنصر الصوتي إلى الصورة السريعة، التي تحدث ملازمة لقول جملة حوارية: مثلاً كتابتها بين قوسين خلال الحوار بهدف تحقيق أكبر قدر من التداخل، بين عنصري الصورة والصوت.
وتتركز الميزة الرئيسية لهذا الأسلوب في توفير إحساس أكثر صدقاً، بتأليف عنصري الصورة والصوت، بخلاف ما يحدث في حالة الشكل المتوازي، كما أنها قد تعطى الكاتب سيطرة أكبر على كتابة مادته، حيث يكتب بإحساس الامتزاج الكامل بين الصورة والصوت، لكن هذه الميزة الرئيسية للكتابة بأسلوب الشكل المتقاطع، يقابلها ـ بالطبع ـ افتقاد الميزات الخاصة بالشكل المتوازي السابق ذكرها.
ب. كتابة السيناريو وإعداده للتنفيذ:
قد يكتفي السيناريست بكتابة السيناريو، في هيئة مشاهد عامة، دون محاولة تقسيمها إلى لقطات، ويترك هذا الإجراء لمخرج الفيلم، ويطلق على هذا الأسلوب من الكتابة: سيناريو المشهد العام " Marter-scenescript ". وكتابة السيناريو بهذا الأسلوب قد يكون مرجعه إلى أي من الأسباب الآتية:
(1) أن تكون كفاءة كاتب السيناريو محدودة بهذا الشكل من الكتابة.
(2) أن تطالب جهة الإنتاج أو المخرج من كاتب السيناريو إلا يتعدى هذا الشكل من الكتابة.
(3) أن يختار كاتب السيناريو لنفسه عدم تجاوز هذا الشكل، فلا يُكتب السيناريو في شكل لقطات، لتوقعه أو علمه مسبقاً بأن المخرج لن يأخذ بها، وأنه سوف يعيد تقطيع المشهد إلى لقطات، من صنعه هو وفقاً لإحساسه.
…أما إذا أتيح لكاتب السيناريو أو طُلب منه أن يكتب السيناريو في شكل لقطات، فإنه في هذه الحالة ينتقل إلى مرحلة متقدمة، تُصبح أقرب إلى ما سيتم تنفيذه عند تصوير الفيلم، ويطلق على السيناريو المقسم إلى لقطات "سيناريو التنفيذ". وعلى هذا فإن بدايات ونهايات مشاهد السيناريو، قد تأخذ في اتصالها ببعضها أحد شكلين:
فإما أن ننتقل بعد نهاية كل مشهد إلى صفحة جديدة، مهما كانت مساحة المشهد، وذلك لنبدأ المشهد الجديد على صفحة جديدة،
أو أن ترد بداية المشهد الجديد على الصفحة نفسها، بعد نهاية المشهد السابق، مما قد يعطى إحساساً أصدق باتصال المشاهد. وتتميز الطريقة الأولى في ذلك على الطريقة الثانية، باعتبار أن كتابة المشهد الجديد على صفحة جديدة، يسهَّل من عملية تفريغ السيناريو وإعداده للتنفيذ، فيُصبح من السهل تجميع المشاهد، التي تحدث في موقع تصوير واحد، وحصرها معاً للتنفيذ.
المبحث الثالث
الانتقالات ووسائل الربط
يُعدّ الانتقال من مشهد إلى آخر، أو من وحدة زمنية أو درامية إلى أخرى، من أهم عناصر اللغة السينمائية، التي تتحكم في وصل أحداث الفيلم، بما يحقق لها كل من الارتباط المنطقي والتأثير الجمالي. فالانتقالات في الفيلم السينمائي، يمكن تشبيهها بما يحدث في الكتابة الأدبية، من حيث الانتقال من فقرة إلى أخرى، ومن فصل إلى آخر، ومن باب إلى آخر. فكما أن مدى الدقة في الانتقال من فقرة إلى أخرى، ومن فصل إلى آخر في السياق الأدبي، يمكن أن يؤثر على مدى استيعاب القارئ للموضوع، كذلك فإن بناء الفيلم السينمائي ككل، يمكن أن يتأثر إلى حد كبير بمدى الدقة في تصميم الانتقالات، وكيفية استخدامها، بين مشاهده ووحداته الدرامية.
وفي السينما، فإن الانتقال المستخدم بين مشهدين أو وحدتين له وجهان: وجه يتعلق بشكل الوسيلة المستخدمة في الانتقال، والآخر يتعلق بفكرته، أو تكوينه الجمالي الدرامي.
1. شكل وسيلة الانتقال:
المقصود بشكل وسيلة الانتقال، هو الشكل البصري البحت، الذي يمكن أن يوجد في أي فيلم، مثل: المزج والظهور التدريجي والإظلام (الاختفاء) التدريجي والقطع، فهذه تعد بمثابة الوسائل الرئيسية المستخدمة كأشكال للانتقال. وعلى الرغم من وجود أشكال إضافية أخرى، كالمسح والقلب، إلا أنها تُعد وسائل محدودة الاستخدام إلى حد كبير.
أ. المزج والإظلام والظهور التدريجي:
عند استخدام وسيلة المزج كشكل للانتقال، فإنها تعطى انطباعاً يمكن تشبيهه ـ بالموازاة مع لغة الكتابة ـ بالانتقال من فقرة كتابية إلى أخرى، أما من وجهة النظر السينمائية فيُفترض في الانتقال عن طريق المزج، أن يتضمن مرور فترة زمنية بين مشهدين، كما أنه في أغلب الأحوال يعني، أيضاً، الانتقال من مكان إلى آخر جديد.
أما الانتقال عن طريق توظيف وسيلتي الإظلام التدريجي، ثم الظهور التدريجي، معاً على التوالي، فإن هذا الشكل من الانتقال ينظر إليه ـ بالموازاة مع لغة الكتابة ـ على أنه يعطى انطباعاً أقرب للانتقال من فصل إلى آخر، أومن باب أو قسم إلى آخر، في سياق الكتابة. ومن وجهة النظر السينمائية، يُنظر إلى هذا الشكل على أنه يُشير إلى مرور فترة زمنية لكنها أطول ـ بشكل ملحوظ ـ من تلك، التي يشير إليها المزج. إضافة إلى ذلك، فإنه يقترن أيضاً بنوع من التغير المهم في سياق الأحداث، أو يعطى انطباعاً أقرب إلى وقفة محسوسة في السياق، ثم إنّ الانتقال غالبا ما يتضمن ـ كما في حالة المزج ـ الانتقال من مكان، إلى مكان آخر جديد.
وتسمى وسائل الانتقال، بطريقة المزج بالظهور التدريجي والإظلام التدريجي، (وما قد يضاف إليهم، مثل المسح والقلب) بوسائل الانتقال المعملية، لأن تحقيقها يتم بواسطة المعمل أو بوسائل كيميائية. وهي بهذا ينظر إليها كفصيلة قائمة بذاتها للتفرقة بينهما وبين وسيلة القطع والانتقال، التي يتم تحقيقها في غرفة المونتاج، خلال عمل مونتاج الفيلم.
ب. القطع:
يمثل شكل الانتقال عن طريق القطع وسيلة أكثر استخداما في السينما الحديثة، في الوقت الذي يتم فيه التقليل إلى حد كبير من وسيلتي المزج والإظلام والظهور المزدوج، ولعل ذلك مرجعه في السينما المعاصرة إلى سببين رئيسيين، هما:
(1) إن استخدام أشكال المزج والإظلام والظهور التدريجي، التي كان يتم استخدامها كثيراً وبصفة أساسية في السينما القديمة، تبدو كفواصل محسوسة في السياق، أو أنها تبدو كوسائل انتقال تعلن عن نفسها، وتلفت نظر المشاهد إليها، نظراً لما تأخذه من أشكال واضحة، وما تستغرقه من زمن محسوس يبدأ مع بداية ظهور وسيلة الانتقال. أما القطع، الذي يتم كشيء لحظي خاطف، فهو وسيلة غير محسوسة في حد ذاتها من قِبل المشاهد، مما يجعل الارتباط بين طرفي الانتقال (نهاية وبداية مشهدين) أكثر تماسكاً.
(2) إن الانتقال عن طريق القطع - ومع طبيعة السرعة غير المحسوسة - يتيح فرصاً أكثر لتوظيف التداعيات بين طرفي الانتقال، سواء من حيث مضمون أو شكل كل منهما. كما أنه يتيح فرصاً أكبر لتوظيف عنصر المفاجأة، عند الانتقال من مشهد إلى آخر، عندما يكون هناك مبرر لذلك، كما أنّ توظيف القطع كوسيلة للانتقال، يساعد على تحكم أكبر في إيقاع الفيلم.
…ج. السينما الحديثة وتوظيف المزج والإظلام والظهور:
مع اتجاه السينما الحديثة إلى تفضيل وسيلة القطع في الانتقال، فإن توظيفها المحدود لوسائل المزج والإظلام والظهور، أصبح في معظمه لأسباب جمالية بالدرجة الأولى، ومن هذه الأسباب أن يكون الدافع وراء استخدام وسيلة المزج مثلاً، هو وجود تشكيلين متقاربين في تكوينهما العام، أو بينهما صلة ما، سواء بالتماثل أو التناقض، ويراد الإيحاء بنوع من التحول التدريجي المحسوس، من الشكل الأول إلى الشكل الثاني، مثل المزج من دخان يتصاعد من مدخنة أو إناء يغلى بالماء، إلى دخان يتصاعد من سيجارة شخصية ما، للإيحاء بمعنى معين يستمد من التماثل في تشكيل كل من اللقطتين، أو أن يتم المزج من وجه سيدة وهي تضحك في سعادة، إلى لقطة تبدأ بباقة من الزهور المتفتحة وهي تملأ الصورة، بحيث تبدأ في رؤية الزهور على وجه السيدة الضاحك، بينما تبدأ في الاختفاء؛ وذلك للإيحاء بمعنى رمزي يربط بين إشراقة ابتسامة السيدة وتفتح الزهور ... وهكذا.
وفي حالة الإظلام التدريجي المتعاقبين، فقد يتم استخدامها، مثلاً، بهدف إيجاد فاصل محسوس لإنهاء مرحلة مهمة متكاملة من السَّياق، ثم التأكيد على بداية المرحلة الجديدة، كما لو كانت تمثل النتائج المهمة، التي ستترتب على ما سبق مشاهدته ككل، أو قد يتم توظيف الإظلام والإظهار ببطء ملحوظ، بهدف إشعار المتفرج بمرور فترة زمنية طويلة جداً، ويعقبها تغيير ملحوظ في الأحداث والشخصيات، كما قد يتم استخدامها ببطء ملحوظ؛ بهدف إيجاد نوع من البطء المحسوس في الإيقاع، أو إثارة إحساس بالتأمل والترقب.
2. التكوين الجمالي، أو الدرامي، لوسيلة الانتقال:
يقصد بالتكوين الجمالي أو الدرامي لوسيلة الانتقال، أن يكون الانتقال مصمماً وفقاً لفكرة جيدة تنبع من سياق الفيلم، وترتبط عضوياً بطرفي الانتقال، كما تربط بينهما. فالانتقال من مشهد إلى آخر، أو من وحدة إلى أخرى، ينبغي أن يكون مبنياً على فكرة جمالية أو درامية، تربط بين مضمون أو شكل اللقطة في نهاية مشهد، بمضمون أو شكل لقطات المشهد التالي، سواء أكان ذلك بالتماثل أم التناقض.
وعلى ذلك، فإن التفكير في شكل الانتقال يُعد مطلباً أساسياً، يؤثر على مستوى الفيلم ككل، فيجعل بناؤه يبدو متماسكاً، ومن ثم يرفع من قيمته الفنية والتأثيرية، وعلى العكس من ذلك فإن عدم الاهتمام بالتفكير في شكل الانتقال، قد يجعل البناء يبدو غير مترابط ومتعثر، أو تبدو أجزاؤه كما لو كانت مرصوصة، واحداً وراء الآخر.
وينبع التكوين الجمالي أو الدرامي لوسيلة الانتقال، من عدد من المداخل أو المبادئ الأساسية، التي يُسوى وفقاً لأي منها، أو بالجمع بين اثنتين أو أكثر منهما، وأهم هذه الأفكار والمبادئ هي:
أ. الانتقال المبنى على التماثل (التشابه)، في الشكل أو في المضمون:
ويعني ذلك أن تكوين الانتقال يهدف إلى إيجاد تماثل أو تشابه ما، بين لقطة أو نهايتها (آخر المشهد) مع اللقطة التالية لها أو بدايتها (أول المشهد التالي)، وذلك من خلال التشكيل في اللقطتين، أو المضمون، الذي تعنيه كل منهما، وذلك على الوجه التالي:
(1) التماثل (التشابه) في الشكل:
كأن يتم الانتقال بين شيئين يتماثلان أو يتشابهان في التكوين الشكلي، سواء كان ذلك متعلقا بتكوينات ثابتة أو بين تكوينات متحركة. ومن الأمثلة على الانتقال بين تكوينات ثابتة: أن يربط الانتقال بين لقطتين، تنتهي كل منهما بشكل دائري، حيث تحتوي اللقطة الأولي على غلاف مصباح يأخذ شكلاً مستديراً تماماً، وتحتوي اللقطة الثانية على كرة قدم. أما في حالة الانتقال بالتماثل بين تكوينات متحركة، فمثال ذلك: أن يتم الانتقال من اللقطة الأولي، التي تحتوي على مرجيحة مثلاً، وهي تتأرجح بعرض الصورة، إلى اللقطة الثانية التي تحتوى على بندول ساعة حائط، أو أي حركة مماثلة، تأخذ الشكل الحركي نفسه.
(2) التماثل (التشابه) في المضمون:
يقصد بالتماثل في المضمون أن يكون تكوين الانتقال بين اللقطتين مبنياً على تشابه، بين ما تعنيه أو تتضمنه كل منهما، أو الصفة المميزة، التي ترتبط بمضمونها. وكمثال على هذا: ذلك المثَّال الشهير في فيلم ايزنشتين، عندما يتم الانتقال من لقطة العمال وهم يسقطون صرعى، إلى لقطة الثيران المذبوحة، أو مثل الانتقال من لقطة لعاشقين يتناجيان، إلى لقطة لطائرين في عشهما.
ب. الانتقال المبنى على التناقض (التباين)، في الشكل أو في المضمون:
ويعني ذلك أن تكوين الانتقال يكون مبنياً على وجود تناقض، أو تباين واضح، بين لقطتي الانتقال، سواء أكان ذلك في الشكل أم المضمون.
(1) التناقض في الشكل (ثابتاً أو متحركاً):
كأن يتم الانتقال بين عنصرين يتناقضان في التكوين الشكلي لكل منهما، مثل الانتقال من لقطة لشخصية تتميز بجسم ممتلئ، إلى لقطة لشخصية يبدو عليها الهزال الشديد أو النحافة، أو الانتقال من شكل تغلب عليه الخطوط الدائرة، أو الانسيابية، إلى شكل تغلب عليه الخطوط المستقيمة أو الحادة، أو من لقطة يغلب عليها الأضواء الساطعة المتلألئة، إلى لقطة يسودها الظلام.
وفي حالة الانتقال بين عناصر متحركة بالتناقص، فإن هذا يتمثل في شكل الحركة أو اتجاهها داخل إطار الصورة، بصرف النظر عن ماهية العنصر المتحرك. فقد يتم الانتقال من شخص، مثلاً، وهو يتحرك في اتجاه الكاميرا، إلى خلفية سيارة وهي تتحرك مبتعدة عن ناحية الكاميرا إلى عمق المنظر، أو الانتقال من عنصر ما يتحرك من أعلى الصورة متجهاً أسفلها، إلى عنصر آخر يتحرك من أسفل الصورة إلى أعلاها .. وهكذا.
(2) التنافض في المضمون:
يعني وجود تناقض في المضمون أو المعنى العام، بين كل من طرفي الانتقال، مثل الانتقال من مكان مزدحم بالناس، إلى مكان خال أو يكاد يكون خالياً، أو الانتقال من مكان تغلب عليه الفوضى، إلى مكان يتميز بالنظام الشديد. أو الانتقال من شخص على سرير بالمستشفي يعانى من المرض، إلى شخص يمارس نوعاً من الرياضة العنيفة، أو بين شخصين أو أكثر يسود بينهما الحب والألفة، إلى أشخاص آخرين في حالة صراع أو قتال.
ج. الانتقالات المبنية على الجمع بين التماثل والتناقض معا:
يعني ذلك أن يتم تكوين الانتقال بحيث يحمل تماثلاً في ناحية، وتناقضاً في ناحية أخرى، فتكون هناك تماثل في الشكل، مع تناقض في المضمون، أو عكس ذلك: تناقض في الشكل يوازيه تماثل في المضمون، وذلك على الوجه التالي:
(1) التماثل في الشكل، مع التناقض في المضمون:
وذلك مثل الانتقال من شخص يهم بركوب سيارته الخاصة، إلى آخر يهم بركوب سيارة الشّرطة لترحيله إلى السجن، أو من شخص يثبت سوار من الماس حول معصم زوجته، إلى القيد الحديدي وهو يوضع حول معصم أحد المسجونين، أو من شخص يهم بخلع معطفه، وهو يخطو داخل مكان لحفل باذخ، إلى شخص وهو يخلع معطفه لتسليمه لصاحب محل رهونات، أو الانتقال من عائلة ثرية وهي تتناول طعامها على مائدة مليئة بالعديد من الأصناف، إلى عائلة فقيرة وهي تشترك جميعها في الأكل من إناء واحد.
(2) التناقض في الشكل مع التماثل في المضمون:
وذلك مثل الانتقال من شخص يبكى فرحاً، إلى شخص يعبر عن فرحته بضحكة أو ضحكات متوالية، أو مثل الانتقال من أم تعاقب ابنها عن طريق لومه بالكلمات، إلى أم تعاقب ابنها بضربات شديدة متوالية ... وهكذا.
د. الانتقال عن طريق الكلمة أو العبارة:
وذلك بأن يكون تصميم الانتقال مبنياً، على التفكير في كلمة أو عبارة، تجيء في نهاية مشهد ما، مع ما يليها في المشهد التالي، سواء جاءت الكلمة أو العبارة مكتوبة (أي مقروءة بواسطة المشاهد) أو مسموعة من خلال الحوار، وذلك على النحو التالي:
(1) الانتقال عن طريق الكلمة المكتوبة:
بمعنى أن تكون الكلمة أو العبارة تشير إلى مكان ما، أو شخص ما، ثم يتم الانتقال إلى المكان أو الشخص المقصود، أو أن تكون الكلمة أو العبارة هي بداية لرسالة ما، ثم يُنتقل منها مباشرة إلى الرسالة، وهي مكتوبة بكاملها في يد المرسل إليه.
(2) الانتقال عن طريق الكلمة المسموعة:
بمعنى أن تكون الكلمة أو العبارة تشير إلى اسم مكان، أو شخص، ثم يُنتقل إلى المكان أو الشخص، أو تجئ الكلمة أو العبارة كتساؤل في نهاية مشهد، يتم الرد عليه بعبارة مناسبة في بداية المشهد التالي. أو أن تكون العبارة في بداية سرد من إحدى الشخصيات، لشيء تم حدوثه في الماضي، ثم يستمر صوت الشخصية وهو يكمل السرد مع صورة المشهد التالي، التي تمثل الحدث، أو أن تكون العبارة بمثابة أمر من شخص إلى شخص آخر، للقيام بمهمة معينة، ثم يسترسل الصوت على المشهد التالي حيث نرى بداية لتنفيذ المهمة، بينما صوت المتحدث من المشهد السابق يلازم الصورة.
(3) الانتقال المبني على الجمع بين الكلمة المكتوبة والمسموعة معا:
بمعنى أن يتم الانتقال من كلمة أو عبارة مكتوبة، إلى جملة أو حديث يأتي كتعليق أورد فعل لها، أو العكس، ومثال ذلك، عندما يتم التركيز على عنوان في جريدة ورد في العنوان يمثل معناً، ثم الانتقال إلى شخصية وهي تحادث أخرى بخصوص ما ورد في العنوان، أو أن يتم الانتقال من جملة حوارية، تتساءل عن شئ ما، إلى كلمات مكتوبة ترد على هذا التساؤل، مثال ذلك: إذا سأل شخص آخر هل ينوى ترشيح نفسه في الانتخابات؟ وقبل أن نسمع الرد يأتي الانتقال إلى لافتة قد كتب عليها ما يُعيد الشخص ترشيح نفسه.
(4) الانتقالات الصوتية:
ويقصد بها الانتقال المبنى على التفكير في الصفات المجردة للعنصر الصوتي، من حيث نوعه أو درجة ارتفاعه أو طبيعته (المزاج النفسي)، وذلك على الوجه الآتي:
(أ) الانتقال المبني على نوع الصوت:
ويقصد به الانتقال الذي يبنى على نوع الصوت، من حيث كونه حاداً أو غليظاً، كأن يتم الانتقال بين صوتين حادين، أو بين صوتين غليظين، أو أن يكون الانتقال من خلال الجمع بين الصوت الحاد والصوت الغليظ، بحيث يكون كل منهما على أحد طرفي انتقال.
(ب) الانتقال المبني على درجة ارتفاع الصوت:
بمعنى أن يكون انتقال مؤسساً على التفكير في درجة ارتفاع الصوت، على كل من طرفي الانتقال، من حيث كونه مرتفعاً أو منخفضاً، وذلك مثلما يتم الانتقال بين صوتين مرتفعين، أو صوتين منخفضين، أو يجمع الانتقال بين الصوت المرتفع على جانب، والصوت المنخفض على الجانب الآخر.
(ج) الانتقال المبني على طبيعة الصوت (المزاج النفسي):
بمعنى أن يكون الانتقال مؤسساً على التفكير، فيما يوحي به الصوت من مشاعر مختلفة، كأن يتم الانتقال من صوت له طابع الحزن، إلى صوت له الطابع نفسه، أو من صوت له طابع المرح، إلى صوت له طابع مماثل، أو يتم الجمع بين النقيضين على طرفي الانتقال.
هـ. الانتقالات المبنية على الإيجاز (بالحذف أو الإخفاء):
ويقصد بها أي انتقال بين مشهدين، يحذف أو يخفي واقعة ما أو حدث، نفهم أنه قد حدث بين المشهدين دون رؤيته، وذلك طبقاً لما تم شرحه عند الكلام عن الإيجاز. وواقع الأمر أن كلاً من أشكال الانتقالات التي سبق ذكرها، يمكن أن تتضمن، بجانب صفتها الرئيسية، نوعاً من الإيجاز.
المبحث الرابع
مبادئ عامة للبناء الدرامي
أولاً: الصراع:
يُعد الصراع أهم العناصر التي يتركز عليها البناء الدرامي. ويعني الصراع وجود قوتين رئيسيتين متضادتين، ينتج عن تقابلهما أو التحامهما، ما يدفع الحدث إلى الأمام من موقف إلى آخر؛ في حركة مستمرة تقود البناء الدرامي نحو ذروة رئيسية للأحداث، ومنها إلى نهاية، أو ختام محدد أو مفتوح.
وقد اصطُلح على تعريف هاتين القوتين باصطلاحات مختلفة، منها:
الفعل ورد الفعل.
الهجوم والهجوم المضاد.
…ومن الناحية الأخرى، فإن فكرة الصراع، وما يقترن بها من تفاعل وحركة، تقوم في تكوينها على افتراض أن التحام هاتين القوتين ينتج عنه تغير في الموقف الأساسي لهما، أو وضع جديد يؤدى إلى حدوث تغيير في الموقف.
1. أشكال الصراع: يتنوع الصراع في شكله العام، إلى نوعين رئيسيين، هما:
أ. الصراع الخارجي: ويقصد به صراع الإنسان ضد قوة خارجية، مثل:
(1) صراع إنسان ضد أخيه الإنسان، وقد يتمثل في صورة شخص ضد آخر، أو شخص ضد مجموعة أشخاص.
(2) صراع الإنسان ضد ظروف البيئة الطبيعية، أو الاقتصادية، أو الاجتماعية، أو السياسية، للتغلب على العقبات التي تعترض أو تؤرق حياته، ولمحاولته تحقيق قدر أكبر من النجاح، أو حياة أفضل.
…ب. الصراع الداخلي: ويقصد به صراع الإنسان ضد نفسه، أي مع قوة داخلية مثل:
(1) الآلام النفسية، أو الصراع النفسي الناشئ عن مرض نفسي.
(2) الآلام العضوية، أو صراع الإنسان مع المرض العضوي أو الخلقي، في محاولة للشفاء منه.
2. العناصر الواجب توافرها في الصراع:
مع التسليم بأن وجود البناء الدرامي، يرتكز أساساً على وجود صراع يوجد عنصر الحركة و التطور فيه، فإن ذلك في حد ذاته لا يكفي للتأثير في المتلقي. فالصراع لكي يكون مؤثراً، يجب أن تتوافر فيه بعض العناصر الأساسية، التي تتمثل في:
أ. إمكانية تصديق، أو احتمال، حدوث الصراع.
ب. أن يكون لموضوع الصراع صدى في نفوس أكبر عدد ممكن من الناس، سواء بتناوله شيئاً يمس حياتهم أو أحاسيسهم أو معتقداتهم، أو بتقديمه نوعاً من المعرفة أو القيم الفكرية، أو وجهة نظر تتصل بقضية أو مشكلة ما.
ج. أن يتحقق في موضوع الصراع إمكانية تجاوب المشاهدين معه، بأحد طريقتين:
… (1) الامتزاج الوجداني: Dramatic Empathy
بمعنى أن تكون هناك قابلية تخيل المشاهد لنفسه في ذات الموقف، أو رؤيته من خلال الشخصيات.
(2) المشاركة الوجدانية: Dramatic Sympathy
بمعنى أن يكون في الصراع إمكانية مشاركة المشاهد لمشاعر الشخصيات، أي يحزن لأحزانهم ويتخيل نفسه في ذات موقفهم.
ثانيا: مقومات التكوين الدرامي:
1. التكوين العام:
يأخذ التكوين العام للبناء الدرامي أحد شكلين: الشكل الروائي التقليدي، أو الشكل الروائي التحليلي. ويعنى الشكل الروائي التقليدي: " أن الأولوية في تكوينه تصبح في تطور الرواية، من بداية إلى وسط إلى نهاية، وعلى ذلك فإن المضمون الرئيسي للبناء، وما يتعلق به من مضامين مكملة أو فرعية، يتم إيصالها إلى المشاهد من خلال خط قصصي يتم التركيز عليه".
أما الشكل الروائي التحليلي، فيعني أن الأولوية في تكوينه تصبح لمادته الموضوعية ومضمونها الرئيسي، بحيث لا يشترط أن تأخذ أحداث التكوين شكلاً قصصياً، بل تهدف أساساً إلى تحليل موضوع التكوين أو فلسفته، وما يتفرع منها من معان مكملة، بدرجة تبدو فيها الأحداث مفتقدة للتطور القصصي، حيث إن الارتباط بينها هو ارتباط موضوعي، يكاد يتخذ شكل التداعي الحر، وليس الشكل الروائي.
ولكن سواء أخذ تكوين السينما شكلاً روائيا أو شكلاً تحليلياً، فإن أي من الشكلين ينبغي أن يقوم أولاً على عنصر أساسي، يحدد المضمون الرئيسي للتكوين. وهذا يتمثل في العرض أو المقدمة المنطقية. فالعرض أو المقدمة المنطقية، تصبح بمثابة النظرية، التي يقوم عليها البناء، ثم تتم برهنتها من خلال السيناريو، أو تعد بمثابة واقع أو وجهة نظر إزاء قضية ما، أو موضوع ما، تم تأكيده أو رفضه من خلال السيناريو.
ويتميز الشكل الروائي التقليدي، عن الشكل الروائي التحليلي، في أنه يخضع في تكوينه لأسس البناء الدرامي التقليدي، من حيث ارتكازه على أركان رئيسية هي:
أ. الكشف أو العرض:
ويقصد به أساساً مقدمه البناء، التي ينبغي أن تحتوي على الموقف الرئيسي موضوع الصراع، ونقطة الهجوم أو الانطلاق المتعلقة به، والتي تنطلق منها الحركة الرئيسية للبناء ككل. ومع عرض الموقف الرئيسي فإنه ينبغي أن تكشف مقدمة البناء أيضاً، عن أكبر قدر ممكن من أبعاد الشخصيات الرئيسية موضوع الصراع.
ب. الأزمة: Crisis
ويقصد بها ما يتولد عن موضوع الصراع من أزمة رئيسية، تواجهها الشخصية أو الشخصيات، وتدفعها إلى التصرف والحركة، سواء لمقاومة خطر ما، أو السّعي نحو تحقيق هدف معين.
والواقع أن تحرك الشخصية أو الشخصيات ـ بفعل الأزمة الرئيسية ـ يقوم على سلسلة من الأزمات والعقبات المتفرعة عنها، حتى تصل بالبناء إلى قمة الصَّراع، أو النقطة التي ينبغي أن تتمخض عنها الأحداث، في شئ حاسم أو مهم.
ج. الذروة: Climax
ويقصد بها تلك النقطة التي تمثل قمة الذروة في الصراع، وعندها يصبح تحديد المصير النهائي للأحداث والشخصيات وشيكاً، أو واجباً على الفور.
د. الختام أو الحل: Resolution
ويقصد به ما يعقب الذروة من نتيجة تمثل نهاية الصراع، وختام البناء الدرامي ككل ويتخذ ختام الصراع أحد أشكال ثلاثة، هي: النهاية السعيدة، أو نهاية حزينة، أو مأسوية، أو نهاية مفتوحة. وتعني النهاية المفتوحة إنهاء السيناريو عند نقطة تدفع إلى الجدل بالنسبة للقضية، أو المشكلة المعروضة، أو تدفع السيناريو عند نقطة تدفع المشاهدين إلى عمل شئ ما، نحو إدارة قضية عامة في مجتمعهم.
وعموماً فإن أخذ الشكل الروائي لهذا التسلسل: العرض والأزمة والذروة والختام، يُسمى السرد الطولي أو المستقيم؛ لكن من ناحية أخرى، قد يبدأ السرد بالأزمة أو الذروة مباشرة، مع تعمد إخفاء أكبر قدر من المعلومات المهمة عن الشخصيات، وعن موضوع الصراع، حيث تُصبح معرفة هذه المعلومات هي المحرك الرئيسي للأحداث في الرواية. وهذا هو الشكل الغالب للسرد في روايات الجريمة أو المطاردة، أو محاولة الكشف عن أسباب عقدة نفسية للشخصية الرئيسية. وقد يُفضل هذا الشكل حتى في الروايات التقليدية، كما يحدث في السينما الحديثة، وذلك بهدف إيجاد أكبر قدر من التشويق في البناء الروائي. وفي هذه الحالة فإن مثل هذا الأسلوب يُسمى "السرد العكسي".
2. الشخصية:
يقوم البناء الدرامي السليم على شخصيات رئيسية، ذات أبعاد محددة، تُعطى تبريراً منطقياً لتصرفاتها في ظل الأحداث التي تمر بها. ولكي يضمن كاتب السيناريو منطقية تصرف الشخصيات، بما يُقنع المشاهد بها، فإنه يبنيها من خلال أبعاد ثلاثة هي:
أ. البعد المادي أو الجسماني:
ويقصد به تحديد العناصر الجسمية، والمادية الظاهرية، والصفات، التي تتميز بها الشخصية مثل: "السن والقامة، والوجه، والشعر، والعينين، والمهارات الجسمانية أو الحركية، والمظهر العام، وأي أمراض عضوية، أو عاهات جسمانية إن وجدت".
ب. البعد الاجتماعي:
ويقصد به تحديد مواصفات البيئة، التي نشأت فيها الشخصية، أو البيئة التي تعيش فيها وقت أحداث الرواية. بالإضافة إلى كافة الظروف الاجتماعية المحيطة بها، مثل: "مكان الميلاد، والأبوين والأخوات، ومستوى المعيشة، وطبيعة العمل أو الوظيفة، والدرجة العلمية والثقافة العامة، وعلاقته ونشاطه واهتماماته الاجتماعية".
ج. البعد النفسي:
وهو محصلة البعدين الجسمي والاجتماعي، ويقصد به تحديد المميزات النفسية للشخصية مثل: "ما يحبه وما يكرهه، وانطوائي أو انبساطي، وقيادي أو تابع، وخيالي أو واقعي، وعصبي أو هادئ، ومتفائل أم متشائم، ومتعقل أم مندفع، وجسور أم متردد".
إنّ اكتمال رسم الشخصية من خلال هذه الأبعاد الثلاثة، هو الذي يمنحها سمات العمق. فالأبعاد الثلاثة للشخصية، يمكن تشبيبها بالأبعاد الثلاثة للمنظور في الرسم والتصوير: أي الطول والعرض والعمق. وعلى ذلك فعندما ينجح كاتب السيناريو في رسم الشخصية، من خلال هذه الأبعاد، فإن تصرفاتها تصبح منطقية، مادامت تستند إلى الصفات المحددة مقدماً.
وعلى الرغم من أن كاتب السيناريو، يعتمد في رسم الشخصيات الرئيسية على هذه الأبعاد الثلاثة، فإنه قد لا يُعطي كلاً منها أهمية مساوية للآخرين، لأن الدقة في رسم الشخصية الرئيسية تتأثر، غالباً، بطبيعة موضوع الصراع. فالرواية التي يغلب عليها الطابع الاجتماعي، تختلف عن تلك، التي تأخذ الشكل البوليسي.
ومن الناحية الأخرى، فإن الاهتمام النسبي بكل بعد من الأبعاد الثلاثة، قد يتأثر بحجم السيناريو، أو بتعدد الشخصيات الرئيسية بدرجة ملحوظة. فالسيناريو الذي يحتوى على شخصيات رئيسية كثيرة، قد لا يسمح بالتسلل إلى كل أبعاد الشخصيات الرئيسية، ومن ثم يُكتفى بالتركيز على أهم الأبعاد والصفات فقط.
وعموماً، فإن الاهتمام برسم الشخصيات من خلال الأبعاد الثلاث، يقصد به أساساً الشخصيات الرئيسية، أما الشخصيات الثانوية فلا يُركّز عليها إلا من خلال صفات محددة فقط، بينما الشخصيات النمطية " Stryotype" فالاهتمام الأساسي بها يتركز على صفاتها الخارجية.
3. توازن الشخصية:
عندما يرسم كاتب السيناريو شخصياته الرئيسية، فإنه يميز كل منها بصفة عامة تغلب على صفاتها الأخرى، كأن تتميز الشخصية بأنها شريرة أو خيرة، مسالمة أو انطوائية، رومانسية أو واقعية ... وهكذا.
لكن تميز الشخصية بصفتها العامة، لا يعنى أن تصبح كل تصرفاتها بهذه الصفة فقط، حتى لا تبدو الشخصية مبالغاً فيها، أو غير مقنعة. بمعنى أن الشخصية الشريرة تكون أكثر إقناعاً لو صدرت عنها بعض اللمسات الإنسانية، على الرغم من عنصر الشر الذي يسيطر عليها، أو الشخصية المسالمة لن تكون مقنعة إذا ظلت مسالمة في كل مواقعها بل، تكون أكثر إقناعا لو اكتسبت بعض الظلال من صفة مضادة.
ويقوم مبدأ توازن الشخصية، على فكرة أن الشخصية الدرامية ينبغي إلاّ تكون سوداء تماماً أو بيضاء تماماً، بل يجب أن تكتسب بعض الظلال من الأسود في اتجاه الأبيض، أو من الأبيض في اتجاه الأسود.
…توازن (تنوع) الشخصيات:
إضافة إلى مبدأ توازن الشخصية الواحدة، فإن شخصيات البناء الدرامي السليم يجب أن تتنوع وتتوازن في مواجهة بعضها، من ناحية، كما تتنوع وتتوازن شخصيات الفصيلة الواحدة، التي تجمعها صفات مشتركة، من الناحية الأخرى. فالشخصية الشريرة تتوازن مع الشخصية الخيرة، والمسالمة تتوازن مع الشخصية الجسورة. وعلى ذلك فإن شخصيات الفصيلة الواحدة، التي تجمعها صفة الشر أو صفة الخير، مثلاً، لا ينبغي أن تكون مطبوعة بصورة واحدة، بل ينبغي أن يكون بينها بعض الاختلافات الطفيفة، التي تكسبها شكل التنوع، على الرغم من صفتها العامة المشتركة.
4. المؤثرات الفنية للبناء الدرامي:
يتطلب البناء الدرامي، حتى يكون مؤثراً من الوجهة الفنية، أن تتوافر فيه بعض المؤثرات الفنية التي تضمن له التدفق والحيوية. ويمكن التعرف على أهم هذه المؤشرات من خلال دراسة ثلاثة مؤثرات رئيسية هي: "الحركة أو التطور، والتشويق، والتنوع أو التباين" ونوضحها في الأتي:
أ. الحركة أو التطور:
إن عناصر الحركة في البناء الدرامي تعني تغيراً وتطوراً في الأحداث والشخصيات، من موقف إلى آخر، وفقاً لمبدأ الاحتمال والضرورة، أي احتمال أو حتمية حدوث التغير، إلى وضع جديد في شكل الأحداث المعروضة. والحركة بهذا المعنى تمثل ضرورة فنية للسيطرة على انتباه المتفرج، حتى لا يشعر أن الصراع أصبح ساكناً أو جامداً، أي فقد خاصية الحركة.
ويقوم عنصر الحركة في البناء الدرامي على علاقة دياليتكية، بين الشخصيات في مواجهة الأحداث، من ناحية، وبين الشخصيات في مواجهة بعضها بعضاً، من ناحية أخرى. فالحدث يجب أن يتطور إلى شئ جديد، كي يدفع الشخصية إلى التصرف. والشخصية يجب أن تقدم شئ ما إزاء الموقف الجديد، كي تدفع الحدث إلى الأمام، وتوجد خلق موقفاً جديداً آخر.
وعلى هذا فإنّ توقف تطور الحدث، أو جمود الشخصية، أو ترددها الزائد، أمام الموقف الجديد، يعني أن يتعثر عنصر الحركة، ويتسم الموقف بالجمود. وإذا ما امتد ذلك إلى الجزء الأكبر من البناء، فإن الصراع يفقد فاعليته، ويتحول إلى ما يسمى "الصراع الساكن أو الجامد". ويعني الصراع الساكن أنه على الرغم من توافر القوتين المتضادتين اللازمتين له، فإنهما لا يلتحمان ولا يتصارعان بما يكفي لحدوث الصراع، ويفقد البناء ـ من ثم ـ أهم ما يجب أن يقوم عليه.
ب. التشويق:
يعد عنصر التشويق أحد الدعائم الرئيسية، التي يرتكز عليها البناء الدرامي، للاستحواذ على انتباه المتفرج، واندماجه مع الأحداث والشخصيات، ثم تأثره بها. وهناك فارق كبير بين وضع المشاهد، وهو يعلم أو يتوقع مقدما تطورات الأحداث وتصرفات الشخصيات، وبين أن يكون في وضع المتشوق للمعرفة.
فالتشويق هو فن إيجاد الرغبة المستمرة لدى المشاهد، لمعرفة ما سوف يحدث. ولكي يستمر عنصر التشويق فعالاً، فإنه يرتبط بفكرة المفاجأة، أو الصدمة. فجزئيات الخط الروائي، يجب أن تنقل المشاهد من مفاجأة إلى أخرى، عند نقاط معقولة من السّياق. فالإيحاء للمتفرج بحدوث شئ ما، ثم عدم وقوعه، أو أن هذا الشيء سيحدث بطريقة معينة، ثم يقع بشكل آخر، أو أن يتوقع المشاهد أن نتيجة معينة سوف تترتب على وقوع الحدث، ولكن النتيجة تأتى بشيء مغاير، أو يصبح المشاهد أمام أكثر من احتمال لما سينتهي إليه موقف ما، دون القدرة على القطع بواحد منها، فكل تلك الاستخدامات تزيد من شوق المتفرج للمتابعة، وترفع درجة الترقب والانتظار والقلق لديه، بحيث يظل مشدوداً لمتابعة تطور البناء الدرامي حتى نهايته.
ج. التنوع أو التباين:
يُعد التنوع مبدأً فنياً مهماً تأخذ به كل الفنون، فهو يمثَّل التباين بين جزئيات العمل الفني ومؤثراته، بحيث لا تنطبع كلها، أو معناها بصورة واحدة أو شكل واحد. فالتنوع ضرورة فنيه يترتب على إغفالها احتمال اختلال البناء ككل، وانصراف المشاهد عنه.
والواقع أن تحقيق مبدأ التنوع، يتحقق في أنواع متعددة في البناء الدرامي، أهمها:
(1) التنوع في تكوين أجزاء السيناريو ومشاهده، فلا تكون معظمها، أو جزء كبير منها، على وتيرة واحدة، حتى لا يفقد البناء الحيوية والفاعلية اللازمين للسيطرة على انتباه المتفرج.
(2) التنوع في الإيقاع: فالطابع العام لإيقاع البناء ككل، بما تحدده طبيعة الصراع، لا يعنى بقاءه خاضعاً لنموذج واحد من البداية للنهاية. فإذا كان الإيقاع البطيء هو السّمة العامة للبناء، فينبغي تدعيمه بلمسات من إيقاع سريع بين الحين والآخر، حتى لا يتسرب الملل إلى سياق البناء، والعكس صحيح. فالإيقاع السريع كطابع عام ينبغي أن يتضمن لحظات من الإيقاع البطيء، بين الحين والآخر، حتى لا يلهث المتفرج في متابعة أحداثه ويشعر بالإرهاق، الذي لا يمكنه من ملاحقة تطورها، فيفقد بالتالي متعة المشاهدة.
(3) …التنوع في المزاج النفسي: أي الجو النفسي الذي يمثل الطابع العام للبناء ككل، فالطابع الحزين، أو المأساوي، لا يعنى أن يسود كل العمل، بل نبغي تلطيفه بلحظات مرحة أو خفيفة بين وقت وآخر، للتخفيف عن المشاهد، والعكس صحيح، فإذا كان الطابع العام للمزاج النفسي مرحاً، فإن ذلك لا يعنى أن يظل المشاهد غارقاً في موجة من الضحك، من البداية للنهاية، دون توقف.
(4) التنوع في الشخصيات، أي توازن الشخصيات في مواجهة بعضها من ناحية، وداخل فصيلة النوع الواحد، (كما سبق الإشارة إليه)، من ناحية أخرى.
(5) التباين بين المعاني الدرامية الرئيسية داخل البناء، لتأكيدها وتقوية تأثيرها. فالمبدأ هنا هو أن تأكيد أية قيمة فنية، أو معنى درامي، يكون أكثر فاعلية، وأقوى تأثيراً، عندما تتم موازنته وتباينه مع قيمة، أو معنى مضاد.
الفصل الثاني
عناصر السيناريو
يمثل السيناريو في عملية الإبداع السينمائي، مكانة أساسية، ويمكن مقارنته بالتوليفة الموسيقية. فهو عبارة عن قصة تروى بالصور، تعبر عن شخص أو عدة أشخاص، في مكان، أو في عدة أمكنه، يؤدي أو تؤدي عملاً ما.
ومهمة كاتب السيناريو أن يطور السرد ويبنيه، ويفسر معنى موجز القصة، ويحدد الوساطة الأولى بين فكرة الفيلم، وبين إخراجه. كذلك، فإن وظيفة السيناريو مزدوجة: تبدأ بتجسيد القصة وإعطائها شكلاً مادياً، في سرد مناسب للمعنى المنشود، ثم سرد هذا المضمون وإيضاح المعلومات الضرورية، لعمل المساعدين.
ويعالج السيناريو كل شئ: من ديكورات وأضواء وأداء وملابس، وكذلك الأسلوب السينمائي. وما ليس موجوداً في السيناريو، يترك لاجتهاد كل واحد من المساعدين. والصعوبة الكبيرة في السيناريو هو أنه يسرد من أجل السينما، وعلى كاتب السيناريو أن يمنح نصه هدفاً سينمائياً خاصاً، ويمكن أن يتم هذا تبعاً لمستويين:
بنية عامة للسيناريو: تُبنى في التركيبة الكبرى للثوابت السينمائية الأساسية، وهي الزمن والمكان والحركة، وهذا ما يقدم للسرد إيقاعه.
على صعيد الرحلة Sequence، ينبغي تجسيد إستراتيجية الإدراك الحسي ضمن رؤية محددة، أي أن تتم الكتابة على نحو أقرب ما يكون من الحركة المرئية ـ المسموعة، التي سيدركها المشاهد.
ويلجأ السيناريو بالضرورة إلى أسلوب التقطيع، كما يستخدم أسلوب الضوء والديكور وأداء الممثل. ويجب أن يكون كاتب السيناريو قادراً على إيجاد الحلول الخاصة، وشكل الكتابة، التي تحدد توجيه التقطيع والتوليف، بشكل دقيق.
ويعني التقطيع والتوليف يعنى تنظيم الإدراك الحسي، الذي سبق للسيناريو تقديمه بشكل واسع، من خلال تحديده لوجهات النظر والاستماع، حيث سيتم إدراك الفعل في البناء العام للقصة أولاً، ثم في الكتابة المرحلية ثانياً.
المبحث الخامس
الحدث
1. رسم الشخصيات
تحكى القصة ـ عادة ـ عن بعض الأشخاص وأفعالهم، ويهتم بعض الناس "بالأشخاص" ـ أي السمات الشخصية الإنسانية - أكثر، بينما يهتم الآخرون "بأفعالهم" أكثر، أي بأحداثهم.
ويرضى بعض الروائيين عندما يقدمون وصفاً كاملاً لشخصية، في مئات قليلة من صفحات الرواية، ويهتم بُعض منتجي السينما فقط بالحدث، ويفضلون رسم الشخصية، على اعتبار أنها خاصة بعلم النفس. ومع ذلك فكل من العنصرين ضروري لقصة الفيلم السينمائي.
فالحدث وحده لا يوجد، فلابد من شخص يفعل، وهذا الشخص هو الإنسان: ومن ثم فلابّد أن نتعرف على الإنسان لكي نتتبع ونفهم الحدث. "ومن ناحية أخرى، ليس في الإمكان فهم الإنسان دون أن يفعل" فهو يعود إلى الحياة فقط من خلال حدث، حتى ولو كان التفكير المسبق لرسم الشخصية أو الحدث هو مسألة ذوق، فلابد للفيلم السينمائي ألاّ يهمل أو يتجاهل كلا منهما.
وفي الرواية قد يستخدم الكاتب سمات شخصيات الناس الذين يعرفهم، أو يخترع سمات شخصية جديدة. وهذه السمات الشخصية المخترعة، تكون عادة غير واقعية. ولمنع حدوث ذلك، يحتاج الكاتب إلى فهم عميق للطبيعة الإنسانية، فهو يحتاج إلى المعرفة السيكولوجية.
ومع أنّ سلوك الإنسان يبدو من الصعب التنبؤ به، فهو ليس طارئاًُ أبداً، وبناء الشخصية الإنسانية مزيج من عوامل عديدة، لذلك فهو نادراً ما يكون بسيطاً وواضحاً، ولكن على الرغم من تعقيداته، التي تجعله أحياناً غير منطقي، فهو مع ذلك مترابط. فالإنسان يفعل أو يستجيب تبعاً لأسباب معينة، وبطريقة خاصة، وليس هذه الأنماط دائماً واضحة، ولكونها عملية عقلية معقدة، فهي دائماً تكون مثيرة للدهشة.
وقد أصبح رسم الشخصيات مهمة صعبة جداً، ويتطلب دراسة سمات الشخصية بكل جوانبها. كما يجب فَهَم الاختلاف بين رسم الشخصية والخواص الشخصية: فرسم الشخصية هو كل الحقائق حول إنسان، وتكوين الشخصية هي إحدى هذه الحقائق فقط، والسمات الشخصية هي العوامل الوحيدة، التي تتكون منها أية شخصية.
فلكي نفهم إنساناً، ينبغي أن نعرف حقائق كافية عنه، ولذلك فبعد أن يصبح رسم الشخصية كاملاً في ذهن السينمائي يجب أن يعرض حقائقها للمتفرج. فهناك حقائق محددة لرسم الشخصية ينبغي معرفتها من أجل دفعها من حالة الغموض، وقد نسميها الحقائق الإجبارية. وفي الواقع فإن معظم الشخصيات التي تبدو مفتقرة للحياة، يكون ضعفها نتيجة حذف حقيقة من الحقائق الإجبارية، أو غيرها.
وعلى الرغم من عجز الفيلم السينمائي عن وصف معالم الشخصية، فهو في إمكانه تقديم الأفعال عند العرض الدرامي لهذه الشخصية. ونتيجة لاتصال الشخصية والحدث بشكل متكامل، فإن المتفرج يستطيع أن يستنتج من الحدث، بُعد الشخصية التي يحددها.
وعند الحديث عن الحدث، فلا يجب قصر النفس على المعنى الضيق "لعمل شئ ما"، ذلك أن التفكير والإحساس أو الأحداث الناطقة، مساوية لأحداث أخرى، مثل السّرقة والشّجار أو النوم، وبهذا المعنى يصبح الحوار أكثر تعبيراً عن الشخصية، لأن الكلام بطريقة معينة يكشف عما يحبه، أو لا يحبه شخص ما.
وأكثر من ذلك، فلكي يُستنبط بُعد الشخصية التي حددها الحدث، فليس من الضروري رؤية الحدث أثناء حدوثه، فيكفي عرض نتيجة حدث ما، أو النية في حدوثه، بحيث يفتح ذلك مجالا متسعاً لإمكانات الكشف عن الشخصية. وكم من كاتب تجبره احتياجات القصة، على توزيع أحداثها ـ دون تخطيط ـ على شخصيات مختلفة، متجاهلاً حقيقة أن كل حدث يكشف عن جانب من الشخصية. ومن الأحداث المختلفة المنسوبة للشخص نفسه، يمكن أن نكتشف شخصية مستحيلة الوجود. ومع ذلك يمكن للكاتب الجيد أن يحقق لهذه الشخصية قدرة التعبير والإفصاح عن نفسها، من خلال الأحداث المختلفة.
ولأن رسم الشخصية يتكون من حقائق عديدة، فيجب على الكاتب أن يحدد كل حقيقة بطريقة تجعلها في وحدة كاملة، وعندما يختار بعضها، فإن البقية، التي عليه أن يخترعها، يجب أن تتناسب معها.
كما يؤخذ في الاعتبار التفاعل المشترك، بين رسم الشخصية والحدث. فالحدث يعرض الشخصية ولكن ما أن يتم بناؤها، فإنها تحدد كل الأحداث القادمة، فلا يستطيع الكاتب أن يخترع مقومات الشخصية وأحداث القصة كل على حدة، وإذا أضطر لعمل ذلك فقد يختار لبطله أكثر مقومات الشخصية تعاطفاً، دون أن يدرك أن الأحداث التي يؤديها البطل تجعله يبدو غير شريف، أو غبياً. بل خلاف ذلك، عندما يهتم الكاتب بالكشف عن جوانب معينه للشخصية، فعليه أن يبحث عن حبكة مناسبة. فإذا كان اهتمامه الأول هو سلسلة من الأحداث، فعليه أن يفكر جيداً في الجوانب الشخصية، بحيث تناسب الحدث، وإلاّ فقد يصبح الأمر مختلفاً عمّا كان يقصد.
ومن ناحية أخرى، يجب على الكاتب أن يختار الرسم الصحيح للشخصية، وبذلك يستغل بأفضل طريقة ممكنة المواقف التي يعدها. وما أن يجري اختيار الشخصيات الرئيسية، حتى تُحدد طبيعة القصة ككل.
ومن أهم القضايا، كيفية اختيار الطريقة التي تُبث بها كل المعلومات، التي تتعلق برسم الشخصيات المختلفة إلى المتفرج، بحيث يحتوى كل توصيف للشخصية، على حقائق يجب عرضها، ويستغرق هذا العرض وقتاً ومساحة. وهذا هو السبب في ميل كثير من المنتجين والكتاب إلى إهمال "الدراسات السيكولوجية"، مدعين أنها تعوق تقدم القصة، وتجعل الفيلم بطيئاً وساكناً، ومع ذلك فهناك طرق ووسائل يمكن عن طريقها الخروج من هذه الورطة.
وإذا كان لابد من عرض كل حقائق توصيف الشخصية، فإنها، في الواقع، سوف تُبطئ من حركة الفيلم. وبدلاً من ذلك يمكن توزيع هذا العرض على القصة بأكملها، بإضافة المعلومة حيث تكون مناسبة أو معقولة، ولذلك يُفضل الحديث عن "كمال توصيف الشخصية"، من خلال عملية متدرجة ومستمرة.
وهناك ميزة أخرى لاكتمال توصيف الشخصية، ذلك أن الإضافة المستمرة بالمعلومات المستمرة الجديدة عن شخص ما، تُمسك طول الوقت باهتمام المتفرج. ويمكن مقارنة ذلك بعمل الرسام، الذي يبدأ بتخطيط أولى للصورة، ثم إضافة مزيد ومزيد من التفاصيل، إلى أن يبدو الوجه أشبه بالحياة.
ولا يهم أن تكون الطريقة التي تُختار هي الأكثر إغراء لقصة معينة، بل المُهم أن يُرى من خلالها أن السمات الشخصية مكتملة إلى النهاية. وهذا يعنى أنه قد عُرضت كل العوامل، وللأسف فإن كثيراً من الأفلام تتوقف بعد عرض الحقائق الأولية، مثل الجنس والسن والوظيفة، وتكون النتيجة محزنة ويصبح الفيلم كئيباً ومسطحاً، وتضعف كل المواقف المهمة، تاركة كلاً من الحبكة والحدث مائعين، لأن المتفرج لا يهتم بالنمط، بل بالفرد.
2. انتقال الحدث (المستقبل والحاضر والماضي)
يمثل الفعل حدثاً، ولذلك يمكن تصريف الحدث في ثلاثة أبعاد: ماضٍ وحاضرٍ ومستقبل. ومن الوجهة الدرامية، فإنّ الماضي والحاضر والمستقبل موجودون معاً، في قصة الفيلم السينمائي.
وهناك حقيقة أساسية، فقد يبدو في الحدث الاهتمام بالحاضر فقط، بسب عرض الأحداث في الزمن الحاضر. ولكن هذا انطباع زائف، فالماضي والمستقبل يكونان جزءاً مهماً جداً في القصة.
ففي الفيلم قد يقول الشخصية: "ارتكبت جريمة"، أو أن نراها أثناء ارتكاب الجريمة، أو أن تقول: سوف أقتله. ومن ثم، فالحدث في وضع يمثل ليس فقط الحاضر، ولكن أيضاً الماضي والمستقبل.
وهناك الأزمنة المختلفة، وهي ذات تأثيرات متباينة على المشاهد، وتثير عواطف مختلفة، مثل: توقع المشاهد حادثة رهيبة تثير الخوف، وعندما يراها بالفعل تملؤه بالرعب، وعندما تحدث يكون شعوره هو الأسف. وبالمثل فالخبر الذي يتوقعه يملؤه بالأمل، وعندما يحدث فعلاً يمنحه البهجة ثم الرضاء.
ولذلك فالماضي والحاضر والمستقبل في القصة، أزمنة كلها على درجة قصوى من الأهمية، فالزمن يتقدم من المستقبل إلى الحاضر، ومن ثمّ إلى الماضي، ولذلك يتقدم كل حدث من المستقبل إلى الحاضر، ثم إلى الماضي.
ولكن هذه هي النتيجة، فليس في الإمكان تأمل إحدى هذه المراحل فقط. فالمراحل الثلاث مرتبطة ببعضها: قبل عمل شيء ما، يجب أن تكون هناك نية فعله، الرغبة النية في التنفيذ ـ وهذا هو الفعل ـ وبعد حدوث الفعل فإنه يوجد في شكل نتيجة، ومن النتيجة نستطيع أن نستنتج أنه قد سبقته النية لفعله.
ومن الضروري التعرف على عوامل محددة في طبيعة هذه الأزمنة الثلاثة. فالحدث الذي قُصد به المستقبل يسجل في أذهاننا حادثة اعتراضية، هذه الحادثة الاعتراضية يمكن أن تتطور في لحظة معينة إلى الحاضر، أي إلى التنفيذ الحالي.
ويمزج الحاضر بين كلا الشكلين، فعندما نرى الحدث الفعلي، وهو تنفيذ النية، فسوف نعرف بشكل آلي عند أية لحظة انتقل المستقبل إلى الحاضر، وأكثر من ذلك يزيل الفعل شكناً في تحقيق النية، لأننا نرى الحدث الفعلي.
ويُعد الماضي مثل المستقبل تماماً بلا حدود، فيحرك أحد الأحداث إلى المستقبل، ويحرك المستقبل إلى الماضي، ومن ثم يبتعد أكثر وأكثر عنا، نحن الذين نبقى دائماً في الحاضر. ولذلك، نصبح أقل وأقل في الأهمية، ويقع الاختلاف الأساسي بين الماضي والمستقبل حال أن تنتقل حادثة ما إلى الماضي، فعندئذ لا يمكن أبداً وصولها إلى الحاضر، بينما يمكن أن تنتقل حادثة اعتراضية إلى المستقبل.
ولهذه الأسباب فإن ماضي قصة الفيلم السينمائي بلا أهمية تماماً بالنسبة للمشاهد، وتنحصر قيمته في كونه دفاعاً لنوايا المستقبل، والحاضر قصير للغاية لدرجة أنه لا يُعطي فرصة لتأمل أو استيعاب الحدث، ولذلك فالمستقبل، في قصة الفيلم السينمائي، يظل كزمن أساسي مهم.
3. الدافع ـ النية ـ الهدف:
وإن فهم العلاقة بين الماضي والحاضر والمستقبل، يحتاج لمعرفة حقائق أخرى فيما يتعلق بالحدث.
ولنتخيل مثلاً أن رجلاً قد قتل، فمن المنطقي أن يكون هناك سبب لهذا الحدث، فبلا سبب لا يقتل أحداً.
وينتج الدافع عن نية الفعل، فقبل أن نفعل شيئاً يجب أن تكون لدينا النية، وتتطلع النية دائماً إلى تحقيق هدف. وفي المثل السابق يكون الهدف هو موت الشخص الآخر. وكل حدث له نتيجة، لذلك لابد أن يكون لكل نية هدفاً، ومن المستحيل وجود النية دون هدف.
وبشكل عام، يأتي الهدف قبل النية، والنية قبل الهدف، وسوف نبحثها حسب سياق ظهورها:
أ. الدافع:
يستحيل وجود فعل دون سبب، وهناك أحداث لأشياء وأخرى لبنى الإنسان. فسقوط حجر من فوق جبل، يُعد حدثاً لشيء، ولكن عندما يقتل رجل رجلاً، آخر يكون لدينا حدث لإنسان. وتتسبب أحداث الأشياء نتيجة لقوانين الطبيعة، بينما تتسبب أحداث البشر بدافع الإرادة الإنسانية. فنحن نتحدث عن السبب لحدث الشيء، وعن الدافع للحدث الإنساني، والعلاقة المباشرة بين السبب والتأثير. ولكن يعد الدافع كسبب للحدث الإنساني أقل وضوحاً. وهذا ما جعل علم النفس الحديث يقول إنّ أي فعل ـ حتى الأفعال العشوائية والعديمة الأهمية ـ له دوافعه التي قد يمكن العثور عليها في الماضي البعيد، أو في العقل الباطن. ومن دون دوافع، لا يفعل الإنسان أي شيء.
ونتساءل ما الدافع؟ ما الذي يجعل الإنسان يفعل؟ فالإنسان يفعل ليتخلص من الألم. فإذا لم يشعر بالألم فسوف يكون راضياً عن حالة اللا ألم ـ فلن يفعل. ولذلك فالدافع هو ألم.
ويشعر الإنسان ـ عادة ـ بالألم عندما يريد شيئاً ولا يملكه، أو عندما لا يريد شيئاً ويملكه. ويمكن تسمية هذين النمطين المختلفين فالانجذاب والرفض. والانجذاب هو الرغبة في الاتحاد بشيء ما، والرفض هو الرغبة في الانفصال عن شيء ما.
ويعكس الألم الحاجة إلى طلب شيء، وكذلك وجود شيء غير مرغوب فيه، ويفعل الإنسان للحصول على شيء، ما يريده، أو ليتجنب شيئاً، ما لا يريده. وعندما يحصل على الشيء الذي ينقصه، يتوقف الألم عن الوجود، ومن ثم يتحطم دافع الفعل إذا ما ثار على الشيء الذي لا يريده. يتوقف الألم ومعه الدافع للفعل. وعندما يكون الإنسان جائعاً، فإنه يشعر بالألم لأنه يحتاج إلى الطعام، فالجوع هو ألم نتيجة للحاجة، وتنتج عنه النية لأنه يحتاج إلى الآكل. وعندما يكون الإنسان متعباً يكون ذلك بسبب حاجته إلى النوم، فالتعب هو ألم يتسبب عن الحاجة، وتنتج عنه النية في الراحة.
ب. النية:
تتضمن النوايا الإنسانية، نوايا واعية، وأخرى غير واعية، وهناك نوايا للفعل ونوايا لرد الفعل، وهناك نوايا إرادية وأخرى غير إرادية، ويمكن أن تكون مباشرة أو غير مباشرة، وواضحة أو خبيثة. ويجب أن نبتعد عن الاعتقاد بأن نمط النية الوحيد هو النية الواعية والإرادية، أي الإرادة التي يريد بها الإنسان شيئاً، ويعلم أنه يريده.
وبداهة فإن النية التي تصادف عائقاً، تسعى بالضرورة إلى أن تصل إلى الهدف، الذي حددته. فإذا أراد شخص الذهاب إلى مدينة ما، فسوف يصل إلى هناك إذا لم يمنعه شيء، ومع ذلك فمن الممكن أن تعترض الصعاب طريق النية، وعندئذ من المحتمل إحباطها.
ويجب أن تتوافر النية في أي حادثة. ولا يتماثل التوافر مع تحقيق الهدف، فهذا يعنى أن النية قد وصلت لنهايتها بالتحقيق أو الإحباط، وبالنجاح أو الفشل.
وينتج صراع عند مواجهة النية عقبات مانعة. وهذه هي أهم وظيفة للنية. فقد يكون الأشخاص متناقضين، ولكن الصراع ينتج الصراع فقط من نواياهم. فعندما تتناقض تصرفات شخصين، فهذا لا يهم، ولا ينشأ الصراع بينهما، ولكن ينشأ الصراع فقط عندما تتنازع نواياهما.
ج. الهدف:
من الأفضل أن يُستخدم اصطلاح الهدف بدلاً من الغرض، لأن الأخير يوحي بنية واعية وإرادية، في حين أن الهدف يحدده أي نوع من النوايا.
والهدف هو نتيجة مستقبلية، وتود النية تحقيق هذه النتيجة. وموجود الهدف، سواء في حالة تحقيقه أو عدم تحقيقه. ومع ذلك فلا يمكن للهدف أن يوجد دون نية، فعندما ننوي الذهاب إلى مدينة ما، تكون هذه المدينة هي هدفنا. ولكن هذه المدينة ليست هدفاً قائماً بذاته، فهي ليست هدفاً من خلال أي مواصفات محددة خاصة بها، ولكن فقط من خلال النية في الذهاب إليها. فإذا لم ترغب في الذهاب إلى هناك، فإنها تفقد مواصفاتها كهدف.
ويرتبط السبب والتأثير بشكل مباشر وحاسم، ولكن قد يكون أو لا يكون بين الدافع والهدف مسافة، وهذه المسافة هي مقياس النية. فعندما يُصفع رجل ويرد بضربة فورية فإن طول النية قصير جداً. ولكن عندما يخطط لإفساد إطارات سيارة المعتدى بدلاً من الرد بالضرب، تصبح المسافة بين الدافع والهدف أكثر طولاً. فقد يمر يوم أو أسبوع قبل أن يحقق نيته. وفي كلتا الحالتين، فالنية هي الانتقام، ولكن الاتجاه الذي تسلكه النية لتحقيق الهدف مختلف.
وقد ترغب مجموعة كبيرة من الناس في تحقيق هدف مشترك، وفي هذه الحالة يجمع بينهم التماثل في الهدف، فمثلاً يتدرب فريق كرة قدم ليكسب مباراة مهمة، فالهدف المشترك هو كسب هذه المباراة.
4. الاتزان ـ الاضطراب ـ الصراع ـ التوافق.
من الممكن أن يعيش الإنسان بلا اضطراب، أي لا يشعر بأي ألم. وقد يقع الألم على الإنسان، ومن ثم يشعر بالاضطراب، ومن ثم فإن الاضطراب يرتبط بعاملين: الإنسان والشيء المسبب للألم. وبعد وجود الدافع ـ من خلال الألم ـ تنتج عن هذا الدافع إحدى النوايا، وينتج عنها من ثم صراع مع الصعاب المتعارضة. وبعد أن تفوز النية على الصّراع، يظفر الإنسان بالتوافق.
ولذلك علينا أن نتعرف على المراحل الأربع: الاتزان ـ الاضطراب ـ الصراع ـ التوافق.
أ. مرحلة الاتزان:
لا يمكن أن ينتج عن الأحوال المتزنة أية نية، ومن ثم أي حدث. أي ليس هناك ألم يقع على شخص، ولذلك لا يكون للشخص دافع لأي حدث. وقبل وقوع الاضطراب لا يمكن أن تكون هناك سلسلة من الأحداث، ولكنها تظل وفقاً للظروف، وبالطبع يستحيل وجود حالة الاتزان الكامل.
وقد تبدأ القصة بمرحلة الاتزان أو الاضطراب، أو بشيء ما خلال الصراع. ومن المفيد ـ غالباً ـ البدء بمرحلة الاتزان، بحيث يصبح عرض الاضطراب أكثر سهولة.
ب. الاضطراب:
لا بد أن يضطرب الإنسان لكي يدخل في الحدث. ويضطرب الإنسان ـ عادة ـ ما عندما يؤلمه شيء ما أو شخص ما. ولذلك فمن الواضح أن الاضطراب هو ارتباط بين جزئين: جزء في مقدوره "الحب" أو "الكراهية"، ولذلك يمكن أن يشعر بالألم، والجزء الآخر هو هذا الشخص أو الشيء، الذي يثير مثل هذا الحب أو هذه الكراهية.
وعلى الكاتب أن يبقى على الاضطراب مؤثراً، طالما هو في حاجة إلى الحدث، أي على مدى القصة الدرامية. ولكن طبيعة قوى الانجذاب والرفض، قد تؤدى إلى تجنب الاضطراب، على الرغم من كونها المطلب الأساسي لإيجاد الاضطراب. وبمعنى آخر ترغب قوى الانجذاب في تكوين علاقة بين الأجزاء المنجذبة إلى بعضها، التي هي منفصلة؛ وترغب قوى الرفض في كسر العلاقة، التي تربط الأجزاء التي تكره بعضها، ولذلك يجب المحاذرة من عدم استطاعتها تحقيق هدفها، طالما نحن في حاجة إلى الاضطراب، من أجل الغرض الدرامي للقصة.
ج. الصراع:
لا يمكن لأية قصة أن تكون درامية دون صراع، وإلاّ ظلت قصة وصفية. ذلك أن الصراع هو جوهر القصة الدرامية، أي الرغبة في التخلص من الألم، من خلال الاكتساب أو الرفض.
وهناك ملايين الأنواع للصراعات، ولكن من بين كل هذا التنوع تكون للصراع متطلباته المحدودة، فهو صراع للتخلص من الاضطراب. فلا تمثل ـ مثلاً ـ مشاكسات شخص سكير مشاكس صراعاً، ولكن الأشخاص الذين يقع عليهم الألم بسببه، سوف يتصارعون للوصول إلى أحوال متزنة.
وفي هذه الحالة لن يكون الصراع الدرامي حراً أو عشوائياً، ولا يمكن أن يفكر فيه المؤلف وفقاً لذوقه، بل يحدد الاضطراب من جانب، وإمكانية التوافق من جانب آخر. ويتوجه الصراع إلى تعديل الاضطراب، لتحقيق التوافق بأقصى طريقة ممكنة، وفي مثل هذه الحالة يبدو الصراع كأداة انتقال من الدفاع إلى النية إلى الهدف، ويحدد كل القواعد، التي وجدناها من أجل هذا الانتقال.
وينفعل كل إنسان بشكل مختلف، تبعاً للدوافع المختلفة، وقد تكون للدوافع نفسها تأثيراتها المختلفة على مجموعة من الأفراد المختلفة، ولذلك فإن طبيعة الصراع، تعد وليدة لطبيعة الدوافع ومواصفات شخصية الإنسان.
د. التوافق:
يحدث التوافق عند الوصول إلى الهدف، فهو يعني تحقيق الغرض من الصراع، ونهاية وجود الاضطراب. فالاضطراب هو نقطة البداية، والتوافق هو نقطة النهاية. ويمكن أن يكون الانتقال من حال لآخر إما تدريجياً أو فجائياً، وهذا يعنى أنه في الحالة الأولى تكون عملية التوافق بطيئة وموزعة على القصة كلها، وفي الحالة الثانية يكون التوافق سريعاً ويصبح ممكناً من خلال حادثة مفاجئة. وفي كلا الحالتين فالصراع مستمر.
وهناك ثلاث طرق ممكنة لتحقيق التوافق: فإما أن نقوم بتدمير قوى الانجذاب أو الرفض، أو تكوّن علاقة بين أهداف الانجذاب، أو تُمزّق العلاقة بين أهداف الرفض، ويمكن لأية علاقة أن تتكون أو تتمزق فجأة وفي آية لحظة، حيث نستطيع أن نتزوج بسرعة عقب الصعوبات، التي قد تقف في الطريق الذي تخطيناه، ونشعر بسرعة بالارتياح في حالة إطلاق الرصاص على عدونا، ولكن لكي نسحق قوى الانجذاب أو الرفض، فإما أن نُغير توصيف الشخصية أو الظروف.
والتوافق يعنى الوصول إلى أحوال هادئة، وتستطيع هذه الأحوال الهادئة أن تكون إما الأحوال نفسها التي نستطيع أن نبدأ من خلالها، أو أحوالا أخرى، ومن الخطورة العودة إلى الأحوال نفسها، لأنه عندئذ ـ على الرغم من حدوث أشياء ـ لن يحدث أي تغير، فسوف يشعر المتفرج بعدم الارتياح، إذا عادت الأحوال إلى نقطة البداية، مثل الرجل في الصحراء الذي يعود إلى آثار أقدامه، فإذا لم يتغير شيء على الرغم من كل القوى، التي أُثيرت، فإن المتفرج يميل إلى أن يسأل: لماذا يسردون هذه الحكاية؟ فإذا ما تحقق التوافق من خلال زواج اثنين لم يتزوجا من قبل، فسوف يحدث التغير، أو إذا نتج التوافق من خلال الطلاق، فسوف يحُدث تغير أيضاً.
ولكن إذا كانت القصة لزوجين ويصل شخص ثالث ليهدد بتحطيم الزواج، فإذا انتهت هذه القصة بإبعاد الشخص الدخيل واستمرار الزوجين في العيش في سعادة، فلن يحدث تغير. ولجعل هذه القصة ذات فعالية فلابد أن نكشف، على الأقل، أن الزوجين يتصارعان بسبب أمور صغيرة، وفجأة تأتى المتاعب الحقيقية في شكل شخص ثالث، وبعد التخلص من هذا الشخص يصبح حب الزوجين أكثر قوة وسمواً، ومن ثم يكون هناك على الأقل بعض التغير.
وتوجد النهاية التعيسة الحقيقية عندما يموت نصير الخير، أو أحد العشاق، وعندئذ يصبح من المستحيل تحقيق توافق لاحق، ولا يكون التأثير التراجيدي، الذي تسببه مثل هذه النهاية التعيسة ناتجاً عن بناء درامي خاطئ، ولكن من مضمون القصة. وتوجد مثل هذه النهايات التعيسة في أفلام مثل "المعذبون" أو "غادة الكاميليا".
المبحث السادس
الشخصية " Character"
تُعد الشخصيات من أهم العناصر المؤثرة في العمل، بل هي الوسيلة الأولى، غالباً، لسرد القصة ونقل الأفكار وجذب انتباه المشاهد واهتمامه. فالأحداث، مهما عظم شأنها، تظل عارية من أي قيمة حقيقة إذا لم تتأثر، بإحساس الناس ومشاعرهم. ومن هنا تأتى ضرورة العناية بالشخصية واختيار وتحديد السمات اللازمة لها، دون زيادة تؤدى إلى تشويش، أو نقص يؤدي إلى خلل، ما لم تكن الزيادة أو النقص مقصودين فنياً.
وعلى كاتب السيناريو أن يعرف شخصيات القصة بصورة كافية، ومن خلال أبعادها الثلاثة، تُعد الهيكل الأساسي لبناء الشخصية.
يقول الفليسوف برجسون عن الشخصية: "إن الكثيرين ليتوهمون أن الإنسان من خلق عوامل خارجية، كالوراثة أو الطّابع الفسيولوجي أو الجنس أو البيئة أو المجتمع، ولكن كل هذه العوامل ليست سوى مواد ستخلق منها الإرادة الحاكمة ذاتها الخاصة، أو شخصيتها الفريدة".
والمقصود بالشخصية هنا، الشخصية الوراثية، فقد تكون البداية وجود شخصية طبيعية شدت الكاتب إليها، ورأى أن يستثمرها في عمله. فعليه أن يبحث فيها ويعايشها ويدرسها في هذا الإطار. فمثلاً إذا صادفت في الحياة شاباً يحب التظاهر، وما يحتمله ذلك من وضعه في مواقف محرجه تؤدى إلى نهاية أليمة، ورأيت أنه يصلح لأن يكون محور عمل فني، فمن منطلق هذه السمة التي جذبت انتباهك، لابد أن تبحث عن الدوافع نحو ذلك، وأمامنا طريقان: إما أن نغوص في حياة هذا الشاب ـ بالذات ـ ونتقصى ونتحرى حتى نعرف كل شيء عنه، ودراسة الأسباب الوراثية والبيئية والنفسية، أو الأحداث الخاصة به، مع الوضع في الاعتبار رؤية الكاتب ووجهة نظره، أو نتخذ طريقاً آخر وهو أن تتخير له البيئة التي نرى أنها الأنسب لتشكيل دوافعه، ومن ثم تُختار كل العناصر والسمات الأخرى التي تؤكد وتعمق رؤية الكاتب ومزاجه، وفي الإطار المحدد الذي اختاره، وهذا ما يُسمى معايشة الشخصية.
ومنذ اللحظة الأولى يتم تحويل الشخصية شيئاً فشيئاً إلى شخصية درامية. ولابد من معايشة الشخصية في إطار فكرة ما، قد تتولد من الشخصية، أو من خيال كاتب السيناريو، أو من أي مُعِدٍ آخر.
وتتوالى المعايشة في إطارين: إطار الشخصية، وإطار الفكرة، وما يتبع ذلك من إيجاد شخصيات أخرى بالضرورة، حتى يسفر الأمر عن إستراتيجية واضحة تكمّلها فكرة أساسية واضحة، وفي كل ذلك يؤخذ الممثل في الاعتبار.
وليس معنى ذلك أن نعايش الشخصية، في حدود السمات والدوافع المستخدمة والمتوائمة مع الفكرة، ولكن علينا أن نراها ونعايشها في دائرة أوسع. وكلما اتسعت الدائرة، ازددنا معرفة بالشخصية، مع عدم المضي بعيداً عن الإطار المناسب الذي تم اختياره، بل يجب أن تكون هناك نقطة حاكمة في مدى الاتساع. وهكذا نكتسب الفكر الدرامي منذ اللحظة الأولى، فلا تشويش ولا متاهات ولا تغلغل في الموازين، ومع ذلك يجب أن يكون هناك منهج عملي، يساعد على تحديد سمات الشخصية بدرجاتها وأنواعها المختلفة.
أولاً: اختيار السمات الأساسية (العامة) للشخصية:
1. السمة البيولوجية (أو التصنيفية):
وهي الخطوة الأولى، وتعني اختيار جنس الشخصية، رجلاً أم امرأة أم طفلاً، إنساناً أم حيواناً، وهذا أبسط أنواع الاختيار. ولكن لا بد أن يتم بوعي، لمدى تأثيره على العمل، فالمفروض أن تقوم الشخصية بفعل ما، أو تُعبر عن فكرة ما، مثل أن تتزعم عصابة لتهريب المخدرات، أو القيام بعمل فدائي، أو الدفاع عن حقوق المرأة، وهل ستكون الشخصية رجلاً أو امرأة؟ الأمر يختلف بطبيعة الحال في التناول الفني، وفي التأثير على الجماهير. ويأتي التساؤل في الاختيار: ما الأفضل للقصة، أن يتحقق الإنقاذ بأن تقتل التابع الفتي الأمين الشرير، أم يقوم بالمهمة كلب أو حصان البطلة، الذي يحبها.
وهذا الأمر يقود إلى ذكر "التشخيص"، وهو أن يُعطى للحيوان أو للجماد سمه إنسانية أو تعبير إنساني، وهي طريقة ذات جاذبية بالنسبة للعمل، مع ما يتبعها من أفعال وردود أفعال تتناسب مع السمة، دون أن يُدخلنا ذلك في دائرة التكلف المرفوض.
2. السمة المادية:
وهي تلي الاختيار السابق، وتحدد خلالها الملامح العامة للشخصية، دون صرامة لا مبرر لها، وعادة لا يتم اللجوء إلى سمات خاصة، إلا إذا كانت القصة تستلزم ذلك، كأن تُحدد عاهة أو تشوهات محددة مثل الشلل أو الطول أو القصر أو البدانة أو الصوت الرفيع .. وهكذا.
ومن نافلة القول اختيار الممثل المناسب لتحقيق هذه الرؤية.
ومن ثم تجب المرونة في تحديد السمة المادية، ليس فقط بالنسبة للإنسان، بل للحيوان أيضاً، وعموماً فإنه لن يحدث أن يتخيل الكاتب السمات المادية لشخصياته، ثم يتحقق تماماً خياله عند التنفيذ، فمهما كانت براعة التنكر (المكياج) فلكل شئ حدوده، التي لا يتخطاها.
3. سمة الطبع العام للشخصية:
ويتعين أن يُحدد الطبع العام للشخصية، بما يناسب أحداث القصة وما يجعلها جيدة، بما يُعطى للشخصية من مهام وأعباء، وما يكون في ذلك من توافق أو تناقض بين الشخصيات، مما يخدم مسار الحدث، ويدفع به إلى الأمام. ويساعد الطبع العام على يسر تفهم الشخصية، والتوقع السليم لاستجابتها للمواقف المختلفة. ويجب التدقيق في اختيار هذه السمة، فمهما أعطيت الشخصية من سمات أخرى مساعدة، فإن سمة الطبع العام هي التي تحمل العبء الأكبر في تقدم الحدث، وهي في أغلب الأحوال السمة، التي يتوحد معها المُشاهد (الهيكل)، أو يتخذ موقفاً مضاداً منها للشرير؛ وهي في أغلب الأحوال، أيضاً، السمة التي تعيش مع المشاهد بعد انتهائه من مشاهدة العمل، ولكنها على الرغم من ذلك لا تكفي ـ للشخصيات الرئيسية بنوع خاص ـ لإعطاء الحيوية وإيهام الواقع. وبصفة عامة، فمن الأفضل تقديم الأسباب التي أدت إلى سمة الطبع العام، خاصة إذا كانت غير معتادة، (مثل كراهية النساء)، وكلما كانت السمة غريبة وشاذة استوجب الأمر العناية بتقديم المسببات، مع مراعاة التقسيم الهندسي للزمن، ومراعاة ألاّ يُقدم للمشاهد إجابة عن تساؤل لا يطرحه، ولا يرغب في الإجابة عنه.
كما يجب الحذر من تعطيل الفعل لزمن طويل، بغرض تقديم سمات الشخصية، بل من الأفضل دائماً أن يمضى الفعل في طريقه دون توقف، وتقديم سمات الشخصيات أثناء ذلك بصورة طبيعية بسيطة، مثل أن ينظّم أحدهم أوراقه أثناء مناقشة مهمة، بما يفهم منه أنه إنسان منظم، أو يسارع أحدهم أثناء الحدث بإشعال سيجارة لآخر، فيعبر أسلوبه عندئذ عن أنه إنسان مهذب أو منافق. ويجب ألا يُنسى المظهر ومكان العمل، بل وطريقة تعامل الآخرين مع الشخصية وحديثهم عنها ـ أثناء الفعل ـ لنعرف جانبا من سماتها. كما أن التكرار ضروري للتأكيد على هذه السمات، فلا يعني أنها حركه عابرة، أنها لا تعبر عن سمة خاصة. فالمهم أنه بمحصلة السمات الثلاث السابقة، يمكن الخروج بالجانب الثابت للشخصية، الذي يُعطي مؤشراً واضحاً لموقفها.
4. سمة الدوافع المحركة للشخصية:
تُعد الخطوة الأولى من الناحية الديناميكية للشخصية، أو الخطوة الأولى في التحقيق الدرامي، أي إلى الدوافع المحركة، (لدواعي التيسير ترد كلمة (دوافع) فقط للتعبير عن دوافع الشخصية مصحوبة بإرادة التنفيذ، التي تحيلها إلى قوة محركة أو سلوك واضح).
ويمكن أن تُعّرف الدوافع بأنها "القوة الدافعة في داخل الإنسان، كرغبات أو أفكار أو حالة عضوية أو انفعالية، التي تحثه وتحرضه على أن يفعل شيئا ما" أو "هي الاعتبارات والموضوعات، التي تؤثر في اختيار الإنسان أو تحرضه على فعل ما".
وقد تكون الدوافع غائية (أو أخلاقية) لتحقيق هدف معنوي، كتحقيق العدالة الاجتماعية، أو للحصول على جائزة محددة، أو تكون الدوافع (وسائلية)، مثل اختيار أنسب الأسلحة وطرق التحصين للدفاع، أو اختيار طريقة معينة لفضح الفساد.
وبطريقة أبسط لملاحظة الفرق بين نوعى الدوافع، نجد أن هناك دافعاً غائياً أو أخلاقياً لقتل فلان، لأنه اعتدى على عرض الشخصية مثلاً.
أما الدافع السائلي فهو الذي يدفع إلى اختيار وسيلة معينة للقتل لإخفاء معالم جريمة القتل، أو لتحقيق أكبر قدر من تعذيب القتيل. وفي العادة قلَّ أن يخلو عمل من نوعّى الدوافع، وإن اختلفت النسب بينها تبعاً لنوع القصة.
وتنشأ الدوافع، بصفة عامة، من الغرائز أو الانفعالات أو الفعل، وفي الحالة الأولى يكون السلوك لا واعياً تقريباً، مثل تلبية احتياجات الجوع أو العطش أو الألم.
والانفعال: "هو عبارة عن انفعال فسيولوجى للشخصية من حالة اتزان بدني، إلى حالة نشاط ذاتي جديد، بسبب تعرضها لأحاسيس قوية مثل " الخوف، الفرح، الحزن، الرغبة، الحب، الكراهية، الغضب، المفاجأة".
ومن الضروري أن نعمل دائماً على إثارة الانفعال لدى الشخصية، بمواجهات أو ظروف أو مواقف، وبالطريقة الكافية لإثارة انفعالها، فتتحقق الاستجابة لهذه الإثارة تبعاً لنوعها وقوتها وسمات الشخصية، وتتولد رغبات ودوافع السلوك المناسب الذي تدفع إليه بإرادة التنفيذ نتيجة للانفعال.
ويُلاحظ أن الدوافع التي تنشأ عن مثل هذه الانفعالات هي موضعية ونصف واعية، إذ إِنّ فيها قدراً كبيراً من التلقائية.
وهناك نوع آخر من الدوافع: فعندما يهدأ الانفعال، يزداد نشاط الفعل، وتتحول الدوافع والرغبات المرحلية إلى هدف، أو أهداف بعيدة، وتصبح هي الدوافع الفعلية، التي تحرك الشخصية عن وعى كامل بها، وبما يعقب ذلك من وضع الخطط والمضي في العمل لتحقيقها. كما أن هذه الدوافع العقلية، قد تنشأ عن تراكمات لأسباب اجتماعية، كأن يكون البطل من أسرة ذاقت ألوان الفقر، فيتكون لديه الدافع لاقتحام الصعاب بحثاً عن الثروة، وقد تختص الدوافع بالعمل ككل أو بجزء منه، وهذا النوع يعتبر الدوافع المحركة الأساسية في العمل الفني، التي يجب أن يكون المشاهد على علم بها، كما يفضل أن تكون شخصيات العمل على علم بها أيضاً.
وبهذا تكون الشخصية قد وضعت في الإطار الديناميكي، بتهيئة مثيرات الانفعال، وتوليد الرغبات والدوافع والهدف والخطة والفعل والصراع، وفي كل ذلك ينبغي ألاّ تُهمل السمات الثلاث السابق الإشارة إليها، أو ما يمكن أن يُسمى السمات الاستاتيكية أو الثابتة للشخصية.
5. سمة التدبر، أو المداولة، أو التروي:
تختلف هذه السمة في الشخصية الواحدة، تبعاً للدوافع والأحداث، فهي تأخذ حيزاً صغيراً في حالة الدوافع الانفعالية المرحلية نصف الواعية، ولكنها تأخذ حيزاً أكبر في حالة الدوافع العقلية، أو الأهداف البعيدة. وهي تختلف كماً ونوعاً من شخصية إلى أخرى، كما أنها في العادة تأخذ حيزاً أكبر من القرارات الأخلاقية، بمعنى هل تفعل الشيء أو لا تفعله؟ وتأخذ حيزاً أصغر من القرارات الوسائلية، أي كيف تفعل؟.
ولأهمية هذه السمة، فلابد أن تأخذ حيزاً كافياً ومقنعاً من العمل، يتناسب طردياً مع أهمية دور الشخصية وأهمية الحدث، ولكن يجب أن نؤخذ في الاعتبار إمكانات اللغة السينمائية، وما تستطيع أن تنقله الكاميرا بتركيز شديد، من نظرة عين أو حركة يد تعبر عن عمق التدبر. وأن تتأكد في كل الحالات أن الأمر لا يقف عند فهم المشاهد لقيام الشخصية بالتدبر فقط، ولكن يجب أن تشركه في الإحساس والمشاركة فيه، أي أن نجعل المشاهد يعيش الأزمة مع الشخصية، ثم يأتي القرار في الوقت المناسب.
6. سمة اتخاذ القرار:
تُعد أكثر السمات تعبيراً عن الشخصية، إضافة إلى أنها تُعطي أكبر الأثر في مسار العمل، وهو اتخاذ القرار وتنفيذه.
والقرار هو الذروة، صغيرة كانت أم كبيرة، ويعقبه، بالضرورة، تغير صغير أو حاسم، ويجب أن تكون القرارات مبنية على، أو منسجمة مع، كل السمات المعروفة، وإلاَّ فسوف تُقابل بالاحتجاج والرفض من المشاهد، بل قد يتسبب قرار واحد خاطئ في إهدار المصداقية، ومن ثم رفض العمل بالكامل.
وبطبيعة الحال، فالحديث عن اتخاذ القرار، يعني أن يكون ذلك مصحوباً بتنفيذه، وأغلب القرارات تكون دائماً بطبيعتها مصحوبة بالسلوك، أو يتعذر توضيحها من غير السلوك. وحتى في الحالات التي نذكر فيها القرار أولاً ثم يأتي تنفيذ بعد ذلك، فمن المستحسن أن يُعرّف بالقرار عند تنفيذه، حتى يُحتفظ بذروة قوية، باعتبار التنفيذ من أهم اللحظات في الأعمال الفنية، التي تستحوذ على قدر كبير من اهتمام المشاهد، وتركيزه في المشاهدة.
ويجب أن يكون واضحاً في الأذهان، أن اتخاذ القرارات أمر يشيع أثناء العمل، ولا يخلو منه عمل فني على الإطلاق، إلا أنه توجد أعمال تعتمد في بنائها الأساسي ونتيجتها، على اتخاذ قرار مهم معين، وهو في الأغلب قرار أخلاقي، ويمكن أن تُسمى "قصص القرار". وهناك أعمال أخرى تعتمد أساساً على تحقيق غرض محدد (مثل تدمير هدف حربي)، ويمكن أن تُسمى قصص (تحقيق الهدف)، وفيها يكون القرار وسائلياً في الأغلب.
وعموماً فليس من الضروري بحث وإعطاء كل السّمات السابقة لجميع شخصيات العمل، إذ قد يُكتفي بسمة أو اثنتين لبعض الشخصيات الهامشية، وكلّما ازدادت أهمية الشخصية، لزم أن تُعطي معظم أوكل السمات المذكورة.
وهناك سمات أخرى من المفيد أن تتحلى بها الشخصيات الرئيسية، ومثال ذلك:
أ. قوة الإرادة:
وهي تعني الإصرار، الذي لا يتزعزع عن تحقيق الهدف الرئيسي، وعدم التحول عنه مهما كان شعور الشخصية بالأخطار والتهديد واحتمالات الفشل.
والمشاهد يميل دائماً إلى متابعة الأبطال ذوى الإرادة القوية، والعزيمة التي لا تتزعزع، ويفضل الشخصية التي تصر على تحقيق هدفها.
ب. الذكاء:
لا شك أن الذكاء من السِّمات المرغوبة جداً بالنسبة للشخصيات عموماً وللشخصيات الرئيسية على وجه الخصوص، والذي يشكل عنصراً هاماً بالنسبة للبطل والخصم على السواء، وهو يجعل الصراع بينهما مشوقاً ومثيراً ومتكافئاً. وليس من المفترض أن نشترط أن تكون الشخصية المحورية على ذكاء خارق، مما يحيلها إلى شخصية فوق مستوى البشر، فمثل هذه الشخصية يصعب التوحد معها وتهدد العمل الفني.
ج. المكانة المميزة:
وهي تختص أساساً بالبطل، أو بالشرير، بين أقرانه، وتعتمد كثيراً على السمتين السابقتين، وليس المقصود بالمكانة المميزة أن يكون البطل، أو الشرير، ذا مركز مرموق في الحياة، وإنما تعني أن يكون أكثر أقرانه إيماناً بمعتقداتهم وأهدافهم المشتركة، بل قد يرى تحقيقها مسألة حياة أو موت بالنسبة إليه، ولا يحيد عنها أبداً مهما مر به من ألام أو أخطار أو مرارة أو هزائم، أو حتى لحظات ضعف أو شك.
د. الجاذبية:
وتعني جاذبية الشخصية، كما كتبها الكاتب. وتلعب أساليب تفرد الشخصية دوراً مهماً في تحقيق الجاذبية، إلى جوار سماتها الأخلاقية، كما تلعب ردود أفعال الشخصية دوراً مهماً في ذلك، إذ يبدو عليها الإعجاب بما هو محبب ومحترم، كما يبدو عليها البغض والكره، لما هو خلاف ذلك. ويزيد من جاذبية الشخص أن يكون أقرانها، أو بعضهم على الأقل، متمتعين أيضاً بقدر كبير من الجاذبية.
وقد يلجأ الكاتب إلى تحقيق الجاذبية للشخصية عن طريق العنف الشديد، أو القسوة الشديدة، مع ما فيها من إثارة الرعب لدى المشاهد في بعض الأحيان، دون إعطاء الشخصية أية سمة محببة، أو تصرف مقبول، وقد يكون ذلك عاملاً مؤثراً في تحقيق الجاذبية لدى المُشاهد، الذي يرغب في مشاهدة مثل هذا النوع من المواقف.
هـ. العلاقات مع الآخرين:
سواء من ناحية الكم أو النّوع، فمن ناحية الكم، نحتاج إلى علاقات كافية مع الآخرين، لإظهار سمات الشّخصية والتعبير عن آمالها وآلامها، وتوضيح ما نريد توضيحه في المواقف والظروف المختلفة. التي تسمح بها هذه العلاقات. والبطل بنوع خاص يحتاج إلى المزيد من العلاقات المنوعة بالآخرين، بحكم أهمية دوره ومساحته الزمنية الكبيرة، وتشابك علاقاته، ولا يكفي أن ننظر إلى هذه العلاقات من ناحية الكم والعدد فقط، ولكن يجب أن تشتمل هذه العلاقات على العناصر الدرامية الضرورية، بما فيها من تأثير وتأثر وتنوع وصراعات وأزمات، تدفع بالحدث إلى الأمام.
و. الوضوح والمصداقية:
في كل ما سبق يجب أن يكون، ما يُتوخى في رسم الشخصية واضحاً في العمل، وليس في ذهن الكاتب فقط، وعليه أن يراجع ذلك دائماً.
ويُقصد بالمصداقية، مصداقية العمل والشخصية، وليس مصداقية الحياة. ومن المفضّل عند رسم الشخصيات أن تُعطى قدراً كافياً من مشابهة الواقع، فهذا يقّربها إلى سرعة الفهم، والتقبل عند المشاهد.
المبحث السابع
المشهد والمكان والزمان
أولا: المشهد The Scene
يُعد المشهد، أكثر العناصر أهمية في السيناريو، المكان الذي يقع فيه حدث ما، حين يحدث أمر معين ما، كما أنه وحدة خاصة من الحدث الدرامي، والمكان الذي تسرد فيه أحداث القصة.
فالمشاهد الجيدة تصنع أفلاماً جيدة، فعندما تذكُر فيلماً جيداً، فإنك تتذكر مشاهد، ولا تتذكر الفيلم كله. إن الطريقة التي يعرض فيها الكاتب مشاهده على صفحات الورق، تترك أثرها البالغ على مجمل السيناريو، لأن السيناريو هو خبرة قراءة. إن غرض المشهد وغايته، أن يدفع بالقصة إلى الأمام.
والمشهد قد يطول أو يقصر، حسبما نراد به، فقد يطول بحيث يشتمل على ثلاث صفحات حوار، أو قد يكون قصيراً إلى حدٍ يتكون فيه من لقطة، كمشهد سيارة تنطلق مسرعة، في طريق عام. إذن، فالمشهد من صنع كاتب، من حيث الطول أو القصر. والقصة هي التي تلعب دوراً مهماً في تقرير طول أو قصر المشهد، فهي التي ستوضح كل شيء يراد معرفته.
ويشتمل كل مشهد على أمرين: المكان والزمان.
في أي "مكان" تدور أحداث المشهد؟ أفي مكتب؟ أم في سيارة؟ أم على الشاطئ؟ أم في الجبال؟ أم في شارع مزدحم داخل مدينة؟ وأين هو الموقع location الخاص بالمشهد؟
أما العنصر الآخر فهو الزمان " Time "، ويعني الزمان الذي تدور فيه أحداث المشهد. وهل في النهار أم في الليل؟ هل في الصباح؟ أم بعد الظهر؟ أم في وقت متأخر من الليل؟
ويقع كل مشهد في نطاق "مكان" محدد، في "زمان" محدد، وهل هو نهاري أم ليلى؟، وأين هو المكان الذي تجرى فيه أحداث المشهد؟ في الداخل أم في الخارج، أو كما يشار إليه بعبارة (داخلي Interior) أو خارجي (Exterior). وعلى ذلك فإن المشهد، من حيث الشكل، يصبح كالآتي: داخلي: "بغرفة جلوس ـ ليلى"، أو خارجي: "شارع ـ نهاري"، فعلى الكاتب أن يكون ملماً بمسألتي المكان والزمان، قبل أن يؤسس أو يبني أي مشهد، لأنه إذا تم تغيير أي منهما ـ أي الزمان أو المكان ـ نصبح أمام مشهد جديد.
إن تغييرات المشهد ضرورية حتماً في تطوير السيناريو. فالمشهد هو كل شيء يحدث، حيث تُروى فيه القصة بلغة الصور المتحركة.
والمشهد مبني على أساس البداية والوسط والنهاية، مثل السيناريو، كما يُمكن أن يُقدم جزء منه قسماً من المشهد، كأن تظهر فقط نهاية المشهد.
وكل مشهد يكشف النقاب عن جانب واحد على الأقل، من المعلومات الضرورية التي تتضمنها القصة، ونادراً ما يقدم المشهد أكثر من ذلك. إن المعلومة، التي يتلقاها المشاهد، هي الغاية والقصد من المشهد.
وعموماً، هناك نوعان من المشاهد: الأول، حيث يقع حدث ما، ونشاهده "بصريا"، مثل مشهد الفعل والحركة، كمشهد المطاردة التي تدور في بداية فيلم حرب النجوم، أو مشاهد الملاكمة في فيلم روكي، والنوع الآخر هو مشهد حوار بين شخصين أو أكثر، ومعظم المشاهد تشمل الأمرين معاً.
لنفترض أن الكاتب بصدد كتابة مشهد حول وضع حد لعلاقة، تُرى كيف يُقدم مثل هذا المشهد؟
في البداية تُثبْت الغاية من المشهد وتحدّد، وفي هذه الحالة تكون العلاقة قد أنهيت، ثم نحدد بعد ذلك المكان الذي يقع فيه الحدث، وتوقيت وقوعه، نهاراً أو ليلاً، وقد يقع مكان الحدث في سيارة أو في الشارع أو في دار للسينما أو في مطعم. ويتوقف ذلك على الهدف من المشهد.
وينبغي على الكاتب أن يمارس حرية "الخيار Choice"، و"المسئولية Responsibility"، أثناء بناء وتقديم المشاهد التي يكتبها.
ثانياً: المكان:
يبرز الدور الأساسي، الذي يلعبه المكان في الفيلم، من جراء أن الكاميرا تستطيع الذهاب إلى أية بقعة في العالم، دون أي تأخير. فيمكن أن يكون المشهد في أفريقيا، ثم يتبعه مشهد في آسيا، ويمكن تقديم مشهد في طائرة، ويكون المشهد التالي في أعماق الأرض، في منجم فحم.
فالفيلم السينمائي حر في هذا المجال، ولكن سرعان ما يزول الفرح بهذه الإمكانات الهائلة، بالسؤال عن أي الأماكن التي يجب أن تذهب إليها الكاميرا؟. وبالنسبة للقرار الذي يتعلق باختيار اللقطات، يمكن أن القول، بأن في الإمكان الذهاب إلى تلك الأماكن، التي يقع فيها شيء مهم.
وبشكل مشابه، أيضاً، ينتج هذا المبدأ عن الحاجة الضرورية في الذهاب إلى كل الأماكن التي يقع فيها شيء مهم. ومن الخطأ أن يُشار إلى حادثة مهمة تقع في مكان آخر دون أن نرى الحادثة، فهذا هو الاختلاف الحيوي بين الفيلم والمسرح.
ويمكن أن تقع حادثة خلاف مثلاً، بين خصمين دون حاجته إلى مكان محدد. وفي هذه الحالة يواجه الكاتب بمشكلة اختيار المكان الصحيح لهذه الحادثة. وتأتي حرية الذهاب إلى مكان ما، من حاجتنا إلى الاختيار السليم للمكان.
ويجب أن ندرك أن كل مكان مرتبط بمعالم محددة، وتؤثر هذه المعالم في الأحداث، التي تقع فيه، ومن ثم يعني الاختيار السليم للمكان، أن تضيف هذه المعالم إلى الأحداث، ويعنى الاختيار الخاطئ للمكان حدوث التناقض. وبالفعل نجد أن الاختيار العبثي للمكان، في أغلب الأفلام المتواضعة، يؤدى إلى حدوث خلل في الفيلم، أما الفيلم الجيد فإن الاختيار السليم للمكان، يؤدي إلى إضافة جوهرية لقيم القصة.
وتتكون معالم المكان من:
1. السمة المميزة (مكتب، أو مزرعة، أو مستشفي).
2. النوع (مزدحم، أو جديد، أو رخيص).
3. الغرض (متحف للفن، أو مصنع السلع، أو سجن).
4. العلاقة بالنسبة للشخص، أو مع أكثر من شخص.
5. الموقع (مطعم في أحد المصايف، أو كوخ في الصحراء، أو غرفة فندق في مدينة ما).
ويمكن لكل وحدة من هذه المعالم أن تؤثر في المشهد بقوة، كما يمكن أن يحدد نوع المكان الملامح الشخصية لأصحابه. وقد تكون للموقع أهمية ليس فقط لذاته، ولكن أيضاً لعلاقته بموقع في مكان آخر.
ثالثاً: الزمان:
عند مناقشة "المكان" كانت الظواهر ملموسة، والحقائق، مادية. ولكن في "الزمان" يبدو الأمر تجريدياً تماماً. فالزمن شيء خفي، حتى فكر كثير من كتاب السيناريو في تجاهله. ولكن على الرغم من كون الزمان خفياً ومجرداً، إلا أنه لديه طريقة ملموسة تساعد، أو تقضى على السرد القصصي في الفيلم.
ويكمن الاختلاف الأساسي بين المكان والزمان، في أنّ "المكان" يظل على ما هو عليه، بينما "الزمان" لا يدوم، حتى لمدة ثانية. فغرفة النوم هي نفسها بعد يوم أو بعد أسبوع، ولكن الزمان يتقدم من دقيقة لأخرى.
ومن ناحية أخرى، يمكن أن توجد أماكن مختلفة، تفصلها مسافات، ولا يهم اتساع أو بُعد المسافات بينها. فالوقت هو الوقت نفسه بالنسبة إليها في ساعة معينة متفق عليها. ولمّا كان الوقت متماثلاً بالنسبة للمواقع المختلفة، فإن الزمن يُعد بمثابة وسيلة ممتازة للوصل بين الأماكن المتباعدة بعضها ببعض، وهذا يعنى أن الحدث الذي يقع في وقت معين في أحد الأماكن، يمكن أن يتواصل مع حادثة تقع في الوقت نفسه في مكان آخر، فوسيلة الربط هي التماثل.
والزمن دوماً متحرك، وهذه الحركة تكون، دائماً، للأمام. ويمكن للروائي أن يضفي بحرية أحداثاً وقعت في الماضي، وتلك التي سوف تحدث في المستقبل، ولكن مع الأخذ في الحسبان أن مشاهد الفيلم تتحرك للأمام. وبترتيب متتال يشير إلى التعاقب الزمني، ويمكن تبديل هذا الانسياب بالارتدادات، أو بالاختراع الجديد نسبياً من خلال التخيل أو الامتداد للأمام، على أن يتم تناولهما بلباقة، لتجنب بلبلة المتفرج.
والزمن الكلي، الذي تمثله قصة الفيلم السينمائي، غير محدود، حيث يمكن أن يراوح بين ساعتين إلى عدد من السنوات، ولكن لابد أن يفهم أن الثانية من الزمن داخل كل مشهد، هي بمثابة ثانية من الزمن الحقيقي. فالمشهد الذي يستمر خمس دقائق، يمثل خمس دقائق من الزمن الفعلي، ليس أكثر وليس أقل. وبمعنى آخر، فالفيلم الذي يُغطي في ساعتين فترة قرنين من الزمان، نرى فقط من بين آلاف الساعات، ساعتين من داخل هذه المساحة الطويلة من الزمن، والباقي يحتويه الوقت المنقضي بين المَشَاهد.
ويعنى هذا أن المشهد الذي يستمر طويلاً، سوف يبدو بطيئاً، لأن التدفق المستمر للزمن سيبدو بطيئاً، بالمقارنة مع الفترات، التي نستطيع أن نميّزها في مرور الزمن. ويمكن لكاتب السيناريو أن يقطع مشهده بتداخل مشهد آخر، ويستطيع فيما بعد أن يعود إلى المشهد الأول، ولكن في الوقت نفسه يجب أن يُدرك أن الزمن قد تقدم، فلا يستطيع العودة إلى المشهد الأول الذي تركه؛ ولكن عليه العودة إليه عند لحظة لاحقة، تمثل على الأقل الزمن الذي انقضى في المشهد المتداخل. ومع ذلك يمكن أن يكون أكثر طولاً، لأن الزمن الذي انقضى بين المشهدين، لم يتحدد.
إِنّ مدة مرور الزمن لها تأثيرها على القصة، ومن أهم التأثيرات الجوهرية لمرور الزمن على عقولنا أنه يجعلنا ننسى. فهو يضّمد الجراح ويجعلنا نبتسم مما كان يُغضبنا في الماضي، وإذا فصل مرور يوم بين أحد المشاهد، فإن أحداث المشهد التالي تظل حادة، وتتمثل بحيوية في عقل المتفرج، كما في عقول الممثلين. أما إذا مّر عام خلال التغير من مشهد لآخر، فإن الأحداث تظل حاضرة بشكل حيوي في عقل المتفرج، لأنه عاش فترة ثانية واحدة بين المشهدين، ولكن ليس الأمر كذلك بالنسبة لعقول شخصيات في القصة. فبالنسبة لهم فإن مرور الزمن الطويل قد محا التأثير الوقتي للثورة، أو الغضب، أو الفرح، أو الحزن. وتستطيع فقط العواطف أو المواقف العميقة، البقاء لمدة طويلة من الزمن. والفيلم الذي يحتوى على فترات مرور للزمن طويلة بين المشاهد، يُصبح ملحمياً بدلاً من درامياً، حيث يكون درامياً في أجزاء متناثرة، أي في تلك المجموعة من المشاهد، التي لا تفصلها فترات زمنية طويلة.
عرض الزمان:
إن التعرف على مكان محدد مرة واحدة كافٍ، لأن المكان يظل كما هو. فإذا حدثت بعض المشاهد خلال سير القصة في المكان نفسه، فتكفي فقط المرة الأولى للتعرف على المكان، ومن ثم فسوف نتعرف بسهولة على موقع التصوير. وهذا يعنى عدم ضرورة عرض المكان حتى نهاية الفيلم، كلما عادت الأماكن نفسها إلى الظهور. وفائدة ذلك، أنه يعني على التركيز الكامل على الحدث، لأننا لسنا في حاجة إلى عرض المكان.
والحاجة إلى عرض دقيق للزمن، هي أقل ضرورة من الحاجة إلى عرض المكان. ولأن الزمن غير مرئي ومجرد، فيمكن عرضه فقط بالتعبير العملي. وكل حدث أو تطور يحتوى دائماً على مدى معين من الزمن، لذلك يمكن تمثيل مرور الوقت بالنتيجة أو التقدم لأي حدث، أو أي تطور، ويمكن بسهولة رؤية النتيجة، مثل تقدم الحدث أو التطور في الفيلم، وإذا تحقق ذلك، فهو يعني أننا نعرض الزّمن.
ويمكن أن يُعد التغير من النهار إلى الليل، ومن الليل إلى الصباح، بمثابة تطور. ومن الشائع أن مثل هذا التطور يتطلب حوالي اثنتي عشرة ساعة. ويسرى الشيء نفسه على تغير فصول السنة إذ يستغرق مشهد في الربيع، ومشهد في الخريف نصف عام على الأقل.
ومن المهم أن نتعرف على الصلة بين الزمن والحدث، كوسيلة مرغوبة للعرض تماماً بقدر ما هو إجراء مفروض، فعندما نعلم أن رجلاً يستغرق ساعة ليصل إلى مكتبه، فلا نستطيع أن ندعه يظهر هناك قبل ذلك، حتى ولو كان ظهوره مرغوباً فيه، من وجهة نظر القصة.
وإذا أردنا عرض زمن المشهد التالي، بدلاً من مرور الزمن بين المشاهد، بشكل معبّر وغير مباشر، فيُمكن ذلك بواسطة الحوار. وكذلك الأمر بالنسبة للمعلومات عن المكان، فيمكن إعداد زمن المشهد إما مسبقاً، أو عرضه عند بداية المشهد، أو إرجائه لما بعد المشهد.
المبحث الثامن
الحوار
أولاً: أنواع الحوار
هناك أربعة أنواع من الحوارات:
1. حوار العرض: ويستخدم بشكل خاص في التمهيد، وهدفه تقديم المعطيات الأولية للفعل إلى المشاهد، وشرح حالة معينة، وعرض أسباب تحديد هدف ما.
2. حوار الطبع: تعبر الشخصية من خلاله، بشكل مباشر أو غير مباشر، عن طبعها، وتعرض غاياتها، وتكشف عن نفسها، وعن فكرها ومشاعرها ونواياها.
3. حوار السلوك: ويسمى أيضاً حوار الحالة، ويرتبط بمظهر الشخصية وأفعالها واهتماماتها، وهو حوار عادى. ومن حيث المبدأ لا دلالة له، إنه يؤسس الصمت، ويؤدي الدور نفسه الذي يؤديه الضجيج، وهو يصاحب الحالة دون الإفصاح عنها، والعقل دون أن يُسهم في فهمه.
4. حوار الفعل: وهو الحوار الذي يؤدي أساساً دوراً درامياً، وهو يحرّض على الفعل ويجعله يتطور، ويوجد التوتر، ويحدد الآثار العنيفة. وهو حوار التطورات، وحوار الحب والنزاع.
وفي جميع الحالات، ينبغي على الحوار أن يخضع لقاعدة الممكن والضروري، وينبغي أن يكون ممكناً، أي أن يعطي انطباعاً عمّا هو طبيعي، وعن الحياة المعاشة، وعليه أن يكون مطابقاً لقانون التكثيف، الذي يسعى إلى تقديم الحد الأدنى للكلمات.
ثانياً: التتابع الحواري:
يمثل التتابع الحواري المرحلة النهائية من مراحل السيناريو، ومعالجته الأكثر اكتمالاً، ويقدم السيناريو على شكل تتابع حواري، قبل التقطيع الفني والإخراج.
وعرض السيناريو على هذا الشكل، نمط متفق عليه من قبل السينمائيين، وبالفعل فإن التتابع الحواري يشكّل الوثيقة التي ينتظم حولها ـ على الأقل من حيث المبدأ ـ تمويل وإنتاج الفيلم، ومن ثم فإنها تُكتب على عدة نسخ، وتبلّغ لجميع الأشخاص القادرين على المساعدة في إنتاج الفيلم وتصميمه، وعلى أثر قراءة التتابع الحواري يتحدد المنتجون والموزعون، للاتفاق على التوزيع والحصول على ضمانة الحد الأدنى.
إذاً فالتتابع الحواري يُشكل مفتاح التصور الاقتصادي والفني للفيلم، مثلما يشكل التقطيع الفني مفتاح تحضير التصوير، والعمل في موقع التصوير.
ينجم عما سبق أن على التتابع الحواري (ت. ح)، أن يخضع لقواعد ومعيار الكتابة، التي يكون هدفها تسهيل قراءته. وحتى يكون مقروءاً من قبل الجميع، ينبغي أن يكون السيناريو مكتوباً بشكل واضح، وعبارات في متناول الجميع، وأن تكون نوع عرضه وتحريره وكتابته ذا طبيعة تسهل التواصل مع "أصحاب القرار"، الذين يتعلق بهم تمويل الفيلم.
وخلافاً للمعالجات السابقة للسيناريو، التي هي عبارة عن مخططات وحالات تحضيرية للتتابع الحواري، فإن هذا الأخير يكون بمثابة أكبر عملية وصف متطور ممكن للفعل، وللديكور، وللشخصيات ولبيان الإكسسوارات. كما يتضمن الحالة النهائية للحوارات. وهناك استخدام قديم كان يرى ضرورة تقديم التتابع الحواري، وفقاً لنموذج التقطيع الفني على عمودين متساويين، ويخصص العمود اليسار لوصف الصورة، والعمود اليمين لشريط الصوت Son-Bande. إلا أن هذا العرض قد أُهمل، لأنه يجبر القارئ على ذهاب وإياب مستمرين.
الفصل الثالث
مصادر السيناريو
تتعدد مصادر السيناريو، فمنها الرواية الأدبية وهي أكثر أهمية وشيوعا؛ وكذلك الحياة الطبيعية المحيطة بنا، إضافة إلى القضايا السياسية، التي تؤدى إلى إنتاج أفلام تتناول قضية سياسية محددة بالتحليل، يعتمد الكاتب خلالها على نسيج درامي مختلف من حيث البناء. ومن المصادر المهمة كذلك ملفات المخابرات، وهي تمثل قضايا من الواقع، وتمتاز بالتشويق. وهناك الأحداث الاجتماعية، التي يمكن أن ينقل كاتب السيناريو عنها الكثير؛ وهي تميل، أحياناً، إلى تناول التغييرات الاجتماعية والسياسية.
ومن المصادر المهمة أيضاً، الأحداث التاريخية، التي يمكن الخروج منها بسيناريوهات رائعة، خاصة أنها تمثل تاريخ الدولة أو الأمة وواقعها وحضارتها، وتتميز هذه الأفلام بدقة التوثيق والمواقف، التي تجذب المشاهد بما تضمه من أحداث، تعكس طبيعة الصراع في ذلك الوقت. كما يُعد المسرح من أهم مصادر السيناريو الروائي، وقد نقلت السينما ـ في الواقع - الكثير من المسرحيات، وبرع كثيرون في تقديم هذا النوع من الأعمال إلى السينما بشكل ناجح.
المبحث التاسع
الرواية الأدبية، كأحد مصادر السيناريو
يختلف فن كتابة الرواية عن فن كتابة السيناريو الروائي، مع أنهما من أقرب ألوان التناول الدرامي. وبمعنى آخر فإنهما يتشابهان في المضمون، ويختلفان في الشكل.
وعلى الرغم من التشابه المفترض بينهما، إلاّ أن كل منهما "كوسيط" يختلف عن الآخر، في لغته وأدواته.
وللربط بين كلا الوسيطين، نستعرض بعض آراء الكتاب، حول هذه العلاقة:
يقول الناقد هربرت ريد: "إن الفيلم الذي يعتمد على الخيال لن يظهر حتى يدخل الشاعر الأستوديو، وكلمة "الشاعر" هنا تعني التعبير عما بداخله بالصور الذهنية والكلمات، أو بالصور المرئية، وتلخص العبارة السابقة الرّابطة القوية بين الأدب والسينما".
وهناك مقولات أخرى، لعدد من الكتاب والنقاد بهذا الشأن، منها الآتي:
1. يقول المخرج الأمريكي "د. و. جريفث - D.W.Greafce"، عام 1913 حيث يقول: "إن المهمة التي أحاول تحقيقها أولاً وقبل كل شيء، هو أن أجعلك ترى".
2. يقول الأديب "جوزيف كونراد G.Konrad"، في نهاية القرن 19: "مهمتي هي عن طريق الكلمة المكتوبة، أن أجعلك تسمع وتحس، وقبل كل شيء أجعلك ترى".
3. يقول الناقد "هـ. ريد H.Raid": الذي يجمع بين المقولتين: "إذا سألتموني عن أبرز قيمة في الكتابة الأدبية الجيدة، فأنني أوجزها في كلمة واحدة، هي: المرئيات ووصف الصورة".
…والواقع أن الصورة الذهنية في الأدب، يترجمها خيال القارئ إلى صورة بصرية، وتترجمها السينما إلى صورة مرئية. والصورة المرئية في السينما، أيضاً، يجب أن تُخاطب الذهن، وتستثير الحواس، وتترجم إلى صور ذهنية يستوعبها العقل، بعد الرؤية.
أولاً: تطور الرواية الأدبية:
تُعد الرواية من فنون الأدب الحديثة - مقارنة بالمسرح - لأنها حتى العصور الوسطى، لم تكن قد ظهرت الملامح أو الخصائص المميزة لها. فقد بدأت في بعض دول أوروبا، كإيطاليا وفرنسا وألمانيا، على شكل قصص فلكلورية غير مكتوبة، ومتناقلة عبر الشفاه، التي أخذت شكلاًً آخر من أشكال الأدب الشعبي. ثم أصبحت بعد ذلك عبارة عن مجموعة من القصص تدور حول شخصية واحدة، ذات مميزات خاصة. ويرى الدكتور لويس عوض: أن أقدم نماذج الرواية لم تظهر قبل النصف الثاني من القرن السادس عشر، ويذكر أن الخيوط الأولى لفن القصص كانت موجودة في التراث العربي مثل "ألف ليلة وليلة".
إنّ البداية الحقيقية لفن الرواية والقصة القصيرة، هي نخبة من أعمال "بوكاشيو"، في إيطاليا، و"سيرفانتس" في أسبانيا، حيث نجد أن الطابع الأساسي هو التركيز على بطل أو مجموعة من الأبطال، ووصف شخصياتهم، والتعبير عن موقف فلسفي من الحياة، من خلال تطوير الأحداث في تسلسل زمني. وتُعد الرواية امتداداً طبيعياً للملحمة، فكلتاهما تعتمدان على السرد من خلال بناء فني ضخم، إلاّ أن الفرق الجوهري بينهما هو أن أبطال الملاحم كانوا دائماً من الملوك والأشراف، أما الرواية، على العكس، فكان أبطالها من الأشخاص العاديين.
وهناك مرحلة رئيسية تحول عندها فن الرواية، وتطور تطوراً كبيراً، عندما تحول اهتمام كتاب الرواية من سرد الأحداث الخارجية، إلى داخل النفس البشرية. فاهتمت الرواية في هذه المرحلة بسيكولوجية الشخصيات، وما بداخلها من انفعالات، بعد أن كانت تهتم بتسلسل الأحداث والتفاعل بين شخصية البطل والعالم من حوله، مما أدى إلى اكتشاف القوى الخفية، التي تسيطر على فكر الإنسان وشعوره وأفعاله وسلوكه ومعتقداته، والتي أدت إلى ظهور المدرسة النفسية في الرواية.
إنّ الاختلاف الأساسي بين الروايات النفسية الأولى، والروايات النفسية الحديثة، هو أن الإنسان في الروايات الأولى كان يتحرك داخل إطار زمني، تترجم من خلاله الأحداث المتعاقبة، أما الرواية الحديثة فقد تجاهلت عنصر الزمن والعالم الخارجي، وعزلت الإنسان عنه، وأصبح الزمان في الرواية الحديثة لا يقوم كموضوع بذاته.
وقد بلغت هذه المدرسة في الرواية قمة مجدها ونضجها، على يد "جيمس جويس James Joyce"، ومثال لتلك الروايات، رواية أوليس، التي كتبها جويس خلال فترة الحرب العالمية الثانية. وسمى هذا التيار الأدبي باسم مدرسة "تيار الوعي". ثم تلي ذلك ثورة على ذلك التيار وهو ما أطلق عليه " مدرسة الروايات الجديدة، ورائدها الفرنسي (الان روب جرييه)، ومن بعده (ناتالى ساورت) و (مارجريت دورا).
ثانياً: العلاقة بين الرواية والسيناريو:
تُعد الرواية والفيلم شكلان للون واحد من ألوان الفنون، وهو فن السرد، سواء عن طريق اللغة المكتوبة، أو عن طريق الصور المرئية، إلاّ أن كليهما يقدم السرد لمجموعة من الأحداث من خلال الشخصيات. وعلى الرغم من التشابه الظاهري بين الفيلم السينمائي والمسرحية ـ باعتبار كلاهما وسيط جماهيري أدائي - إلا أن السينمائي أقرب ما يكون للشكل الفني للرواية، حيث يعتمد في الأساس على الوصف والسرد، أكثر من الحوار. ولكن الاختلاف الجوهري هو في طبيعة كل وسيط، ذلك أنه بينما تتوقف الحركة في الرواية - كلما توقف الروائي عند الوصف - إلاّ أن الوصف في الفيلم يُقدم أثناء حركة الأحداث، خلافاً للروائي فهو في الفيلم يستغرق وقتاً أطول مما تستغرقه الرواية في سرد حدث ما. فلو كتب الروائي مثلاً ـ أن أحد الشخصيات سافرت إلى مكان ما، فإن سرد ذلك الحدث لن يستغرق أكثر من تلك الجملة، أما إذا أردنا تقديم تلك المعلومة في الفيلم، فإنه - مع الحد الأدنى فقط لتصوير السفر والوصول - يستغرق وقتاً أطول كثيراً من قراءة تلك المعلومة في الرواية.
هنا يبرز اختلاف أساسي بين الوسيطين، في عملية التلقي الزمني، أو الإحساس الزمني، عند المتلقي للرواية والفيلم. والرواية تكون ـ غالباً ـ من مئات الصفحات، وتستغرق عدة ساعات متواصلة، في حين أن متوسط طول الفيلم العادي حوالي ساعتين.
والمتلقي للرواية له اليد العليا في عملية القراءة، فهو يتوقف عندما يريد، ويعود إلى الصفحات السابقة لاسترجاع حدث ما، إلى جانب إضافات خيال القارئ، وهي ميزة تختص بها عملية القراءة دون غيرها، ولا توجد في أي من الفنون الأدائية، إلاّ في حالة الدراما الإذاعية.
وعلى الجانب الأخر نجد أن المشاهد للفيلم السينمائي تتوافر أمامه المرئيات والأحداث تباعاً، حيث لا فرصة للتوقف والإعادة. وفي مقارنة بين الأدب والسينما يرى الكاتب" توفيق الكاتب": أن عالم الكاتب أرحب وأعمق، وأن السينما محدودة بالنسبة إليه، وأن القصة تصل إلى أبعاد في الفكر لا تصل إليها الكاميرا. ولكن فات الكاتب أنه ليست المسألة قدرة الكاميرا المحدودة، أو القلم اللامحدود، ولكن المسألة تكمن في عملية التلقي، وإطلاق العنان لخيال القارئ أكثر من متلقي السينما، الذي يرى أمامه صوراً مجسمة لا يستطيع خياله تغييرها.
ثالثاً: خصائص الرواية والفيلم وسماتهما:
هناك آراء لبعض الأدباء والمتخصصين، ترفض إرجاع الابتكارات الفيلمية إلى أصول أدبية. وبدلاً من ذلك ناقشوا أثر الفن السينمائي، على أدب الرواية بعد السينما. والواقع أن الرواية الحديثة تأثرت بالفعل بتكنيك الفيلم السينمائي في نواح عديدة، مثل التتابع السريع للأحداث، وتداخل الأزمنة، إلى جانب عدم التفكير بالشكل السردي التقليدي. فقد أخذت القصة الحديثة أسلوب الفيلم السينمائي، الذي يتأرجح بين الحاضر والماضي، بكل ما فيه من ذكريات وتجارب وصور. كما اختفت الحدوته التقليدية، إلى جانب تأثر القصة الحديثة بالزمان والمكان في السينما، وقدرتها على تصويرهما، وتوضيح التغير المستمر فيها. فضلاً عن تأثرها أيضاً بتكنيك السينما في تجسيد وتصوير، حاستي السمع والبصر.
وتُعد عملية النقل من الأدب إلى السينما من أكثر المشكلات صعوبة، حيث لابد من إيجاد المعادل، الذي يعبر عن المضمون نفسه، مع الوعي بوجود وسيلة تعبير مختلفة، خاصة بكل وسيط. وفيما يختص بالمجاز في الفيلم، فإن الناقد "رودلف ارنهايم Rudelph Arnheim" يذكر: "أن الفيلم هو وسيط يدرك بالحواس، وأن الأشياء والموضوعات المجردة، لا يمكن عرضها مع بعضها على الشاشة، وخلق معنى من خلال ذلك العرض"، كما يرى أن الربط بين شيئين ـ لا صلة بينهما ـ في مشهد على الشاشة، لن يعطي المعنى المجازى المطلوب، لأن الخاصية الفوتوغرافية للفيلم لا تسمح بالمجاز، إلاّ في أضيق الحدود.
ويتوجه الفيلم إلى الحواس المدركة، ومن ثم لن يكون لديه حرية التعامل مع مفردات الواقع الملموس على اختلافها. أما الأدب فإنه يعتمد بشكل كامل على وسيط رمزي [1]. يقف حائلاً بين المدرك والمدركات الموضوعة في إطار رموز، أي بين القارئ والكلمة المكتوبة.
وعلى الرغم من أن الفيلم يُدرك عن طريق الحواس مباشرة، إلا أن المجال الرحب لدى الفيلم للاختيار من مفردات الواقع، قد يؤدي ـ أحياناً ـ إلى إعاقة توصيل أفكار ومعاني معينة، لأن مفردات الواقع لا تُلمس بشكل دقيق في حالة الاحتياج إلى الاستعارة أو الرمز.
وقد يستغل القاص أو الروائي، رغبة المتلقي الذهنية لإيجاد التشابه بين الأشياء المختلفة، وذلك عن طريق استخدام الاستعارة، التي تعتبر من أعظم قيم النقد الأدبي. ففي اللغة الأدبية يستطيع الكاتب الربط والمقارنة بين أي شئ وكل شئ، بينما في اللغة السينمائية يتم ذلك في حدود معينة، مرتبطة بتكنيك السينما.
ويرى جورج بلوستون أن التفكير الرمزي أميل إلى الكتابة الأدبية، أكثر منه إلى الكتابة للشاشة، من خلال مفردات الواقع. وتتفق معه في ذلك الأديبة "فرجينيا وولف Virgenea woolf"، وتسوق مثلاً على ذلك من خلال جملة تصور طبيعة الصورة المكتوبة، واستحالة تحويلها إلى مرئيات، حتى في أبسط الصور مثل: "حُبُ وردةٍ حمراءَ .. تتفتح مع نسمات صيف يونيو"، هذه الصورة تعطى انطباعات وأحاسيس بالدفء والرطوبة، ونعومة الزهرة وتدفق لونها القرمذي، في امتزاج مع إيقاع الكلمات الشعرية وصوت العاطفة المترددة. وتؤكد "فرجيينا وولف" أن كل ما سبق خاص بالكلمات وحدها، وعلى السينما أن تتجنبه.
وعلى الجانب الآخر، نجد رأياً للكاتب الألماني "هانزماجنوس" مناقضاً لما سبق، إذ يقول إن إمكانات السينما التعبيرية غير محدودة. فهو يرى أن الفيلم يحتوى على شعر ونثر وصور بلاغية لا تقل ـ وقد تزيد أحياناً ـ عن بلاغة الكلمة المكتوبة. كما يذكر في مقالة له عن فن الفيلم: "وشعر الفيلم وأدبه ليس مقصوراً على وصف عطر الوردة، وتغريد البلابل، بل يتضمن مجالا رحباً لوصف الأشواك وزئير السِّباع، إلى جانب أن أدب الفيلم يتطلب من كتاب الموقف، الوقوف ساعات طويلة أمام الكاميرات، كالأديب الذي يقضى الساعات الطويلة على مكتبة ليسطر أدبه بالقلم".
وعلى كلٍ، فنلاحظ أن "هانز ماجنوس" في حماسه، خلط في آخر عباراته بين القدرة التعبيرية للسينما والأدب، وبين أدوات كل منهما التعبيرية. وعلى الرغم من منطقية وجهة النظر السابقة، إلاّ أن الرأي الذي يؤكد على محدودية المجاز في الفيلم، مقارنة بالمجاز في الأدب، هو الرأي الأرجح. فالفنان السينمائي يمكنه الوصول، إلى شكل من أشكال المجاز والاستعارة البلاغية، عن طريق المونتاج، إلا أنه أحياناً لا تتحقق الدقة الكاملة في نقل الصورة اللغوية إلى السينما، ويتوقف ذلك على مهارة كاتب السيناريو.
[1] يعني بالوسيط الرمزي هنا: الكلمة المكتوبة.
المبحث العاشر
"الواقع والقضايا السياسية والأحداث التاريخية"
كمصادر للسيناريو
أولاً: الواقع:
اشتهرت السينما من خلال كُتّاب الدراما، بالنقل من الحياة الواقعية المحيطة بشكل كبير. فقد نهلت السينما منها، وشكلت هذا الواقع وطوعته لأدواتها، واختلفت طرق التناول، كما تنوعت الموضوعات.
ومن أهم نماذج هذا الواقع ما يلي:
1. الخبر:
نجح بعض الكتاب في النقل عن الأخبار العابرة، التي قد ترد في الصحف، وكتبوا وفقاً لها أفلاماً ناجحة، مستغلين قدرتهم على التحليل والتخيل لهذا الخبر، وما يمكن أن يترتب عليه بعد ذلك.
ومثال تناول الكاتب والمخرج السينمائي سعيد مرزوق، خبراً ورد في جريدة الجمهورية المصرية عن حادث آثار الرأي العام. جاء في الخبر أنّ سيدة في الأربعينيات قتلت زوجها الثاني، الذي تزوجته بعد وفاة زوجها الأول، واكتشفت أنه إنسان لا يمكن معاشرته. وبعد قتله قطعت جثته إلى أجزاء يمكن حملها في حقائب صغيرة، وإلقائها في صناديق القمامة لإخفاء الجريمة. فدرس سعيد مرزوق ملفات القضية، وعكف على تخيل الأحداث، التي أدت إلى هذه الجريمة البشعة، من خلال المعلومات التي توفرت له من ملفات التحقيق. وقد نجح، إلى حد بعيد، في تقديم عمل سينمائي جيد وقوى باسم "القاتلة"، آثار ردود أفعال عنيفة، وأحدث ضجة لدى عرضه الأول في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي عام 1997، وحصل الممثل أبو بكر عزت على جائزة أفضل ممثل عن دوره في هذا الفيلم، الذي جسد فيه شخصية الضحية ووجهها الآخر، الذي تخيله سعيد مرزوق، وقد صوره في السيناريو ـ أي الضحية ـ على أنه الجاني الحقيقي.
ويتضح من هذا المثال براعة مؤلف السيناريو، في تناول الخبر بأسلوب درامي حديث، حيث اعتمد على أسلوب العودة للماضي Flash Back. وعلى الرغم من بداية الفيلم بذروة الأحداث، إلا أنه نجح في الحفاظ على أدواته الدرامية، خاصة ما يتعلق بعنصر "التشويق Suspense"، ومن ثم نجح الفيلم في معالجة إحدى القضايا المهمة وتجريدها عن طريق التركيز عليها، ومواصلة التأكيد عن أن الضحية الحقيقية هي "القاتلة"، وليس القاتل. وهناك العديد من الكتاب الذين استفادوا من مثل هذه الأخبار، وحوّلوها إلى قصص درامية تصلح للسينما، بل وكانت لها ردود أفعال عظيمة داخل مجتمعاتها.
2. قضية تهم الرأي:
أصبح من المتعارف عليه نقل بعض كتاب السيناريو، عن القضايا التي تهم الرأي العام، وتحقيق النجاح للعمل الذي هم بصدده. وكمثل هؤلاء الكتاب دورهم الكبير والمؤثر في تطوير الأحداث، من القضية الواقعية، التي أخذوا عنها موضوعهم، وكيفية تناولها.
ومن القضايا المهمة التي تناولتها السينما الجريمة المنظمة، التي أطلق عليها الرأي العام (الإرهاب). وتحت الاسم نفسه كتب المؤلف المسرحي (لينين الرملي) سيناريو سينمائي أخرجه المخرج (نادر جلال) للسينما عام 1994، تحت اسم (الإرهابي): وقد تناول الفيلم قضية حقيقية وقعت أحداثها في منطقة المعادى، من خلال اختفاء أحد الإرهابيين الخطرين داخل أحد المنازل، وسط عائلة مصرية استضافته ـ على جهل بشخصيته الحقيقية ـ لفترة زمنية. ثم اشتبك معه رجال الأمن، وهو يحاول الهرب مما أدى لمقتله. ولم تكن هذه الأحداث مطابقة تماماً للواقع، وهذا ما يحدث غالباً، فللدراما أسلوبها، أما الفكرة الأساسية فكانت موجودة فقط في السيناريو المنقول من الواقع، بينما باقي الأحداث ـ التي أوجدها الكاتب لينين الرملي ـ فكانت من محض خياله، وكان يعالج بها فكرة إعادة هؤلاء الخارجين عن القانون، إلى نسيج المجتمع من جديد.
وهكذا نرى أن الكاتب يستطيع نقل الفكرة الرئيسية، من قضية تهم الرأي العامْ، لينسج الأحداث، كيفما يرى، لخدمة ما هو بصدد معالجته.
3. أحداث اجتماعية نقل عنها كتاب السيناريو:
نتيجة لأحداث ثورة يوليه في مصر، حدثت تغييرات اجتماعية عديدة في المجتمع المصري، نتج عنها تغير في الهرم الطبقي، وفي سلم أولوياته، بما أدى إلى بروز طبقة اجتماعية جديدة، وحدوث نوع من تبديل المقاعد بين الطبقات.
وقد عالج المخرج "عاطف الطيب" هذه المتغيرات، في كتابته لسيناريو فيلم "سواق الأتوبيس" وتقديمه للسينما عن قصة حقيقية، لأحد أفراد الطبقة الكادحة، الذي قدّم كل ما لديه لبلده، ولكنه لم يجد من يساعده، من أهل بلده، عندما تعرض لأزمة. وقد استطاع عاطف الطيب أن يتتبع هذه الأزمة، وينقل عنها هذا السيناريو، مستخدماً الشخصية كنواة ينسج من خلالها خياله الشخصي للأحداث، مرتكزاً على الواقع الاجتماعي الموجود بالفعل، ومن خلال قضايا مماثلة من واقع المجتمع.
4. من ملفات المخابرات:
استطاع كتاب السيناريو، كذلك، أن ينقلوا عن ملفات حقيقية للمخابرات، ما يتعلق بقضايا الجاسوسية. وقد حققت هذه الأعمال نجاحاً كبيراً، واتسمت هذه السيناريوهات بالتفوق في استخدام عناصر عديدة، مثل " عنصري الزمان والمكان، والمؤثرات الدرامية للتشويق.
ومن أمثلة هذه الأفلام "إعدام ميت"، و"مهمة في تل أبيب". وقد اتسمت مثل هذه الأفلام بالبعد الجماهيري، بسبب عنصر التشويق، وبراعة كتاب السيناريو.
ثانياً: القضايا السياسية
أطلق عليها صانعوها "الأفلام السياسية"، ويكون دور الكاتب فيها، وهو يصيغ السيناريو، أشبه بدور المحلل السياسي، الذي يتناول قضية سياسية بالتحليل، وبداهة يكون النسيج الدرامي (البناء الدرامي) مختلفاً، حيث يعتمد على أساليب غير تقليدية.
ومن الأعمال العالمية الضخمة، التي تبنت قضية سياسية فيلم "من قتل كنيدى"، للمخرج العالمي "أوليفر استون ـ Oliver stone"، الذي أعد السيناريو بنفسه، من خلال أسلوب بنائي جديد لتناول الموضوع. وقد بدأ من ذروة الأحداث، من مقتل الرئيس جون كيندي، ومن خلال تحليل القضية، يقول أوليفر استون: "إنّ القاتل الذي قُدم للمحاكمة ليس هو القاتل الحقيقي، بل هناك أسباب أخرى وجناة آخرون وراء هذه الجريمة"، ويوضح "أوليفر" ذلك من خلال أحد مشاهد الفيلم الذي يقول فيه المحقق وهو ـ بطل الفيلم ـ إن من قتل كيندي هي آلاف الدبابات والطائرات والأسلحة، التي تباع كل عام من أجل حرب يريد كيندي أن يوقفها، ويقصد "حرب فيتنام". وهكذا نلحظ كيف طوّر أوليفر استون الأحداث من أصل جريمة اغتيال سياسي لأحد الشخصيات السياسية اللامعة عالمياً، وكيف حلل الموضوع وجرده وفككه وأعاد بناءه، من وجهة نظره الخاصة، كصانع دراما متمكن من أدواته، السرد ـ رسم الشخصيات ... وغيرها.
ثالثاً: النقل من الأحداث التاريخية:
برع كُتّاب سيناريو معاصرون في نقل الأحداث التاريخية، والخروج منها بسيناريوهات رائعة، خاصة أن بعضهم نقلوا من التاريخ، ليسقطوا منه على الحاضر، أو على القضايا المعاصرة، وبذلك يُمثل هذا العمل الناقل من التاريخ، عملاً عصرياً ناجحاً.
ومثال على ذلك فيلم "الناصر صلاح الدين"، للمخرج "يوسف شاهين"، والذي كتب سيناريو الفيلم أيضاً، أما الحوار فقد اشترك معه فيه بعض الكتاب، مثل نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم، وغيرهم من عمالقة الأدب.
ناقش سيناريو فيلم "الناصر صلاح الدين"، موضوعاً معاصراً، مازلنا بصدد البحث عن حل له، وهو موضوع السّلام مع الاحتفاظ بكامل أراضينا العربية، والخلاف التاريخي على القدس، كما طرح موضوعاً مهماً للعالم أجمع، وهو من صاحب الحق في السيادة على القدس، والدفاع عن حق العرب في هذه السيادة، لأن أورشيلم "أرض عربية"، كما ورد نصاً على لسان (صلاح الدين) في السيناريو.
والواقع أن كتابة سيناريوهات منقولة عن أحداث تاريخية حقيقية، يُعد عملاً صعباً للغاية، ويتطلب الأمر البحث الطويل في مراجع تاريخية. وقد تختلف بعض هذه المراجع بينها، بشأن حقائق تاريخية جوهرية، مما يجعل الكاتب، الذي يبحث في ذلك، يقضى وقتاً طويلاً لتحرى الحقيقة. ثم يُشرع في إعادة صياغة الموضوع، بما يتوافق مع لغة السينما، ويختار ما يناسب الموضوع من حيث أسلوب السرد. وقد يتخيل بعض الوقائع لعمل الربط اللازم للسيناريو، ليصبح وحدة نسيجها مترابط. ووجهة نظر الكاتب لها دور كبير، إذ من الضروري أن ينتصر لرأى أو اتجاه، من اتجاهات الصراع. (كما في الناصر صلاح الدين، حيث ينُاصر يوسف شاهين، موقف العرب ضد اليهود، ويطوّع السيناريو لوجهة النظر تلك).
المبحث الحادي عشر
المسرح كأحد مصادر السيناريو الروائي
استطاعت السينما أن تنقل الكثير عن المسرح، بل كان لهذه الأعمال المنقولة عن المسّرح مذاق خاص. كما برع في هذه الأعمال كتاب سينمائيون، تمكنوا من مسّ الخط الواصل، بين السيناريو والمسرح.
أولاً: الاختلاف بين السينما والمسرح:
ظل المسرح وسيلة للتعبير الدرامي طوال قرون مضت، دون أن تنافسه وسيلة أخرى، منذ العصر الإغريقي، البداية الحقيقية للمسرح، إلى أن ظهرت السينما في أخريات القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين. فكانت بمثابة نذير للمسرح بأن يُجّدد نفسه، ويطور من إمكانياته ليلحق بهذه الوسيلة سريعة الانتشار، في كل زمان ومكان، والتي أتت بالعجائب حتى للمسرح نفسه.
وعندما ظهرت السينما، التي كانت صامتة في البداية، كانت تُعد تسلية خفيفة، في شكل صور، من أجل الربح فقط. ولم تكن السينما حينذاك فناً مستقلاً، بل كانت تحبو في بداية الطريق، ولكنها حققت أرباحاً طائلة، حيث كانت شيئاً جديداً على الجمهور، الذي لم يتعود إلاّ على المسرح.
وكانت السينما تعتمد على المسرح اعتماداً كلياً، في تقديم أعمالها. فكانت تُقدم المسرحيات، التي لاقت نجاحاً كبيراً في السينما، وفي بعض الأحيان يكون الممثلون في المسرح هي أنفسهم الأبطال في السينما، اعتماداً على شهرة ممثلي المسرح، وقتذاك، لضمان نجاح الفيلم.
ولم تصبح السينما فناً، إلاّ بعد أن بدأ المخرجون يفرضون أعمالهم، ويعتمدون على فنهم. وبدأت دراسة هذا الفن في دور العلم، وأصبحت له معاهد وكليات متخصصة، وأصبح كل من يعمل في السينما، يتبنى الخطوات لتحويلها من صناعة إلى فن. وأصبحت الفن السابع، بل فن القرن العشرين، بل وأصبحت تهدد المسرح (أبو الفنون)، لما لها من إمكانيات يفتقر إليها المسرح. وقد عُكست كل وجوه الآداب، من خلال منطق سينمائي خالص.
ثانياً: العلاقة بين المُشاهد وخشبه المسرح وشاشة السينما:
يمكن أن توجز هذه العلاقة في الآتي:
1. المشاهد في المسرح يرى العرض من زاوية واحدة، وهي زاوية الرؤية الخاصة به من مكان جلوسه، أما في السينما فتتعدد زوايا الرؤية، طبقاً لتعدد زوايا التصوير.
2. المسافة بين مُشاهد المسرح، وبين خشبه المسرح، ثابتة لا تتغير طوال العرض، أما في السينما فهذه المسافة لا تستقر على حال واحد، فدائماً تتغير المسافة، تبعاً لتغير أبعاد اللقطات.
3. يتقيد المسرح بأزمنة محددة وأمكنة محددة، إلى حد ما. وعلى الرغم من التقدم الهائل في التكنيك المسرحي، من استخدام أجهزة الكمبيوتر، سواء في الإضاءة، أو أنواع خاصة من الديكورات، مع استخدام أنواع مختلفة من خشبات المسرح، كالمسرح الدوار، والمسرح المنزلق، ومسرح المصاعد، وما إلى ذلك من أنواع حديثة، ويظل المسرح مقيداً بالنسبة للزمان والمكان، خلافاً للسينما تماماً، التي يمكنها أن تصور أي حدث في أي زمان أو مكان، وأن تتعدد المناظر، دون قيد أو شرط.
4. نزول الستار في نهاية كل مشهد أو فصل، أو الإظلام التام في نهاية كل مشهد أو لوحة في المسرح، يقطع تتابع الحدث، أما السينما فيعتمد البناء فيها على ميزة التتابع المستمر للأحداث دفعة واحدة، دون توقف.
5. يحاول الممثل في المسرح أن يرفع صوته إلى الطبقة، التي يمكن للمشاهدين أن يسمعوه من خلالها، حتى ولو كان حواره همساً مع زميله، مما يجعل المشاهد يشعر بأن الذي يُعرض أمامه يمتزج بالافتعال، أما في السينما، فالممثل يستخدم صوته الطبيعي، ويهمس في موقف الهمس، فالأجهزة قادرة على تسجيل الهمس وما شابه ذلك، لأن الهمس سيصل إلى المشاهدين على طبيعته.
6. الأوراق أو المستندات التي بها معلومات مهمة كالخطابات مثلاً أو التلغرافات أو أي شيء آخر، يجب على ممثل المسرح أن يقرأها ليدرك المشاهد مضمونها، أما في السينما فيمكن تصوير هذه الأوراق، كي يقرأ المشاهد بنفسه هذه المعلومات.
7. ممثل المسرح يضطر لحفظ دوره كاملاً، على الرغم من وجود الملقن في بعض المسرحيات، وهذا يسبب له عناءً كبيراً، لأنه يمثل المسرحية يومياً طوال فترة العرض، وعلى مدى شهور طويلة، وفي بعض الأحيان سنين طويلة في حالة استمرار تقديم المسرحية، أما في السينما فالممثل يمثل الفيلم مرة واحدة، ثم بعد ذلك يُعرض الشريط السينمائي أي عدد من مرات العرض حسب الحاجة، وكذلك ممثل السينما لا يحفظ دوره كله، بل يكفيه أن يحفظ الحوار الخاص بتصوير كل مشهد، على حدة.
8. يعتمد المسرح اعتماداً كلياً على الممثل، في حين أن السينما تعتمد ـ إضافة إلى الممثل ـ على عناصر أخرى كثيرة، يمكن أن تؤدى أدواراً مشابهة للممثل، ذلك أنّ السينما صورة قبل أي شيء آخر، وكل الأشياء المرئية في الفيلم لها دورها، أي تمثل.
9. الممثل في المسرح تختلف حالته النفسية من ليلة عرض إلى أخرى، وذلك تبعاً لتغير مزاجه وظروفه النفسية، وطبيعة الجمهور، ولا يمكن، بأي حال من الأحوال، أن تكون حالة الممثل في ليلة مثلها في ليلة تالية لها، أو سابقة عليها. أما ممثل السينما الذي يؤدى دوره مرة واحدة أمام الكاميرا، فإن حالته النفسية ثابتة، كما كانت في يوم التصوير.
10. لا يُمكن عرض المسرحية بممثليها أنفسهم في أكثر من مسرح في وقت واحد، أما في السينما فيمكن طبع العديد من نسخ الفيلم الواحد، وعرضها في عدة دور للعرض وفي أكثر من بلد، في وقت واحد.
11. هناك علاقة حميمة بين الممثل والمشاهد في المسرح، ناتجة عن التواصل المباشر بينهما؛ فالمشاهد يرى الممثل شخصياً على المسرح، أما في السينما فهذه العلاقة غير موجودة، لأن المشاهد لا يرى سوى صور فقط للممثل.
12. المشاهد في المسرح يرى الممثل في حجم واحد لا يتغير، وهو الحجم الطبيعي له، أما في السينما فالمشاهد يرى الممثل في أحجام مختلفة، لأن السينما تمتاز بمناظرها المكبرة، فيمكن تصوير وجه الممثل، مثلاً، مكبراً ليحتل حجم الشاشة كلها من أجل توضيح أدق التفاصيل للمشاهد، سواء من خلال اختلاج العينين، أو ارتعاش الشفتين، أو أي تعبير آخر.
13. الحوار هو أداة التعبير الرئيسية في النص المسرحي، في حين أن الصورة هي أداة التعبير الرئيسية في السينما.
14. يكون صوت الممثلين في المسرح ضعيفاً، إذا لم تستخدم ميكروفونات مكبرة للصوت، فلا يسمع المشاهد في الصفوف الخلفية الصوت بوضوح، أما في السينما، فلأن الصوت مسجل ومكبر بأجهزة التكبير الخاصة، فإن الصوت يتم توزيعه بالتساوي عن طريق السماعات في أنحاء دار العرض. فالمشاهد في الصف الأخير يسمع الصوت بالدرجة نفسها، التي يسمعه بها المشاهد في الصف الأول، إلا أن التقدم العلمي لم يقف مكتوف الأيدي أمام ذلك، فبدأت المسارح تستخدم أجهزة إليكترونية صغيرة جداً، وشديدة الحساسية جداً، فيمكن للممثل أن يضع ميكروفونا في حجم الدبوس، في ياقة القميص أو السُّترة، وعن طريق جهاز "الماستر" يجري تجميع الأصوات من كل الميكروفونات الصغيرة الموجودة في ملابس الممثلين، وتكبّر بالنسب المطلوبة، وتبث من خلال السماعات المجسمة الموجودة في أنحاء المسرح. وفي بعض المسارح توجد سماعة استريو Stereo head phone خاصة في كل مقعد، بحيث يستطيع كل مشاهد أن يستمع كما يريد.
15. تستخدم المسارح المؤثرات الصوتية العادية، في حين أن السينما تستخدم المؤثرات الصوتية العادية، إضافة إلى المؤثرات الصوتية المجسمة، كأن يشعر المشاهد أن الزلزال حقيقي، أو أن يشم رائحة دخان الحريق، عن طريق استخدام أجهزة خاصة باهظة التكاليف.
ثالثاً: الإعداد السينمائي لنص مسرحي:
"الحوار والشخصيات وتقديم المعلومات"، كلها مفردات تُعبّر عن مشكلات تواجه المؤلف السينمائي، الذي ينقل سيناريو روائي عن نص مسرحي. وللتغلب على هذه الصعوبات عليه القيام بما يسمى "التجريد للنص"، الذي هو بصدد نقله. ثم يبدأ في نسجه من جديد، بما يتلاءم مع إمكانات ولغة الوسيط الجديد (السينما)، الذي سيتناول الموضوع من خلاله.
1. الحوار:
وسيلة أساسية للتعبير عن خوالج النفس، وعن حكاية ما فات بالنسبة لاستهلال المسرحية ليتزن البناء. وقد تقدم إحدى الشخصيات في المسرحية معلومات عن موقف مضى، منذ زمن بعيد عن طريق الحوار، كما يمكن أن تتحدث عن حدث لم نراه، ربما جريمة أو غيرها، وربما يقدم الحوار وصفاً لما يجرى بالخارج، مثل الجو الممطر بالخارج أو الجو الحار، وغير ذلك. ومن ثم يمكن تقديم المعلومات عن طريق الحوار، كأحد الوسائل الأساسية لذلك.
2. الشخصية في المسرح:
من الممكن نقلها للسينما بالسمات الأساسية لها نفسها، مع احتمال تركيب بعض الإضافات عليها، عملاً بأن للسينما إمكانية اللقطات المكبرة للوجه أو لليد، مثل لزمة التوتر لدى أحد الشخصيات عن طريق التخبيط بيده، أو بأصابعه على المنضدة.
3. تقديم المعلومات:
كل شئ في السينما عن طريق الصورة، لذلك فعندما يُعد كاتب السيناريو مسرحية للسينما، فإن عليه أن يُعبّر عن كل شيء بالصورة، وأن يفعل ذلك بشكل سينمائي، متوافق مع إمكانات السينما، بحيث يتفق مع لغة السينما وقدراتها الفائقة للتعامل، مع عنصري الزمان والمكان.
الفصل الرابع
بناء (كتابة) السيناريو الروائي
السيناريو، ببساطة، هو كل ما نراه أو نسمعه على الشاشة الكبيرة أو الصغيرة، مكتوباً على الورق، مقدماً بطريقة فنية خاصة. كما يشمل أيضاً الحوار، إلاّ إذا نُص صراحة على غير ذلك.
ويبنى السيناريو عادة من ثلاثة وحدات، هي: الاستهلال والمواجهة والحل.
الوحدة الأولى: الاستهلال:
يشتمل الاستهلال على بداية ووسط ونهاية، ويمثل كتلة واحدة للحدث الدرامي، حيث يقدم الشخصية الرئيسية (البطل)، وتحدد الفكرة الدرامية، وتنشئ المواقف بصرياً ودرامياً، وينتهي هذا الجزء بحبكة، للوصول بهذا القسم إلى القسم التالي.
الوحدة الثانية: المواجهة:
ويضم وسط السيناريو، ويستحوذ على الجزء الأكبر من الحدث الدرامي، ويتكون ـ عادة ـ من بداية للوسط، ووسط للوسط، ونهاية للوسط. وهو أيضاً وحدة أو كتلة لحدث درامي، ينتهي بحكمة لنقل القصة إلى الجزء التالي. والقالب الدرامي هنا هو المواجهة، التي سيتوجب على الشخصية (البطل) أن يُحاصر خلالها المصاعب والعقبات، التي تحول بينه وبين الوصول إلى غايته، ويصبح الصّراع هو محور قصة تلك الشخصية، التي تسعى للتغلب على كافة العقبات، من أجل تحقيق الغاية المطلوبة.
الوحدة الثالثة: النهاية (الحل):
ويضم بداية للنهاية ووسطاً ونهاية لها، والقالب الدرامي هنا هو الحل، ومن ثم فكل وحدة، من الوحدات السابقة، لها وجهة، أي خط تطور منذ البداية حتى موضع الحبكة. إن وجهتي الحبكة في نهاية الوحدتين الأولى والثانية، هما جهتا القصد لمسار بناء وتركيب السيناريو، الذي تجري كتابته.
ويستخدم ـ عادة ـ نظام البطاقات مقاس (3 × 5) في كتابة فكرة كل مشهد، أو مقطع سينمائي، في شكل متتابع. وأسلوب استخدام البطاقات له مزاياه، فباستطاعتنا أن نرتب المشاهد بالأسلوب الذي يحلو لنا، وأن نُعيد تركيبها، وأن نضيف بعضها وأن نحذف الأخرى: وهو أسلوب بسيط وسهل وفعال، ويعطى أقصى درجات الحركة أثناء بناء السيناريو، الذي نكتبه. ويُبدأ في بناء السيناريو بإيجاد القالب الدرامي لكل فصل، بحيث نصل في نهاية السيناريو، إلى إيجاد المحتوى.
ونظام البطاقات ليس هو الأسلوب الوحيد في تركيب وبناء السيناريو، فهناك الطريقة التي تقدم على أساس كتابة المعالجة (Treatment)، أي التلخيص السردي " Narrative zynopsis"، لما يحدث في القصة، والذي يشتمل على بعض الحوارات. ويتراوح طول المعالجة، في كل الأحوال، على عدد من الصفحات، وقد تستخدم بطريقة تقديم الموجز " Outline "، خاصة في الأعمال التليفزيونية، بحيث تروى القصة عن طريق تقديم مخطط سردي مفصل، يكون فيه الحوار جزءاً أساسياً من هذا الموجز.
وبغض النظر عن الطريقة التي تُستخدم، فالمهم في الأمر الاستعداد للانتقال من سرد القصة المدونة على البطاقات، وبكتابتها على الورق، بصيغة السيناريو النهائي.
المبحث الثاني عشر
القصة في السيناريو السينمائي
بطبيعة الحال، لابد من وجود "قصته" لعمل الفيلم، ولابد أن يكون لها أركان أو أسس [1]. والقصة السينمائية الجيدة هي، التي يقوم فيها الصراع على مثلث، تمثل رؤوسه الشخصيات الرئيسية في الفيلم. وهذه الشخصيات في صراع مستمر طوال الفيلم، فلو فرضنا أن (أ)، و (ب) رجلان يتصارعان على حب امرأة هي (ج)، ولكنها تحب (ب) الذي يبادلها الحب، والمطلوب هو إيجاد علاقة بالسالب والموجب بين كل الشخصيات، لكي يتم التفاعل، ويساعد ذلك على نمو الشخصيات وتصاعد الصراع.
وهذا القياس ليس نموذجاً ينطبق على جميع أنواع القصص، ولكنه يعطى لمحة أو فكرة للمؤلف السينمائي، الذي بصدد كتابه فيلم ما.
والشرط الأساسي في القضية السينمائية، هو أن يتمكن المؤلف من اجتذاب المتفرجين بصورة تلهيهم عن إحساسهم بأنهم في دار للسينما، وهذا يتطلب وجود المفاجآت، واستخدام وسيلة التشويق لجذب الانتباه.
وهناك عدة مراحل تمر بها معالجة القصة، بواسطة كاتب السيناريو، وهي المراحل التي يمر بها الفيلم حتى اللحظة، التي تستعد فيها الكاميرا للدوران. وهذه المراحل هي:
1. الفكرة:
وهي البذرة الأولى في الفيلم، بحيث يمكن إذا تمت تنميتها بالقدر الكافي أن تحقق فيلماً. وتُعرف تنمية الفكرة الأولى وتسجيلها على الورق، بتحضير المعالجة، وهي الخطوة التنفيذية الأولى للفيلم، وتبدو كسجل موجز في كتابة الموضوع المقترح. وتنحصر قيمتها في تسلسلها، فكل حدث يؤدى منطقياً وبسهولة إلى الحدث الذي يليه. ويجب المحافظة على جذب الاهتمام خلال السرد، وذلك عن طريق التعميم المتقن لواقع الأحداث المهمة، بحيث يصبح الحدث التالي أكثر أهمية من السّابق.
2. المعالجة:
تُعد المعالجة، باختصار، هي نظرة عامة للفيلم دون تفاصيل فنية كثيرة، ودون تفاصيل للمناظر التي ستصور، كما تعد الهيكل الأساسي أو العامود الفقري للسيناريو. وهذه المرحلة الوسيطة بين القصة الأصلية وبين سيناريو التصوير، ضرورة جداً، فهي مختصرة عن سيناريو التصوير، وخالية من العوامل التكتيكية، وتعطى كاتب السيناريو الفرصة لإضافة الكثير من اللمسات البارعة، والأفكار البراقة دون كتابتها بالتفصيل، وتعد المعالجة بمثابة أرضية اختبار جيدة للأفكار الجديدة. وكلما كانت المعالجة كاملة وجيدة، يصبح السيناريو سهلاً وجيداً، في الوقت نفسه.
وتتطور الفكرة، أو الخطة في المعالجة، بوصف أحداثها في لغة سهلة خالية من الاصطلاحات، بحيث تبدأ بالتشويق، وتستطرد الأحداث منطقياً بحيث يزداد الاهتمام الدرامي باستمرار، وتصل إلى المنتصف المدروس بعناية، ومن هنا تأخذ في الصعود تجاه الذروة، التي تعلو كل ما سبقها، عندئذ يبدأ السيناريست في تحضير السيناريو، وهو الخطوة الثالثة في عمل كاتب السيناريو.
3. السيناريو:
هو تحسين للفكرة الأصلية، التي مرت بمرحلة المعالجة، وستصبح الآن سجلاً لعدة مناظر سينمائية، مدونة حسب ترتيب حدوث الوقائع، يحمل كل منها رقمه وموضحاً به مكان حدوثه. وهذه المرحلة ـ وهي مرحلة السيناريو ـ تُعد اختزالا لسيناريو التصوير، الذي هو قاعدة واضحة مفصلة لكل ما يراد تنفيذه أثناء التصوير، وفيه يتم تحديد مكان وضع الكاميرا في كل لقطة، وماذا ستفعل الكاميرا إذا تحركت، كما يتضمن السيناريو كل كلمة في الحوار، وكل صوت مطلوب سماعه، لدى المتفرج.
وعلى كاتب السيناريو أن يكتب على نحو شديد الوضوح، ما يفكر فيه بالنسبة للمشهد، لقطة لقطة، وتحديد القطع بين كل لقطة وأخرى تفصيلاً، وكلما زادت التفاصيل الفنية في سيناريو التصوير، كان لذلك تأثير أفضل على الفيلم.
ويعتمد السيناريو اعتماداً كلياً على الحركة، بما يُسمى "اللقطة السينمائية"، وفي كل مرة تتوقف الكاميرا فيها عن الدوران، يكون ذلك علامة انتهاء لقطة سينمائية. وكذلك عندما تنتقل الكاميرا من مكان صورت به، إلى مكان آخر تبدأ منه التصوير من جديد، فإن ذلك علامة على ابتداء "لقطة جديدة"، ويتكون سيناريو الفيلم من العديد من المشاهد، كما يتكون المشهد من العديد من اللقطات، مثلما تتكون القصة من عدد من الفقرات، وكل فقرة من عدد من الجمل، إذن فاللقطة السينمائية بمثابة جملة سينمائية، ومجموعة اللقطات المكونة للمشهد الواحد، إذا لصقت ببعضها، يتكون منها جزء مفهوم من قصة الفيلم.
وكما أن القصة تتكون من فصول، والفصول من فقرات، فإن الفيلم يتكون من عدد من البكرات، كل بكرة تتكون من عدد من المشاهد، وكل مشهد يتكون من عدد من اللقطات.
4. البناء:
لا يخرُج بناء القصة في الفيلم، بصفة عامة، عن بناء القصة بالمفهوم التقليدي المعروف. فيتضمن البداية والوسط أو التأزم، ثم النهاية أو الانفراج.
أ. البداية:
هناك طريقة البداية الدرامية المفاجئة، وميزة هذه البداية، أن السيناريت يستحوذ على انتباه المتفرج منذ اللحظة الأولى.
وهناك الطريقة التقليدية في الكشف والتمهيد للموضوع والشخصيات والأحداث والمواقف، وهي أشد تأثيراً من الطريقة السابقة. وكذلك هناك طريقة ثالثة وهي عملية تآلف بين الطريقتين السابقتين.
…ب. الوسط:
حين يبدأ كاتب السيناريو في الاهتمام بالشخصيات، والمواقف التي وضعهم فيها، ولكل سيناريو شخصية أساسية، إضافة إلى بعض الشخصيات الأخرى، التي تقف مع الشخصية الرئيسية أو ضدها.
وعلى كاتب السيناريو أن يأخذ بعقدة قصته وأطرافها، ويتابعها من خلال الأحداث، التي تدور حول الشخصية الرئيسية، في محاولة للوصول إلى الحل الأخير، عن طريق الشخصيات المرسومة جيداً التي تحاول الدخول في صراع ضد الشخصية الرئيسية، مع تصوير هذا الصراع بأسلوب يتسم بالتشويق والأحكام.
وهكذا يكون الصراع بين الشخصيات المختلفة، هو روح القصة الدرامية، ويستمر هذا الصراع حتى الذروة في نهاية الفيلم، بغض النظر عن النهاية سعيدة أم غير سعيدة، تبعاً للشكل الذي يكتبه كاتب السيناريو.
وفي أغلب السيناريوهات، توجد الشخصية القوية التي يتحمل صاحبها المسئولية الكبرى، في تحريك الأحداث، وهذا الشخص هو ما تعارفنا على تسميته "بالبطل" أو "البطلة". وهذه الشخصية لابد أن تتميز بشيء خاص يجعل منها بطلاً له أهداف وأغراض، يعمل على تحقيقها.
وينبغي أن تكون كل جملة، وكل حركة، وكل حادثة في خدمة الفكرة الأساسية، لتوضيح المعنى المراد توصيله، والأخذ بخط سير العقدة إلى الذروة. بمعنى أن كل شئ في السيناريو لابد له من وجود المبرر الدرامي في علاقة الشخصيات ببعضها، أو بدفع خط سير الأحداث إلى الأمام تجاه القمة.
وباهتمام كاتب السيناريو بالشخصيات وبالمواقف التي وضعهم فيها، يبدأ الفيلم في دخول مرحلة التوقيت، وعليه ألاّ يترك الفيلم يخرج عن سيطرته فعليه أن يراقب الإيقاع بدقة، ويتقدم به تدريجياً، ويستمر بالسرعة المناسبة وفي الزمن المناسب، ويجب أن يضع ذلك أمامه من المرحلة الثانية، وهي مرحلة المعالجة. أما عند كتابة سيناريو التصوير، فيستطيع أن يلائم الإيقاع بالسرعة المطلوبة بالضبط، علماً بأن عملية المونتاج هي التي تتحكم أخيراً في الإيقاع الخارجي للفيلم.
…ج. النهاية:
ويجب أن تكون بالقوة نفسها التي بدأ بها الفيلم، وهي شئ صعب في أغلب الأحيان. فكثيراً ما يرغب كاتب السيناريو أن يُنهي الفيلم بمفاجأة، أو قد تكون النهاية متوقعة، أي أن يكون المتفرج مدركاً لها من خط سير الأحداث وتطويرها.
عموماً يجب أن تكون النهاية منطقية، أي نابعة من حتمية تسلسل الأحداث في الفيلم، وتوجه الموضوع، لأن المنطق يجعل من نهاية الفيلم شيئاً حتمياً، وعلى كاتب السيناريو أن يبتعد، قدر الإمكان، عن العناصر الخارجية في إنهاء أحداث فيلمه. ففي أحيان كثيرة يجد كاتب السيناريو أنه قد وصل إلى ذروة الأحداث، وليس لديه وسيلة ينهي بها تلك الأحداث، فيلجأ إلى عنصر من خارج العمل الدرامي، ليخرج نفسه من المأزق الذي وقع فيه. والأمثلة على ذلك كثيرة، مثل استخدام عنصر خارجي، كسيارة تصدم البطل أو البطلة، وتضع نهاية للأحداث.
وعندما ينتهي كاتب السيناريو من المرحلة الثالثة، عليه أن يبدأ في كتابة سيناريو التصوير، وهو بمثابة المرحلة الأخيرة للسيناريست، بحيث تكون المرحلة التالية لذلك هي تنفيذ هذا السيناريو.
العناصر الرئيسية المستخلصة من القصة:
1. التوازن:
وهي المرحلة الأولى في القصة، وفيها يمضي كل شئ في طريقه دون عقبات، أو يسير في طريق منتظم لا يعتريه الاضطراب. وينبغي أن يُدرك أنّ القصة وإن ابتدأت بمرحلة التوازن، فهي لا تبدأ من البداية الحقيقية للحكاية. فلكل حكاية، أو علاقة، بدايات سابقة، وهو ما يُسمى "ما قبل النص"، لذلك البداية ـ دائماً ـ غير محددة، وتضرب بجذورها في أعماق الماضي، وهي لا تبدأ بها لأنها لا تُعد بداية الصراع الحقيقي، ولكنها تُعد معلومات ذات دلالة يمكن أن تعرف بوسائل شتى، مثل الحوار أو أسلوب الرجوع إلى الماضي، ويرى النُقاد أن الأوفق إلا تستغرق مرحلة التوازن زمناً طويلاً، بل يفضلون الدخول مباشرة إلى مرحلة اللا توازن.
2. اللا توازن أو الاضطراب:
يأتي عقب وقوع حادث، أو ظهور شخصية، أو اقتراف الشخصية الأساسية ما يفجّر الصراع الأصلي. وهذا الاضطراب في مجريات الأمور، قد يتولد أيضاً من تراكم بضعة أحداث، أو سلسلة منها، وقد يأتي مباشرة في أول العمل، أو في مرحلة متأخرة منه، ونذكر ـ كمثال ـ بعض مسببات الاضطراب:
أ. قد يأتي نتيجة إحباط، بظهور عوامل تعرقل السلوك الهادف.
ب. أو أن ينتقل إنسان مع أسرته إلى مجتمع جديد لا يتقبله.
ج. أو أن يحضر غائب يزعزع التوازن، أو ظهور ميراث يفجر التشاحن.
د. أو ظهور تناقض بين العاطفة والواجب.
3. الهدف والخطة:
لا يتولد الهدف من فراغ، بل لابد، أولاً، من دوافع واضحة. ولكن هذه الدوافع تظل ساكنة إذا لم توجد إرادة التنفيذ، التي عن طريقها تتبلور الأهداف المحددة، ثم الخطة المناسبة لتحقيقها.
وقد يكون الهدف معنوياً أو مادياً، كما قد توجد أهداف مرحلة مساعدة للهدف الأصلي، أو تنشأ من جراء السّعي لتحقيق الهدف الأصلي، وما يصاحبها بالضرورة، من إثارة اهتمام المشاهد بها.
وقد يبدأ الموضوع مع وجود الهدف الأصلي. أو يتولد نتيجة للأحداث. وقد يكون نابعاً من البطل أو الخصم، وفي كلتا الحالتين لابد أن يتبعه الدافع والنية والإرادة والتصميم، والخطة لتحقيقه. وبطبيعة الحال لن تسير الأحداث، في يسر وإلا تحولت القصة إلى خبر فقط، ليس غيره.
4. الصعوبات:
وهي لازمة لإثارة الانتباه والتشويق والتوتر لدى المشاهد، وينبغي أن تتناسب شدة وقوعها طردياً مع أهمية الهدف. والعقبات إما أن تكون مادية، أو غيبية، أو اجتماعية، أو ذاتية (مثل العقد النفسية). وهي ليست الصراع الأساسي، ولكنها صعوبات على الطريق. وفي كل الأحوال لابد للبطل، أو الخصم، من محاولة التغلب عليها.
5. الصراع:
هناك ما يشبه الإجماع على أن الصراع هو جوهر القصة، ومن ثم دراما الشاشة، بل إِنّ الصراع عنصر أساسي يسرى في صلب الحياة ذاتها. ولا بد من التفرقة بين الصراع العادي والصراع الدرامي. فالصراع العادي، مثلاً، ينتج عن منافسه رياضية، ولكن الصراع الدرامي قد ينشأ في إطار الرغبة في الفوز بإعجاب فتاة، يجري التنافس عليها مع طرف آخر.
ومما لاشك فيه ضرورة أن يكون الصراع مرتبطاً بالدوافع، وإرادة التنفيذ، والأهداف. كما أن طبيعته تختلف، حتماً، تبعاً لقوتها وللوسائل المتاحة. والغرض منه هو إعادة التوازن، أو تحقيق الهدف، بأقصر الطرق وأسرعها.
وللصراع أنواع، مثل: (صراع إنسان ضد آخر، أو صراع إنسان ضد الطبيعة، أو صراع الإنسان ضد قوى عامة)، (مثل القوى الاجتماعية متمثلة في القيم والعادات والتقاليد)، أو صراع الإنسان ضد نفسه (مثل الإصابة بمرض نفسي). كما يمكن أن يُضاف صراع الأفكار، دون أن تتجسد هذه الأفكار بالضرورة في بشر.
وقد يشتمل العمل على أكثر من صراع من هذه الصراعات، وقد يتخذ بعضها سمة الصراعات المرحلية، فتكون عقبات فقط في طريق الصراع الأساسي. ومن الأفضل الاهتمام بالعامل الإيجابي في الصراع، وأن يُراعى أن يكون صراعاً بين متكافئين، أو بين قوى متكافئة. وهذا التكافؤ يأتي من محصلة العناصر، التي تكّون قوة الفرد أو الجماعة. كما يجب أن يُمهد للصراع، وأن تتعدد الأسباب وتتعقد بما يجعله محتوما، وأن يلعب الزمان والمكان دورهما فيه. ويزداد الصراع عمقاً إذا تدخلت فيه الأيديولوجية السائدة، أي أن تلعب فيه الظروف التاريخية دوراً حيوياً.
ويراعى إلا يأخذ التصاعد المتدرج للصراع مساحة زمنية كبيرة، وأن يؤخذ في الاعتبار خصائص الفن السينمائي.
6. الختام (النهاية): وتشمل (الأزمة الكبرى، والذروة الكبرى، والنتيجة):
تُمثل الأزمة مرحلة زمنية من القصة، يدور فيها صراع بين قوتين متعارضتين متكافئتين، بحيث تكون نتيجته غير مؤكدة أثناء هذا الصراع، ولكنه مشرف على نقطة تحول، أو تغيير، حاسم.
ومن هنا كان الصراع والأزمة متلازمين، ومتزامنين في أحيان كثيرة، بما يؤدى إلى احتمالات الخلط بينهما، وإن كان الصراع يشير إلى العنصر الحركي الفاعل، بينما الأزمة تشير، في المقام الأول، إلى الحالة أو الوضع الطارئ، وما قد يتبع ذلك من سكون ظاهري، يفجرّه الصراع للتغلب على الأزمة.
ويُلاحظ أن الصراع قد يثير الأزمات بالاحتمال أو الضرورة. كما أنه قد ينشأ نتيجة لأزمة ما. وكما أن الصعوبات بأنواعها تثير أزمات، وتستهلك وقتاً مناسباً، حسب قوتها ونوعها وسمات الشخصيات، التي تتعرض لها، وهي تؤدى إلى ذروة صغيرة أو كبيرة، وإلى نتائج، ما يتبعها من تحول أو تغير، يؤثر في مجرى الأحداث.
والأزمة الكبرى بطبيعتها يجب أن تأخذ مساحة زمنية كافية، مشحونة بالإثارة والتشويق والتوتر. أما الذروة الكبرى فيمكن أن تكون مجرد لحظة، يتُخذ عندها القرار الحاسم الذي قد يستغرق إظهاره وتنفيذه بعض الوقت، ولكنه يجب أن يكون وقتاً قصيراً.
ومن المفيد للكاتب، أن يضع الأزمة الكبرى والذروة الكبرى في اعتباره، من أول لحظة. وهناك خلط بين فهم الذروة والأزمة. ولتوضيح ذلك، فلنفرض أن الصراع اشتباك جسدي بين خصمين، فالمفروض بداهة أن تتزايد حدة الاشتباك وتتصاعد حتى تصل إلى قمة عالية، ولكن هذه القمة لا تعنى الذروة، فهي نقطة فقط من نقاط التصاعد، التي لا نزال عندها غير موقنين بالنصر لأحد المتصارعين. أي لا نزال في الأزمة والصراع. أما إذا تناول أحدهم سكيناً وطعن الآخر به، فهذه هي الذروة، وهي في الوقت نفسه قرار حاسم من الطاعن ينهي به الصراع لصالحه، ويحدث التحول والتغير. وهكذا تكون الذروة هي القرار.
أما الانكشاف: فهو عبارة عن إعطاء بعض المعلومات الناقصة، أو تفسير ما غمض على المشاهد، خاصة في القصص البوليسية. أي ينكشف المستور، الذي سترته القصة حتى لا تفقد بعض عوامل التشويق في سردها. وقد يأتي على صورة حوار، أو حدث صغير مرئي، أو كليهما معا. وفي أغلب الأحوال تكون الذروة متضمنة للنتيجة، بحيث يسهل على المشاهد استنتاج ما يحدث بعد ذلك، دون حاجة إلى عرضه، وبذلك تكون هي النهاية الحقيقة. أو أن يتوالى الانكشاف أثناء الأزمة الكبرى، وإن كان من المفضل للأفلام السينمائية أن تُعرض مرحلة النتيجة والانكشاف بعد الذروة الكبرى، إذ إن المشاهد في هذه المرحلة - وعلى الرغم من استنتاجه لها - يقوم بعملية تهيئة لانتزاع نفسه من جو الفيلم لا شعورياً، وكأنه المشاهد الوحيد في الظلام، ويتهيأ إلى جو الحياة العادية بين الناس. فهذا نوع من اللياقة المحببة من صانع الفيلم، حتى لا تُضاء الأنوار ونضبط المشاهد مثلاً وهو يصرخ من الرعب، أو تنهمر دموعه من التأثر.
وفي كل الأحوال ينبغي أن يكون الختام أو النهاية حتمياً، ومقنعاً، ومرضيأ، وملخصاً للفعل أو المضمون أو الرسالة. ومن الممكن أن تُنهي القصة نهاية مفتوحة، وهذا يعني أن يكون للعمل أكثر من نهاية، وكلها محتملة، ويترك لكل مشاهد أن يختار النهاية التي تناسبه، خاصة في الأعمال التي تتناول القضايا الاجتماعية، والتي تتسم بالواقعية، أو التي تقترب من أن تكون شريحة أو قطاعاً طولياً، أو عرضياً، من الحياة، فلا شئ يمكن أن يُعد محسوماً بها، وقد يكون صانع العمل راغباً في أن يطرح بعمله سؤالا يوجهه إلى ضمائر المشاهدين، حتى يُعْمِلوا الفكر في الإجابة عليه.
وفي كل الأحوال فمعنى النهاية ألا يكون هناك شئ مهم يتعين عرضه، ولا نعرضه على المشاهد. كما يجب ألا يكون هناك شئ غير مهم، ومع ذلك نعرضه عليه.
[1] القصة ببساطة هي حكاية أحداث مرتبة في تتبعها الزمني، وليس المقصود بالأحداث مجرد أفعال عابرة أو عشوائية، بل يجب أن يكون لكل فعل وظيفته في النص وأن تتصل الأحداث عضوياً ببعضها البعض بعلاقة السببية أو برباط الفكر ويكون ذات دلالات واضحة.
المبحث الثالث عشر
المعالجة الدرامية
أولاً: مفهوم المعالجة الدرامية:
المعالجة هي بناء أولى (شبه درامي) للسيناريو، بمعنى أنه توسيع وتطوير للتقديم. كما تعني المعالجة: التطوير القوى لقصة واحدة، لها محور رئيسي واحد قوى، وإن كان من الممكن تقديم قضايا جانبية وحكايات فرعية، إلا أنها تبقى تابعة للخطة الرئيسية، وخاضعة لها.
وللمعالجة ثلاث مهام: المزيد من تحديد البؤرة المقترحة للسيناريو، وتجسيد القصة، وإضفاء الإحساس العاطفي على تناول القصة. ويسير التجسيد مع زيادة تحديد البؤرة جنباً إلى جنب، والغرض من ذلك أن تُدوّن القصة بالقدر الكافي من التفاصيل، بحيث يجري الكشف عن العيوب ونقط الضعف، ويتم علاجها. أما الجانب الخاص بإضفاء الإحساس العاطفي، فهذا أمر مختلف إلى حد ما، فهو يعتمد على حاجة المعالجة إلى خلق جو من الإثارة، والمحافظة على بقائه، بأمل أن يشعر به المشاهدون، عندما يشاهدون النسخة النهائية للفيلم.
والسيناريو في أغلب مراحله هو خطة عمل في جوهره، مجموعة من التعليمات للممثلين ولطاقم الفنيين، تأتي بلغة وتناول واقعي، ويسمح باندفاع العاطفة وتدفقها، لأن هذه العاطفة هي بمثابة القلب النابض للفيلم، في صورته النهائية. أما المعالجة فهي، على النقيض، تمنح الفرصة لتدوين كل هذه الأمور، حيث تُسجل الحالة النفسية، وتُجرب التأثيرات العاطفية، وتلعب بالأحاسيس، ومن الضروري أن توصّل الحالة النفسية والعاطفة والإحساس إلى شخصين بصفة خاصة، أولهما المنتج، وينبغي أن يكون مدركاً لروح العمل، إذا كان عليه أن يصدر حُكماً سليماً عليه. أما الشخص الثاني فهو كاتب السيناريو، الذي عليه إدخال المضمون العاطفي.
ثانياً: خطوات المعالجة الدرامية:
1. وضع الخطوط الأساسية لخلفية الأحداث:
كل قصة لها جذور في الماضي، لأن الأشخاص المرتبطين بأحداثها، على الأقل، لهم ماضٍ. وبناء على هذا إذا لمعت سكين، يموت شخص، ولكن هذا هو نهاية الحدث بالمعنى الحقيقي تماماً، وليس بدايته. فمعرفة لماذا يستخدم شخص السكين في تعامله مع شخص آخر أمر حيوي، لأي فهم حقيقي للحدث. وغنى عن الذكر أن هذا النوع من متابعة الماضي يمكن أن يستمر بلا حدود، كما يمكن أن يصطدم بالأرض، إلا أنه بلا قدر من المتابعة ولو قليل، فإن فجوات الحبكة سوف تتفتح وتتسع في السيناريو، مثل التصدعات العميقة في جبل الجليد العائم. ومن ثم فهناك الفرصة لعدم التعرض لهذا الموقف، خاصة عندما يكون في قدرة الكاتب أن يحل كل المشاكل بسهولة، من خلال التفكير والتأمل.
2. أسس عناصر القصة:
من الناحية السينمائية، تعنى أن تُوضح عنصراً ما، أو مظهراً ما من الفيلم، بحيث يسهل التعرف عليه وتمييزه في عيون المتفرجين. وعلى هذا، تقدم لقطة تأسيسي أو لإعادة التأسيس، بحيث توضح العلاقة بين الأشخاص والخلفية. وتختلف الأمور إلى حد ما في معالجة القصة، التي تقوم عناصرها على الشخصيات والمواقف والأماكن وما إلى ذلك:
أ. الشخصيات:
حيث لا يتم تأسيس الشخصيات في وجودها الجسماني، ولكنها تؤسس أيضاً صفاتها المميزة، وعلاقاتها وردود أفعالها بالنسبة لبعضها بعضاً، والانطباعات المطلوب تركها على المتفرجين.
ب. المواقف:
هي أوضاع الأمور التي تجد فيها الشخصيات نفسها، في علاقة مع الفكرة الأساسية، وأحياناً تشكل هذه الأوضاع مأزق وورطات، أي مواقف تثير عواطف غير سارة، عند بعض الشخصيات، وفي أحيان أخرى لا تفعل هذا. وأياَّ كان الموقف، في وقت محدد وفي مكان محدد، فمن الضروري معالجته بوضوح قاطع.
ج. الأماكن:
من الواضح أن كل قصة تُمثل أحادثها في مكان واحد أو أكثر، وقد يفوت الكاتب أحياناً أن يدرك أن لهذه الأماكن سماتها الشخصية، مثلما هو الحال مع الشخصيات. وعلى ذلك ينبغي تحديد هذه السمات على الورق عند معالجة القصة، بوصف مناسب موجزٍ، مع تسجيل روح البيئة.
د. الحالة النفسية:
تختلف الحالة النفسية من فيلم إلى آخر، بل ومن جزء داخل الفيلم إلى آخر. ومعالجة القصة التي لا توضح هذا العنصر الحيوي، لا تؤدى مهمتها بالكامل. ولا يكفي التصنيف فقط، كأن نقول: "أنه يوم سيئ بالنسبة لسوزان"، بل يجب تجسيد هذه الحال بأن نقول: "يبدو أنها لا تلقى إلا العبوس والتقطيب في كل مكان، إن الرياح تدفع الأمطار نحوها في قسوة، وحتى السيارات التي تمر بجوارها تجعل الماء يتناثر عليها بغزارة"، وبذلك نكون قد رسمنا الصورة وخلقنا الإحساس، وساعدنا على إحياء القصة في أذهان أولئك، الذين سيقرأون المعالجة.
3. بداية المعالجة:
لكي يكتسب الفيلم بداية جيدة، يلزم تحقيق شيئين، هما الرباط والإصرار، ولكل منهما أهميته القصوى ويتضح ذلك في الأتي:
أ. الرباط (أو المصيدة):
يبدأ الفيلم ـ غالباً ـ بمحاولة للاستحواذ على اهتمام المتفرج، ويتم ذلك من خلال استخدام الظهور التدريجي للحدث، أو الحركة، من أجل إثارة حب الاستطلاع، أو أي إحساس آخر، وبقدر كاف لدى المتفجرين لإغرائهم على الاندماج في القصة، وهي تنمو وتتطور. ويُسمى هذا الرباط في التليفزيون (المثير)، الذي يقوم بعرض أي شئ، من انفجار قنبلة، إلى قطرات المطر، التي تنزلق على زجاج إحدى النوافذ، ومن تصادم سيارة، إلى ضحكات طفل، وغالباً ما يتم عرضه قبل، أو أثناء، ظهور عناوين الفيلم. وكل ما يُهم أن ما يظهر يلزم أن تكون له إمكانات حدوث عواقب مؤلمة، أو مثيرة، لشخص ما، على أحد المستويات، بحيث يظل المتفرجون في توقع للتطور الدرامي، الذي سيحدث أمامهم.
ومن المهم أيضاً، عدم المبالغة، بمعنى عدم إنشاء رباط من القوة، وعنف الإصابة، وإثارة الاهتمام، وتحريك العاطفة، أكثر مما يمكن لباقي القصة أن تسايره، وبذا يتم خلق مضاد للذروة، ومن ثم يتحقق ذلك بإحساس مناسب، من أجل الحصول على أفضل النتائج.
ب. الإصرار:
يلزم أن يكون لكل شخصية رئيسية في أي قصة هدف، تهتم بأن تحققه داخل إطار الموضوع أو الفكرة الأساسية. وتبدأ القصة، عندما تتعهد الشخصية بتحقيق الهدف، وتصر على ذلك. وعندئذ يكون البدء في تأسيس وإرساء سؤال القصة الموحَّد لها: هل ستنجح الشخصية في جهودها لإحراز الهدف أم لا؟ وهل سيحصل الفتى على الفتاة أم لا؟ وهل سيفوز المتهم بالحرية أم لا؟ وهل ستحصل ألام على الطفل أم لا؟.
وإذا كان هذا التناول البسيط يبدو غريباً لأول وهلة، إلاّ أنه صالح للعمل، وإذا تم استخدامه بحذق ومهارة، فلن يبدو أنه خالٍ من الفن، من دونه لن تضيف المكونات الأخرى إلا القليل.
ونجد في السيناريوهات الضعيفة، أن كل الخطوات التمهيدية قد سبقت لحظة التعهد والإصرار. فقد تتحرك الشخصية الرئيسية خلال هذا المشهد وذاك، وخلال أحداث متنوعة هنا وهناك، وكلها بلا قصد واضح وبلا هدف، ولا يصح أن تُبنى قصة لا يكون للشخصية الرئيسية فيها هدف واضح.
ومن جهة أخرى، فمن المهم عدم الدخول في الموضوع قفزاً، إذا كان الحكم المتأني في صالح الدخول الهادئ. ومن الحكمة أن يبنى كل شئ تبعاً لإصرار الشخصية، فمثلاً، قد نبدأ بتوضيح الموقف، والكشف أن الشخصية يمكنها أن تتخذ اتجاهين أو أكثر، وقد يبدو للشخصية أنه ضرب من الجنون أن تختار طريق الكفاح والنضال، ولكن المتفرجين يتوقعون أن تسلك هذا الطريق. ويتبع ذلك أن الشخصية عندما تقرر أن تخوض المعركة - على الرغم من كل المصاعب - فإن رضاء المتفجرين يصل إلى قمته.
كما يلاحظ أن الشخصية أحياناً تكافح لكي تحتفظ بشيء، وليس لتحصل عليه. فقد تناضل فتاة من أجل حقها في البقاء دون زواج، وقد يكافح رجل من أجل الاحتفاظ بوظيفته، كل هذا يؤكد الهدف والإصرار لدى الشخصية.
وقد لا يكون هدف البطل، عندما يبدأ الفيلم، هو الهدف الذي تتناوله القصة، فقد يمر البطل، مروراً عابراً، كما يقول كاتب السيناريو ويليام باورز " William Powers" عندما يقطع عليه موقف القصة طريقه، ويجعله ينخرط في مغامرات لا علاقة لها بكل ما كان يتوقعه من قبل.
4. قمم المعالجة:
وكما أن القصة تبدأ عندما تلتزم الشخصية الرئيسية بهدف مُحدد، فإنها تنتهي عندما تنجح الشخصية، أو تفشل، في تحقيق هدفها.
وبين البداية والنهاية تكافح الشخصية ضد المصاعب والمشاكل، لكي تصل إلى هدفها، في سلسلة من المواجهات المتتالية. وتعني المواجهة، وحدة الصراع، التي تُعرف أحياناً باسم "المشهد الدرامي"، وأنها الأساس الذي تعتمد عليه أي قصة في تطورها وتقدمها. وهذه الوحدات وفواصل الانتقال، التي يتم الربط بينها، هي التي تشكِّل جسم الفيلم.
ولتخطيط المعالجة ينبغي أن تُفهم أمور ثلاثة مهمة:
أ. تجنب ما يمكن توقعه مقدماً:
يجب أن يكون الهدف في تخطيط الفيلم، هو تحديد سلسلة من التطورات المنطقية غير المتوقعة، تثير الاهتمام بالقدر الكافي الذي يشد المتفرجين إلى القصة. وإن كانت التجربة تدلهم على أن البطل سوف ينتصر حتماً، إلا أن الطريقة التي سينتصر بها ينبغي أن تكون مفاجأة سارة، ومثيرة لهم.
وينطبق هذا المبدأ نفسه في كل مرحلة. ولنسلم جدلاً أن المتفرجين يعرفون أن شيئاً ما سوف يحدث عند لحظة معينة، فإذا عرفوا هذا الشيء، قبل موعده، فعلى مخطط الفيلم ألاّ يلوم إلاّ نفسه.
ولكي يُتجنب ما يمكن توقعه مقدماً، فمن المهم أن يضع الكاتب نفسه في مكان المتفرجين، وأن يتصور ما يمكن أن يتوقعوه من أحداث، ومن ثم يجب تدوين قائمة بالتطورات البديلة المحتملة، واختيار ما يمكن أن يكون أكثراً وقعاً. وفي اللحظة المناسبة في السيناريو، يتم إدخال العناصر أو الأشياء أو الأحداث، التي يمكن أن تكون ضرورية لتقديم التغيير المفاجئ، الذي سبق اختياره.
ب. إبراز السلبيات:
سيزداد الجمهور تمتعاً، كلما ازداد البطل توغلاً في المشاكل، مع تقدم الفيلم. وبمعنى آخر، كل جهود البطل لتحسين الموقف، تنتهي به إلى موقف أسوأ من ذي قبل. وقد يكون ذلك نوع من المبالغة في الميلودراما، ولكن في واقع الأمر فإنّ الجمهور يجب أن يشاهد هذه السلبيات، وهذه الأحداث الدرامية.
ج. أهمية الفصل بين الأزمات:
من الضروري في التخطيط أن يُقرر أي الأحداث ستكون الكبيرة والمهمة والحاسمة، وبعد الاستقرار عليها يُفصل بينها، بحيث تكون هناك فرصة أمام المتفرجين لكي يستعيدوا أنفاسهم من تلقي إحداها، قبل أن يغمرهم الحدث التالي. فلو وجدت، على سبيل المثال، ثمانية أزمات، بعضها رئيسي وبعضها ثانوي، فمن المعتاد أن يجري ترتيبهم بشكل يُسمى "الأحداث المتصاعدة"، أي القوة المتزايدة، مع خلق التوتر من البداية إلى النهاية. وعلى أية حال فلا يمكن للتوتر وحده أن يبني شيئا، ومن ثم فمن المهم إدخال أجزاء هادئة لتتوازن مع أجزاء التوتر، ويتم إعداد ذلك كله في مرحلة معالجة القصة، على الرغم من التعرض لها بمزيد من التفاصيل في مراحل تالية.
5. إيجاد حل للقضية:
لكي تُنهى التوترات، التي تضمنت الرغبة والخطر، فهناك أمران يتعلقان بهذا الموضوع، هما:
أ. إنهاء التوترات الناشئة، عن الموضوع:
وهي تلك التوترات، التي تعتمد على أمور آلية، مثل: كيف تنقذ البطلة من المنزل المحترق؟ أو كيف تحل الشفرة؟.
ومن الممكن أن يكّون هذا الأمر مشكلة، فعندما يصل العمل في بناء القصة إلى حد الذروة، فغالباً ما تكون هناك حالة من التشابك بين الأمور. والواقع أن الإجراءات، التي تُستخدم لحل الألغاز، هي نفسها المستخدمة عند ابتكار التعقيدات والأزمات المنطقية، التي لا يمكن توقعها، أو التنبؤ بها مقدماً.
وفي هذه الحالة يكون التناول من خلال إيجاد الحلول، بدلاً من التعقيد، وفي الوقت نفسه توقع ما يمكن أن يصل إليه المشاهد، وتدبير بديلٍ مختلفٍ.
ب. إنهاء التوترات الناشئة عن الشخصيات:
لن ينتهي التوتر تماماً لدى المتفرجين، إلاّ إذا رضوا عن الطريقة التي انتهت إليها الأمور بالنسبة للشخصيات، ذلك أن حل المشاكل الصعبة وحدها لا يكفي في هذه الحالة.
وعلى أية حال، تُمنح الشخصية ما تستحقه على أساس الكفاءة والسلوك. فالكفاءة على سبيل المثال هي إلا تجعل لاعب الجولف المبتدئ، يفوز بالبطولة ضد اللاعب المحترف. أما السلوك فهو أمر مختلف، وهو يعني أنه إذا سلكت الشخصية سلوكاً يعتقد المتفرجون، أنه كان يجب عليها أن تسلكه فإنها تنتصر، وإن لم تسلكه فإنها تفشل. والمشكلة هنا أن الأخلاقيات تتغير، خاصة لصغار السن، الذين هم الغالبية الساحقة من متفرجي السينما، وتحل محلها تدريجياً أخلاقيات الموقف، ويُصبح تحديد ما هو خطأ، يتم على أساس الظروف المحيطة، وليس على أساس أحكام مطلقة.
والواقع أن التغير الذي حدث في البيئة الاجتماعية، أثر على المواقف السينمائية، كما تغيرت، أيضاً وبشكل أكثر ضرراً، النظرة إلى الجريمة، خاصة الاعتداء على ممتلكات الغير، واعتماداً على نظرية تقُّبل الانحراف كطريق للحياة، اندفع المتفرجون نحو أفلام ترحب بمبررات المحتالين، وتؤيد السرقة الناجحة لأحد البنوك. ولا يعنى هذا أن الجريمة ضد الإفراد قد احتجبت، بل على العكس، فهناك معالجات عديدة تؤيد مواجهة هذه الجرائم.
ويعني كل ذلك أن جدارة الشخصية الرئيسية وهي تواجه شراً أو معارضة متخفية، أصبحت اليوم مقبولة لتبرير اعتداءات ممكنة، على ما كان يُعد بالأمس من المبادئ الأولية للأخلاقيات. وإذا اندمج المتفرجون عاطفياً مع الشخصية بالقدر الكافي، فإنهم يرحبون تماماً بكل ما تفعله من السلبيات، أو قد يغضون النظر عنها.
ومن المهم فهم الموقف، وأن جذور الموضوع قابلة لكل الاحتمالات، أن الأخلاقيات تتغير، لأن العالم يتغير. ومادامت الأمور تسير على هذا الحال، فيجب أن يستمر كاتب السيناريو متيقظاً، ومُدركاً لجمهوره وتفكيره وأحاسيسه. إن كاتب السيناريو لا يستطيع الآن توقيع العقوبات، أو منح الجوائز لشخصيات، بلا وعي، أو وفق المعايير القديمة، وإلا فقد اتصاله، ومصداقية ما يقدمه، وهو لا يحتاج ـ بل ولا يجب ـ أن يتخلى عن معاييره الشخصية لكي يجارى الوضع الجديد، فمازال يمكنه أن يخاطب مختلف أنواع المتفرجين، ما دام يتناول شخصياته بصدق مع مراعاة وجهة نظر هؤلاء المتفرجين.
ثانياً: تحذيرات خاصة بالمعالجة الدرامية:
1. الحذر من الحبكة البلهاء:
ينبغي الحذر من، الحبكة البلهاء التي تتضمن شخصية أو اثنتين من الشخصيات الرئيسية، التي تتصرف كما يتصرف البلهاء، حتى يمكن للقصة أن تكتمل. وهذه هي القصص التي تتضمن أبطالا يتحدون القتلة المجرمين، والبطلات اللاتي يتفقن على موعد لمقابلة القتلة في أبراج القصور المنعزلة، والأشرار، الذين يعتقدون أن مخبر الشرطة قد أصبح في جانبهم فجأة.
ولتجنب مثل هذه البلاهة، لا بد أن تكون هناك تساؤلات حول تصرف هذه الشخصيات بهذا الأسلوب، وهل هناك ضغط كبير عليها، بحيث يمكن، في مثل هذه الظروف، أن يتصرف شخص عادى - غير متخلف عقلياً - مثل هذا التصرف؟
2. احذر المواقف الجامدة:
الفيلم ينبغي أن يتحرك، وأن يروى قصته بالحركة، وإلا فإنه لا يستفيد من ميزة إمكانات وسيلة التعبير السينمائي.
ولسوء الحظ، كثيراً ما يحدث أن يُكتب السيناريو عن أشخاص يتحدثون عن الماضي والحاضر والمستقبل، وما هو أسوأ أنهم يختارون موضوعات لا تمنح فرصة لشيء أن يحدث، إلا أقل القليل.
وقد أنجزت أفلام جيدة، ومازال هذا ممكناً، بأماكن قليلة جداً وحركة محدودة تماماً، ولكن لهذا النوع من الأفلام له مشاكله الخاصة، حيث من المهم التأكد أولا من إمكانية مواجهة هذه المشاكل.
3. الحذر من المعارضة المتفرقة:
قد تعارض جميع العناصر الأخرى الشخصية الرئيسية، وهي تتحرك خلال القصة تجاه هدفها، ولكن يجب أن يبرز أحد العناصر كطرف رئيسي في مقاومة الشخصية الرئيسية، وكلما تم هذا بسرعة، كان أفضل، حتى يكون للبطل شخص، أو شئ محدد، عليه أن يهزمه أو ينهزم منه، عند الذروة، وفي أوج الصراع لتحقيق الهدف. ومن ثم يُعد هذا أمراً مهماً. فمن دون مثل هذا العنصر المعارض الرئيسي، سيكون من الصعب، وربما من المستحيل، الوصول بالذروة إلى بؤرة محددة لها أثرها، ولن تكون هناك طريقة لتوضيح ما إذا كان البطل انتصر أم انهزم، وإذا كانت الذروة لا ترتكز على مثل هذا التوضيح، فإنها ستكون مبهمة وضعيفة، ويتبع ذلك فشل في جعل المتفرجين يتخلصون من التوتر المكبوت لديهم.
4. الحذر من تعدد الشخصيات، أكثر مما يلزم:
من الممكن ألاّ تُلقي بالاً لعدد الشخصيات، في مرحلة التسوية الأولى للمعالجة، ولكن في الجولة الثانية يختصر عدد الشخصيات إلى النصف، وفي المحاولة الثالثة تُختصر إلى الحد الأدنى.
فالمزيد من الممثلين يكلف الشركة المنتجة مزيداً من التكلفة، كما أن القائمة الطويلة من الممثلين تربك المتفجرين. وأكثر من هذا، فقلما يكون لهذا العدد الكبير من الممثلين أهمية حيوية. إن الأشخاص الذين يحتاج إليهم، هم أولئك الذين تقوم عليهم القصة، ويطورون الصراع ويقفون مع البطل أو ضده، في كفاحه للوصول إلى هدفه، ومن ثم يجري مراجعة قائمة الممثلين بعد ذلك من أجل إدماج أثنين منهما في شخص واحد، أو ربما استبعاد بعض الأجزاء أو الأحداث، لكي نتخلص من عدد آخر من الأشخاص.
5. الحذر من الفكرة والرمزية:
من المستحيل أن يُكتب سيناريو، أو يصنع فيلم دون فكرة. كما لا يمكن إعداد فيلم دون استخدام الرموز. فالرمز شئ يمثل شيئاً آخر، على أساس من العلاقة أو الارتباط أو العرف أو ما إليها. فالاسم يرمز إلى شئ محدد، والعلم يرمز إلى الدولة، ويتبع ذلك أهمية معرفة الرموز ذات المعنى والقواعد الإجرائية، أي معرفة ما المفترض أن يمثله كل رمز، حتى يكون هناك معنى لكل ما يُعرض في شكل رمز.
وعندما يقرر الكاتب أن يدخل رموزاً معينة في السيناريو، فإنه يخاطر مخاطرة كبيرة، لأن الحيلة التي تبدو واضحة وقاطعة، قد تفقد وقعها تماماً على المتفرجين. ومن الحكمة أن يتجاهل كاتب السيناريو هذا الجانب كلية، لأن الرموز ستظل موجودة، وليترك للمشاهدين معرفة ماذا يعني كل منها. وأفضل من هذا، أن يستخدم كاتب السيناريو رموزاً رئيسية واضحة في عمله يعرفها الناس، مثل "رمز الصرصار"، كإشارة إلى الفساد السياسي، ولينظر كيف سيفسره المشاهدون، والنقاد على السواء، عندما يشاهدونه على الشاشة.
ثالثاً: كتابة المعالجة:
إنّ الفيلم الجيد هو ـ غالباً ـ إحساس في المقام الأول، ومهمة كاتب السيناريو في مرحلة المعالجة، أن يسجل هذا الإحساس على الورق. فيبدأ بالتأكيد، بكل وضوح، أن الدافع لكتابة شيء ما، يعني في أغلب الحالات، أن الموضوع يتضمن عنصراً مثيراً للاهتمام. ويُطبق هذا المقياس لتحقيق الإثارة، لكل مشهد من المعالجة التي تكتب، مع ضرورة تجاهل خطوط الحبكة وحيل الوصل. ويجري التساؤل ـ عادة ـ: ما هو الذي يملكه الكاتب عن كل شخص ومكان وحدث، في كل جزء من الحوار؟
وفي ضوء ذلك تدون اللمسات المثيرة على الورق، ومنها تُكتب المعالجة، ويُسجل الإحساس التي تثار أثناء تنفيذ العمل، كما تُسجل الأفكار بالفعل المضارع، وليس الماضي، ويُبحث عن الكلمات والعبارات التي تُساعد القراء، كما تُساعد أيضاً على الإحساس، لا بالحقائق الجامدة لما يحدث فقط، بل أيضاً بالحالة النفسية واللون والتوتر والروح والنغمة. ومن المهم أيضا استخدام أفعال الحركة إلى أقصى حد، وكذا الأسماء التصويرية.
والواقع أن الهدف من المعالجة هو الإقناع، وبوجه خاص إقناع الإداريين الرئيسيين الذين يقرأون هذا الجهد، بأن القصة قوية ومحبوكة، وأن هذا هو النوع الذي يشد المتفرجين ويملأ بهم دور العرض. ومن المهم أيضاً ألاّ تكون هناك ثغرات، أو عيوب في الجانب السينمائي العملي للقصة.
وتوجد طرق لا حصر لها لتناول المعالجة. فهناك من يُفضِّل تناول المعالجة بشكل تفصيلي، وهناك من يُفضل أن تكون مضغوطة، وأيا كانت الطريقة التي تُختار، فالأمر الذي له أهميته القصوى، هو ألاّ ننسى فن الإبداع والبناء وعبور المواجهات.
المبحث الرابع عشر
السرد والحبكة
أولاً: السرد:
يُعد الوضوح أولى قواعد السرد، فالمطلوب من متلقي السرد، سواء أكان قارئاً لنص سيناريو، أم مشاهداً لفيلم، أن يتتبع تسلسل الحبكة، ويفهم جميع معطياتها. والفهم والمشاركة مرتبطان ببعضهما ارتباطاً وثيقاً، سواء في السينما أم في أي شكل من أشكال الكتابة، حتى في الحياة نفسها، فمن دون فهم لا يمكن أن تتحقق مشاركة انفعالية. وعلى هذا يجب أن يُكتب السيناريو بلغة سهلة، مباشرة ودقيقة، لغة تخضع بدورها إلى قانون التكثيف، أي تقديم الحد الأقصى من المعلومات، بحد أدنى من الزمن والكلمات.
وتقضي القاعدة الثانية لكتابة السيناريو، أن يكون السرد بأسلوب قصصي، من خلال عرض موضوعي، دون التعرض للتعليق أو التفسير. وقد سُميت تقنية السرد هذه "بالسلوكية" " behaviorism"، تيمناً باسم تلك المدرسة المعروفة في علم النفس، التي أرسى دعائمها جوان واطسون، في بداية القرن العشرين. ويكمن هدف هذه المدرسة في الدراسة الموضوعية للأفعال وللسلوكيات، دون الدخول في تفاصيل الدوافع. ونجد تطبيقاً لها في الأدب من خلال تقنية "عين الكاميرا"، المستوحاة من السينما التي استخدمها الروائي "جون دوس باسوس"، وقد قلده في هذا كتاب الروايات "السوداء" الأولى، مثل "داشييل هاميت"، الذي استبعد التفكير والتحليل والتعليق، وكتب ما يُسمى "بقصة النظر"، التي تكتفي بوصف الحركات الإشارات، التي يقطعها حوار قصير وحاسم.
وينجم عن ذلك، أنه لا يُمكن إعطاء أية دلالة عن طريق الكتابة، إلاّ بما يمكن ترجمته فيما بعد إلى صورة.
والمطلوب من كاتب السيناريو، أن يصف الشخصية في واقعها الفعلي، وإعطاء التفاصيل الحقيقية من حيث اللباس والهيئة والصوت، والديكور، والمكان والزمان، والأضواء والأصوات، والضجيج، والجو بألوانه وموسيقاه. فالروائي يُعبر انطلاقاً من قواعد اللغة، أما كاتب السيناريو فيعبر انطلاقاً من لغة المشاهد، بمعنى أنه يبلور المادة إلى المشَاهد، التي تتطلبها اللغة السينمائية. والروائي يولّد الصور من كلماته ومن جُمله، بينما كاتب السيناريو يرى أولاً الصور ويكتفي بوصف ما تصوره، بأقصى ما يمكنه من "الموضوعية"، وذلك باختيار العناصر التي تبدو له أكثر دلالة، وأكثر أهمية من الناحية الدرامية. وهذا يعنى أن كاتب السيناريو، قبل أن يُكتب المشهد، يعرضه لنفسه، إلى حد ما، على شاشة داخلية، بديكوره، وشخصياته، وطريقة ارتداء ملابسها، وإيماءاتها، وتحركاتها. وبعد ذلك "يضع الفعل في منظر" أي يخرجه، ثم يكتفي بنقله كما يراه. إن كاتب السيناريو يُعيد إنتاج رؤية وينظمها، سبق أن أنتجها الروائي لذلك يتميز كاتب السيناريو بقدرته على رؤية وإخراج الفيلم، الذي يكتبه بشكل مسبق. وحتى يكون كاتب السيناريو جيداً، لا بد من امتلاكه لتجربة الإخراج. وبما أن كتابة السيناريو والإخراج متداخلان بشكل وطيد، فلابد لكاتب السيناريو أن ينخرط في مجال الإخراج، أي أن يقف على خيارات محددة من الشكل المستقبلي للفيلم.
وتتحكم في الأسلوب السردي للسيناريو ثلاث قواعد:
1. عدم وصف إلا ماله دلالة درامية، أي وصف الخصوصيات التي تقدم معلومة مفيدة، أو التي تشارك في خط الفعل الدرامي المنظّم، مع حذف العناصر الناشئة عن مجرد الاحتمال.
2. عدم التعرض إلاّ لعناصر الوصف، التي تمسك بالمُشاهد وتثير انتباهه، ومن ثم فإن على الكاتب السينمائي أن يختار المكونات الدالة، وحذف كل ما هو غير ضروري، وذلك حتى لا يسد جميع وسائل التلقي لدى المشاهد. ويمكنه فعل ذلك عن طريق الإخراج (زوايا الكاميرا، ضبط حدود الإطار)، والتركيز البصري على تفصيل معين، تاركاً التفاصيل الأخرى. كما يمكنه ذلك من خلال ضبط مدة الصورة على الشاشة، بشكل لا يثير المشاهد إلا عن المراكز الحساسة، التي تستقطب الفعل وتحركه، وألاّ يترك له الوقت للتوقف عند العناصر الثانوية، وهذا ما يُسمى بالإيقاع، الذي يؤمّن هيمنة التجانس الدرامي للفعل، الذي ينطوي عليه فن القص، على المحيط الطبيعي وعلى العمق الموضوعي. ولخلق هذا الإيقاع وتنظيمه، ينبغي على كاتب السيناريو احترام مبدأ المصادفة، وذلك بالانتباه إلى أنه لا ينبغي أن تتجاوز، مدة قراءة مدة عرض الأحداث، التي يرويها، على الشاشة، ويجب إلا نخصص صفحة لوصف ديكور، يُرى إلا لمدة عشر ثوان، ولا تكريس عشرين سطراً لقفزة قام بها شخص وهو يهرب من خلال النافذة. إن القاعدة ـ كما يلخصها جان كلود كاريير ـ تقول: "ألا نطيل أبداً في كتابة مشهد قصير، وألاّ نختصر في كتابة مشهد طويل، أي أن على إيقاع قراءة السيناريو، أن يكون نفسه خلال عرض الفيلم على الشاشة".
3. يجب ألاّ تُقدم لمتلقي السرد معلومات ألا بالترتيب، الذي سيراها المشاهد من خلاله على الشاشة، ذلك أن توقع ما سنراه وما لن نراه على الشاشة، يجبر كاتب السيناريو على الانخراط في إخراج الفيلم نفسه، وتحديد هذا الإخراج عن طريق خياراته السردية. وليس من باب المبالغة في أهمية دور كاتب السيناريو، القول إنه قادر على كتابة وتنظيم منظر بحيث لا يعود هناك سوى شكل واحد لتصويره، ولتحقيق هذه الغاية فإنه يعمد إلى تقنية ما يُسمى "التقطيع غير المرئي". وليس من الضروري أن يقطع الفعل بشكل سطحي، وأن يثقل القصة بعبارات ضبط حدود الإطار cadrage الفنية، مثل اللقطة الكبيرة gros plan، أو اللقطة المتوسطة، وحينما يشعر بضرورة تغيير اللقطة، يكفي بكل بساطة أن يعود إلى أول السطر. وهكذا فإن كاتب السيناريو يقترح على المخرج شكل تقطيع الفعل وطريقة تصويره، دون اللجوء إلى تقسيم صريح، ودون إثقال السرد بالتحديدات الفنية، فيتحدد له الحركة والإيقاع المرغوبين.
ثانياً: الحبكة:
لمّا كان العمل المُشاهَد على الشاشة، هو سلسلة متصلة من الأحداث، ومن غير المقبول أن تتوالى هذه الأحداث كيفما اتفق دون رابط أو نظام، كان لا بد من البحث في هذه الروابط والأنظمة، التي تحكم هذا التدفق، وتُسمى "الحبكة".
وبصرف النظر عن تعدد المفاهيم الخاصة بمدلول هذا المصطلح ـ أي الحبكة ـ فهي تعني: "المعمار أو الهيكل (Structure)، أو الشكل Form، أو البناء الدرامي " Dramatic Construction".
وبنظرة أعمق وأشمل إلى دراما الشاشة، نجد أنه يدخل في مكونات الحبكة: "الأنشطة والتحركات التي تقدم بها الشخصيات، والأشجان، والدوافع، والصراعات، والاكتشافات، والقصة أو الحكاية، والتوترات، والتشويق والمفاجأة، والترويات، والانفعالات، والأسئلة الكامنة وراء الأحداث، والاحتمالات، والسببية".
ويمكن تعريف الحبكة بأنها: "التنظيم الشامل لأحداث القصة، في وحدة بنائية مترابطة عضوياً، تستخدم لغة الشاشة وخصائصها الجمالية، كي تشد انتباه المشاهد، وتحقق في محصلتها النهائية الهدف الذي يتوخاه الفنان".
وإذا كانت الحبكة في المسرحية، بمثابة هندسة أجزاء المسرحية وبنائها وربطها ببعض، فإن السيناريو، هو الآخر، عملية فنية من أجل بناء الفيلم، وربط أجزائه ببعضها بما فيها من حبكة. ولأن كل مسرحية لابد أن تشتمل على حبكة، فلذلك كل فيلم لابد أن يشتمل على سيناريو، لأن السيناريو هو الفيلم. أي أن الأجزاء التي يتكون منها الفيلم، من شخصيات وحوار ومناظر وأحداث وإكسسوارات وموسيقى وإضاءة وملابس، لا تكتسب شكلها العام في الفيلم إلا من خلال السيناريو.
فالحبكة، ببساطة، هي ترتيب الأجزاء، التي تتكون منها المسرحية ترتيباً يكسبها الشكل العام.
والسيناريو السينمائي به ميزات لا توجد في المسرح، أو أي وسيلة أخرى، وأهمها إمكانية تصوير الأحداث في أي زمان أو مكان، حتى لو كان الزمان أو المكان خياليين، لأن العدسات السحرية للكاميرا، مع استخدام بعض الحيل السينمائية، يمكن أن تفعل ما يشبه المعجزات. وعلى هذا الأساس فكاتب السيناريو لا يتقيد بأزمنة، أو أمكنه معينة، بل أنه يطلق لنفسه العنان، ويكتب أحداثه لتصور في الأزمنة والأمكنة التي يرغب فيها، وتتطلبها طبيعة الأحداث، مهما تعددت هذه الأزمنة والأمكنة. فلا قيود في السينما، لأن الفيلم الواحد يمكن تصويره في العديد من الأماكن، كما يمكن أن يغطى فترات زمنية طويلة.
1. العلاقة بين القصة والحبكة:
إنّ العلاقة بين القصة والحبكة وثيقة جداً، وغالباً ما تُعد العمود الفقري لها. فالقصة هي حكاية أحداث مرتبة في تتابعها الزمني، وليس المقصود بالأحداث أن تكون فقط أفعالاً عابرة عشوائية، كما يحدث في حياتنا اليومية، بل يجب أن يكون لكل فعل وظيفته في النص، وأن تتصل الأحداث عضوياً ببعضها بعلاقة السببية، أو برباط الفكر، أو بنظمها الداخلية، التي تكمن وراء الأحداث. وبما يشتمل على التنظيم والاختيار والتقدم والتطور، أن تكون الأحداث ذات دلالة واضحة تثير اهتمام المشاهد وانتباه، وتحرك مكنون معارفه السابقة، بل وتنشّط حسه الإبداعي أيضاً.
ولا يعني أهمية الأحداث أن تكون أحداثاً مدوية، فرُبّ حادث عرضي، قليل الشأن، يثير اهتمام الجماهير أكثر من أشد الكوارث هولاً وإبهاراً، فالعبرة بالأثر النفسي لدى المشاهد. وهناك صيغة تقليدية بسيطة للقصة تمتد بجذورها في التاريخ، ولا يزال يعمل بها حتى الآن، وهي: أن نبدأ بالتوازن، ثم يحدث ما يخل به، أي ننتقل إلى عدم التوازن أو الاضطراب، وبعد كفاح أو صراع يُستعاد التوازن مرة أخرى، ولكنه توازن مختلف عما كان عليه في البداية.
2. بناء الحبكة plot:
يمكن القول إنّ الحبكة، هي الطريقة التي يسرد بها الكاتب قصته، أو طريقة الكاتب في سرد القصة، وعلى ذلك يصبح من الصعب الفصل بين عملية ابتكار الشخصية، أو رسمها، وبين عملية بناء الحبكة. ذلك أنّ القصة إنما تتكشف من خلال الشخصيات وبواسطتها، وتنبع منها أثناء العمل. ويؤكد كثير من كتاب الدراما أن الجمهور أصبح شغوفاً بالعمل، الذي يقوم على الشخصية، التي لا يمكنه أثناء متابعتها أن يتنبأ بما ستكون عليه خطوتها التالية، وما ستفعله بعد ذلك. وعلى ذلك، فإن بناء الحبكة لابد أن تتداخل فيه عدة عناصر، إذ لابد للفيلم أن يقوم على بطل، وهذا البطل يصارع ويُكافح من أجل هدف. ولا شك أن الصراع هو نضال البطل، من أجل الوصول إلى هدفه أو غايته، ومن ثم لابد أن يكون الصراع ضد قوى متضادة تقيم أمامه العقبات والتحديات. ومن هذا الصراع الذي قد يكون داخلياً في أعماق النفس، أو خارجياً ضد الآخرين، ينشأ الفعل السينمائي.
ولا شك أن الصراع " Confilct" هو روح العمل الدرامي، وباعث الحرارة فيه، ومن دونه يكون العمل فاتراً، لا يثير في نفوس المتفرجين الشوق للمتابعة. ومن ثم ينبغي أن يبدأ الصراع مع بداية العمل الدرامي، كما يجب ألا ينتهي ألا بنهاية العمل كله. ولمّا كان الصراع يصدر عن الفعل، والأفعال كلها نتائج لأسباب، هي التي تحركها، فلا بّد من إظهار الأسباب والعوامل التي تؤدى إلى الفعل، حتى يمكن التعرف على أسباب الصراع.
وهناك أربعة أنواع للصراع هي:
أ. الصراع الساكن:
هو الذي يُشعر بركود الحركة، وعدم التقدم أو النمو، ويصيب العمل بالركود وعدم الحركة.
…ب. الصراع الواثب:
هو الذي يحدث فجأة في قفزات، لا تُكاد تُدرك أسبابها، وينبغي استخدام كل نوع منهما بحذر شديد.
…ج. الصراع الصاعد:
وهو الذي يتحرك وينمو من أول الدراما، حتى آخرها.
…د. الصراع المرهص:
هو الذي يوحي بما يُنتظر حدوثه، دون أن يكشف عما سيقع من الأهوال، حتى لا يضعف عنصر التشويق.
وإذا تألف الصراع في العمل الدرامي من النوعين الأخيرين، أي من الصراع الصاعد والصراع المرهص، كان صراعاً بديعاً. ومن أهم مراحل الصراع، في أي عمل درامي، تلك المرحلة التي تبدأ عندها نقطة الهجوم، وهي تلك النقطة التي يكون فيها كل شئ حيوي ومهم، معرضاً للخطر، في مستهل الرواية.
إن عناصر بناء العقدة أو الحبكة، تقوم على البطل والهدف والصراع، من أجل الوصول إلى الهدف. وفي هذا الإطار، ومن خلال صراع البطل في مواجهة العقبات والتحديات التي تواجهه، يجتاز سلسلة من الأزمات Complications ، لكل منها ذروة Climax تصل إليها، وهذه الذروة هي النتيجة، التي يكون البطل قد وصل إليها في تلك الأزمة. ولنضرب مثلاً يصل فيه البطل إلى الوقوف داخل قفص الاتهام في المحكمة، في انتظار صدور الحكم ضده في جريمة لم يرتكبها، هذه هي الذروة، ثم تحدث المفاجأة بأن ينهض أحد الأشخاص من بين الجالسين في المحكمة، ليعترف أنه هو الجاني الحقيقي، وليس البريء الواقف في قفص الاتهام!! .. عندئذ تكون الذروة هي النتيجة.
ويصُدق القول إنّ لكل موقف، من المواقف المختلفة، التي تتألف منها المسرحية أو الفيلم، "أزمة" تبلغ ذروتها، وفي هذه الذروة تكمن النتيجة ويكون الحل. أما الأزمة والذروة النهائية للمسرحية أو الفيلم، فترتبط بالموضوع الأصلي، الذي هو العمود الفقري للعمل كله، والمبرر الرئيسي لوجوده، وعلى هذا يبقى الكشف عما إذا كان البطل سيحقق هدفه أم سيخفق في ذلك، بمثابة سؤال مؤجل حتى النهاية. ويكون الفعل السابق على هذه اللحظة، وكل الأزمات التي مرت في سياق العمل، هي "الفعل الصاعد" Raising Action إلى الذروة النهائية في العمل، أما ما يلي ذلك فهو الفعل النازل، أو الحل (Resolution)، أي نتيجة العمل وحل العقدة. (اُنظر شكل نتيجة العمل وحل العقدة)
وفي كل الأحوال، فعلى الكاتب أن يُراعي الاعتبارات والأسس الآتية، عند بناء العقدة:
(1) أن تكون كل الأحداث والأفعال، التي تفرضها العقدة على الشخصية، مطابقة لها ومتمشية معها، على النحو الذي حدده الكاتب لهذه الشخصيات، عندما رسمها. وذلك حتى يشعر الجمهور أن الأعمال، التي تصدر عن هذه الشخصيات، إنما تصدر منطقياً وبطريقة طبيعية، تنسجم مع مزاج الشخصية وتطابق طبيعتها.
(2) الحرص والتأكيد على "وحدة الفعل" " Unity"، والمقصود بذلك حذف كل ما ليس جوهرياً ولا ضرورياً من صميم الموضوع. وهنا يؤكد على ضرورة أن يكون لكل مشهد، ولكل شخصية، وظيفة درامية تعمل بوضوح على دفع العمل وتحريك الأحداث. وكذلك فإن وحدة الفعل تتطلب، أيضاً، أن ينطوي الفيلم أساساً على عقدة واحدة كبرى، أما إذا اشتمل على عقدتين متساويتين في القوة، فيجب أن تكون إحداهما في صراع مع الأخرى، حتى لا يتوزع اهتمام الجمهور بين عقدتين متماثلتين في الأهمية.
(3) الحرص على أن يشتمل الفيلم على ما يسمى بالمشهد المنتظر، أو "المترقب"، أو "المشهد الإجباري"، كما يسميه بعض النُقاد. وهو المشهد الذي يترقبه الجمهور في تيار العمل ويصر على وجوده. ومثال ذلك: المشهد الذي يصور رد فعل الأُم عندما تكتشف أن الفتاة التي قتلتها هي ابنتها، وقد قتلتها دون أن تعرف ذلك.
المبحث الخامس عشر
بناء الشخصية
الشخصية " Character": هي الأساس الجوهري للسيناريو، وهي القلب والروح والجهاز العصبي للقصة. فقبل كتابة كلمة واحدة على الورق، فمن المهم أن نتعرف جيداً على الشخصية، ومن هي الشخصية الرئيسية في هذا العمل الدرامي، وعن أي شئ تتحدث القصة؟
وتوجد عدة طرق لبناء الشخصية، وكلها صالحة، ولكن لابد أن يُختار أفضلها. فمن المهم أن تكوّن الشخصية الرئيسية للعمل، ثم تُفصل إلى صنفين: داخلية وخارجية. (انظر شكل بناء وخلق الشخصية) فالحياة الداخلية للشخصية تبدأ منذ الميلاد، حتى لحظة البدء بالفيلم، وهذه هي العملية التي تكوّن الشخصية. أما الحياة الخارجية لها فتبدأ منذ لحظة بدء عرض الفيلم، حتى الوصول إلى نهايته، وهي العملية التي تكشف الشخصية. وعلى الكاتب أن يجد الوسيلة الكفيلة بكشف صراعات الشخصية بصرياً، وأن يُبيّن المعرفة بالشخصية وتطويرها على الورق.
ويُبدأ ـ عادة ـ بالحياة الداخلية للشخصية، وأين يعيش؟ وأين ولدت؟ وكيف كانت علاقاتها مع الآخرين؟ ثم تتتبع حياتها إذا كانت تدرس أو تعمل، وكذلك حياتها العاطفية، ويجري الإجابات عن هذه التساؤلات جميعها.
…وفي الوقت الذي يكتمل فيه تأسيس الصورة الداخلية للشخصية، أي السيرة الذاتية، يُنتقل إلى الجزء الخارجي من القصة، أي الصورة الخارجية للشخصية، حيث يُكشف عنها منذ لحظة بدء العرض، حتى لحظة الاختفاء التدريجي للصورة النهائية.
أولاً: كيف تُوضّح الشخصيات على الورق؟
في البداية، لا بد من إيجاد أُناس لهم علاقة مع آخرين، ومع أشياء أخرى. وكل الشخصيات الدرامية تتفاعل بطرق ثلاثة:
1. أن يختبروا الصراع لتحقيق حاجتهم الدرامية، فعلى سبيل المثال كيف سيحصلون على المال، هل بسرقة أحد البنوك؟
2. أن يتفاعلوا مع شخصيات أخرى، إما بطريقة عدائية، أو ودية، أو بطريقة مختلفة؛ فالدراما هي الصراع.
3. أن تتفاعل الشخصيات مع نفسها، فعلى الشخصية الرئيسية مثلاً، أن تتغلب على مخاوفها من دخول السجن، لتتمكن من إنجاز السرقة بنجاح. فالخوف عامل انفعالي لابد من مجابهته وحصره، من أجل التغلب عليه.
وتُقسّم الشخصية ـ عادة ـ إلى ثلاثة مكونات أساسية: "مهنية، وذاتية، وخاصة (اُنظر شكل مفهوم الشخصية)
1. المهنية:
ما المهنة التي تعيش منها الشخصية؟ وكيف تتعامل مع الآخرين؟ وهل هي على علاقة طيبة بهم أم لا؟ وعندما ينتهي الكاتب من حصر واستشكاف علاقاته الشخصية، تكون هذه الشخصية قد وجدت، من وجهة نظر كاتب السيناريو.
2. الذاتية:
هل هذه الشخصية لعازب أم متزوج أم منفصل أم مطلق؟ وإذا كان متزوجاً فما مشكلة العلاقة الزوجية؟ وهل هو اجتماعي، أم إنطوائي، وما هي علاقاته الغرامية؟
3. الخاصة:
ما الهوايات المحببة للشخصية؟ أي تغطية مساحة كبيرة من الحياة الشخصية لها، ثم تحدد ـ بعد ذلك ـ مطالب هذه الشخصية في السيناريو. وعندما يُصل إلى هذا التحديد، نستطيع أن نحدد العقبات لتلك الحاجة، فينشأ الصراع. فالدراما هي الصراع، والفعل الدرامي هو قوام الشخصية، فالشخصية هي الفعل، والفيلم السينمائي وسيلة بصرية، ومسؤولية كاتب السيناريو أن يختار الصورة، التي تجسد سينمائياً تلك الشخصية، بوضعها في قالب درامي.
والواقع أن السيناريو قصة تروى بصرياً، عن طريق الصور. فالصور أو المشاهد تكشف أوجه الشخصية، من خلال أفعالها وفصائلها وسماتها الجسدية المميزة.
والحوار وظيفة من وظائف الشخصية، فإذا عرفنا الشخصية انساب الحوار بيسر وبخط يتمشى مع سير الأحداث في الرواية. وكتابة الحوار هي عملية تَعَودُّ وتعّلم، تقوم بمهمة التنسيق. فضلاً عن أن الحوار مسألة مرتبطة بحاجة الشخصية، وأحلامها، وينقل المعلومات والحقائق الواردة في الرواية إلى المشاهد، ويدفع بالرواية إلى الأمام، بل وينم عن الشخصية.
ثانياً: بناء الشخصية:
يُبنى قالب Context الشخصية أولاً، ثم يملأ هذا القالب بالمحتوى Content. والقالب والمحتوى [1]. كلاهما بعدان مجردان يقدمان الأداة، التي لا تقدر بثمن في عملية الإبداع، ويشكلان المفهوم الذي نستفيد منه.
وتتم عملية بناء الشخصية بلغة القالب، من خلال:
1. تحديد حاجة الشخصية، وما تريد أن تحققه، أو تحصل عليه من خلال السيناريو، حيث تُسجل سيرة حياتها، ومن ثم يمكن اكتشافها، وعند الفراغ من كتابة سيرة حياة الشخصية، يُنتقل إلى الجزء الخارجي للشخصيات.
2. تحديد وجهة النظر في هذه الشخصية، وهل هي شخصية ليبرالية أم محافظة؟ وهل هي من أنصار البيئة من المدافعين عن حقوق الإنسان، هل هي عنصرية؟ هل هي من الأشخاص الذين يؤمنون بالقدر والحظ، هل هي من هؤلاء الذين يثقون بالأطباء والمحامين، وما وجهة نظر هذه الشخصية فيما يتعلق بعملها؟ ومن ثم تصبح العناصر أجزاء محددة، ومتكاملة للشخصية.
3. التأكد من أن كافة الشخصيات لديها وجهات نظر فردية ومحددة، كما يُبحث عن الوسائل التي تستطيع بها الشخصية دعم وجهات نظرها، والتعبير عنها درامياً.
والتساؤل المهم هو: ماذا عن الشخصية؟:
الواقع أن الشخصية موقف Attitude أي قالب، أو طريقة فعل، أو شعور يؤدى إلى كشف رأي الشخص. وهل هي عظيمة في موقعها؟ أم وضيعة؟ هل هي لشخص إيجابي أم سلبي؟ متفائلة أم متشائمة؟ مندفعة نحو الحياة وفي عملها، أم تعيسة؟
والشخصية، كذلك، هي السيرة الذاتية المميزة للشخص. فكل شخصية تظهر ذاتية الشخص بصرياً، وهل هي شخصية مرحة؟ هل هي سعيدة ومبتهجة وذكية، أم منبسطة وغير متحفظة؟ هل هي جادة؟ هل هي لبقة في تعاملها، أم فظة، أم كشره ودون حدٍ أدنى من الذكاء وروح الدعابة؟
والشخصية أيضاً سلوك Behavior، فجوهر الشخصية هو الحدث الدرامي، وما يفعله الشخص ينم عنه. فالسلوك هو الحدث الدرامي، حيث يقدم الكثير من تصرفات الشخصية، التي تجري معالجتها في السيناريو. أما إذا وصل الكاتب إلى لقطة لا يعرف من خلالها ما يجب أن تفعله هذه الشخصية في موقف معين، فعليه أن يدخل إلى أعماق حياته الشخصية لاكتشاف ما يمكنه أن يفعله ـ لو كان هو في الموقف نفسه ـ فالكاتب أفضل مصدر للمادة، وإيجاد الحلول للمشكلة.
والشخصية أيضاً كشف " Revelation"، فمن خلال سرد أحداث القصة نتعرف على جوانب معينة للشخصية، فوظيفة كاتب السيناريو، كشف صور وجوانب الشخصية إلى القارئ والمشاهد، بمعنى أن يوضح شيئاً عن طبيعة عمل الشخصية، أثناء تعاقب الأحداث ووقائع السيناريو.
والاستغراق Indentification هو أيضاً مظهر من مظاهر الشخصية، إذ إنّ عامل التّعرف هو أعظم إطراء يتلقاه الكاتب. فالحدث الدرامي هو الشخصية، وما يفعله الشخص هو ما ينم عليه، وليس ما يقوله.
والواقع أن كافة السّمات السّابقة، ترتبط كلها ببعض، وتتداخل الواحدة في الأخرى أثناء عملية بناء الشخصية، ومن ثم يكون الخط واضحاً لاختيار ما يلائم فعلاً بناء هذه الشخصية. وستكون النتيجة النهائية لمجمل العمل والبحث والتحضير والتفكير هي بناء الشخصية الحقيقية والحية والمقنعة، أي بناء أشخاص حقيقيين، في مواقف حقيقية.
ثالثاً: إيجاد الشخصية أو اختراعها:
هناك طريقتان للاقتراب من كتابة السيناريو:
·…الطريقة الأولى: أن تتكون لدى الكاتب فكرة، ومن ثم يوجد الشخصيات، بحيث تتلاءم مع تلك الفكرة.
·…الطريقة الثانية: أن يوجد الكاتب الشخصية أو يخترعها، ومن داخلها ستنشأ حاجة وحدث درامي وقصة.
إيجاد الشخصية:
ويقوم على سلسلة من العمليات المتعاقبة، تبدأ بمحاولة كتابة مسودة، ووضع التساؤلات حول هذه الشخصية، ومن خلال الإجابات المختلفة، يمكن وضع هذه الشخصية في قالب مُحدد. ومن هذه الشخصية تنبثق القصة، وقد تسير الأمور، في بعض الأحيان، سيراً حسناً، ونخرج بشخصية مثيرة للاهتمام، لكي تصبح مشروع فيلم درامي جيد، وفي بعض الأحيان قد تكون هذه المحاولات غير مجدية.
رابعاً: أفضل طريقة لتقديم الشخصية:
1. تدبير أحداث تأسيسية، من أجل الشخصية:
الطريقة الوحيدة للتعبير عن سلوك الشخصية على الشاشة، هي من خلال الحركة والحوار، أي الأشياء التي تفعلها الشّخصية، أو تقولها. ويمكن تقديم الحركة والحوار بأفضل طريقة فعّالة، عن طريق الأحداث القابلة للتصوير؛ أحداث تكشف عن طبيعة هذه الشخصية وعن علاقاتها. وتُدار هذه الأحداث، بطبيعة الحال، من خلال بناء الحبكة الخاصة بهذا السيناريو، كما يلزم، إضافة إلى ذلك، أن تخطط بطريقة تخدم الكشف عن مهام هذه الشخصية. ولتنفيذ ذلك يتم الآتي:
أ. تأسيس الشخصية مبكراً: حيث يجب أن تؤسس هذه الشخصية وسماتها منذ اللحظة الأولى، حتى يتعرف المشاهد عليها مع بداية العمل الدرامي.
ب. تأسس السمات في الشخصية: إنّ الفشل في تأسيس السمات في الشخصية، أي الفشل في تطوير الشخصية من البداية، كشخص من النوع المعين الذي سيؤديه الفيلم، قد يؤدى إلى كارثة حقيقية، لأن مثل هذا الفشل، قد يقود المتفرجين إلى انطباع زائف عن سمات الشخصية. وتتخذ ـ عادة ـ ما تتم إجراءات محددة، تتمثل في:
(1) تأسيس انطباع سائد: فإذا كان البطل حسن التصرف، فلا نقدمه عند أول ظهوره، وهو يسقط على وجهه في الطين، وإذا كانت البطلة من النوع الخجول، فلا مبرر لتقديمها لأول مرة وهي تصرخ بأعلى صوتها لأمر تافه.
(2) تأسيس الجدارة بالحب: إذا كانت الشخصية في الفيلم - خاصة إذا كانت الرئيسية - جديرة بأن تكون محبوبة، فيجب أن تؤسس هذه الجدارة بالحب بأسرع ما يمكنك، بأن تجعله يفعل شيئاً محبوباً، كما يمكن إعطاء الشخصية هدفاً يوضح أنها في جانب العدالة والصواب، أو أن تُعرض الشخصية كضحية للظلم والاضطهاد، ومع ذلك فهي لم تفقد روحها المرحة، أو أن يكشف عنها واقفة بصلابة في مواجهة كارثة ما، أو تقول آراء تتأكد أن المتفرجين يتفقون عليها، أو هي تحارب وتضحي من أجل الغير، ولكن أيا كان ما تفعله، فيجب أن يُجعل جديراً بأن يكون محبوبا.
(3) تأسيس إثارة الاهتمام: وذلك بجعله يفعل شيئاً يثير الاهتمام، أو يتم وضعه في مكان مثير للاهتمام، أو في مكان متغير، بما يؤدى إلى إثارة الاهتمام.
(4) تأسس الإمكانات: التي تتضمن إمكانات جسدية، وتعني إعطاء الشخصية الدور الذي يتناسب مع إمكانياتها الجسدية، أو إمكانات الذروة، وهي قدرة الشخصية على الإحساس بعاطفتين قويتين في وقت واحد. ويتطلب هذا من الناحية العملية أن تُعرض هاتين العاطفتين عند الذروة، وبصورة حقيقية خلال الأحداث في مراحل مبكرة، ولا يمكن في الواقع أن يُصنع ما هو أسوء من أن يبني مشهد الذروة قبل أن يبدأ، لكي يكون لدينا صورة واضحة من العواطف، التي تتسارع داخل ذهن البطل في ذلك الوقت، وبهذه الطريقة وحدها يمكن اعتراض طريق الأحداث، التي تسبق الذروة وتبطل مفعولها.
2. ضرورة المحافظة على سمات هذه الشخصية، طوال الوقت:
الواقع أن الشخصية لا تؤسس مرة واحدة، بل يجب أن يُراعي من آن لآخر كلاً من الانطباع السائد، والمواقف السائدة والهدف السائد، وما إلى ذلك، وأن يبرز في المشهد تلو الآخر، بحيث لا تترك فرصة للمشاهدين كي ينسوها.
والأمر الذي يجب مراعاته هو التماسك، بمعنى أن تحافظ الشخصية على سماتها متماسكة من أول صورة في أول لقطة، إلى آخر صورة في آخر لقطة. وحتى إن كان سلوك الشخصية قد يخرج عن المألوف، أو يكون متعارضاً، فيجب أن يتم هذا داخل إطار السمات التي يجري ابتكارها، ولا يعني هذا على الإطلاق أن يكون الكاتب قاطعاً في كل شئ، بل على العكس، يمكن للأشياء الصغيرة واللمحات واللمسات، أن تحافظ على الشكل الدرامي.
3. ضرورة التمسك بمبادئ نمو الشخصية وتطويرها:
نمو الشخصية هو أحد العناصر، التي يسخر منها النقاد، فهو يعنى أن تبدأ الشخصية في طريق، ثم تنتهي في طريق آخر. ويذكر هذا الأمر بحقيقة بسيطة هي: أن نمو الشخصية خلال مسار الفيلم، يعني أنها تعلمت من التّجربة.
وهناك أمران ـ لكتابة مادة الشخصية:
أ. الأول: أن التفكير المتصل في الشخصية، يُعد أمراً حيوياً وذا أهمية.
ب. الثاني: البراعة تكمن في، ألا ندع المواقف تحكم على العمل بالجمود، فمن الأفضل أن ندون الأفكار الأولى ثم نعود إليها بعد ذلك للمراجعة والتعديل، باعتبار أن الشخصية تتغير أثناء تقدم العمل، وأن مشاكل بناء السيناريو سوف تُجبر، غالبا، على ضرورة إعادة صياغة الأفكار. بل حتى عند كتابة معالجة القصة سنجد أن المفاهيم تتطور وتتعدل.
[1] المصطلح المستخدم في الأدبيات الفنية هو "الشكل والمضمون".
المبحث السادس عشر
الحوار والتشويق
أولاً: الحوار:
يُعد الحوار في المسرح، أداة تعبير أساسية، لأن الممثل لا يستطيع أن يعبر عن الموقف إلاّ بالحوار. أما في السينما فالحوار أداة تعبير فقط، وليست أساسية، لأن السينما تعتمد، أكثر ما تعتمد، على التعبير بالصورة أولاً، ثم الصوت ثانياً. وقد نشأت السينما في عهدها الأول صامته، ثم سرعان ما زادت نسبة التعبير بخروج الفيلم من عالم الصمت إلى عالم الكلام. وعلى الرغم من أن إدخال الصوت على الفيلم، أحدث ثورة في صناعة السينما تفوق في عظمتها إدخال كل من اللون والبعد الثالث، وما إلى ذلك، على الفيلم، إلا أن الصوت أو الحوار يُعد أداة تعبير ليست أساسية، لأنه توجد حتى الآن مشاهد كثيرة من الأفلام صامته، لا تتضمن حواراً، ومع ذلك يكون تأثيرها في نفس المتلقي أشد، مما لو كانت تتضمن حواراً.
فالحوار في الفيلم مختلف عن أنواع الحوار الأخرى، في الرواية الطويلة، والقصة القصيرة والمسرحية والتمثيلية الإذاعية. فهو في الفيلم عامل مساعد أو مكمل، لتوضيح اللقطة أو المشهد، ذلك أن الفيلم عبارة عن مجموعة من اللقطات والصور والمشاهد. ولأن الصورة هي وسيلة كاتب السيناريو والمخرج للتعبير عن أفكارهما، ووجهتي نظرهما أو رؤيتيهما، وكان لا بد أن تحمل ـ الصورة ـ أكبر قدر ممكن من أدوات التعبير. والحوار هنا أداة من هذه الأدوات، وعامل مساعد لتوضيح أو تفسير ما صعب إيضاحه، لأن الحوار في الفيلم يتعاون مع باقي الوسائل الأخرى لإيضاح المعنى المطلوب، ولتعميق الأثر الذي ينشده كاتب السيناريو. ففي الفيلم يجد المؤلف نفسه في عالم يختلف تماماً عن عالم المسرح، لأن الفنيين في عالم الفيلم أهم من الفنانين، أو يتساويان معاً.
والمؤلف في الفيلم لا يفكر في بناء الحوار فحسب، بل يفكر في ملاءَمة هذا الحوار للحركة في الفيلم، ومسايرة ما يتطلبه الفيلم بالنسبة لعملية البناء الفني من توازن في شكل القصة ككل، والتوقيت في إدخال العناصر المختلفة في اللحظات المناسبة، والاقتصاد في تجميع خيوط الأحداث المصورة، حتى لا يشرد انتباه المتفرج لحظة واحدة.
ولا يعني ذلك أن الحوار في الفيلم ليست له أهمية، ولكن تأتي أهميته في المرتبة الثانية بعد الصورة. فالمؤلف المسرحي يستخدم الحوار، والمؤثرات الصوتية والحركات والموسيقى والمناظر والإضاءة، من أجل تأكيد المشهد وإبرازه. ولكن الحوار يبدو سائداً على كل هذه العناصر، أما في السينما، فالمؤلف يستخدم مع الحوار وسائل أخرى عديدة من وسائل التعبير السينمائي، مثل "المؤثرات الصوتية، والموسيقى، والحركة، والتعبير بالوجه، والملابس، والمناظر المتعددة، والإضاءة، والأعداد الهائلة من الممثلين، والمناظر الطبيعية، والحيل السينمائية العديدة التي تمس أفئدة المتفرجين، والألوان الباهرة، التي تسرق عين المتفرج، وتجسيم الشخصيات".
فالحوار في الفيلم مرتبط بهذه الوسائل جميعاً، ولأن معنى هذه الوسائل ومغزاها يبرز في الفيلم، مثل الحوار تماماً؛ أي أن كل وسيلة منها تُعد وسيلة تعبيرية كالحوار تماماً، ولذلك يجب أن يكون الحوار قادراً على التعبير المطلوب إبرازه، بجانب هذه الوسائل جميعاً.
ولا بد للحوار في الفيلم من أن ينبع من طبيعة الأحداث، معبراً عن الغرض المطلوب إيضاحه، موضحاً الشخصيات، مؤكداً موقف الشخصيات من بعضها بعضاً، مساعداً على تطور الحدث.
وتتضمن الحوار في الفيلم لحظات صمت، يكون التعبير خلالها بالصورة فقط أعمق وأشد تأثيراً. فالصمت لحظة من لحظات الكلام في الحوار، وعلى المؤلف أن يكون مدركاً للحظات التي يجب ألاّ يكون فيها حوار، ويختارها بدقة، ويدرك لم فُضَّل الصمت هنا على الكلام، أو لمِ فُضَّل الكلام هنا على الصمت، فكل لحظة يجب أن تحمل مغزاها، وأن تعبر تعبيراً واضحاً عن المضمون.
وعلى هذا نجد أن الحوار في الفيلم جزءٍ من الكل، لا معنى له بمفرده. وقد يحدث أن تقرأ الحوار وحده في بعض المشاهد فلا ندرك مغزاه، لأن الصورة تتعاون مع الكلمة تعاوناً وثيقاً لإعطاء الحوار معنى خاصاً للمكان، ووضوح التعبير عن الموقف.
والحوار يعبّر عن شخصية قائلة، ويبلورها، وكما يعبر عن الموقف، ويجب أن يكون بسيطاً وسلساً حتى يفهمه ويتتبعه جميع الناس، فالفيلم يشاهده الرجال والنساء والأطفال، والمثقف والأمي، فلابد لكل من هؤلاء أن يستوعب ما يجرى أمامه من حوار. وليس معنى هذا أن يكون الحوار خالياً من أية قيمة، ولكن المقصود هو أن يكون خالياً من أية تعقيدات، في أسلوب الأداء، أو الصياغة الأدبية.
وتحاول الاتجاهات الحديثة في السينما التخلص من قيود الحوار، والاختصار منه على قدر الإمكان، والاعتماد على الصورة فقط للتعبير عن الأبعاد المختلفة، سواء للأحداث أو الشخصيات، لأن الفيلم صورة قبل أي شئ. وفي بعض الأفلام نجد مشاهد كاملة وكثيرة، لا يتخللها أية جملة حوارية، وهنا يعتمد كاتب السيناريو على الصورة فقط، فيحاول أن يجعلها قادرة على إيصال المفهوم المطلوب إلى المشاهدين.
أما بخصوص لغة الحوار، أو بصورة أكثر دقة، لغة الحوار في السينما بين العامية والفصحى، فإن أفراد الشعب جميعاً، بإستثناء قلة قليلة جداً، يتحدثون العامية، وعرض الافلام بالفصحى يقطع عملية التوصيل المطلوبة، لأنهم سريعاً ما يملون من الكلمات التي لم يتعودوا عليها.
ولذلك من الأفضل أن تكون اللغة، هي العربية الشبيهة بلغة التعامل اليومي، أي اللغة البسيطة، ولكن دون ابتذال. ولا يعني ذلك أن تكون هي اللغة الوحيدة في كل الأفلام، أو مع كل الشخصيات، فالأفلام التاريخية ـ مثلاً ـ لابد أن تكون لغة الحوار فيها العربية الفصحى، نسبة إلى أهمية التاريخ وعمقه في وجدان الأمة، أما باقي النوعيات من الأفلام فيناسبها اللغة البسيطة، دون ابتذال في الألفاظ.
1. موقع الحوار في الدراما:
أ. أهمية استخدام الصورة والصوت في العمل السينمائي، فالسينما صوت وصورة.
ب. تختص دراما الشاشة، في المقام الأول، بالإنسان؛ تعرض آماله وآلامه ومشاكله وقضاياه، وتغوص في أعماقه، فكيف يتم ذلك دون صوت، ودون كلمات منطوقة، وهي أهم مكونات الصوت؟ وحتى إذا تعرضت الشاشة لظاهرة طبيعية، فهي أيضاً تعرضها من ناحية صلتها بالإنسان وأثرها عليه وأثره عليها، فتُصبح دراما للإنسان وليست للطبيعة.
ج. يقوم الصوت بدور كبير في إكساب الصورة العمق والآنية، وتبرز أهمية الحوار بنوع خاص في التليفزيون، إذ أنه يعوض كثيراً من قصور الشاشة الصغيرة، وكأنه يقرب حجم الأشخاص من حجمهم الطبيعي، كما يحقق الاستمرارية في المتابعة.
2. الفرق بين الحوار الدرامي، والحوار الطبيعي أو الروائي:
للحوار في دراما الشاشة مواصفاته، التي تختلف تماماً عن الحوار الطبيعي، فهو حوار مصنوع. كما أنه يختلف عن الحوار المكتوب في القصص والروايات المخصصة للقراءة، على الرغم من أنه أيضاً حوار مصنوع، إذ هناك فرق بين الحوار المكتوب، الذي يصل من خلال العين، والحوار المنطوق الذي يصل من خلال الأذن.
ففي الحالة الأولى، نجد أن الحوار الطبيعي ينتقل الحديث فيه من موضوع إلى موضوع دون رابط معين، وتتكرر كثير من الألفاظ، ويفتقد الإيقاع السليم، أي أن الحديث في مجمله يتسم بالفوضى والتشويش، ويؤدى إلى ملل المستمع في معظم الأحوال، خلافاً للحوار الدرامي الذي يحقق وظيفة معينة في النص، في تدفق وإيقاع سليمين، دون تشويش أو فوضى. ويبدو للمستمع أنه يشابه الواقع تماماً، مع أنه تعرض للاختيار والتنظيم.
أما في الحالة الثانية: في حوار الرواية، فإذا قُرأ بصوت مرتفع وطريقة تمثيلية، فإن كثيراً من الألفاظ تبدو ثقيلة على السمع، أو يصعب أدائها، كما أنّ ألفاظاً كثيرة يمكن الاستعاضة عنها، بإشارة أو إيماءة.
3. لغة الحوار:
وهي إما أن تكون لغة رمزية، أو انفعالية. فاللغة الرمزية ـ أو الاستخدام العلمي للكلام ـ يكون الاعتبار الجوهري فيها هو صحة الرمز، وصدق الإشارة، حيث لا يُهتم في الاستخدام العلمي بالآثار الانفعالية للكلام. أما اللغة الانفعالية فهي تهتم بالإيحاء، وإثارة المواقف، والحالات السيكولوجية، والرغبات والمشاعر في نفوس المستمعين، سواء عن طريق مباشر، أي بأصوات الكلمات أو غير مباشر، أي بارتباطات الكلمات، وبما تثيره من تداعيات في النفوس.
وواضح أن اللغة الانفعالية هي المقصودة في الاستخدام الدرامي، وقد يحدث في بعض الأحوال أن تُستخدم اللغة الرمزية، ولكن يجب الحذر من كثرة استخدامها، لأن ذلك يعنى أن يتحول العمل إلى تقرير أو مقال.
ولمّا كان العمل يتدفق على الشاشة دون توقف، كما أنه لا يمكن إعادته للرجوع إليه، فإنه يتعين أن تصل معاني الحوار فوراً وبيسر، إلى المشاهد. وهناك عوامل كثيرة تساعد على ذلك، مثل ما يثيره السّياق من توقعات، إضافة إلى تعبيرات الوجه والأداء الصوتي والإشارات المؤكدة للحوار، ومعطيات الصورة. ولكن التركيز يكون على العامل الأول، وهو ألفاظ الحوار وأسلوب تركيب الجمل، التي يُراعى اختيار المألوف منها والابتعاد عن الغريب. والمألوف ليس معناه المبتذل، فالكلمة المبتذلة الواسعة الانتشار، تفقد كثيراً من تأثيرها بكثرة ترديدها.
كما يجب التأكيد على أنه بجوار ما يقدم إلى المشاهد من فكر ومتعة قصصية، وما يُراد تحقيقه من متعة العين، فيجب أيضاً أن تحقق له متعة الآذن، بما يصل إليها عبر العمل الفني من أصوات، يأتي الحوار في مقدمتها.
4. وظائف الحوار:
أ. تأكيد وتقديم سمات شخصية المتكلم أو المخاطب أو المتحدث عنه، بما في ذلك من إظهار للفكر والانفعالات والرغبات والدوافع والقرارات.
ب. المعاونة على تقدم الحدث، وتوضيح الحالة النفسية للشخصية، وإضفاء المزاج النفسي على الحدث.
ج. نقل المعلومات، لما قبل النص أو أثناءه، مع الإرهاص بالأحداث القادمة.
5. كتابة الحوار:
أ. الارتباط العضوي بين الحوار والعناصر الأخرى:
ينبغي ألا يُكتب الحوار وكأنه معزول عن وسائل التعبير الأخرى، بل يؤخذ في الاعتبار أن كل ما نراه أو نسمعه يؤدى وظيفة تضاف إلى معطيات السياق، ومن هنا فقد يُستغني عن بعض الكلمات، أو يُغير من ترتيبها، لأن هناك من وسائل التعبير الأخرى ما يكمل النقص أو يؤكد المعنى، أو يعطى المزاج النفسي. ويجب في كل ذلك أن يُحدد العنصر السائد، أو الذي يتحمل العبء الأكبر في توصيل المعنى أو الإحساس أو المعلومة. فقد يكون هو الحوار، وتصبح العناصر الأخرى كأنها معاونة أو مكملة له، أو يتطلب الأمر تحييدها حتى يُركّز على الحوار. وقد يكون هو الفعل الحركي أو تأثير المكان، ويصبح الحوار زائداً أو معاون، أو مكملاً، أو عاملاً مساعداً، لإعطاء اللمسة الواقعية.
ب. أسلوب أداء الحوار:
يُتعامل معه بطريقين: فيؤخذ في الاعتبار قبل كتابة الحوار وبعده، فيكون عاملاً موجه قبل الكتابة، وعاملاً معدلاً بعد الكتابة.
ولا يقتصر الأمر على التلوين الصوتي عند الأداء، ولكن هناك عوامل أخرى أهمها تعبير الوجه، أي إن أداء الشخصية هو محصلة كل العناصر السابقة مع غيرها. لذلك فإن كتابة الحوار دون اعتبار للعوامل الأخرى، لن يضعه على الطريق السليم، وسيؤدى أن يكون الحوار مكتفياً بنفسه، مما يجعله صالحاً للقراءة، وغير صالح لدراما الشاشة.
6. الحوار والشخصية:
يُعد الحوار وأسلوب أدائه من أهم العوامل للتعبير عن الشخصية، ومن ثم يجب أن تكون ألفاظ الحوار وصياغته متناسقتين مع سمات الشخصية وبيئتها. كما يُفّضل دائماً أن تُستخدم بعض الألفاظ والتعابير السائدة في المهنة، التي يُعمل بها، خاصة حينما نتحدث إلى شخصية أخرى من المهنة نفسها.
ولاستخدام اللهجات أهمية خاصة في تحقيق المصداقية، في إطار الشخصية أو البيئة، خاصة اللهجات المألوفة لدى المشاهد. ولكن ينبغي الحذر من المبالغة في هذا الأمر، تحت دعاوى تأكيد الواقعية.
وعلى الكاتب أن يستخدم الألفاظ والتراكيب المفهومة، التي توحي بصدق البيئة. واللهجة ليست غاية ولكنها وسيلة إلى غاية، ولا خير في لهجة صادقة تعجز عن توصيل المعنى، أو المعلومة، أو الإحساس، إلى المشاهد.
وهناك أيضاً مشكلة الحوار باللغة العربية الفصحى، التي أكثر ما تستخدم في الأعمال التاريخية، بصفة خاصة. كما يوجد ما يُسمى "لغة الجرائد"، التي قد تلجأ إليها في بعض المواقف؛ كما أن الشخصية قد تنطق ببعض الكلمات الأجنبية، ثم تعود وتتحدث بلغتها مترجمة لمِا قالت، وهذه إضافة أيضاً لا مبرر لها، طالما أن المشاهد يستطيع استخلاص المعنى التقريبي للكلمات الأجنبية، من كل معطيات الصورة والصوت والأداء والسياق. كما يجب الارتفاع بمستوى الحوار عند المناقشات العقلانية، أو مخاطبة الجماهير، وهو ارتفاع نسبى - بطبيعة الحال - يتوقف على سمات الشخصية وبيئتها، ومستواها الاجتماعي.
7. الحوار والممثل:
إن جودة الأداء التمثيلي تشكل متعة عظيمة للمشاهد، وتساعد على تأكيد الشخصية وبقائها في ذاكرته، كما أنها تشكل متعة كبيرة للممثل.
ومن الملاحظ أن الجملة المكتملة، التي توضح نفسها بنفسها، لا تحتاج إلى إضافة من الممثل، أو قد تحتاج إلى إضافة قليلة لا تبرز قدراته، وكأنه عندئذ مشارك سلبي، مهما كانت حلاوة الكلمات وجمال المعنى، وذلك خلافاً للجملة التي ينقصها شئ حتى يصل المعنى المراد إلى المشاهد. فهي عندئذ تحتاج إلى المساهمة الإيجابية من الممثل، سواء بالنغمة الصوتية أو ملامح الوجه أو الإشارة. وتوجد خمسة عوامل أساسية لأداء الجملة هي:
أ. القوة: أي مدى قوة أو ضعف أداء الكلمات عموماً.
ب. السرعة: أي مدى السرعة أو البطيء في الأداء، حسب الحدث، أو حسب طبيعة الشخصية.
ج. الضغط أو التركيز: أي إعطاء نوع من الضغط أو التركيز أو التأكيد، على كلمة معينة للفت النظر إليها.
د. درجة الصوت: أي الخبرة، والأداء من الناحية النغمية.
هـ. النظر إلى ما يتلوها من كلمة أو كلمات، كما قد تستخدم في نهاية الجملة بدلاً من الكلمة الأخيرة للاستثارة، أو يُترك للمشاهدين إكمالها بخيالهم.
وقد تُلغى الجملة على صورة استفهام، أو استفهام تقريري، أو استفهام استنكاري، أو تقرير، وبتدرج صاعد، أو تدرج هابط من ناحية درجة الصوت، أو دون تدرج. كما يجب إعطاء الممثل جملاً مستقيمة لا التواء فيها، تسّهل عليه مهمة الحفظ والأداء، وإلا تتوالى الوقفات الاستفهامية قبل التقرير النهائي. كما يجب مراعاة مخارج الألفاظ، والابتعاد، ما أمكن، عن حروف الصفير (السين والصاد والذال) وعدم تواجد حرفين متتالين متقاربين في مخارج الألفاظ، مثل الحاء والهاء، كما يجب عدم استعمال حرفين متماثلين يفصلهما حرف واحد.
ومن أهم ما يجب مراعاته في تركيب الجملة إلا تأتي الكلمة المهمة أو الخبر المهم في أولها، حينما يحتاج الأمر إلى رد فعل سريع من المشاهد، بل يجب أن تأتي قبل نهايتها بكلمة أو كلمتين، أو في نهايتها على أسوأ الأمور.
8. ترابط الحوار:
يعني الانتقال السلس في الحوار، بين الشخصيتين المتحاورتين. وهناك من يحبذ تكرار كلمة أو فقرة معينة، ولكن باستخدام آخر، كأن تتكرر للاستيعاب أو السخرية وهكذا، ولا بأس من استخدام هذه الطريقة، كليها يُعد استثناء، إذ يقرّب ذلك من الحوار المسرحي، أو أنه يتناسى ثراء اللغة السينمائية.
كما لابد من الترابط في الحوار إذا كان هو وسيلة التعبير التي يُركّز عليها، ولكن يمكن حدوث عدم ترابط ظاهري، إذا كانت معطيات الصورة تكمّل الترابط المنشود.
9. البلاغة في الحوار:
أ. المساواة:
بمعنى أن تكون المعاني بقدر الألفاظ، والألفاظ بقدر المعاني، لا يزيد بعضها عن بعض، مثلما نقول: "أنا رايح أقابل عبد الله" وتبدو المساواة للوهلة الأولى وكأنها المبدأ المفضّل في كتابة الحوار، حيث تتسم بالوضوح والكفاية، ولكنها غالباً ما تؤدى إلى تحييد المشاهد وتحرمه من المشاركة، ومن ثم يجب إلا ننسى العوامل الأخرى وتكاملها في توصيل المعنى.
ب. الإيجاز:
هو جمع المعاني الكثيرة تحت اللفظ القليل، مع الإفصاح. وبمعنى آخر هو أداء المقصود منه، الكلام بأقل حجم من العبارات المتعارف عليها. والإيجاز نوعان: إيجاز قصر، ويحدث يتضمن العبارات القصيرة، معانٍ كثيرة من غير حذف؛ أو إيجاز حذف، ويكون بحذف كلمة أو جملة.
ج. الإطناب:
وهو زيادة اللفظ على المعنى لتحقيق الفائدة، وهو يُعني بأمور عدة، مثل: ذكر الخاص بعد العام للتنبيه على فضل الخاص، وذكر العام بعد الخاص لإفادة العموم من العناية بشأن الخاص، أو الإيضاح بعد الإبهام لتقرير المعنى في ذهن السامع، أو التكرار من أجل تمكين المعنى من النفس. وعموما يجب في الإطناب أن تشكّل الألفاظ الزائدة إضافة إلى المعنى، وإِلاّ أصبحت تطويلاً لا مبرر له، يفقدها زمناً ثميناً من زمن الشاشة، إضافة إلى ما تؤدي إليه من إصابة المشاهد بالملل.
10. محاذير واتجاهات مستحبة في الحوار:
أ. الإقلال ما أمكن من تكرار الكلمات، التي ترد كثيراً في أحاديث العامة مثل "علشان - كده - ده - أنا - أنت"، كذلك عدم الإكثار من ذكر اسم المخاطب.
ب. يُفضّل عدم ذكر الأرقام في الحوار إلاّ عند الضرورة، ويكفي إعطاء صورة تقريبية، فهي تثبت في ذاكرة المشاهد أكثر من الأرقام.
ج. يفضل التخصيص عن التعميم، واستخدام الأفعال عن استخدام الأسماء، خاصة في المواقف المهمة، وكقاعدة عامة، فإن استخدام الأسماء، والحديث بصيغة الغائب، أو المبنى للمجهول، يقرّب إلى التعميم وأسلوب المواعظ والحكم والتعليم المباشر، وهو أمر غير مستحب غالباً، في حين أن استخدام الأفعال، وصيغة المتكلم أو المخاطب، تقرب من التخصيص والمواجهة، وما يتبع ذلك من رفع الإيقاع، وارتفاع انتباه المشاهد، واشتراكه إيجابياً في استخلاص المعنى المطلوب. ولكل قاعدة استثناءاتها، بطبيعة الحال.
د. يُراعى أن تتبع الألفاظ ترتيب المعاني، وأن تتبع المعاني، في ترتيبها، منطق العقل، كما يُراعى أن تتناسب الألفاظ مع الموقف، في قوتها أولينها.
هـ. يراعي صياغة الحوار بما لا يسئ إلى ذوى العاهات، أو السخرية منهم، أو أن يسئ إلى فئة من الفئات، أو مهنة من المهن، ولكن هذا لا يمنع من تجريح فرد منها، بحيث يكون الأمر على التخصيص، وليس على التعميم.
و. ومن طرائف الحوار أن تستخدم الكلمات التي يوحي لفظها بمعناها، وهو ما يسمى بالكلمات أو الأصوات المحاكية.
ز. ضرورة أن يتصاعد إيقاع الحوار في المشهد الواحد، حتى يصل إلى الذروة، ثم يُنتقل إلى المشهد التالي وهكذا.
ح. يجب ألا يتعدى الحوار حجمه ووظيفته في العمل ككل، مهما كانت جاذبيته وإغراؤه وعطاؤه.
ثانياً: بناء التشويق
عندما يُذكر بناء التشويق، فلابد أن يُذكر "الفريد هتشكوك" 1899 - 1980 حيث كان السينمائيون المحترفون والمتفرجون، على حد سواء، يرحبون دائماً بأفلامه. وبينما كان بعض النقاد يمتدحونه، بوصفه مؤلف ومكتشف القلق الإنساني فيما وراء الطبيعة (الميتا فيزيقا)، كان آخرون يلومونه لعدم اهتمامه بالمشكلات الاجتماعية. إلا أنه لا يوجد من ينكر إنجازات هتشكوك التقنية، وبلاغته المرئية، وقدرته على التشويق، حيث قدم العديد من الأفلام العظيمة مثل (غريبان في قطار عام 1951)، و (النافذة الخلفية عام 1954)، و (الشمال عن طريق شمال الغرب عام 1959)، و (نفوس معقدة عام 1960).
أما عن التشويق، فمن السّهل على المشاهدين أن يرتبطوا بالتشويق الدرامي في أي فيلم، لأنهم يعرفون من تجاربهم الأحاسيس وردود الأفعال العاطفية، التي تنشأ خلال المواقف الغامضة، التي تتخللها بعض المخاطر، والرغبة في أن يتطلعوا مقدماً ليروا ما سوف يحدث، مع توقع أسوأ الاحتمالات، والرغبة المحمومة في حدوث أحسنها.
وكانت السينما دائماً ـ بما فيها من قدرة هائلة على إيجاد الإيحاء بالواقع ـ قادرة على التلاعب بحب الاستطلاع لدى الجماهير، وعلى جعلهم يندمجون تماماً في المواقف الغامضة، أو الخطرة، أو المرعبة. ولأن الزمان السينمائي مرن إلى حد بعيد، فيمكن للفيلم أن يكثف أياً من هذه المواقف، أو يطيل مدتها، حتى يتمكن بهذا التصرف من تعميق التشويق.
وفي الواقع أن مصطلح "التشويق" قد يستخدم بشكل غير دقيق، فقد تعنى أحياناً مجرد إثارة الفتنة، كما يطلق ـ عادة ـ على القصص البوليسية ومغامرات الجاسوسية، بما تتضمنه من مواقف إطلاق النيران والسرقات والمطاردة بالسيارات. وهناك درجات وأشكال مختلفة من التشويقْ تُبنى في أغلب الأفلام، بصرف النظر عن نوعها.
وقد أسهم الفريد هتشكوك في فهم التشويق السينمائي، وكيف يؤدى مهمته، أكثر من أي سينمائي آخر. فلديه المعرفة المصقولة والحنكة، عن كيف يجعل متفرجيه يقلقون، وكيف يحير جمهوره، ويجعلهم ينغمسون تماماً في كل منحنى، من منحنيات التشويق.
ويستطيع التشويق، هذا المؤثر الدرامي، أن يجعل السيناريو، في حالة توظيفه بشكل جيد، في أفضل صوره، حيث يتدخل بشدة في أسلوب السرد، وفي إيقاع السيناريو، بل وفي إيقاع المشهد نفسه، وفي انتقال الجملة الحوارية إلى جملة أخرى. كما نجد أن أعمالا كاملة بنيت على عنصر التشويق من خلال السرد، بل وتبرز منذ بداية هذا العمل الدرامي. فنجد أفلاماً تبدأ ـ مثلاً ـ بجريمة قتل لا يظهر فيها وجه القاتل، ونظل طوال هذا العمل نتابع عملية التعرف على القاتل المجهول، الذي ربما يرتكب جرائم أخرى لحماية نفسه.
وقد توسّعت بعض شركات الإنتاج السينمائية العملاقة، في استخدام هذا المؤثر الدرامي، حتى أنها بنيت عليه أفلاماً عديدة، وهي تلك التي عرفت بأفلام الحركة Action. وقد حققت هذه الأفلام إيرادات ضخمة، نتيجة للأثر السّحري الذي يتركه هذا النوع من الأفلام على المتلقي، بحيث يجعله يلهث وراء الحدث.
والواقع أن مؤثر التشويق، هو فعلاً فن إثارة القلق، وتحريك المتلقي بشكل إيجابي. وكلما حدث ذلك، ونجح الكاتب في تحقيق التشويق Suspince وزاد نجاح الفيلم. لذلك يُعد التشويق من أبرز المؤثرات الدرامية على الإطلاق، من حيث الأثر الذي يتركه على المتلقي.
المبحث السابع عشر
الشكل النهائي للسيناريو
ليست الكتابة السّينمائية فناً إبداعياً، فقط ولكنها أيضاً حرفة، فهي تعني أن لا أحد ـ بصرف النظر عن عظمة موهبته أو حتى عبقريته ـ قادر على المواصلة دون أن تكون لديه معرفة حدسية، أو واعية بالعناصر البنائية. كما تعني أيضاً أن قليل الموهبة، وصاحب المعلومات الكافية، قد ينجز سيناريوهات مقبولة، وبوجه خاص إذا كانت معدة عن روايات أو مسرحيات.
ولا يستطيع أحد التفكير في السيناريو بشكله النهائي، فيجب أن يتطور تدريجياً، لأن المرء لا يستطيع أن يتعرف على الجسم كله في البداية. وبدلاً من الكتابة عشوائياً، فينبغي التمسك بالمنهج الذي تُطور به القصة، وبدلا من البدء بالسيناريو النهائي، فيجب التقدم من بناء أولي خلال مراحل مختلفة، حتى الشكل النهائي. وهناك أربعة مراحل أساسية للوصول إلى الشكل النهائي، هي "التخطيط، والإعداد، والمعالجة، والسيناريو، أو سيناريو التصوير".
أولاً: التخطيط:
على الكاتب قبل البدء في تطوير إحدى القصص، أن يعرف عمّا تدور. ويحدد التخطيط الحقائق البارزة للسيناريو الوشيك. ولا يحتاج أن يحتوى على كل الحقائق، وبل المتاح منها، والكافي لوصف القصة كاملة دون ثغرات. وهذه المرحلة تماثل البّناء، الذي يختار قطعة أرض ويحدد حجمها وشكلها، ثم تُحدد الأرض بعد ذلك بشكل حاسم، من خلال البناء الذي نتصوره.
ثانياً: الإعداد:
قد تكون المادة، التي نشرع في إعدادها ممثلة في أشكال مختلفة. فهي إما مزيج من أفكار خاصة، أو ذكريات، أو ابتكارات، أو أنها رواية، أو مسرحية، نريد أن ننقلها. وينبغي أولاً تقليل المادة الموجودة إلى خط بسيط وواضح، ومن هذه المادة الثرية يُختار الخط الأساسي، ليبدو الهيكل للعيان قبل أن يُكسى السيناريو باللحم. وليس أسهل من إعداد رواية أو مسرحية، لتكون فيلماً سينمائياً، من اختصارها إلى تلك العناصر، التي بدأ منها الروائي أو الكاتب المسرحي في تطوير القصة إلى رواية أو مسرحية. ويفضِّل كتاب القصة ألا يصيب عملهم تغيرات كبيرة، وأن تحتفظ قصته بمعناها وجوهرها، وأن يُنتج عنها أفضل ترجمة على الشاشة.
أنواع الإعداد السينمائي:
ثار الجدل حول الإعداد للسينما، واختلفت المسميات لها ما بين مُعَّد " Adapted" أو "مبنى على" أو "مأخوذ عن Based on"، وفي أحيان قليلة "مستوحى من Inspired From" وكل تلك المسميات صحيحة، طبقاً لطريقة الإعداد. وقد صنّف العديد من النقاد مختلفة عمليات الإعداد، وحدد الناقدان "مايكل كلاين Micheal Klein" و"جيليان باركر Gilian parker" ثلاثة أنواع من الإعداد السينمائي، هي:
1. ما يُشاهد في أغلب الأفلام المأخوذة عن روايات كلاسيكية، ودائماً يميل إلى إعطاء انطباع بالأمانة في النقل.
2. استخلاص جوهر البناء السردي، ثم إعادة تفسير النص الأصلي على أساس وحدات سردية جديدة، خاصة بالوسيط السينمائي.
3. أما النوع الأخير فيُعد المصدر للمادة الخام فقط، ويُعطى الفرصة لإعداد عمل فني جديد، له أصالته وتفرده المختلف عن العمل الروائي.
وفي المقابل، نجد الكاتب "موريس بيجا Morris Beja"، في كتابه "الفيلم والأدب Film and literature" يضع بتصنييفين أساسيين لعمليات الأعداد السينمائي، هما:
1. الاحتفاظ بتكامل العمل الأصلي، وعدم المساس به والمحافظة عليه، وأن يكون له المقام الأول في فكر الكاتب السينمائي، القائم بالأعداد.
2. إعطاءه القدر الأكبر من الحرية الإبداعية في عملية النقل، إلى وسيط مختلف، حيث يصبح عملاً فنياً جديداً ذا تكامل خاص به.
أما "جيفرى واجنر Geoffrey wagner" فيقسم أساليب المعالجة، أو الإعداد السينمائي، إلى ثلاثة أنواع:
1. النقل Transposition: حيث تُعرض الرواية على الشاشة بأقل تدخل ممكن. وقد كان هذا الشكل الأكثر شيوعاً، والأقل قبولاً، حين تحول الفيلم إلى رسم توضيحي للرواية. ويتضح ذلك في أسلوب من الأفلام، التي تبدأ بتقليم صفحات الرواية (مثل: فيلم Jane Eyre جين آير للمخرج Robat Shevenson عن رواية بالاسم نفسه للكاتبة الإنجليزية Charlotte Bronte).
2. التعليق Commentary: حيث يحدث ـ نوعاً ما ـ تغيير في النص، ويسمى هذا الأسلوب أيضاً بإعادة البناء. وقد يبدو، أحياناً، كأنه تعدى على النص الأصلي، أكثر من كونه نظيراً له، إلا أن الفيلم هنا يمكنه القيام بعملية إعادة بناء، من خلال الإيضاحات السينمائية المضافة للنص الأصلي.
3. التماثل (إيجاد النظير) Analogy: يُستخدم للحكم على مدى نجاح الفيلم المُعد من رواية أدبية، حيث يجب تقييم براعة صانع الفيلم في الوصول إلى مواقف مشابهة بتقنيات وبلاغة مختلفة، خاصة بالوسيط الجديد (الفيلم)، ويجب من خلال أسلوب التماثل، تقديم منطلق قوى لعمل فني جديد مختلف، ولا يمكن اعتبار أسلوب التماثل عُدواناً على الأصل الأدبي، حيث لم يكن في نية صانع الفيلم إعادة إنتاج النص الأدبي بالحرف (مثال على ذلك: فيلم Death in venice الموت في البندقية، للمخرج Luchino visconti).
كما يقسّم الناقد "دادلى أندرو Dudley Andrew" عملية الإعداد لثلاثة أنواع رئيسية:
1. الاستعارة Borrowing[1]: وهي لا تحوي أي تقليد للنص الأصلي، ولكنها استعارة الجوانب المؤثرة فقط في العمل الأصلي، ومحاولة تحليلها عند عرضها في الفيلم السينمائي (أي استعارة موقف واحد، أو شخصية تضم عملاً أدبياً وتحليله، وبناء مواقف مترتبة على ذلك).
2. التقاطع Intersection: وهو رفض قاطع لعملية الإعداد التقليدية، ولكنه ميل إلى تميز النص وإضفاء الحياة عليه، من خلال الفن السينمائي، وذلك عن طريق الدمج بين الجماليات، والتقنيات الجمالية المستحدثة، وجماليات الفنون الأخرى، كالرسم والنحت والرقص والمسرح .. الخ (المثال على أسلوب التقاطع، العديد من أفلام المخرج الإيطالي بازولين).
3. التحويل Transforming: ويطلق عليه أيضاً "الأمانة" أو "الصدق". وفيه يحاول الفيلم تقديم جوهر النص الأصلي، مع الارتفاع بمستوى الفيلم إلى مستوى النص المكتوب، حيث تتطابق العناصر الأساسية في العملين، (النص الأدبي والفيلم السينمائي المأخوذ عنه). وهذا الشكل غالباً لا يؤدي إلى ظهور فيلم سينمائي عالي المستوى، بل سيغلب عليه الطابع الروائي الأدبي " Novelistic traits". وكما يعلق الكاتب "دوايت سوين" على ذلك، في كتابه (كتابة السيناريو للسينما): "إذا حاولت أن تلتصق بالعمل الأصلي، فصلاً وراء فصل، وسطراً وراء سطر، فسوف تنتهي إلى سيناريو لا يتبلور، ومن دون نسق، ومكتظ وغير محكم، به مشاهد مجهضة، وتطوره مضطرب، وشخصياته لا تدب فيها الحياة".
أما تصنيف الكاتب "كيث كوهن Keith Cohen" فهو يختلف عن بقية التصنيفات، لأنه ينظر لعملية الإعداد السينمائي من منظور سينمائي. فهو ينادي بعملية الأعداد المهمة أو المفككة Subversiue، أي أن يكون صانع الفيلم متطرفاً في استجابته تجاه المادة الأدبية، ويفسّر ذلك بقوله: "يُعد الإعداد السينمائي عملية فنية فذة فقط، حينما تحوى النسخة السينمائية من العمل الادبى نقداً مستتراً للنموذج المأخوذ عنه، أو احتوائها على متناقضات معينة، لها جذور من الأصل الأدبي".
كما يجب على المُعد أن يُفكك الأصل المأخوذ عنه، وأن يكون له وظيفة مزدوجة، هي: إخفاء وكشف، في الوقت نفسه، للنص الأدبي، وإلاّ أصبحت الإضافة الوحيدة ليست أكثر من رؤية الكلمات تتحول إلى صور. فالمواصفات الخاصة بنسج علامات جديدة، تتطلب، عند إعادة تقديم عمل فني، الإلمام بالاختلاف في العلامات. فتلك المواصفات هي التي تتيح إعادة تقديم العمل الفني، على نحو يُستغل فيه التحويل من نسق إشاري، إلى نسق إشاري آخر، وإعادة تنظيم مادة الأصل ووضعها في إطار جديد. ونجد في النهاية أن وجهة نظر "كيث كوهن" تقترب من أسلوب التماثل Analogy، عند "جيفرى واجنر"، والتقاطع Intersection عند "دادلى اندرو"، ولكن من خلال تفسير سينمائي لعملية الإعداد.
ثالثاً: المعالجة:
تحكي المعالجة القصة كاملة، ولكن في مشاهد ليس متبلورة تماماً. وبما أن الفيلم يحتل مركزاً (مكاناً) وسيطاً بين الرواية والمسرحية، فيمكن أن تُعد المعالجة وصفاً سردياً للسيناريو المقبل، كما لا يوجد طول مفترض للمعالجة، فقد تكون قصيرة، وقد تكون طويلة.
والمعالجة هي تطوير للخط الدرامي، فهي تحتوي على مشاهد أولية، أو حوار كامل. وغالباً ما تصبح الصعوبات، التي لم يتم التنبؤ بها، ظاهرة في هذا التطوير. ويفضّل معظم المنتجين رؤية "معالجة"، بما لا يدعو الكاتب للدخول مباشرة في السيناريو. وحيث لا تزال المادة في حالة مرنة، فهي مناسبة للتصحيح.
وقد يُبدأ من خط لا يحتوى على كل حقائق القصة، ولأن المعالجة تتطلب كل المعلومات فلابد من إضافة حقائق إضافية، لكي تُحكى القصة كلها. فالعملية الإبداعية سلسلة متصلة من الاختيارات، والمنفذ العادي لا يصل إلى قرارات عديدة خلال وقت قصير، ولكن يتم ذلك بشكل تدريجي وتراكمي.
وعلى الكاتب في بداية عمله، أن يمارس شيئاً من التنبؤ بالنسبة لقصته، وأن يكون مدركاً أنه عند نقطة معينة، لن يكون هو الذي يحكى القصة، ولكن القصة هي التي تحكى نفسها. وعليه ترسيخ عدد من الحقائق، لأن هذه الحقائق تبرز قوتها، وكل ما ينبغي للكاتب هو أن ينصت لتلك المتطلبات ويتحسس بحرص الطريق، الذي تتطلبه القصة. وسوف يندهش عندما يصل إلى نتائج ومواقف لم يخططها أو يرغب فيها. وهذا ما يحدث باستمرار، فقد يحكي الخط ـ بسبب غموضه ـ قصة تبدو مقبولة، ولكن حين يطور الكاتب القصة بتفاصيل أكبر، فإنه يجد تطورات أخرى عليها أن تأخذ مكانها في القصة، ومن ثم يصل إلى ما تريد القصة أن تقوله، وليس ما يريده هو أن يقوله.
والرواية في جوهرها سرد، يستطيع المؤلف تكثيفها في مشاهد حسب رغبته. ويبدأ كاتب السيناريو بالخط الوصفي، وبالتدريج يبلور المادة إلى المشاهد التي تتطلبها اللغة السينمائية. وإذا ما نظرنا إلى القصة كخط، فإن المشاهد تبدو مثل مجموعات تفصلها فترات صامته، ويجب أن يكون ما تتضمنه هذه المشاهد مُعبراً بدرجة تكفي، لتوصيل ما يحدث من خلال الفترات الصامتة. ويستطيع الروائي أن يملأ الفجوات بين المشاهد، بواسطة جمل وصفية تفسيرية. وكلما برع الكاتب في وضع تطورات متدرجة، أصبح تتابع مشاهده مؤثراً و سريعاً. ولهذا السبب فنادراً ما يبدأ الفيلم ببداية القصة، وبدلاً من ذلك يبدأ بنقطة تأزم، على أن يُخبر المتفرج بما سبقها.
رابعاً: السيناريو:
يتولى السيناريو إتمام مهمة التعبير بلغة المشاهد، وهو بلورة نهائية للمادة، ولمِا تم من خطوات سابقة. ويجب التأكد من أن كل المعلومات اللازمة لفهم القصة، تتضمنها المشاهد. لذلك يجب أن تستخدم وسائل التعبير التي في متناول الفيلم، كي توصل كل حقائق القصة للمتفرج، وحتى تحقق هذا الغرض، يجب أن نستفيد من الحوار والصوت والديكورات والموسيقى.
وعندما ينتهي السيناريو من هذه المرحلة، عليه أن يبدأ في كتابة سيناريو التصوير، الذي يُعد المرحلة الأخيرة للسيناريست، بحيث تكون المرحلة التالية هي تنفيذ هذا السيناريو.
سيناريو التصوير
يحتوى سيناريو التصوير على كل الأوصاف التقنية الضرورية للمخرج والمونتير والمصور ومهندس المناظر ومدير الإنتاج ومؤلف الموسيقى، ورغم احتمال اشتراك المخرج في مراحل التطور السابقة، فإن عليه تقع مسؤولية سيناريو التصوير في الغالب.
يشمل سيناريو التصوير، تحركات الكاميرا ووضعها أثناء التصوير والعلامات المميزة في السيناريو، ثم تتابع اللقطات بأرقامها وأحجامها، ومقاس العدسة ونوعها وفي بعض الأحيان يكتب الزمن الذي تستغرقه كل لقطة.
وعندما يستعمل كاتب السيناريو حركة الكاميرا، لابد أن يذكر الأنواع المختلفة منها واستعمالها في هذه اللقطة أو تلك، فمن حركة استعراضية سواء يميناً أو شمالا إلى لقطة ما أو حركة عمودية (بان) أو (تلت) سواء لأعلى أو لأسفل، إلى لقطة أخرى أو حركة أمامية أو خلفية، وهي ما تسمى "بالتتبع للأمام أو الخلف".
وعندما يستعمل كاتب السيناريو هذه الحركات فإنه بالطبع لا بد، أن يكون مدركاً لها، وعلى دراية بماهية كل نوع منها، وكيف تستعمل ولماذا؛ أهميتها للعمل، وتأثيرها الدرامي، واختلاف تأثير كل حركة عن الأخرى.
وبعد تحركات الكاميرا، يذكر كاتب السيناريو الأنواع المختلفة للقطات، وهي ما تنتج عن المسافات المختلفة بين الكاميرا وموضع التصوير، أو اختلاف حجم العدسة أو اختلاف وضع الكاميرا.
وبعد اللقطات تأتي العلامات المميزة في السيناريو، ويطلق عليها "اسم التقطيع"، وتشتمل أساساً على: "الظهور التدريجي، والاختفاء التدريجي، والمزج والمسح". وهي بمنزلة علامات الترقيم في العمل الأدبي، وهناك من يرى أن مهمة التقطيع من عمل المخرج.
يجب أن يكون كاتب السيناريو ملماً بتفاوت تأثير العلامات أو الوسائل في ظروف وإمكانية استخدامها.
وبعد الانتهاء من هذه العناصر التكنيكية الضرورية، يصل كاتب السيناريو إلى مرحلة التتابع، وهي تلك المرحلة التي تجعل الحركة تتدفق بيسر، ويجب أن يعمل على هذا التتابع ابتداءً من إعداده للمعالجة، ومعنى اليسر هنا أن يكون الانتقال من مشهد إلى آخر سهلاً لا يشعر فيه المتفرج بقفزات أو مفاجأة عنيفة بالقفز، وأن يكون هناك ترابط عضوي بين كل مشهد والذي يليه، أي أن يؤدي كل مشهد للمشهد التالي بحتمية درامية.
وتبقى بعد ذلك مهمة إعطاء كل لقطة رقماً مسلسلاً لتسهيل عملية تصوير اللقطات، وكذلك تسهيل عمليتي الدوبلاج والمونتاج.
خامساً: النهايات والبدايات في البناء الدرامي:
النهاية هي أول شئ يجب أن تعرفه قبل أن تبدأ الكتابة، فأنت ملزم بمعرفة تفاصيل محددة، لكن عليك أن تعرف جيداً ماذا حدث. والأفلام الجيدة دائماً تتوصل إلى حلول، بطريقة أو بأخرى، فعندما تشاهد فيلماً متقن الصنع، تجد نهايته قوية ومحددة بشكل مباشر، أي يتحدد من خلالها حلّ محدد.
والنهاية والبداية وجهان لعملة واحدة، فعليك أن تختار، نهاية عملك وتبنيها وتصوغها درامياً بعناية فائقة، فإذا استطعت أن تربط بداية عملك بنهايته، فهذا يعني أنك استطعت إضافة لمسة سينمائية رائعة لهذا العمل. وعندما تتأكد من معرفة نهاية عملك، نستطيع اختيار البداية بنجاح وفعالية، بمعنى إنك إذا عقدت العزم على تحديد نهاية عملك، فيمكنك أن تختار حادثاً يقودك إلى النهاية.
وهناك عدة طرق يمكن أن يفتتح بها السيناريو، فبمقدورنا أن نشد انتباه المشاهد بحدث درامي لمقطع مكون من عدة لقطات مثيرة بصرياً، أو تقديم شخصية مثيرة، وهنا علينا أن نختار هذا العمل بعناية، ثم يأتي بعد ذلك تأسيس القصة وبناؤها. والواقع أن الصفحات الأولى من السيناريو هي أكثر الصفحات حسماً، فمن خلالها يمكن أن يحكم القارئ على صلاحية القصة وجودة بنائها.
وخلال الصفحات الأولى من السيناريو يجب أن نجيب على أسئلة ثلاثة: من هي الشخصية الرئيسية في هذا العمل؟ وما الفكرة الدرامية الرئيسة، التي تحملها القصة؟ وما الموقف الدرامي للسيناريو، أي ما الظروف الدرامية التي تحيط بالقصة؟.
وعموماً فالبدايات والنهايات أمور حيوية ومهمة لسيناريو مبنى بناءً جيداً، ومن المهم أن تحدد نهاية السيناريو أولاً ثم نعمم البداية التي تناسب القصة، لتصبح مقبولة ومؤثرة في المشاهد منذ بداية الفيلم.
[1] الاستعارة هنا ليس بمعناها البلاغى.
المبحث الثامن عشر
علاقة كاتب السيناريو بعناصر الإبداع الأخرى في الفيلم
أولاً: علاقة كاتب السيناريو بالممثل:
من المعروف أن السيناريو هو بمنزلة العمود الفقري للعمل السينمائي، حيث تكمن فيه كافة مجالات الإبداع للفنانين العاملين في الفيلم.
والشخصية ـ كما أسلفنا ـ تُعد من أهم عناصر العمل الفني في السيناريو الروائي، كما تُعد محور إبداعات المخرج ومدير التصوير ومهندسي الديكور والمونتير، باعتبارها صاحبة الحدث الدرامي في هذا العمل الفني. وتتكون مادة الممثل الإبداعية من النسيج الذي تم بناؤه سلفاً خلال مرحلة كتابة السيناريو، وكلما كان البناء محكماً، كان التمثيل مقنعاً، كما يؤثر البناء الضعيف - سلباً - في أداء الممثل مهما كان موهوباً، كما تؤدي التفاصيل الدقيقة دوراً حيوياً في أداء الممثل ونجاحه في تنفيذ دوره.
والسيناريو الجيد لابد أن تتوفر فيه تفاصيل درامية وتفاصيل بناء الشخصية وتفاصيل بناء الحدث، فكل هذه التفاصيل، تُعد مفاتيح التوافق في العمل الدرامي المبدع.
وبعض الكتاب يلجأ إلى كتابة هذه التفاصيل بشكل عشوائي، متصوراً أن تدخله في أشكال التكوين ورقم العدسة وحركة الكاميرا، إنما هو جزء مهم من هذه التفاصيل، والواقع أن ذلك غير صحيح، فالتفاصيل الموحدة هي التي ترشد المبدع في مجال اختصاصه، وتُعد تفاصيل المكان من مهام كاتب السيناريو، حيث يتولى شرح بناء الديكور في مشهد ما، والأمر الذي يُعد مرشداً لمهندس الديكور والممثل أيضاً، كذلك هناك نوعية أخرى من التفاصيل، قد تكون مرشداً للمثل، حيث تساعده على ضبط إيقاع الحوار في مواجهة الشخصية المقابلة، وقد تساعده أيضاً خلال ردود الأفعال.
هذا وتعد تلك التفاصيل المرشدة، ركيزة أساسية للتوافق الفني، الذي يتحقق من خلاله التوحد الفني، الذي يعد الأساس في العمل الجماعي. وهناك عنصر آخر، يساعد في جودة الأداء التمثيلي ومصداقيته، وهو عنصر انتقاء شرائح الحدث المتسلسل، الذي يحدد شريحة زمنية معينة، وهذه الشريحة هي جزء من حياة الشخصية المراد تجسيدها.
وكما هو معروف فإن كاتب السيناريو يتولى مهمة انتقاء شرائح من حياة الشخصية من أجل تكوين الخط الدرامي للظهور في الشاشة، معبراً عن هذه الشخصية. ومن الواضح أن خبرة كاتب السيناريو البصرية والانفعالية الخاصة تؤدي دوراً مهماً لتحديد تلك الانتقادات التي تُعد دعامة الإبداع السينمائي، كما تعد إحدى دوائر التركيب العنقودي لبناء الكيان العام للسيناريو.
وعندما ننظر للفيلم فإننا نجد أنه يتركب من عدد من الوحدات الزمنية الكبرى، التي كونتها وحدات أخرى أصغر، الوحدة الزمنية الصغرى هي اللقطة، والوحدة الزمنية الأكبر هي المشهد، وتفاصيل حركة الممثلين خلال المشهد هي من أهم أدوار كاتب السيناريو، حيث يعمل على رسمها بالشكل الذي يجعلها تتفاعل مع البناء والتكوين في كل مشهد وفي كل لقطة، وهذا ما نسميه بأهمية دور كاتب السيناريو في اختيار تفاصيل حركية أو أدائية تنير الطريق أمام الممثل. والاختيار الجيد ـ بطبيعة الحال ـ لا يبرز إلا بعد أن يضع كاتب السيناريو مناهج الأداء التمثيلي، وكذلك الحيل الأدائية التي يلجأ إليها الممثل لتجسيد الشخصية، والتي تعرف باسم "تجسيد الذاكرة الانفعالية الخاصة بالممثل وبالعقل الجسماني".
ثانيا: علاقة كاتب السيناريو بالتصوير والإضاءة:
يُعد تنظيم المجال وتوزيع الخطوط، وبناء مختلف اللقطات وعمق المجال، من شأن التقطيع والتصوير، طالما أنه لا يتم إلا في وقت تشكيل الصورة. أما عملية تقديم تحديدات تقنية حول العدسة ـ التي يتم استخدامها ـ، والزاوية التي يجب اتخاذها، والحركة التي يجب القيام بها، فهذا كله يتجاوز مهمة كاتب السيناريو، إلا أنه ملزم بالإفصاح عن قصد مُحدد، يقوم التقطيع بتجسيده بشكل مرئي، ثم يقوم التصوير بتحقيقه عملياً، وإذا لم يقم كاتب السيناريو بهذا العمل، فإن التقطيع قد يتم بحكم العادة، وتبعاً للضرورة التقنية، وليس تبعاً للبحث عن معنى مُحدد والإفصاح عنه.
ومع بداية كل مشهد، يوضح كاتب السيناريو المكان والزمان، على سبيل المثال (نهار داخلي ـ أو ليل داخلي) وهذه التحديدات تملي على مسؤول الإضاءة شكلاً معيناً، بالإضافة إلى تحديدات أخرى، قد ترد في وصف الصورة، ومثال ذلك (إضاءة خافتة). بل وقد يحدد كاتب السيناريو مصدرها.
وليس المطلوب من كاتب السيناريو أن يكتب قائمة طويلة من التوصيات حول الإضاءة في كل مشهد، ولكن الأساس هو أن يبسط جزءاً منها يحتاجه لتوصيل شعور معين، أو للمساعدة في بناء الجو العام الذي يريده أن يصاحب الحدث أو الفعل، ومن هنا يحدد درجات الضوء ومادته وتحديد الألوان مثل أن تكون ناعمة، أو أن تكون جمالية دقيقة، حيث لا تتصادم فيها التنوعات والقيم، ومن ثَمّ فعلى كاتب السيناريو أن يحدد الضوء اللازم لكل مرحلة، وأن يهتم بالانسجام الجمالي خلال كل المراحل، وتتركز مهمة مسؤول التصوير في تحقيق هذا الضوء، بحيث يتمشى مع طبيعة الحدث، تحقيقاً لتناغمها التشكيلي.
ثالثاً: الإخراج وعلاقته بالسيناريو:
هناك بعض الأعمال التقنية مثل "تنظيم المجال ـ توزيع الخطوط ـ الكتل ـ بناء لقطات عميقة المجال" تدخل تحت التقطيع والتكوين وهما وظيفتان أساسيتان للمخرج، ولكن ما يهمنا هو توضيح الخط الواصل بين كاتب السيناريو والمخرج في هذه الأمور التقنية البحتة.
يرسم كاتب السيناريو الصورة أو خطوط الصورة، انطلاقاً من خطوط عمودية واقعية، وعلى هذه الخلفية الهندسية الثابتة، تمر الانفعالات الإنسانية ثم تتلاشى، ومثال ذلك: انفعالات الشخصيات الفوضوية، حيث الخطوط المائلة والمنحيات والخطوط الحلزونية، التي يُعبّر عنها برموز محددة، فالخطوط الحلزونية مثلاً يمكن أن يُعبر عنها بالسلالم، والساعة البندولية يمكن أن تدل على الأشكال الدائرية.
وعندما تتشكل الصورة في ذهن كاتب السيناريو عليه، أن يُحدد بوضوح التوازن العام من ناحية توزيع الكتل داخل الصورة والفضاء، وكيف يحرك هذه الكتل، هذا بالإضافة إلى اهتمامه بتشكيل الصورة من حيث الضوء والألوان والخطوط المنظورة؛ لأنه في الأصل يعمل من أجل توضيح الصورة وبنائها، كما أن كاتب السيناريو أيضاً لا يعمل من أجل الصورة الثابتة، بل من أجل الصورة المتحركة، وهذا يقود إلى سلسلة من الأفكار التي تتركز على الحركات، ومنها حركات المجال من أجل ترجمة قصد محدد.
ومن الأمور التي تهم كاتب السيناريو أيضاً موضوع حركات المجال وحركات الكادر، فالشخصيات تدخل في المجال وتخرج منه، وتنتقل بين أطراف الإطار بشكل أفقي وعمودي ومائل، ومساراتهم ترسم في داخل الصورة، خطوطاً وهمية، لكنها ذات دلالة عالية، وهناك شخصيات لا تدخل في المجال أبداً، ومن ثم على الكاميرا أن تذهب للبحث عنهم. وعلى العكس هناك شخصيات لا تغادر المجال، لكنها تلزم الكاميرا بحركاتها، وهذه الحركات جميعاً لا يتم ابتكارها، أثناء التقطيع أو التصوير، وعلى كاتب السيناريو أن يتخيلها، أو على الأقل يلمح إليها.
رابعا: علاقة كاتب السيناريو بالصوت:
يستحوذ الحوار، غالباً على معظم اهتمام كاتب السيناريو، ولكن من المهم أيضاً أن يهتم بالصوت في مجمله وبقدر اهتمامه بالصورة، ومعنى هذا أن يرجع إلى كل ما كتب عن الديكور والشخصيات والزمن، وأن يحدد الأصوات التي سترافق الصور، فليس هناك صورة لا يرافقها الصوت إلا في الوقفات فقط. والجزء المسموع من السيناريو، يقوم على عدة معايير متزامنة مثل: الجو العام ـ الموسيقى ـ المؤثرات ـ وفترات الصمت ـ ومن ثم فلا وجود للقطة مرئية في غياب الجو الصوتي العام.
1. الموسيقى:
هناك مسألة نظرية هيمنت على قضية الموسيقى في السينما، وهي هل يجب أن نبرر ظهور الموسيقى في الشريط الصوتي بسبب فني؟ أم يمكننا إدخال عناصر موسيقية لمجرد قيمتها الانفعالية، دون أن يكون لأصل هذه الموسيقى أي تفسير في السيناريو، المهم في الأمر هو المحافظة على ضرورة الانسجام الجمالي بين الموسيقى وما يوازيها في الصورة، ولكن ليس هذا كل شئ، فطبيعة الموسيقى ونمط العلاقة التي نريد إقامتها بين الموسيقى والصورة، هي جزء مهم من أعمال كاتب السيناريو.
2. المؤثرات:
هناك نوعان من المؤثرات: النوع الأول مؤثرات تنتمي إلى الجو العام، حيث تشكل فيه حالة خاصة، فمثلاً في الريف هناك نباح الكلب، وفي المدينة هناك ضجيج الشوارع وآلات التنبيه الخاصة بالسيارات، وفي هذه الحالة تشير المؤثرات إلى مظهر خاص، وتضفي تلويناً عاطفياً وإيقاعاً صوتياً، وهي ترافق سير الصورة وتحددها. ومن ثم على كاتب السيناريو أن يأخذ من هذه الصورة عدداً كبيراً من المؤثرات. والنوع الآخر مؤثرات لا تنتمي إلى الجو الصوتي العام، وفي هذه الفئة يجد كاتب السيناريو عدداً كبيراً من الذرائع ليوصل مقاصد يصعب أن يحس بها المتلقي لو اتبع كاتب السيناريو طريقة أخرى، ومن ثم فإن مثل هذه العناصر تسمح بوضع دلالة إيحائية في داخل المرحلة المرئية والصوتية للفضاءات والأزمنة المختلفة، أو أنها توحي بداخلية الشخصية.
3. الحوار:
إن وضع الحوار قبل فترات الصمت في السينما، يدل على أنه يجب دائماً اعتبار الكلام في السينما محكوماً بفترات الصمت، وأن نحذر من السينما التي تكثر من الكلام. فاستخدام الحوار كثيراً لتقديم المعلومات يدل على العجز عن توصيلها بطريقة أخرى، وهذا أمر يتعلق بالمسرح أكثر من تعلقه بالسينما. فاستخدام الحوار في حل قضية سردية، يعني ـ غالباً ـ وجود فقر في الإبداع السينمائي، ولا يُقصد بذلك الحكم على كل حوار بأنه غير سينمائي، ولكن يجب الحذر من لجوء الكاتب إلى وسيلة سهلة لحل القضايا السردية. وقد يكون ذلك ضرورياً أحياناً لزيادة سرعة السرد في جزء من العمل. وعموماً فإن الحوار الذي يأتي لسرد القصة، أو الإفصاح عن شعور الشخصية، أو لتفسير ما حدث، أو لإيضاح الغموض، فإنه، باختصار، يؤدي وظيفة سردية.
4. فترات الصمت:
يشكل الصمت حالة خاصة من حالات الجو العام، أو سلسلة من الحالات الصوتية الخاصة. فلو تكلمنا ـ مثلاً ـ عن صمت الظهيرة صيفاً في الريف، وعن صمت الليل في قلب مدينة عند الساعة الثانية صباحاً، فإنّ "الأنواع الصوتية" لا تكون نفسها، وهذا يعلّمنا أين نضع الصمت؟ ومتى؟ ولذلك تُصبح القيمة الدرامية لفترات الصمت، من أهم اختصاصات كاتب السيناريو، الذي يجب أن يهتم بتشكيل معايير الصوت في فترات الصمت، لأن المعنى الذي ستكتسبه فترات الصمت من تلك المعايير، يتعلق بها في نهاية المطاف.
وعلى كاتب السيناريو أن يذكر تشكيلها، من أجل توجيه مهندس الصوت لهذا العمل، وأن يذكر أيضاً الأنواع الصوتية المناسبة في كل مرحلة، وكذلك التأكيد على نوع الوحدة الصوتية، التي ينبغي إقامتها بين المراحل. وكما يُتحدث عن اللقطات المقربة واللقطات البعيدة، علينا أن نتذكر أن الصوت يعالج أيضاً اللقطات الملموسة والمحكمة. وعلى كاتب السيناريو أيضاً تكوين تركيبات صوتية، تواكب الحركات في عمق الكادر، سواء الثابت أو المتحرك.
خامساً: علاقة السيناريو بالديكور:
تبدأ هذه العلاقة من أول تحديد للمكان، الذي سيتم فيه المشهد، وهل هو داخلي أم خارجي؟ وما علاقته بالشخصية، وهل من سمات الشخصية مثلاً لو كان يصور بيتها، الثراء، ومن أي وسط اجتماعي هي، وما أصولها الاجتماعية؟ فكل هذه الأشياء تحدد شكل الديكور في هذا البيت. ومن الواضح أن لكاتب السيناريو علاقة وثيقة بالمكان، فهو قد يحدد تكوين غرفة ما لتتناسب مع الشخصية، التي تعيش فيها، والزمن الذي تدور فيه الأحداث، ومن ثم فإن وصف الديكور يكون تكملة لوصف الصورة لدى كاتب السيناريو. فهو إضافة لكل عناصر التكوين والحركة داخل الكادر، فهي تشكل جميعها جواً عاماً يتعمد كاتب السيناريو أن يوجده، من أجل توصيل مقاصد درامية والإيماء بها للمتلقي. كما يتوافق مع ما في عقل كاتب السيناريو نفسه، ورغبته في الإيحاء به، بنعومة أو بفظاظة، يتوقف على مقصده الدرامي، الذي يملكه وحده، وربما يتدخل أيضاً في التوصية بملحقات الديكور.
ومن ثم ينبغي على كاتب السيناريو، القيام بعملية الإيحاء بالجو العام، بأن يرصد ما يخدم هذا الخلق من عناصر فنية، كإضاءة أو أحجام لقطات أو حركة الكادر. كما يرصد، أيضاً، ما يخدم هذا الإيحاء من خلال الديكور الداخلي أو الخارجي. ولا يوجد أي قانون يساعد على الانتقال من الديكور إلى دلالته، فكل مبدع يختار ديكوراته، ويجتهد مع بقية العناصر الإبداعية في الفيلم، من أجل إبرازه بشكل دقيق.
الفصل الخامس
لغة السينما
يُقصد بلغة السينما هو كيف يُعَبِّر الشريط السينمائي [1] عن القصة، وكيف تُنقل الفكرة أو المضمون إلى المشاهد. ومن ثم فإن لغة الفيلم السينمائي تعني الوسائل التي تتولى مهمة هذا النقل.
ولذلك لا يجب الحكم على اللغة السينمائية بقيمها الجمالية وحدها، ولكن بقدر خدماتها، التي تعود على القصة. فليست اللغة السينمائية هدفاً مطلقاً، بل القصة هي الهدف المطلق. وليس أفضل استخدام للغة السينمائية هو، الذي يتعاون بشكل فني مع وسائل الفيلم، ولكن ذلك الذي يعرض المضمون بأفضل طريقة ممكنة.
[1] يُطلق على الشّريط السّينمائي أحياناً: "السيلولويد".
المبحث التاسع عشر
أسس اللغة السينمائية
أولاً: الإيجاز:
الإيجاز بمعناه البسيط هو: إيصال المعنى إلى المتلقي، بأقل قدر من التفاصيل المعبرة عنه، أو من خلال التركيز فقط على التفاصيل الرئيسية المكونة له.
وفي السينما، يقدم الإيجاز دوراً بالغ الأهمية، في اللغة السّينمائية. فهو في شكله الشائع يُوظف في اختيار أهم عناصر الحدث، أو التفاصيل ذات الدلالة فقط، دون ذكر التفاصيل التي يمكن فهمها ضمناً، ولا تُمثل أهمية خاصة، وذلك بقصد الاحتفاظ بانتباه المشاهد في حالة تركيز مستمر، على مدار الحدث وتطوراته، إضافة إلى التحكم في إيقاع الفيلم. والإيجاز، بهذا المعنى، ركناً أساسياً في طبيعة اللغة السينمائية، بحيث يصبح توظيفه ممثلاً لضرورة رئيسية.
ولكن على الرغم من أن الإيجاز ـ بهذا المفهوم ـ يمثل شكلاً شائعاً أو عاماً، في اللغة السينمائية، فإن له وجهاً آخر يمثل ركناً مهماً من أركان البلاغة السينمائية. ذلك أن للإيجاز وظيفة تأثيرية خلاّقة، من حيث توظيفه للتأثير في عواطف المتفرج وإحساسه، بهدف خلق الشعور بالمتعة لديه، ووضعه في حالة شوق دائم لتتبع الرواية وتطورها. وبينما الإيجاز في الشكل الشائع، يعني التركيز على التفاصيل المهمة لإظهارها في شكلها التأثيري الخلاق، فإنه يعني أيضاً حذف أو إخفاء بعض التفاصيل، أو الوقائع المهمة المحددة، أو جزء أو أجزاء منها، بهدف إخفاء القوة التأثيرية على معناها، أو آثارها ونتائجها. وعلى ذلك فإن عملية الحذف أو الإخفاء، تصبح هدفاً وإجراءً فعالا؛ يضفي على المعنى قوة تأثيرية، أو قوة بلاغية، قد لا تتأتى في حالة إظهار التفاصيل المخفاة أو المحذوفة. ومن هنا يتبين أن للإيجاز وظيفتين أساسيتين، هما:
1. الاختيار السليم لأهم التفاصيل، أو كل ما له دلالة فقط. وبعبارة أخرى، اختيار الأزمنة المؤثرة أو الفعالة من التدفق الزمني الطبيعي (الواقعي) لحدث ما، مع حذف الأزمنة الضعيفة منه، وذلك بهدف التركيز على نقاط الحدث فقط.
2. تعمد حذف أو إخفاء بعض التفاصيل المهمة، لإضفاء قوة تأثيرية على المعنى، فتؤثر، من ثم، على المُشاهد وتجعله أكثر استمتاعاً بأسلوب السرد، مما لو أظهرت هذه التفاصيل، أو وصل المعنى إليه بطريقة مباشرة.
وسواء كان توظيف الإيجاز، في شكله الشائع، القائم على التركيز على أهم التفاصيل، أو كان في شكله التأثيري، القائم على إخفاء أو حذف بعض التفاصيل المهمة، فإن هناك قاعدة أساسية ينبغي مراعاتها، هي:
أن كل ما يحذف من تفاصيل، ينبغي أن يكون مفهوماً ضمناً، أو يُوحي بمعناه. ذلك أن عدم الالتزام بهذه القاعدة، قد ينتج عنه نوع من الغموض أو الإبهام، أو يمثل نقصاً حقيقياً في التفاصيل اللازمة للسرد. فعملية الحذف أو الإخفاء، لا تُمارس كهدف في حد ذاتها، ولكنها تمارس لأهداف فنية، أو درامية محددة.
وبهذا التأسيس لمعنى الإيجاز في اللغة السينمائية، والقواعد التي تحكمه، فإن دراسته تتضمن التّعريف بأنواع ثلاثة رئيسية له، هي: الإيجاز الفني، والإيجاز الدرامي، والإيجاز لأسباب اجتماعية أو إنسانية أو رقابية. وفيما يلي شرح لكل نوع منها:
1. الإيجاز الفني:
ويقصد به "ذلك النّوع من الإيجاز القائم على الطبيعة العامة للغة السينمائية". وويجري من خلاله اختيار أهم التفاصيل والأزمنة القوية، مع حذف الأزمنة الضعيفة. والإيجاز، بهذه الصورة، يرتبط بطبيعة فن الفيلم، من حيث المرونة في تشكيل كل من عنصري الزمان والمكان الخاصين بالفيلم، بما يخدم السرد السينمائي.
ومثل هذا النوع من الإيجاز يمكن تصوره، مثلاً، في الوقائع البسيطة، كانتقال شخص من مكان إلى مكان، ولا يهم في هذه الواقعة إلاّ التقرير بانتقاله بين المكانين، أي لا توجد تفاصيل مهمة أخرى، خلال المسافة الزمنية والمكانية، بين نقطتي الانتقال.
فلو أن شخصاً ينتقل من مسكنه إلى مكان عمله، فإن هذا الانتقال في الواقع، يرتبط بمعايشة كل المسافة اللازمة للانتقال إلى المكتب، كما يرتبط بكل المسافة المكانية المختلفة بينهما. لكن التصور السينمائي لهذه الواقعة يختزلها اختزالا كبيراً، وقد يتم ذلك على النحو الآتي:
أ. أن تُصور واقعة الانتقال في عدد من اللقطات: تتناول مغادرة الشخص مسكنه، ثم هو في الشارع، ثم هو يدخل من باب مكتبه.
ب. أن تختزل الواقعة أكثر من ذلك، فنرى الشخص يغادر باب مسكنه، ثم نراه وهو يدخل مكتبه.
ج. أن يكون الاختزال في صورة أكثر من الصورتين السّابقتين، فيقتصر فقط على رؤية خروج الشخص من كادر الصورة وهو في مسكنه، ثم رؤيته وهو يدخل في كادر جديد داخل مكتبه.
والاختيار بين أي من هذه الاستخدامات، يتوقف على الهدف الذي يُسعى إليه. فإذا كان الهدف محدد فقط في أن الشخص، قد انتقل من مسكنه إلى مكتبه، فإن استخدام الأخير يصبح محققاً للغرض. لأن اللقطات الممثلة له تعطينا المضمون المراد، بأقل قدر من التفاصيل المعبرة عنه، وفي أضيق حيز زمني ممكن. لكن تقدير هذا المضمون البسيط، ونقله إلى المُشاهد، يرتبط من الناحية الأخرى بإيقاع اللحظة أو المشهد، الذي تحدث فيه هذه الواقعة. وعلى ذلك فإن إيقاعاً بطيئاً نسبياً، قد يدعو إلى استخدام الصورة الثانية من الصور الثلاث السابق شرحها، وبالمثل فإن إيقاعاً بطيئاً ملحوظاً قد يدعو إلى الاستخدام الأول، حيث تكثر لقطاته ويزداد حيزه الزمني، عن أي من الاستخدامين الثاني والثالث.
وعلى ذلك، فإنه على الرغم من أن كل ما يُراد توصيله إلى المُشاهد، هو فقط انتقال الشخص من نقطه إلى نقطه، فإن الهدف المحدد قد يتسع ليتجاوز ذلك، عندما يكون لعنصر الإيقاع تأثيره على اللحظة. وواقع الأمر أنه في بعض الحالات قد يراد تهدئة الإيقاع، لسبب أو لآخر، أو زيادة خلق شعور بالبطء أو الملل، ومن ثم فإن ذلك يكون له تأثيره على الشكل النهائي، الذي يأخذه الإيجاز الفني.
ومن ثم يصبح الإيجاز الفني، على هذا النحو، عنصراً أساسياً، يوجد ويوظّف في العديد من نقاط الفيلم. ومن الملاحظ أن السينما الحديثة توظّفه، بشكل أوسع كثيراً من السينما القديمة، لأن أسلوب السينما المعاصرة هو الميل إلى الاقتصار، على أقل التفاصيل الممكنة، لنقل المضمون إلى المشاهد، ومن أجل الاحتفاظ بانتباه في حالة تركيز مستمر على الحدث وتطوراته، فضلاً عن التحكم في الإيقاع الفيلمي.
2. الإيجاز الدرامي:
ويقصد به ذلك النوع من الإيجاز، الذي تتطلبه دواعي البناء الروائي، من تأثيرات درامية، تتمثل في إيجاد التأكيد والتشويق والمفاجأة والإثارة والقلق والتوتر. وبعبارة أخرى، فإن ذلك النوع من الإيجاز، يُعطي للمعاني الدرامية قوة تأثيرية، ويقدمها إلى المشاهد بأسلوب غير مباشر، حتى لا تفقد قوتها أو قيمتها إذا قدمت بأسلوب مباشر، أو صريح.
ويعتمد الإيجاز الدرامي على إخفاء، أو حذف تفاصيل، أو أجزاء منها، تكون مهمة في حد ذاتها ـ عكس الإيجاز الفني ـ لكن هذا الحذف أو الإخفاء، هو الذي يضفي عليها قوة تأثيرية، يكون تأثيرها الكبير على المشاهد.
وعلى سبيل المثال، يورد مارسيل مارتن، في كتابه "اللغة السينمائية"، مثالا على الإيجاز الدرامي جاء فيه:
"وفي فيلم "الملاحقة العجيبة"، حيث تدور في الشارع الرئيسي لمدينة من مدن الغرب، معركة بين شاب شجاع وثلاثة من المجرمين، تنتقل الكاميرا إلى حانة ينتظر فيها الزبائن في حالة من الرعب نتيجة القتال. ثم تُسمع طلقات نارية، ويفتح الباب فجأة، ويظهر أحد المجرمين؛ لكنه ما أن يخطو بضع خطوات، حتى ينهار ميتاً، بينما يصل البطل سليماً ومعاف".
وواضح من المثال، أن السيناريو قد أخفى أهم تفاصيل المعركة الدائرة بالخارج، وخاصة تلك اللحظة الحاسمة التي ينتصر فيها البطل، إلى درجة أوهمت المشاهد للحظة أن البطل قد قُتل. ثم تأتى المفاجأة الكبيرة نتيجة لهذا الإخفاء، عندما يتبين المشاهد أن البطل سليم منتصر.
وقد يُخفي السيناريو لحظة حاسمة في الحدث، ليُرسِّب في إحساس المشاهد مضموناً ما، يجعله في حالة اطمئنان مؤقت، أو زائف، ثم يفاجئه بشكل متناقض تماماً. وقد حدث ذلك في فيلم (انتظر حتى يحل الظلام)، عندما تُفاجأ بطلة الفيلم الضريرة "أودرى هيبورن"، بشخص يداهمها في منزلها لقتلها، وهي في غرفة النوم. وبعد صراع رهيب بينهما تتمكن البطلة من تشويه عينيه، بينما تسرع بالهرب نحو الصالة من خلال الممر الموصل بين جناح النوم والصالة. ويبدو للمشاهد أن ما قامت به البطلة كان شيئاً معجزاً للرجل، بينما ينقلنا المخرج على أثر ذلك مع البطلة وهي تدخل الصالة، مما يرسّب في إحساس المشاهد أنها استطاعت أن تنجو من هذا الخطر المباغت، خاصة وأن الزاوية الجديدة للكاميرا لا تُظهر عمق الممر، ومن ثم لا يُرى الشخص الذي حاول قتل البطلة. لكن هذا الإحساس بالطمأنينة يزول فجأة، عندما يُفاجأ المشاهد بالرجل وهو يقفز قفزة هائلة من الممر، في محاولة يائسة للتعلق بجسم البطلة ولكنه يخطئها، وتكون تلك هي محاولته الوحيدة، التي لا يقوى بعدها على إعادتها.
وقد يوظّف الإيجاز الدرامي، ليُفاجأ المشاهد في لحظة انتظاره لتطور أمر ما إلى نهايته، بأن الجزء الأخير منه محذوف، ويصل إلى النتيجة فجأة، وبأسلوب غير مباشر. وعلى سبيل المثال: في فيلم "مسألة براءة" إخراج جارى جرين: "تُرى البطلة الصغيرة "هيلى ميلز"، عند حمام سباحة في سنغافورة، وهي تحذّر عمتها الثرثارة الشرهة، من النزول إلى حمام السباحة مباشرة، بعد وجبة ضخمة التهمتها سريعاً. لكن العمة تقوم من مكانها ساخرة من تحذير الصغيرة لها، ثم تخطو في خيلاء وتنزل إلى حوض السباحة وتغطس تحت الماء .. ثم تمر لحظات يبدو فيها القلق على الفتاة، فتقف ترتقب ظهور عمتها من تحت سطح الماء .. وبينما المشاهد هو أيضاً في لحظة انتظار ظهور العمة، فإن المنظر يتغير فجأة إلى سيارة الإسعاف وهي تسرع بينما يتعالى صوت نفيرها". ويدرك المشاهد فجأة بأن العمة قد أصابها مكروه، ولكن المعنى لم يصله صراحة عن طريق المشهد الدائر في حمام السباحة، بل يُدركه من الانتقال المفاجئ من حمام السباحة، إلى عربة الإسعاف.
3. الإيجاز لأسباب اجتماعية، أو إنسانية، أو رقابية:
ويقصد بهذا الإيجاز توظيفه، لتجنب التصوير المباشر، لمواقف القسوة والعنف والحوادث الأليمة، أو مشاهد المحرّمات الاجتماعية، أو الأخلاقية. وتجنب التصوير المباشر لمثل هذه المواقف قد يكون مرجعه، مجافاتها للذوق السليم، أو التقاليد الاجتماعية، أو أنها قد تؤذى الشعور الإنساني بشكل أو بآخر. ومن ناحية أخرى، فقد يكون هناك توقع باعتراض الرقابة عليها، وعدم السَّماح بظهورها على الشاشة. وفي مثل هذه الحالات فان الإيجاز يصبح الوسيلة الأساسية، التي يتم توظيفها للإيحاء بالمعنى المراد، أو خلق الإحساس المتعلق به.
ففي مشهد للقتل مثلاً، يُرى القاتل وهو يهوى بسكين أو آلة حادة نحو ضحيته، ثم تُرى نتيجة الطعنات كرد فعل على وجه القتيل، أو في حركة من يده أو جسمه، دون أن يُظهر مكان الطعنات نفسها.
وفي مشهد جنس مثلاً، قد تبدأ الكاميرا في التحرك بعيداً عن المنظر، وتركز على رمز دال، أو تتحرك مع حركة الشخصية حتى يعترض الرؤية جزءً أو عنصر من الديكور، فتتوقف الكاميرا عنده.
ويُصور هذا النوع من الإيجاز بوسائل وطرق متعددة، وهي، في الوقت نفسه، تُعد وسائل مستخدمة عند توظيف الإيجاز الدرامي أيضاً، وأهم هذه الأساليب هي:
أ. إخفاء الحدث، أو جزء منه، وراء عنصر الديكور، بمعنى أن يلم المشاهد ببداية الحدث، ثم يُخفى الجزء المهم والرئيسي منه وراء أحد عناصر الديكور، سواء من خلال الحركة الفعلية للشخصية أو الشخصيات، بينما الكاميرا ثابتة في مكانها. أو تتحرك الكاميرا لاتباع حركة الشخصية، حتى يبدو عنصر من الديكور وكأنه يدخل مجال الرؤيا بطريقة طبيعية، وتتوقف الكاميرا مركزة عليه.
ب. أن يدور الحدث وراء عدد من قطع الديكور، بحيث تظهر لمحات منه فقط، فتصبح هذه اللمحات في مجموعها هي الأجزاء المكونة للحدث، على الرغم من إخفاء أجزاء مهمة أخرى منه.
ج. أن يظهر الحدث عن طريق الظلال المنعكسة، على حائط بالديكور.
د. إظهار الحدث عن طريق الظلال المنعكسة على سطح لامع أو زجاجي بالديكور، بحيث تصبح الخطوط الرئيسية لصورة الحدث مشوهة، أو متعرجة، أو غير حادة في تكوينها العام.
هـ. أن يدور الحدث في مكان شبه مظلم، إلاَّ من بعض البقع الضوئية المتناثرة في المكان، بحيث لا يظهر من الحدث لمحات منه، نتيجة لحركة الشخصيات في المكان، أو عند مرورها بهذه البقع الضوئية. وقد يتم ذلك بهدف إخفاء تفاصيل معينة من الحدث، أو بهدف تخفيفه.
و. التعبير عن الحدث عن طريق جزء من جسم الإنسان، مثل انفراج يد شخص في سرعة وشده، للتعبير عن طعنة قاتلة.
ز. نقل جزء من الحدث، أو لحظة حاسمة منه، بطريقة غير مباشرة، كرد فعل على شخصية أخرى غير الشخصيات الرئيسية للحدث. ويحدث ذلك في حالة الانتقال من المنظر الرئيسي، عند لحظة حاسمة، إلى شخصية أخرى خارج بيئة الحدث، وقد أظهر التعبير البادي منها أو عليها، معنى ما يدور خارج الكادر، أو أن يتم ذلك عن طريق عنصر الصوت في لحظة حاسمة، فتنقل الكاميرا إلى شخصية أخرى، وهي في حالة رد فعل، لسماعها الصوت الدال على الحدث.
ح. توظّف حركة الكاميرا للإيحاء بالحدث، وذلك عندما تتحرك الكاميرا من أمام العنصر الرئيسي في الحدث مبتعدة عنه، لتدعو المشاهد إلى استنتاج ما يدور خارج الكادر. وقد تنتهي الحركة، في بعض الأحيان، بالتركيز على رمز يجسّد المعنى المراد إيصاله للمشاهد.
على كلٍ، فالإيجاز مفهومه العام، كعنصر أساسي في اللغة السينمائية، بصرف النظر عما يتخذه من أشكال وأساليب متباينة.
ثانياً: الرمز:
اكتسب الرمز السِّينمائي أهمية خاصة، كأحد دعائم اللغة السينمائية، التي تعتمد في تعبيرها على الصورة بالدرجة الأولى، للإيحاء بالمعاني المراد إيصالها إلى المشاهد. وبهذا المفهوم فإن الإيجاز في واقع الأمر متعلق بنوع من الأشكال الرمزية في السينما، من حيث أن أسلوب الإيجاز، القائم على الحذف أو الإخفاء، لواقعة أو شيء ما، يتبعه بالضرورة، أو يرتبط به، نوع من الإيحاء الرمزي بحدوث الواقعة، أو وجود معنى ما جرى حذفه، أو إخفاؤه، كلياً أو جزئيا.
إلاّ أن الرمز السينمائي بمعناه الدقيق، لا يقوم على الحذف أو الإخفاء، بل يستمد وجوده مما هو ظاهر في الصورة. وفكرة الرمز في الصورة السينمائية، بهذا المعنى، تقوم على قدرة الصورة في احتوائها على مضمونين في آن واحد، أحدهما ظاهر أو مباشر، بينما الآخر مستتر أو غير مباشر. بعبارة أخرى، فإن الصورة السينمائية، بجانب تقديمها إلى المُشاهد بمعناها البسيط المباشر، فإنها يمكن تحميلها، في الوقت نفسه، بمعنى أعمق وغير مباشر، بحيث يشعر المشاهد بوجود آفاق أخرى وراءها غير ظاهرة. فيصبح المعنى المباشر البسيط مُمثلاً لما قد يُسمى بالبعد الأول، بينما يُمثل المعنى الآخر غير المباشر (الأعمق)، ما قد يُسمى بالبعد الثاني.
وفكرة المْعنَيين، المباشر وغير المباشر، أو البسيط والرمزي، للشيء الواحد، توجد أساساً في كثير من الصور الواقعية، التي نعيشها في الحياة. فلو تأملنا مثلاً، صورة شخص وهو يأكل أو يدخن، فإن هذه الصورة البسيطة قد لا تتعدى معناها المباشر البسيط، كما أنها قد تُصبح رمزاً لمعنى أعمق يتجاوز معناها الظاهري. ذلك أنّ واقعة الأكل أو التدخين لشخص ما، قد تصبح رمزاً لحالة نفسيه، أو عقلية، في موقف محدد أو ظروف معينة. فهي قد ترمز إلى معنى التوتر أو القلق، كما قد ترمز إلى معنى المتعة، أو الانسجام، أو قد ترمز إلى لحظة من لحظات التفكير أو الشرود…الخ، وذلك وفقاً للأسلوب الذي تقع به، وفي حدود الظروف التي تجرى فيها. فمثل هذه الوقائع البسيطة تتلون بمعان رمزية، طبقاً للموقف أو الإطار، الذي تدور فيه، فتكتسب معنى رمزياً معيناً يتجاوز معناها الظاهري. ولكنها وإن كانت توضح ما يُقصد بفكرة المعنيين المباشر وغير المباشر، فإنها لا تقول كل ما تعنيه بالرمز السينمائي، بمعناه الدقيق.
فالرمز السينمائي بمعناه الدقيق، يهدف إلى التأثير في المشاهد، عن طريق الإيحاء له بمعنى أعمق من المعنى المباشر البسيط للصورة. وبعبارة أخرى، فإن الصورة تقدم معناها البسيط في بعدها الأول، إضافة إلى ما تضمنه من معنى رمزي غير مباشر، في بعدها الثاني.
فالمبدأ أن يُنظر إلى الصورة السينمائية، باعتبار ما تحتويه أولاً من معنى مباشر بسيط، ثم نحاول أن نضمّنها المعنى الرمزي الأعمق، لزيادة التأثير في المشاهد، وتقوية المعنى العام للصورة، وذلك في المواقع ذات الدلالات العميقة، أو المعاني المهمة والرئيسية في الفيلم.
فتوظيف الرمز السينمائي لا يُعد هدفاً في حد ذاته، أو أمراً يمكن ممارسته بلا قيود أو حدود، بل هو يوظف لضرورة فنية محددة، وفي ظروف خاصة، لأن المعنى الرمزي يتطلب دائماً قدراً من المشاركة الذهنية من جانب المشاهد، وفي غياب هذه المشاركة، فإن الرمز المستخدم لا ينتج أثره.
ويتوقف وصول المعنى الرمزي إلى المشاهد، على تفاعل عدد من العناصر ترتبط بتكوين المشاهد مثل:
1. درجة الحساسية، أو الذكاء، أو التصور لديه.
2. البيئة الاجتماعية أو القومية.
3. المستوى الثقافي.
4. الأيديولوجية والمعتقدات.
5. خبرات الحياة وتجاربها.
…وعلى ذلك يمكن التقرير، بأن المعنى الرمزي، الذي قد يقصده كاتب السيناريو أو المخرج، قد يدركه كل المشاهدين أو غالبيتهم أو بعضهم فقط، وذلك تبعاً لمدى المشاركة الذهنية من قبل المشاهد، التي تتوقف إلى حد كبير على التكوين الشخصي والعوامل، التي تؤثر في استعداده لإدراك المعنى الرمزي. ومن هنا يمكن القول إِنّ بعض الرموز، التي قد يقصدها كاتب السيناريو أو المخرج، قد لا يدركها بعض المشاهدين أو جميعهم، إذا كانت معانيها مستمدة من أيديولوجية أو بيئة قومية معينة، أو من أسلوب الحياة في دولة معينة، بحيث يصبح الرمز بعيداً عن إدراك مشاهدي بيئة أو أرض أخرى. وبالمثل فإن الرموز، التي تتطلب حداً أدنى من الثقافة، أو ثقافة معينة، فإنها قد لا تصل إلى الطبقة الشعبية من المشاهدين.
1. الشكل العام للاستخدامات الرمزية
يتمثل الشكل العام للاستخدامات الرمزية في نوعين، هما: الاستعارة الرمزية، والمعنى الرمزي. وسنوضحهما فيما يلي:
أ. الاستعارة الرمزية:
(1) تقوم الاستعارة الرمزية الناتجة عن تتابع لقطتين، على تشابه أو تنافس شكل أو مضمون لقطة ما (اللقطة الأولى)، بشكل أو مضمون (اللقطة التالية)، بحيث ينتج المعنى الرمزي من التماثل بين معنى اللقطتين، أو من التناقض بينهما. وبعبارة أخرى، فإن اللقطة الثانية تمثل نوعاً من الاستعارة أو التورية، في الشكل أو المضمون، يتم إضفاؤه على شكل أو مضمون اللقطة الأولى. فعلى سبيل المثال:
(أ) أن يتم القطع، مثلاً، من لقطة لأب يضرب ابنه بقسوة، إلى لقطة أخرى لشخص يهوى بكرباج على حصانه (تشبيه بالتماثل في شكل الفعل).
(ب) أن تتابع لقطتان الأولى لشخص يأكل بشراهة، والثانية لكلب يقضم قطعة من العظم (تشبيه بالتماثل).
(ج) أن تقطع من لقطة لمجموعة من الشباب، تتدرب على أعمال المقاومة الشعبية استعدادا للحرب، إلى لقطة لمجموعة من الشباب العابث، وهم يهرجون ويرقصون (تورية بالتناقض).
(2) أنواع الاستعارة الرمزية:
يُقسِّم مارسيل مارتن في كتابه (اللغة السينمائية)، الاستعارة الرمزية إلى ثلاثة أنواع رئيسية:
(أ) الاستعارة التشكيلية:
ويقصد بها تلك، التي تقوم على تشابه أو تناقض بين اللقطتين موضوع الاستعارة، وذلك من حيث الشكل الخاص بكل منهما. ويمثل مارتن لذلك بمثالين: الأول من فيلم بعنوان (على ذكر مدينة نيس) حيث تقوم الاستعارة على لقطة لوجه امرأة في منتصف العمر، ضنت عليها الطبيعة بالجمال، ولكنها تعاني من خيلاء وتعاظم قليل، ثم تتبع هذه اللقطة لقطة أخرى، نرى فيها نعامة متعاظمة. أما المثال الثاني الذي يورده مارتن فهو من فيلم بعنوان ( .. وسقينا الفولاذ .. ) حيث يقدم في اللقطة الأولى حيوان الماعز، ثم تتبعها لقطة ثانية بها وجه آدمي، ينتهي بلحية مدببة.
(ب) الاستعارة الدرامية:
إذا نظرنا إلى الاستعارة التشكيلية، على أنها توظف كنوع من التعليق، على صفة أو وضع لشئ ما، فإن الاستعارة الدرامية تؤدي دوراً أكبر من ذلك، لأنها تؤدي دوراً تفسيرياً في الدراما، وهو دور يتجاوز التشبيه أو التناقض الشكلي فقط بين شيئين أو عنصرين.
ولتوضيح المقصود بالاستعارة الدرامية، نسوق مثالا شهيراً يُعد من الأمثلة الرائدة في هذا المجال، وهو من فيلم (الإِضراب) لـ" ايزنشتين " حيث تُرى لقطة للعمال بينما يطلق عليهم الجيش القيصري نيرانه الرشاشة، ثم تتبعها لقطة المجزرة المحتوية على الحيوانات المذبوحة. فتوظيف اللقطتين بهذه الكيفية، أُريد به أن يرمز إلى معانٍ تتعلق بصلب دراما الفيلم، وهي إيجاد نوعٍ من التشابه بين الصورتين.
(ج) الاستعارة الأيديولوجية:
أما الاستعارة الأيديولوجية فتُمثل نوعاً أعمق من الاستعارة الدرامية، حيث تحمل، غالباً، وجهة نظر فلسفية أو فكرية، تتجاوز مضمون الدراما نفسها، لتوحي بمعانٍ رمزية تتعلق بالحياة، أو الإنسان عموماً، أو معتقدات معينة، أو وجهة نظر شخصية، يضيفها كاتب السيناريو أو المخرج على صورة معينة.
ويقدم مارسيل مارتن، في كتابه "فن كتابة اللغة السينمائية"، بعض الأَمثلة على ذلك من فيلم "الأزمة الحديثة"، حيث يصف افتتاحية الفيلم، التي تُظهر صورة لقطيع من الغنم، يتبعها صورة لجمهور خارج من فوهة المترو الأرضي. وفي مثال آخر من فيلم بعنوان "على ذكر مدينة نيس"، يشير إلى لقطة لموكب الجنود، تتبعه لقطة لقبور في جبانة.
(3) حدود واستخدام الاستعارة الرمزية:
يتطلب استخدامُ الاستعارة الرمزية، قدراً من الحذر عند توظيفها، حتى لا تبدو مفتعلة لدى المُشاهد. ويرجع ذلك إلى طبيعة تركيبها من لقطتين متتابعتينْ، مما قد يشعر المشاهد بأن توظيفها يبدو مصنوعاً أكثر منه طبيعي. وواقع الأمر أن رد فعل المشاهد يكون سلبيا، عندما تبدو الاستعارة في شكل مقحم أو مفروض على السياق، أما إذا جاءت نابعة من التسلسل المنطقي للقطات، فإن المُشاهد يستجيب لها ويتذوقها.
وقد كان استخدام الاستعارة الرمزية شائعاً في عهد السينما الصامتة، كوسيلة أساسية في اللغة السينمائية. وكان المخرج يشعر بحرية كبيرة في اختيار اللقطة الثانية للاستعارة، ولو من خارج السياق الدرامي، طالما أنها تُحقق له المعني الرمزي المراد توصيله. أما في السينما المعاصرة، فإن الاستخدام المؤثر للاستعارة، يبني أساساً على عناصر رئيسية في الدراما، أو على التسلسل المنطقي للقطتي الاستعارة.
ب. المعنى الرمزي:
يمثل الرمز الناتج من اللقطة الواحدة، أو الوحدة الواحدة، مستوى أعمق من الرمز الناتج من الاستعارة، أو التورية الناتجة من تتابع لقطتين. وسبب ذلك أن تتابع اللقطتين، قد يشعر المشاهد بأنه يتلقى معنى رمزياً مصنوعاً، يشعره بوجود شخصية المخرج، بينما في حالة الرمز الناتج من اللقطة الواحدة، يشعر المُشاهد بأنه يشارك مشاركة إيجابية في استخلاص المعنى الرمزي. وبعبارة أخرى، فإنّ المشاهد في حالة الاستعارة الرمزية، يشعر كما لو أن المخرج يوجّه فكره ومشاعره توجيهاً محدداً، بينما في حالة رمز اللقطة الواحدة، أو الوحدة الواحدة، يشعر بأنه هو الذي يكتشف المعنى الرمزي بنفسه.
(1) تكوين المعنى الرمزي:
يتطلب تكوين المعنى الرمزي، داخل اللقطة الواحدة أو الوحدة، احتواء اللقطة أو الوحدة موضوع الرمز، في عنصرين أو شكلين أو مضمونين، يتفاعلان مع بعضهما، أو يربط بينهما المُشاهد بما يُتمم المعنى الرمزي. وهذان العنصران قد يوجدان بأحد شكلين، هما:
(أ) أن يكونا موجودين معا، في الوقت نفسه، داخل اللقطة الواحدة كعنصرين مرئيين، أو أحدهما مرئيا والآخر مسموعاً، وذلك كما لو كان أحد العنصرين مُمثلاً في إحدى الشخصيات، والعنصر الآخر ممثلاً في جزء من الديكور، أو قطعة إكسسوار. مثل فيلم "القاهرة 30"، في لقطة تضم شخصية وقطعة إكسسوار، هي عبارة عن رأس ذي قرنين. وهنا نجد أن العنصرين ممثلين في شخصيتين متماثلتين، أو مختلفتين، أو أن أحد العنصرين ممثلاً في فعل ما تقوم به إحدى الشخصيات، والعنصر الآخر ممثلاً فيما نسمعه من حوار، أو أصوات في خلفية الصورة أو من خارجها، وهكذا.
(ب) أما الصورة الأخرى لوجود العنصرين، فإنها تعني، في الحقيقة، وجود عنصر واحد مرئي أو مسموع في لحظة معينة، بينما يستحضر المشاهد في ذهنه العنصر الآخر، مما سبق أن شاهده في سياق الفيلم، من المعنى العام للفيلم أو القضية التي يطرحها؛ أو أن يرتبط العنصر المضمّن في اللقطة ارتباطاً رمزياً بمعنى من الحياة، أو الحضارة الإنسانية، أو بثقافة معينة، أو إيديولوجية محدّدة.
(2) أنواع المعنى الرمزي:
ينتج المعنى الرمزي في اللقطة، أو الوحدة، نتيجة لتفاعل عنصريهما، سواء بالتشابه (التماثل)، أو بالتناقض (المفارقة)، وذلك بأن يربط المشاهد بينهما فيدرك الرمز الكامن في الصورة. وإدراك المُشاهد لهذا المعنى يتوقف على درجة التّصور، أو الذكاء، أو على المستوى الفكري والخبرة. والرمز مثله مثل الاستعارة الرّمزية، يمكن تقسيمه إلى ثلاثة أقسام، هي:
(أ) الرمز التشكيلي:
وهو الرمز الذي ينتج من التماثل، أو التناقض الشكلي، بين عنصرين في الصورة، أو بين عنصر موجود فيها، بينما يستحضر ذهن المشاهد العنصر الآخر. بمعنى أن تحتوي اللقطة، أو المشهد، على تكوين أو تشكيل لشيء ما أو حركة، فيرتبط ذلك بتكوين أو شكل لعنصر آخر موجود في الصورة نفسها. فيوحي هذا الارتباط بمعنى رمزي معين، أو أن يُذكّر تكوين أو شكل العنصر الموجود في الصورة، بتكوين أو شكل عنصر آخر سبق وروده في السياق الروائي، أو يتعلق بخبرتنا في الحياة، أو يوحي بمعنى رمزي أعمق من المعنى البسيط الماثل في الصورة.
ويورد مارسيل مارتن، في كتابه "اللغة السينمائية"، مثالا من فيلم "السيمفونية" فيقول:
ترمز الأوراق، التي تتطاير في جميع الاتجاهات، عندما يفتح القس الباب الخاص بمكتبه، إلى هروب الفتاة، وفي الوقت نفسه إلى المفاجأة القلقة، التي أصابت الرجل. وإضافة إلى مثال مارتن، فإن الأمثلة التفصيلية الآتية تساعد على توضيح أكثر، لما يعنيه الرمز التشكيلي:
ففي فيلم بعنوان " المبعوث المنشورى"، يقدم المخرج جون فرانكهمير مشهداً يظهر فيه لورانس هارفي، الذي تعرض لعملية غسيل مخ من الشيوعيين، عندما كان أسيراً لديهم أثناء الحرب الكورية. ويُقدم هارفي على قتل والد زوجته، صاحب النشاط السياسي، تنفيذاً لتعليمات من الشيوعيين صدرت إلى هارفي عن طريق أحد عملائهم بأمريكا. ويتقدم هارفي نحو الضحية حاملاً مسدسه، وهو يبدو في حالة أقرب إلى النوم مغناطيسياً. ويصدف أن يكون الضحية قادماً من المطبخ، وهو يحمل إناء كرتونياً مُحكماً مليئاً باللبن، قد استخرجه لتوه من الثلاجة. ويفاجأ بنية هارفي قتله، فيرفع زراعية في سرعة وكأنه يحاول تحاشى الرصاصات الموجهة إليه، لكن الرصاصات تصيبه وتنفذ إحداها إلى جسده، بعد أن تخترق إناء اللبن الكرتوني. وعندما يسقط القتيل، وفي يده الإِناء المحكم إلاّ من ثقب الرصاصة، فيبدأ اللبن في الانسياب على الأرض بجوار الجثة بدلاً من الدم. ويكون لشكل انسياب اللبن معناه الرمزي، الذي يجسد بشاعة الجريمة، وضحيتها البريئة.
ومن الفيلم نفسه، يقدم فرانكتهيمر في لقطة أخرى توظيفاً رمزياً آخر، عندما يحاول تأكيد صفة الدَّجل السّياسي لإحدى شخصيات الفيلم. فيعكس صورته في لحظة اندماجه في ممارسته للدجل السياسي، على السطح الزجاجي اللامع لإطار صورة كبيرة للزعيم الأمريكي إبراهام لينكولن، وهي معلقة على الحائط. وينتج الرمز التشكيلي، ليُبرز التناقض الواضح بين صورة ذلك الدجال، مع صورة الشخصية الوطنية لإبراهام لنكولن.
ومن فيلم " بيتى ديفيز" اخراج روبرت الدريتش، يُرى ختام مشهد يصور سيطرة وكراهية ديفنز (الاخت الكبرى)، لجون كرافورد (الاخت الصغرى) .. المصابة بالشلل، وهي تمثل لأُختها الكبرى عنصر مرارة، نتيجة لامتيازها وتفوقها عليها في سنوات الطفولة والشباب. وعلى ذلك فعندما تصاب جون بالشلل، ولا تستطيع الحركة إلا على دراجة المعوقين، فان بيتى ديفنز تمارس تجاهها سلسلة من الإذلال النفسي لتُنفس به عن مكبوتات الماضي. وفي المشهد الذي يُقدم في ذروة الأحداث، يُصعد المخرج ذلك المعنى إلى قمته، عندما تتحرك بيتى ديفنز، أمام أختها في خيلاء، لتنظر من شباك الحجرة المُغطى بأعمدة حديدية، وتنسحب الكاميرا أمام حركتها حتى تحتوي أعمدة الشِّباك في مقدمة الصورة، بتشكيل يجعلها تبدو أشبه بقضبان السِّجن، بينما تقف ديفنز قريبة من الشباك وهي تملأ الصورة. وتبدو جون كرافورد في خلفية ضئيلة لا حول لها ولا قوة، إزاء قسوة أختها.
والصورة بهذا التكوين، قُصد بها أن تصبح تجسيداً رمزياً للسّجن النفسي، الذي تعانيه جون كرافورد من أختها، التي نصّبت من نفسها سجّانة عليها.
(ب) الرّمز الدرامي:
إِن أهم ما يميّز الرمز الدرامي عن الرمز التشكيلي، هو أنه يلعب دوراً رئيسياً في تطور الحدث الدرامي وتفسيره. فإذا كان الرمز التشكيلي يعمل على المعنى وتعميقه بشكل رمزي، فإن الرمز الدرامي ينقل إلى المشاهد، أو يشرح له، معنى ما يُفسر الموقف، أو يدفع الحدث إلى الأمام، أو يوحى بما قد يحدث مستقبلاً.
ومن أمثلة ذلك:
في فيلم "مكان للعشاق" إِخراج فيتورى دى سيكا، وبطولة فاي دوناواي ومارسيللو ماستروياني، تظهر البطلة الخائفة من إجراء عملية جراحية خطيرة، نتيجتها غير مضمونة، وإن كانت قد تُنقذها من موت مؤكد، إذا كُللت بالنجاح. وفي مشهد حاسم نرى فاي تقف مع ماستروياني، الذي أصبحت تحبه من أعماقها، بأعلى جبل، في لحظة من لحظات خوفها من الموت، الذي يتهددها باختطافها من أيام السعادة، التي تعيشها مع ماسترويانى، وتبدو وهي في قمة تعلقها وتمسكها بالحياة من أجل حُبها، وتنظر فأي حولها نحو الزهور، التي تُغطى المنطقة، وتلمح لافتة مثبتة بجوار الزهور، وقد كتب عليها كلمات باللغة الإيطالية، التي يتقنها ماسترويانى بينما هي لا تعرفها. فتسأله عن معناها، فيترجمها ماستروياني بأنها تعني تحريم قطف الزهور من المنطقة. ومع ختام كلماته تُفاجأ فأي حين ينحني ماستروياني في سرعة لقطف الزهور، فتشعر بخوف مباغت، وهي تتابعه وتحاول منعه من قطفها بصرخة مكتومة سريعة، لكن صرختها تجئ متأخرة، عندما يكون ماستروياني قد اقتطف الزهور فعلاً، ووضعها في يدها. وتنظر إلى الزهور في يدها، وتتأملها في خوف، وقد اكتسى وجهها بمسحة يأس وألم.
والرمز هنا يوحى ويفسر حالة فاي دوناواي من حيث تجسيد مخاوفها من الموت، وشدة تعلقها بالحياة، وحبها لماسترويانى، ثم شعورها بتغليب احتمال موتها على استمرار حياتها.
ومن فيلم "الفهد"، إِخراج فيسكونتي وتمثيل بيرت لانكستر، نرى مشهداً ختامياً للفيلم وقد بدأ فيه بيرت لانكستر، أمير صقلية، وهو يعاني من آلام نفسية كبيرة على الرغم مما يعيش فيه من رغد مادي. ثم يتوجه عقب حفل كبير في قصره ـ استمر حتى مطلع الفجر ـ إلى خارج القصر شارداً حتى يقف أمام كنيسة تقع في زقاق ضيق من منطقة فقيرة، ويركع أمام بابها يطلب الرحمة من ربه، ويسأله أن يأخذه من هذه الدنيا ومظاهرها ليشعر بالراحة جواره، ثم ينهض من صلاته، ويسير مبتعداً في بطء وانكسار إلى الناحية البعيدة من الزقاق، التي تتدرج في ظلام شديد. ومع ابتعاده التدريجي من تلك المنطقة المظلمة، يُرى وهو يختفي شيئا فشيئاً، حتى لا يبقى ظاهراً منه إلاّ ياقة قميصه المرتفعة حول رقبته، التي سرعان ما تختفي هي الأخرى، كما لو كانت ضوءاً يُعبّر عن الأثر الأخير للأمير.
ويتمثل الرمز هنا في تأكيد آلام الأمير، والتنبؤ بتعاسة مستقبله، الذي يبدو غامضاً مبهماً.
(ج) الرمز الأيديولوجي:
يُعبّر الرمز الأيديولوجي عن معاني، أكثر عمقاً، حيث تبرز أساساً وجهة نظر السينمائي، إزاء معنى إنساني أو خلقي. كما تتصف بنظرة شمولية تتعلق بالحياة عموماً، أو بمعنى له دلالة في الخبرة الإِنسانية.
ومثل هذا المستوى من الرمزية قد لا يُدركه بعض المشاهدين أو أكثرهم بسهولة، نظراً لأن إدراكه قد يتطلب حداً أدنى من الثقافة أو الخبرة، ذات الطابع الخاص.
ومن الاستخدامات في هذا المجال، الأمثلة الآتية:
في فيلم "يوم طفت الأسماك"، إخراج "مايكل كاكويانسى"، نلاحظ تأكيد كاكويانسى لخطر التهديد الذرى للبشرية في عدد من المشاهد. فمن ذلك محاولة الراعي فتح الصندوق المحتوى على شحنة المتفجرات الذرية، الذي كان قد عثر عليه، واعتقد أنه يحتوى شيئاً ثميناً. وفي هذه المشاهد، التي يحاول فيها الراعي فتح الصندوق، تُرى في خلفية الصورة طفلة الراعي وهي تلعب تارة في براءة، تبكى تارة أخرى، وكأن كوكايانسي يشير إلى الخطر الذي يهدد مستقبل البشرية.
ومن فيلم "المبعوث المنشوري"، أو "المرشح المنشوري" مثالان يعكسان توظيفاً جيداً للرمز الإيديولوجي.
ففي المثال الأول يُرى مشهد يُجرى فيه اختبار أخير من الشيوعيين، على بعض الأسرى الأمريكيين الذين مروا بعملية غسيل مخ للتأكد من فعاليتها، قبل تسليمهم كأسرى، وتمهيداً لتوظيفهم في مهام اغتيال سياسي عند عودتهم لأمريكا. وفي المشهد يُصدر المشرف على عملية غسيل المخ لهؤلاء الأسرى، توجيهاته إلى أحدهم كي يأخذ مسدساً من زميل له، ثم يقتل به زميلاً ثالثاً. ويُنفذ الأسير التوجيهات بدقة، كما لو كان منوماً مغناطيسياً، وفي لحظة إطلاقه النار نحو رأس زميله، ينفجر الدم في قطرات سريعة تتناثر إلى أعلى نحو الحائط القريب، لتستقر على صورة معلقة عليه، تتكشف عن صورة ستالين. والرمز الأيديولوجي هنا يبدو وكأنه إدانة دامغة للنظام الشيوعي، ممثلاً في ستالين كمسؤول رئيسي.
أما المثال الثاني، فمن الفيلم نفسه، ويصور أحد معاهد المزايدات الحزبية في أمريكا، حيث يُرى حفل سياسي يبدأ بمنظر كبير لتورتة تملأ الصورة، وقد صمم سطحها على كل علم الولايات المتحدة. ثم تدخل يد الشخصية السياسية المحتفي بها، وهي تحمل سكينا تندفع به في الصورة وتهوى بها في منتصف التورتة تقسمها إلى قسمين، على نحو يشبه عملية الذبح، أكثر من أنه قطع التورتة، إيذانا ببدء الحفل. ثم يتضح المعنى الرمزي، عندما يُفتتح المنظر في لحظة قطع التورتة، ويُرى أنّ قاطع التورتة هو إحدى الشخصيات، التي قُدمت في الفيلم من قبل، كرجل سياسي وانتهازي كبير.
وفي فيلم "الحرام" إخراج بركات، تتابع الكاميرا طابوراً من عمال التراحيل، وهم يسيرون على الضفة البعيدة لإحدى الترع، في استسلام كامل، بينما توحي مسيرتهم بالبؤس والضياع وهم مساقون نحو مكان العمل. ومع متابعة الكاميرا لهم يظهر بالتدريج في مقدمة الصورة، طابوراً من الجاموس يسير في الاتجاه نفسه، وإيقاع الحركة نفسها، التي يسير بها طابور عمال التراحيل.
ويقدم مارسيل مارتن، في كتاب اللغة السينمائية، رمزاً أيديولوجياً في فيلم الروسي "الأرض"، من إخراج دوف ينكو، فيقول:
"وفي اللحظة، التي تتقدم فيها جنازة سائق الجرار الشاب الذي قتله أعداء الثورة، نحو الجبّانة، تنتاب آلام المخاض امرأة عند مرور الجنازة، وهي تعني هنا أن الحياة تولد من الموت بلا توقف. ويسترسل مارتن معلقاً بأن هذه اللفتة، كثيرة الظهور في السينما الروسية. فالرجال يختفون في المعركة الثورية، ولكن رجالاً آخرين يولدون دائماً، ليكون عليهم أن يجهّزوا حصاد المستقبل".
وعلى سبيل المثال أيضاً ينتهي: "فيلم المحادثة"، إخراج فرنسيس فورد كوبولا، بمشهد بليغ، حيث يوظف الرمز أيديولوجياً ودرامياً وتشكيلياً في وقت واحد، عندما يشعر بطل الفيلم، الخبير البارز في مجال التصنت، والمعتمد على قمة ما توصل إليه العقل البشرى في هذا المجال، أنه هو نفسه قد وقع فريسة لعملية تصنت من آخرين. ويحاول عبثا اكتشاف بؤرة التصنت في منزله، وتتدرج محاولته من البحث الهادئ، إلى البحث بطريقة عصبية تجعله ينتزع أجزاء كثيرة من مسكنه، حتى يُصبح كل ما به حطام، دون العثور على بؤرة التصنت.
والرمز هنا، بجانب كونه درامياً، يعتمد على التشكيل الموجود في الصورة. فهو فوق ذلك، وفي مستوى أعمق، يبدو كرمز أيديولوجي يقول كلمته لما يتفق مع العقل الإنساني من مخترعات، تُوظف في غير صالح البشرية وبأساليب غير أخلاقية، فتصبح في النهاية وبالاً عليه.
(3) حدود أو استخدام توظيف الرمز:
عموما ينبغي النظر جيداً إلى حدود الاستخدام الرمزي، حتى لا تنقلب محاولة توظيفه إلى نوع من الغموض أو الإبهام، أو يُصبح رمزاً بعيداً عن إدراك المشاهد. ويقول مارسيل مارتن في هذا المجال:
"الواقع أن عدداً من الأفلام النادرة حقاً، تُظهر قالباً عجيباً للقيم، وجهلاً بجوهر السينما. فهذه الأفلام تحول مظهر الحدث الدرامي، الواضح وضوحاً مباشراً (أول درجة في وضوح الفيلم، أي البعد الأول) إلى دعامة بسيطة، موجودة بافتعال، هدفها إبراز معنى رمزي (الدرجة الثانية في الوضوح، أي البعد الثاني)، يأخذ المكان الأول في الأهمية. والواقع أن هذه الأفلام تقلب بذلك القاعدة الفنية السينمائية، التي تتطلب أن تكون الصورة أولاً كتلة من الواقع، ذات معنى مباشر، ثم يُمكن بعد ذلك، وبشكل إضافي واختياري، أن تكون الصورة وسيطاً لمعنى أعمق وأعم. وتتعرض هذه الأفلام، نتيجة لذلك، إلى مخاطر متنوعة، ليس أقلها أن يُصبح الحدث مفتعلاً، وغير قابل للتصديق".
المبحث العشرون
"المساحة ـ الصورة ـ الديكور ـ الممثل ـ الحوار"
في لغة السينما
أولاً: المساحة
إذا كان لابد من النظر إلى شريط "السيلولويد"، ونحن نجهل تماماً أية حقائق أخرى مرتبطة بالأفلام السينمائية، فسوف نجد أن له طولاً محدداً. وقد نفكر في حل بكرات الفيلم، ونشر لغة السيلولويد لمسافة ميل ونصف على إحدى الطرق. ومن هذا نشتق مفهوم المساحة، فمن خلال هذا الطول المحدد، علينا أن نروى قصة الفيلم السينمائي. وقد نفكر في صعود وهبوط الطريق، ووضع مشاهدنا وأحداثنا وذروتنا وحلنا.
فكلمة "المساحة" تُعد مناسبة للفيلم السينمائي، لأنه يمكن، بالفعل، قياس طوله بعصا القياس. ولا تعرف الرواية مفهوم المساحة بهذا المعنى، فهي يمكن أن تروى قصتها بأقل تحديد مادي. فالمؤلف يمكن أن ينهي عمله، عندما يشعر أنه قال ما يريد بأفضل طريقة ممكنة. ولكن المسرح يدرك التقيد، الذي تفرضه المساحة على القصة، لأن للمسرح وقتاً محدداً للعرض.
وباستثناء قليل من العروض السينمائية المطولة، التي يتخللها استراحة، فإن شكل الفيلم السينمائي يتحدد بمتوسط طولي، يتراوح بين 7000 - 10000 قدم من الفيلم الخام، ويستغرق عرضه من 80 - 120 دقيقة. ويمثل ذلك أعظم الاختلاف، نسبة لما تسمح به الأزمنة الضيقة في التليفزيون (30، 60، 90،120 دقيقة، وحصص أقل للإعلانات)، فإن تحديد المساحة في الأفلام السينمائية، يؤثر على المظاهر الإِبداعية بشتى الطرق.
وسواء أكانت القصة قصيرة أم طويلة، وسواء كانت الرغبة في التوقف قبل النهاية أم يعدها، فلا تُمكن ملاءمة طول الفيلم السينمائي بطول القصة، ولكن يجب ملاءمة طول القصة مع المساحة المتاحة. ولذلك تصبح المساحة هي العامل الأول، الذي يحدد الاختيار لمادة القصة.
وأكثر من ذلك، تفرض المساحة أحد المتطلبات الأساسية للأفلام السينمائية، وهي الإيجاز في سرد القصة. فلا يهم مدى استعداد المنتج للإنفاق على الإنتاج مادام كتابه مضطرين إلى الاقتصاد في الكلمات، لأن المساحة المسموحة لهم تظل محدودة. قد يفكرون في ديكورات باهظة التكاليف، ولكن يجب أن تظل كتاباتهم موجزة، لأن الحدود الزمنية ليست ممكنة مثل التكاليف.
ولذلك يصبح على الكاتب أن يخطط مساحته، التي تبلغ ميلاً ونصفاً أو ميلين، بطريقة هي غاية في الحرص. وكلما كان مضطراً لأن يروي، كان أكثر إسرافاً في استخدام المساحة، التي يجب أن يكمل قصته من خلالها.
ولا يختص مفهوم المساحة بالسيناريو فقط، ولكنه يؤثر أيضاً في المُشاهد. فبالضرورة يجب عرض الفيلم كله في جلسة واحدة لا تتجزأ، فلا يستطيع المُشاهد أن يتوقف للراحة. لذلك ينبغي أن تكون القصة بشكل لا يتعبه، مع حتمية عرضها كلها. ويستطيع المشاهد التفكير ملياً في بعض الأجزاء الغامضة؛ فالقصة تتوالى، و لكن ليس في مقدوره أن يعيد مشاهدة أجزاء معينة، عسيرة الفهم.
ثانياً: الصورة:
كان الفيلم الصامت في البداية، يتكون من شريط "سيلولويد" يجرى تسجيل الصورة عليه. وعند اختراع الفيلم الناطق، أضيف شريط ثان يجرى متوازياً مع الشريط الأول، هو مسجل صوت، حيث يرويان معاً القصة، كما يحتويان معاً على وسائل التعبير.
وكان من المفيد اختراع الفيلم الصامت، قبل الفيلم الناطق. ذلك أن استمرار صناعة السينما دون صوت، جعلتها تستمر دون مساعدة من الحوار. وبمساعدة بعض الإيضاحات، استطاعت السينما في الماضي جعل القصة واضحة بشكل صامت. ومن ثم فإن وسائل التعبير، التي يتضمنها شريط الفيلم، تُعد كافية للتعبير عن القصة. وهذا هو أكثر ما يثير الدهشة، لأنه لا مجال للتفكير في فهم مسرحية على خشبة المسرح، دون حوار.
وفي ميدان الفيلم الصامت تسجل الكاميرا الديكورات والإكسسوارات والأشياء والممثلين، وفي الإمكان رؤية هذه العناصر بطرق إضاءة مختلفة. وباستثناء بعض العناوين، فإن الفيلم الصامت لا يملك وسائل أخرى للتعبير، لذلك كان في مقدور هذه العناصر الكشف عن المعلومات الكافية.
وتوجد العناصر نفسها في الرواية وفي المسرحية على المسرح، ولكن ليس في مقدورها الكشف عن المعلومات الكافية، ويرجع ذلك إلى أنه لا يمكن تقديم الرواية بشكل مرئي، أما في المسرح، فإن كمية هذه العناصر أقل منها في الفيلم السينمائي.
ثالثاً: الديكور:
يعني "الديكور" في السينما كل أنواع المُحيطات أو الخلفيات، فيمكن أن يكون حجرة معيشة، أو سلسة جبال، أو مساحات مفتوحة شاسعة.
وتنتج أهمية الديكور من علاقته بالموقع، أو المكان. ويمكن أن يكشف الديكور عن غابة أو مكتبة أو حجرة نوم، لذلك يجب أن يُعطي عدداً من الحقائق المهمة. وأكثر من ذلك، يمكن أن يكون حجرة معيشة فاخرة، أو بسيطة، قبيحة أو جميلة، قديمة الطراز أو حديثة، فيكشف عن الثراء أو الذوق، وحتى عن الفترة التي تتحدث عنها.
رابعاً: الأكسسوار:
قد تكون قطعة الأكسسوار جزءاً من الديكور، أو جزءاً من الممثل، وفي الحالتين فهي تكشف عن الطابع. فإذا رأينا سلالاً بها خضراوات، يكون طابع الديكور هو السوق، وإذا رأينا ثياب نساء معلقة في واجهة أحد المحلات، يأخذ الموقع طابع محل للثياب النسائية، ويمكن لنوع الثياب أن تحدد المحل: "هل هو مخصص للشباب أم لأناس يتسمون بالرزانة".
وهناك إكسسوارات مرتبطة بأحداث معينة، فلو رأيت رجلاً يحمل كرة التنس، فإنه يأخذ سمات لاعب التنس. ومن المغرى إن نقول أن الاكسسوارات تأخذ في الفيلم السينمائي مكان الصفة في الرواية، فقد يقول الروائى "امرأة أنيقة" وقد يعرضها كاتب السيناريو في معطف من فراء، وقد يقول الروائي "حجرة غير منسقة"، وقد يعرض كاتب السيناريو عُلباً فارغة على الأرض.
خامساً: الشيء:
لا يمكن تحديد الفرق بين "الشيء" و"الإكسسوارات" بشكل قاطع، فكلاهما جماد، ولكن نستطيع أن نقول إِنّ الشيء في إمكانه أن يتحرك، ونستطيع أن نعد سيارة، أو طائرة، أو مركباً، أو حتى سحابة ممطرة، شيئاً قابلاً للحركة، وهذه الحيوية مهمة، فيكفي أن ترى كيف يتناول رجل مسدساً من درج مكتبه، لكي تُدرك نيته على القتل.
سادساً: الممثل:
قد تكشف ملامح الممثل عن السّمات الشخصية للدور الذي يؤديه. إذ فقد يُشبه أحد الممثلين شخصاً شريراً أو طيباً أو مثقفاً أو أبلهاً، وأبعد من هذه السمات الشخصية الدائمة، يستطيع الممثل أن يعبر عن الحالات النفسية الوقتية والمتغيرة، مثل الغضب أو الألم أو الاستسلام أو الخضوع أو الحب أو الغيرة أو التعب. وهذه التعبيرات تجعل المشاهد أحياناً يفهم الحدث الذي وقع من قبل، أو الذي هو بصدد فعله.
وقد تكون هذه التغيرات كافية أحياناً لتعرض رد فعل الشخصية. فلقطة كبيرة لرجل يرى غريمة يقبل البطلة، تُعد كافية لعرض صراع درامي مهم، فإذا ما تحول تعبيره عن الألم إلى استسلام، نعلم عندئذ أنه ينوى ترك المرأة، وإذا تحول إلى غيرة، نعلم عندئذ أنه ينوى القتال من أجلها.
وعلى الرغم من أن ثياب الممثل قد تُعد اكسسواراً، إلاّ أنها تضيف كثيراً إلى رسم الشخصية، حين ترد المعلومات من خلال هذه الثياب. فقد يكون الثوب باهظ الثمن، أو ثوب رياضة أو ثوب عُمال، أو ثياباً تختص بزمن خاص، حيث تخبر بالحدث بشكل متكامل.
سابعاً: الحوار:
أصبح الفيلم مساوياً للمسرحية، التي تعرض على خشبه المسرح، عندما توفرت القدرة للممثل على الكلام. ولكن الحوار في الفيلم له دور مختلف، وقيم مختلفة تماماً، مثل الديكور والإكسسوارات والشيء وتعبير الممثل، إذ لهم خواص مختلفة في سرد مجمل أحداث الفيلم. ذلك أن المشاهد يمكنه قراءة حوار أية مسرحية تعرض على المسرح، واستيعاب الحدث كله دون مزيد من الشرح، ولكنه لا يستطيع أن يقصر نفسه على قراءة حوار أحد السيناريوهات، إذا كان يريد أن يستوعب الأحداث. فالاختلاف أن الحوار في المسرح يُعد الوسيلة الأساسية للتعبير، بينما هو في الفيلم يشارك كمصدر للمعلومات، مع العناصر الأخرى.
وفي الحياة الحقيقية الناس يتحدثون، ولذلك يجب أن يتحدثوا في الأفلام السينمائية، ويصبح من غير المقبول أن نحتقر فائدة الحوار، ولكن يجب أن نضعه في مكانه المناسب داخل الإطار الكلي. ويجب أن ندرك أن الحوار، إلى حد بعيد، أسهل وسيلة لعرض الحقائق، وكذلك أبسط مصدر للمعلومات بالنسبة للكاتب. وعلى الرغم من أن الحوار هو أسهل طريقة لدى الكاتب لتوصيل الحقائق، فهو ليس أسهل طريقة للمشاهد لتلقيها. فالكلمة المنطوقة صعبة الاستيعاب، إذ سرعان ما تتبدد قوة التركيز. والحوار أكثر تشويقاً من الخطبة الطويلة، ومع ذلك فإن قدرتنا على استيعابه محدودة، وعلى الرغم من كونه متنفساً مغرياً للمعلومات بالنسبة للكاتب، فهو أيضاً خطير، لأن المشاهد قد يعتريه التعب، وعندئذ يرفض الفهم.
ولا يحتمل الفيلم الواحد سوى نحو ألف من الكلمات، فمن غرابة العقل الإنساني أن يصبح مفتوناً بالمؤثرات البصرية، في الوقت الذي يعتريه التعب بسهولة من الإنصات. فتكاد أن يكون للتأثيرات، التي نحصل عليها عن طريق العين مثل قوة التنويم المغناطيسي علينا. فمن السهل لآي متفرج أن يغادر أثناء إحدى الخطب، وفي إمكانه أن يترك عرضاً مسرحياً، ولكن من الصعب أن تشده إلى خارج دار عرض، حتى ولو كان الفيلم بشعاً.
ولهذا السبب فإن من الحكمة بالنسبة للكاتب، أن يعتمد من المصادر البصرية للمعلومات، أكثر من إعتماده على الحوار. فالكاتب الذي يريد أن يتعلم كيف يستخدم الحوار في الفيلم السينمائي، عليه أن يحاول أن يجعل قصته مفهومة دون الكلمات المنطوقة. وسوف يتعلم بهذه الطريقة كيف يستخدم وسائل التعبير الأخرى، إلى أقصى حدودها. ويستطيع، فيما بعد، أن يضع هذه القاعدة بنفسه باستخدام الحوار عند استنفاذ كل وسائل التعبير الأخرى، ويجب أن يكون الحوار هو المصدر الأخير، وعندئذ سيكون في مكانه الصحيح، وأكثر من ذلك فهناك اعتبار عملي يفرض استخدام أقصى الإيجاز في الحوار، حتى لا يشعر المشاهد بالملل.
المبحث الحادي والعشرون
التشكيل المرئي
أولاً: الضوء:
ينبغي على كاتب السيناريو أن يطرح قضية الضوء، واللون وما يتصل بهما، ليس فقط من أجل تناغمها التشكيلي، ولكن ليجعل منها عنصر دلالة يخدم الشكل العام. فالإضاءة تُخبر إِنّ كان الوقت فجراً، أو نهاراً، أو غروباً، أو ليلاً، كما يمكن لها أن تُبرز أشخاصاً ذوى أهمية، أو أشياء أو إكسسورات، أو تعرضهم بشكل معتم، أو تحت الضوء الساطع، أو في الظل. وقد يشير أي تغير في الإضاءة إلى فتح باب أو نافذة، أو أن مصباحاً قد أُضئ، أو إلى كشافات سيارة تقترب. فالإضاءة على درجة كبيرة من الأهمية، في نقل الحالة النفسية للفيلم، ولكنها قد تكشف فقط عن عملية محدودة، من المعلومات القصصية المباشرة.
ثانياً: الكتابة:
إن تنظيم المجال، وتوزيع الخطوط والكتل، وبناء مختلف لقطات عمق المجال، كل هذا يبدو من شأن التقطيع والتصوير، طالما أنه لا يتم إِلاّ في وقت تشكيل الصورة. والأمر لا يُعني أبداً بتقديم تحديدات تقنية حول العدسة، التي ينبغي استخدامها، والزاوية، التي يجب اتخاذها والحركة، التي يجب القيام بها، لأن هذا كله يتجاوز مهمة السيناريو. ولكن الأمر يَعني هنا التحضير والتوجيه والإشارة. والسيناريو ملزم بالإفصاح عن قصد محدد، سوف يجسّده التقطيع بشكل مرئي، ثم يتولى التصوير تحقيقه عملياً. وماذا لم يقم السيناريو بهذا، فإن التقطيع قد يتم بحكم العادة، وتبعاً للضرورات التقنية، وليس تبعاً للبحث عن معنى محدد والإفصاح عنه.
1. كتابة الخطوط:
من المهم لكاتب السيناريو أن يختار نمط الكتابة، واكتشاف الأشياء، التي تساعده في تسجيلها على الشاشة. كما تُبنى الصورة، التي رسمت الكتابة خطوطها، انطلاقا من خطوط عمودية وأفقية، وعلى هذه الخلفية الهندسية الثابتة تمر الانفعالات الإنسانية، وكذلك الانفعالات الفوضوية لدى الشخصيات، حيث الخطوط المائلة والمنحنيات والخطوط الحلزونية، التي سبق الإشارة إليها في فصل سابق.
2. عمق المجال:
وهو يعني هل الصورة مغلقة؟ أم تنقسم الشخصية فوق عمق يُظهر المناظر البعيدة؟ وهل تسد السِّتارة النافذة؟ وهل تطل النافذة على جدار، أم أن النّظر يسرح بعيداً نحو الأعماق؟
وبما أن كاتب السيناريو يعمل من أجل الصورة، فعليه أن يهتم بتشكيلها: ضوء، وألوان، وأشكال، خطوط منظورة. لكن هذا التشكيل ليس إلا تصويراً، لأنه لا يمس إلا شكل الصورة الثابت، وكاتب السيناريو لا يعمل من أجل الصورة الثابتة، بل من أجل الصورة المتحركة، وهذا يقود إلى سلسلة من الأفكار التي تتركز حول الحركات.
ثالثاً: الحركات:
1. حركات المجال:
من المُلاحظ أن اللقطة الثابتة، أو المتحركة، ولِدّت أعمالا سيئة، كما ولدت أعمالا عظيمة. وما يبدو مؤكداً أيضاً، هو أن اللقطة الثابتة أو المتحركة، لا ترتبطان بصيغة محددة.
وسواء ثُبّتت الكاميرا أو تحركت، فهي لا تفعل ذلك إلاّ إذا كانت تسعى، من وراء الثبات أو الحركة إلى ترجمة قصد محدد، ومعياره الثبات أو الحركة. كذلك لا ينبغي أن يكون ما يُراد سرده هو الذي يقرر التقطيع، بل الطريقة التي تُسرد من خلالها وجهة النظر، أو طريقة الاستماع التي تُراد عبر السرد، هي التي تقرر ذلك.
2. الحركات في المجال:
تدخل الشخصيات في المجال وتخرج منه، وتنتقل بين أطراف الإطار بشكل أفقي وعمودي ومائل. وترسم مساراتهم في داخل الصورة، خطوطاً وهمية، لكنها ذات دلالة عالية. كما أن الطريقة، التي تُصور بها الكاميرا حركة الممثل في داخل المجال، تشكل أحد الثوابت السينمائية الأساسية، التي تتمثل في الآتي:
أ. الدخول في المجال والخروج منه: كيف يدخل الممثل إلى المجال؟ وكيف يتم الدخول أو الخروج من مجال يقع على حافة الإطار؟ وكيف يتم ذلك في الحواف العمودية؟ والأفقية؟ ومن الأسفل والأعلى؟.
ب. الانتقالات التي تتم في المجال: كيف يُنظّم ثبات حركة الشخصية حينما تدخل في المجال؟ نظراً لعدم وجود أي قانون، ولأن الثبات مثله مثل الحركة، من شأنه الدّلالة على القوة، مثلما يدلان على العجز، بل وعلى القوة والعجز معاً. فهذه الحركات التلاعب بها، لا يجري ابتكارها أثناء التقطيع ولا التصوير، لذلك، فعلى كاتب السيناريو أن يتخيلها، أو على الأقل، أن يلمح إليها لكي يتم إنتاجها.
ج. حركة المجال والحركة بداخله: تقدم للسينمائي لوحة غنية جداً، إلى حدٍ قد يُؤدي معها إلى بعض مشاكل الكتابة، التي يتوجب على الكاتب أن يفكر في إيجاد الحلول لها أولاً، قبل أن يستخدمها. فبناء الإطار وإيجاد الزوايا، أي الكتابة التصويرية للصورة، تقدم إمكانيات كبيرة لترجمة هذا المُعطى الأساسي، والمرهق جداً للعلاقات الإنسانية. وخلال هذه الُلعبة القائمة، بين حركة الشخصية وحركة الكاميرا، تُقال أشياء كثيرة مُوحية، فهناك شخصيات لا تنفذ أبداً إلى المجال، وعلى الكاميرا أن تذهب للبحث عنهم، وقد يكون في ذلك تذكير بقوتهم أو ضعفهم. وهناك شخصيات لا تغادر المجال أبداً، فإما أن تكون الكاميرا خاضعة لإرادتهم، أو أنها تطاردهم. وهذه اللعبة بين حركة الكاميرا وحركة الشخصية، تكتسب معناها ـ بداهة ـ، من المقارنة بالألعاب الأخرى، التي تقيمها الكاميرا مع الشخصيات الأخرى، كما أن هذه اللعبة يمكن أن تتنوع عبر الزمن خلال الرواية (الحكاية)، لتراقب تطور الشخصية نفسها.
3. الحركات داخل الزمن (مدة اللقطات):
تعني الحركات داخل الزمن مدة اللقطات، وكذلك العلاقات الجمالية العامة، التي تقيمها هذه اللقطات مع الزمن. وبعض السينمائيين [1] يمدون لقطاتهم حتى حدود الإمكانيات التقنية للكاميرا. وفي المقابل، هناك أشكال Modes جديدة ترى أن اللقطة، التي تزيد مدتها عن ثلاث دقائق، هي لقطة ثقيلة.
بين هذين الطرفين، ينبغي أن يُحدد طول اللقطة. لكن ينبغي عدم الاعتقاد بأن ما يقرر طول اللقطة هو الفعل Action ، الذي عليها أن تسرده. وليس واجب سرد حدث معين، أو فعل معين، هو الذي يقرر الشكل السردي، بل على العكس، فإن الخيارات الجمالية السردية والشكل السردي، هي التي تقرر الطريقة التي سيُسرد الفعل بها، ومن بين هذه الخيارات، يوجد خيار واحد من أكثرها أهمية بالنسبة للإيقاع العام، وهو اختيار جمالية مدة اللقطات.
وكذلك ينبغي تجنب الاعتقاد بأن اللقطات الطويلة، تولّد بالضرورة إيقاعاً بطيئاً وأن القصيرة تولد إيقاعاً سريعاً. فمدة اللقطة هي التي تتواكب مع الحركات التي تصيبها، والفعل الذي يجرى فيها.
4. الحركة الناتجة عن التقطيع ـ التوليف:
هذه المسألة تتركز على البناء الفيلمي، بين المراحل وفي داخلها. ويمكن صياغة المسألة ببساطة من خلال هذا التساؤل: هل يجب أن يكون التقطيع مرئياً؟ أم يفضل إخفاؤه؟.
في الواقع، لا يوجد جواب موضوعي عن هذين السؤالين، لأنها قضية اختيار، وقضية أسلوب، حيث يُفضل الأسلوب المناسب والمرن مع تبدلات الزوايا، كما يُفضّل أيضاً الانسيابية، لأن اللقطة تقدم إمكانيات جميلة، فحينما يكون لابد من تغيير اللقطة، يحدث اجتهاد في إخفاء التوقف Cesure الفضائي، أو الزمني، عن طريق لقطات ترابطية في الحركة، وبناءات خطية Graphique متجاورة، أي متشابهة.
إن اللقطات، التي تربط بين مرحلتين بعلاقة متميزة (كتابه ـ ألوان ـ حركات ـ أصوات)، تصبح مواضع لاحتمالات دلالية عالية في البنية العامة للفيلم، وعلى كاتب السيناريو، الذي ينظّم المراحل، أن يتذكرها عند بداية كل مرحلة ونهايتها.
[1] مثل جانسكو Jansco، وأنجيلو بولوس Angelos Poulos، وروش Rouch.
المبحث الثاني والعشرون
الصوت في لغة السينما
يُغطي الحوار ـ غالباً ـ على أهمية الصوت، مع أنه ينطوي على دلالة عظيمة، لهذا يطلق، غالباً، على السيناريو اسم "الاستمرارية الحوارية". وعلى الرغم من ذلك، فعلى كاتب السيناريو أن يُعطى إلى الصوت، درجة اهتمامه نفسها بالصور. وهذا يعني التساؤل عن الأصوات، التي ستُرفق بكل ما كتب من شخصيات وديكورات وزمن وغيرها.
المعايير (الثوابت) الصوتية:
1. الأجواء العامة:
مهما كان الحوار طاغياً، فإن الأجواء العامة تحتل، من الناحية الكمية، مكانة أهم من تلك التي يحتلها الحوار: إذ لا وجود للقطة مرئية، في غياب الجو الصوتي العام.
2. الموسيقى:
هناك مسألة نظرية هيمنت على قضية الموسيقى في السينما، وهي: هل من الضروري التعليل لظهور الموسيقى في الشريط الصوتي، أم يمكن إدخال عناصر موسيقية لقيمتها الانفعالية فقط، دون أن يكون لأصل هذه الموسيقى مبرر سيناريو [1].
إن القضية المثارة تتعلق بطبيعة الموسيقى، ونمط العلاقة التي يُراد لها أن تقيمها مع الصورة. وسواء استخدمت الموسيقى في الشريط الصوتي بشكل واسع أم لا، فيجب أن تكون موضع اهتمام حاد من قبل كاتب السيناريو، الذي لا يمكن أن تقوده إلاّ ثقافة موسيقية حقيقية.
وللموسيقى العديد من الوظائف، مثل: إضفاء الجو المناسب أو المزاج النفسي، وإعطاء اللمسة الواقعية، والتأثير الإيجابي على الشخصية، إضافة إلى التعبير عن الانفعال والأزمة. كما يمكن أن تأتي الموسيقى كعلامة مميزة، أو مصاحبة، أو أن تلعب دوراً في الأحداث، أو أن تكون هي لب العمل ومحوره الرئيسي.
3. الموسيقى التصويرية:
وتعني الموسيقى المضافة إلى العمل من خارجه، مثل الغناء أو أصوات الكورال. وعلى الرغم من ذلك، فهي تُعد عنصراً من أهم عناصر العمل، واستخدامها فيه هو القاعدة، والاستثناء عدم استخدامها اكتفاء بالموسيقى المباشرة، أو المؤثرات الصوتية. وهناك الموسيقى الوصفية، التي تحكى قصة، أو تصور أفكاراً، أو تهدف إلى إثارة صورة مرئية. وهناك الموسيقى الارتباطية، التي تصاحب الغناء، أو يصاحبها الغناء.
والموسيقى المصاحبة لدراما الشاشة هي موسيقى ارتباطية، حيث تعطيها الصورة ارتباطا وتحديداً يكسبها معنى خاصاً، ومن ثم تسفر عن معنى جديد بمركب الصورة والصوت، وتسهم إيجابياً في معطيات دراما الشاشة.
وتؤدي الموسيقى هنا إلى تحقيق هدف مهم، وهو الإدراك الفعلي والتأثير الوجداني، كما تقوم ببعض الوظائف، مثل:
أ. وصف المكان: مثل تصوير مكانٍ خلويٍ، أو منزلٍ مهجورٍ، حيث يمكن للموسيقى مع الصورة والمؤثرات الصوتية أن توحي بالمكان، بما لا تستطيع الكلمات أن تصفه أو تعبر عنه.
ب. الإرهاص بأحداث قادمة: فإذا كان المشاهد يعلم، مثلاً، أن الشخصية مطاردة وهي تدخل إلى أحد الأماكن، التي يُحتمل أن يصل إليها مطاردوها، ويسمع المشاهد موسيقى تُرهص بالشر، ومن ثم يحدث التوقع عند المشاهد، في الطريق الصحيح.
ج. تأكيد الانفعال: فقد تؤكد الموسيقى ـ مثلاً ـ انفعال الأم اليائس الحزين، وهي تبحث عن ابنتها في يأس، فالموسيقى هنا تؤكد، هذا الانفعال. ومن الأفضل أن تنوع الانفعالات، حيث تصاحبها الموسيقى تارة، ويصاحبها الحوار والمؤثرات الصوتية تارة أخرى.
د. تأكيد الفعل: وهو من الاستخدامات التقليدية للموسيقى، خاصة في المعارك والمطاردات.
هـ. إضفاء المزاج النفسي: حيث تُعطي الموسيقى هنا طابعاً عاماً، ينسجم مع العمل في مجموعة، ويظهر هذا في الموسيقى الافتتاحية، التي تُصاحب العناوين.
و. الربط بين المشاهد: حيث تلعب الموسيقى دوراً مهماً لتحقيق الترابط، بمعطياته العاطفية أو الفكرية بين المشاهد، بصرف النظر عن استمرار الزمان أو المكان.
4. المؤثرات Effects:
قد تنتمي هذه المؤثرات إلى الجو العام Ambiance، بحيث تأتى لتُشكل فيه حالة خاصة كاللقطة القريبة. ففي الريف، عند نباح الكلب، وصوت المنادى، وضجة المحرك، ينطوي دور المؤثرات على الإشارة إلى مظهر خاص، وإضفاء تلوين عاطفي، وإيقاع صوتي. وهي ترافق سير الصورة وتحددها تبعاً لسلسلة غنية جداً، وعلى كاتب السيناريو أن يأخذ من هذه الصورة عدداً كبيراً من المؤثرات.
وغني عن القول مثل هذه العناصر الصوتية، تسمح بتضمين دلالة إيجابية في داخل المرحلة نفسها، المرئية والصوتية، للأزمنة المختلفة، أو أنها توحي بأعماق الشخصية، وما إلى ذلك.
وللمؤثرات الصوتية عدة أنواع:
أ. الصوت الواقعي: إذا سقط شخص على الأرض، وسُمع الصوت المعتاد للسقوط، فهو صوت واقعي. أما إذا سُمع بدلا من ذلك صوت انهيار إحدى العمارات، فهو، بالطبع، صوت غير واقعي.
ب. أن يكون الصوت متوافقاً أو متوازياً: وقد يكون متبايناً أو مضاداً، فمثلاً ينفخ حكم المباراة في صفارته، فيُسمع صوتها المعتاد، فهو من ثم صوت متوافق أو مواز لصورته، أما إذا سُمع بدلاً من ذلك صوت صفارة إنذار، فهو صوت غير متوافق أو صوت متباين.
ج. أن يكون الصوت متزامناً أو غير متزامن: ومعنى التزامن أن تُرى الصورة ويُسمع ما فيها من أصوات في الوقت نفسه. أما أن تُرى صورة ويُسمع صوتً آخر، فهو صوت غير متزامن. فمثلاً عندما نرى البحر ونسمع صوت الأمواج، فهو متزامن، ولكن أن نكون داخل حجرة دون أن نسمع صوت الأمواج، فهو صوت غير متزامن.
د. أن يكون الصوت نابعاً من عالم الفيلم: أو مسرح أحداثه، أو أن يكون من خارج هذا العالم، أي صوتاً مستعاراً.
هـ. أن يكون الصوت ذاتياً: أي يُسمع من إحدى الشخصيات، ولكنه يعبر عن دلالة خاصة بهذه الشخصية. فمثلاً نسمع صوت أقدام الرجل وكأنها ضربات مطارق، تعبيراً عن توجه الشديد، وعزمه وتصميمه.
و. كما يمكن أن تتراكب الأصوات مع بعضها، أو ينوّع في طرق استخدامها، أو طريقة تسجيلها وإنتاجها.
[1] أي موسيقى غير سردية Non -Diegetique .
الفصل السادس
السيناريو التليفزيوني
يطلق على النص التليفزيوني سيناريو Scenario، أو سكربت Script، كما هو متبع في السينما. ويُعرف السيناريو التليفزيوني بأنه مشروع البرنامج، أو التمثيلية مكتوباً على الورق. فإذا كانت الرواية تكتب لكي تطبع في كتاب، والمقالة لكي تنشر في جريدة أو مجلة، والمسرحية لكي تعرض على المسرح بواسطة ممثلين، فإن السيناريو يكتب لكي يُترجم بواسطة الكاميرا إلى صور متحركة، تعرض على الشاشة، سواء في التليفزيون أو السينما.
والعنصر الأساسي في الكتابة للتليفزيون، مثل الكتابة للسينما، هو الصورة ويليها الصوت. فيجب أن تكون الصورة هي المنطلق الأساسي للتفكير عند الكتابة للتلفزيون، لأن أساس الكتابة هنا هو المرئيات. فهي ليست كتابة فقرات يلقيها ممثلون، أو مذيع أو متخصص. وينبغي على الكاتب، قبل أن يبدأ في الكتابة، أن يفكر أولا في كيفية ظهور ما يكتبه على الشاشة.
وليس معنى هذا أن تُنكر أهمية الكلمة والحوار، وعناصر الصوت عامة. فالصوت له أهميته القصوى أيضاً، وهو من عناصر اللغة التليفزيونية واللغة السينمائية. بل إن الصوت في التلفزيون يكتسب أبعاداً أخرى غير السينما. ولكن عند الكتابة للتلفزيون أو السينما، يجب التفكير أولاً في اللقطات والمشاهد، أكثر من التفكير في الكلمات. أو بمعنى آخر، أن نضع في الاعتبار أننا نكتب للكاميرا، التي سوف تصوّر ما نكتبه. وهذا يقتضي أن نحدد دائماً الصور، التي ستنقل من خلالها ما نريد نقله إلى المُشاهد من كلام ومعان وأهداف، أي أن تكون كتابتنا عبارة عن شرح صور وحركات، نرى أنها تُعبر في مجموعها وفي أشكالها عن المضمون الذي نعالجه، وليس شرحاً لمعان مجردة. ولا يُستثنى من ذلك حتى البرامج أو الفقرات، التي تعتمد اعتمادا ًأساسياً على الأحاديث المباشرة، التي لا تتضمن شرحاً مع استخدام وسائل إيضاح، حيث ينبغي لهذه البرامج الاهتمام بشرح الصورة، التي سيظهر عليها المتحدث، وهل يظهر جالساً أو واقفاً، وهل يجلس على مقعد أو خلف ستارة لأن الخلفية لابد أن تكون مناسبة للموضوع، الذي سيتحدث عنه، كأن يكون ديكوراً على الطراز العربي بالنسبة للحديث الديني، أو ديكوراً على شكل معمل بالنسبة للأحاديث العلمية وهكذا .. والأمر هنا متروك لتصور الكاتب، بطبيعة الحال، الذي عليه أن يولي الأمر الأهمية اللازمة، عند كتابة النص.
وقد جرت العادة أن يُكتب السيناريو في شكل عمودين، فتقسم الصفحة إلى قسمين، أو عمودين على النحو الآتي:
القسم الأول، أو العمود الأول:
يقع على يمين الصفحة ويشمل ثلث المساحة فقط، ويخصص للصورة أو المرئيات، أي كل ما يمكن رؤيته بالعين، ويشتمل هذا القسم، عادة، على العناصر الآتية:
·…الأشخاص وسائر الكائنات الحية.…
·…المناظر والديكورات.
·…شرح ما يجرى من أحداث وحركة.…
·…الإكسسورات.
·…الشّرائح.…
·…الأفلام (المادة الفيلمية).
·…كافة وسائل الإيضاح المرئية.…
·…اللوحات.
القسم الثاني، أو العمود الثاني:
يقع على يسار الصفحة، ويشغل المساحة المتبقية وهي ثلثي الصفحة، ويخصص للصوتيات، أي كل ما يُسمع، ويشتمل على العناصر الآتية:
·…التعليق…
·…الحوار.…
·…الموسيقى التصويرية…
·…المؤثرات الصوتية…
…
·…كافة وسائل الإيضاح الصوتية
المبحث الثالث والعشرون
أشكال السيناريو التليفزيوني
(النصوص الكاملة ـ والنصوص غير الكاملة)
يعرف كتاب البرامج التليفزيونية ومعدوها، شكلين للسيناريو التليفزيوني، هما: النصوص الكاملة، والنصوص غير الكاملة.
أما النصوص الكاملة فهي التي تُستخدم في البرامج الدرامية، حيث يكون بوسع الكاتب أن يتحكم في كل عناصرها، ويحدد كافة تفاصيلها من البداية حتى النهاية. وعلى العكس من ذلك تماماً تكون النصوص غير الكاملة، التي تمثل الغالبية العظمى من برامج التليفزيون. ففي هذا النوع من البرامج لا يستطيع الكاتب أن يتحكم في كل عناصر البرنامج، ومن ثم يقتصر المطلوب منه ـ في كثير من الأحيان ـ على تحديد الخطوط الرئيسية للبرنامج فقط، والنقاط أو الجوانب، التي يلتزم بها الأشخاص المشاركون فيه. وسوف نتناول كلاً من هذين النوعين بما يحتاجه من شرح وإيضاح وتفصيل.
أولاً: النصوص غير الكاملة:
يبدأ هذا النوع من البرامج بمقدمة مناسبة، يكتبها، عادة، معد البرنامج، ويمهد بها للدخول إلى الموضوع. وعلى هذا ينبغي أن تأتي قوية وموجزة ومؤثرة، كما ينبغي أن تشير إلى الموضوع وتلفت النظر إلى أهميته وضرورة تقديمه. وفي كل الحالات يكون من الضروري "التسلل السريع"، إلى جوهر الموضوع وتفاصيله.
إن هذا النوع من البرامج ـ وإن بدا سهلاً ـ فإنه يتطلب في حقيقة الأمر مجهوداً كبيراً من الكاتب. فعليه أن يبحث عن الأفكار ويدرسها، ويجمع المعلومات حولها، ويتصل بالمختصين وأصحاب الخبرة، ويحدد المادة المصورة، التي ينبغي عرضها، أو الأشياء التي ينبغي تصويرها .. الخ.
أما عن خطوات الإعداد، فإن هذا النوع من البرامج ـ مثل غيره من البرامج ـ يبدأ أولاً بالبحث عن الفكرة أو الموضوع. ويوجد، بطبيعة الحال، العديد من المصادر، التي يمكن أن تمد الكاتب بعشرات الأفكار المهمة والجيدة، مثل الكتب والمجلات والنشرات، فضلاً عن المعايشة الواعية للواقع، وما يجرى فيه من أحداث، وما يفرضه على الناس من قضايا وموضوعات، تتصل بحياتهم اتصالاً مباشراً، إضافة إلى المتابعة الدءوبة للتخصص، الذي يكون الكاتب قد اختاره .. الخ.
وبعد العثور على الفكرة المناسبة، تبدأ إجراءات تحويلها إلى برنامج تليفزيوني. وتبدأ هذه الإجراءات، عادة، بدراسة إمكانيات الموضوع، الذي تدور حوله الفكرة. ويواجه الكاتب ـ عادة ـ بعدد من الأسئلة، التي لا بد أن يجد لها إجابة محددة. ولعل أول هذه الأسئلة وأهمها هو: لماذا نتعرض لهذا الموضوع في برنامج تليفزيوني؟ أو بتعبير آخر: ما الهدف من ذلك؟
فلا بد من وجود هدف، وإلاّ انتفت الحاجة إلى تقديم البرنامج أصلاً.
أما السؤال الثاني فهو: إلى من نوجه هذا الموضوع، أو البرنامج؟
وبتعبير آخر: من هو الجمهور المستهدف، الذي سنقدم له هذا البرنامج؟
فلا بُد أن نعرف سلفاً نوع وطبيعة الجمهور، الذي سيقدم له البرنامج، ولابد أن يحدد هذا الجمهور تحديداً دقيقاً.
والسؤال الذي يأتي بعد ذلك هو: كيف يتأتى توصيل هذا الهدف إلى الجمهور المقصود، عن طريق التليفزيون؟ وبعد تحديد الهدف والجمهور المستهدف، يصبح من الضروري تحديد شكل البرنامج، الذي سيُحقق هذا الهدف. وينبغي في هذا المقام معرفة الأشكال المختلفة لبرامج التليفزيون، ذات النصوص غير الكاملة، التي يصل عددها إلى أحد عشر شكلاً. ويطلق عليها بعض النقاد مصطلح نماذج أو إطارات أو "فورمات" [1] إشارة إلى الهيكل النمطي الذي يتخذه البرنامج، وهذه النماذج أو الأشكال أو القوالب هي:
·…قالب المقابلة.…
·…قالب الحديث، أو برنامج الشخصية.
·…قالب الندوة.…
·…قالب الوصف، أو الشرح.
·…قالب جمهور المشتركين.…
·…قالب المسابقة، أو الألغاز.
·…قالب الفيلم والمقدم.…
·…قالب المحكمة "المحاكمة
·…قالب المنوعات.…
·…قالب المجلة.
…
·…قالب البرنامج التسجيلي.
وهذه القوالب هي الأشكال المعروفة للبرامج ذات النصوص غير الكاملة، ولا يخرج عنها أي من برامج التليفزيون غير الدرامية، وإن كانت هناك بعض البرامج، التي تجمع بين أكثر من شكل من هذه الأشكال. ويطلق على "السيناريو"، الذي يُعد لمثل هذه البرامج صفة "غير كامل" لأنه يكون بالفعل غير كامل، ولا يمكن أن يُعد لمثل هذه البرامج نص كامل، نظراً لاعتماد الكثير من عناصرها على الآنية أو التلقائية. ولذلك فإن النص لا يمكن أن يضم كل عناصر الصورة والصوت، لأن هذه العناصر لا تكون معروفة على وجه التحديد ساعة إعداد النص. ومن ثم، فإن كل ما يمكن أن يتضمنه النص، في هذه الحالة، هو أفكار عامة، وخط سير مقترح، يلتزم به المشتركون في البرنامج، بينما يحدد المشتركون أنفسهم ما سيقدمونه في البرنامج، ويكون مرتجلاً وتلقائياً في معظم الأحوال. وسوف نعرض لهذه البرامج بشيء من التفصيل:
1. قالب الحديث أو برنامج الشخصية:
يصلح هذا البرنامج لتقديم الأحاديث الدينية وغيرها من الأحاديث، التي تقدمها شخصية واحدة، وهو أبسط صور البرامج ولا يتطلب احتياجات كثيرة، بل يحتاج فقط إلى استديو صغير، وديكور مبسط، وقد تكفي ستارة بدلاً عن الديكور.
ويتوقف نجاح مثل هذه البرامج على شخصية المتحدث. لذا ينبغي البحث عن الشخصية المتفوقة في المجال المراد تغطيته في البرنامج، بشرط أن تكون لديه القدرة على عرض أفكاره بشكل بسيط وشيق يجذب الانتباه، لأن التفوق وحده في مجال من المجالات لا يكفي لتقديم حديث جيد، تتوفر له خصائص التشويق وجذب الانتباه.
ولمّا كان هذا النوع من البرامج يعتمد فقط على المتحدث، الذي يوجه حديثه دون أن يشاركه مذيع، فعلى الكاتب اختيار المتحدث والاتفاق معه على موضوع الحديث، والعناصر المختلفة، التي يجب أن يعرض لها في حديثه.
2. قالب الوصف أو الشرح:
يقوم هذا النوع من البرامج على أساس عرض الموضوعات المختلفة، باستخدام وسائل الإيضاح. ويستخدم لشرح موضوع معين، كالدروس العملية أو التي تعتمد على الأشكال المجسمة أو الصور أو الرسوم أو الحركة. كما يُستخدم أيضا لشرح نظرية، أو تجربة عملية، أو طريقة عمل شيء، أو تعليم مهارة خاصة، مثل الطهي أو التفصيل أو الهوايات.
ويتفق هذا البرنامج مع برنامج الحديث، في أنه يعتمد على شخص واحد يوجه حديثه إلى المشاهدين، دون وجود مذيع يوجه إليه الأسئلة، ولكنه يختلف عنه في أن حديث مقدم البرنامج هنا يتضمن شرحاً تفصيلياً لشيء معين يعتمد على وسائل الإيضاح. وعلى ذلك فإن هذا النوع من البرامج، ينبغي أن يتوافر له الآتي:
أ. مقدم البرنامج، أو الشخصية التي ستتولى الشرح 0 (ولا بد أن يكون متخصصا في الموضوع).
ب. وسائل الإيضاح (الإكسسوار).
ويعتمد نجاح مثل هذه البرامج، أيضاً، علي شخصية المقدم وحضوره وطريقة أدائه. وتنحصر مهمة الكاتب أو المُعد للنص، في الجوانب الآتية:
أ. اختيار الشخص الذي سيقوم بالشرح، أي بوظيفة مقدم البرنامج.
ب. تحديد نوع "الإكسسوار"، ووسائل الإيضاح المطلوبة (من أفلام ولوحات ورسوم وأجهزة .. الخ).
…ج. شرح سير البرنامج، وترتيب المادة العلمية أو المعلومات، وتوزيعها حسب الخطة المقترحة.
3. قالب المقابلة:
يعتمد هذا النوع من البرامج على الحوار، الذي يدور بين المذيع مقدم البرنامج، وضيف تجرى معه المقابلة. وعلى ذلك فإنه يختلف عن الشكلين السابقين في أنه يحتاج إلى مقدم برنامج محترف، لإجراء الحوار مع الضيف. وكذلك فإن الموضوع يقدم من خلال هذا الحوار، بين المذيع والضيف. ويتوقف نجاح هذا النوع من البرامج على الآتي:
أ. العناية باختيار الضيف المناسب، الذي يجيد في الوقت نفسه التحدث أمام الكاميرا.
…ب. تحديد الأسئلة، التي تغطى كافة جوانب الموضوع، وترتيبها على نحو جيد.
…ج. براعة مقدم البرنامج، وقدرته على حفز الضيف على التحدث، وتغطية كافة جوانب الموضوع.
د. الاهتمام بدراسة الموضوع، الذي يدور حوله الحوار، والإلمام بكافة جوانبه، وبالآراء المختلفة المتعلقة به.
4. قالب الندوة:
هناك بعض الموضوعات أو القضايا الجماهيرية، التي تختلف حولها الآراء أو تتعدد فيها وجهات النظر، ولا يمكن تغطية الآراء المختلفة، أو الجوانب المتعددة فيها، عن طريق ضيف واحد. ويقتضي الأمر في هذه الحالة، اشتراك أكثر من ضيف على شكل ندوة، يلتقي فيها شخصان أو أكثر في وقت واحد يتولون مع مقدم البرنامج بحث الموضوع، إما من وجهات نظر مختلفة، فيحاول كل طرف إقناع الأطراف الأخرى برأيه، أو أن يعرض كل مشترك في الندوة جانباً من الموضوع بالتناوب، دون أي خلاف في وجهات النظر. وفي كل الحالات يكون على مقدم البرنامج إدارة الحوار، ملتزماً الحيدة التامة.
وهذا النوع من البرامج يتطلب الآتي:
أ. مقدم برنامج يدُبر الندوة.
ب. مجموعة من الضيوف (متخصصون في الموضوع).
ويقدم البرنامج إما على شكل مائدة مستديرة، يجلس حولها الضيوف ومعهم مقدم البرنامج، أو أن يجلس الضيوف على منصة عالية ومعهم مقدم البرنامج، ويجلس قبالتهم جمهور المشاهدين. ويحدد موضوع الندوة بالمشاورة بين المنتج ومٌعد أو كاتب البرنامج، وكذلك اختيار الضيوف، ثم يكون على المُعد أو الكاتب، بعد ذلك، القيام بالآتي:
أ. جمع المعلومات المتعلقة بموضوع الندوة.
ب. وضع الخطوط الرئيسية، التي يسير عليها البرنامج.
ج. وضع تصور لترتيب كلام المشتركين في الندوة.
هـ. تحديد المدة، التي يستغرقها البرنامج في التقديم وعرض القضية في بداية البرنامج، مع إعداد مشروع المقدمة، أو كتابتها كاملة.
و. إعداد مشروع الأسئلة التي ستوجه في الندوة.
ويحظى هذا النوع من البرامج ـ عادة ـ باهتمام الجمهور، نظراً لأنها تتناول دائماً القضايا المهمة، التي ترتبط بحياة الناس. ومع ذلك فإن نجاح أي ندوة يتوقف دائماً على حيوية ما فيها من خلاف، وتصارع في الآراء.
5. قالب المسابقة:
ويطلق هذا الاسم على برامج الألغاز ـ وشتى البرامج التي تهدف إلى اختبار معلومات المشاهدين، أو اختبار قدراتهم المختلفة، في أداء أعمال معينة. وتجرى عن طريق الاشتراك الفعلي للجمهور، ووجوده في الاستديو على شكل فريقين متسابقين، جماعات أو أفراد.
وهذا النوع من البرامج يحظى باهتمام الناس وارتباطهم به، لأنه يستثير حب الاستطلاع والبحث عن إجابات الأسئلة، فضلاً عن الرغبة في كسب الجوائز.
أما متطلبات هذا النوع من البرامج فهي:
أ. مقدم للبرنامج.
ب. محكم أو لجنة للحكم (وقد يُكتفى بمقدم البرنامج، أو يشارك الجمهور في الحكم).
ج. متسابقون (أفراد أو جماعة).
…ومن أنواع المسابقات التي قد تصلح لمثل هذا النوع من البرامج:
أ. أسئلة اختبار المعلومات العامة.
ب. اختبار القدرات الحركية.
ج. اختبار القدرات الصوتية.
د. اختبار القدرات الفنية.
هـ. اختبار التمثيل الصامت.
وتكون مهمة المعد أو الكاتب لهذا النوع من البرامج، تحديد خط سير البرنامج، وتحديد أنواع المسابقات التي تُقدم، مع محاولة ابتكار الجديد في كل حلقة.
6. قالب جمهور المشاهدين:
هناك نوعان من العلاقة، تربط بين المشاهدين وبرامج التليفزيون:
النوع الأول: يكون دور المشاهد فيه متلقياً، حيث يكتفي بالجلوس أمام جهاز الاستقبال، ومشاهدة البرامج، سواء في المنازل أو في مكان يوجد فيه جهاز الاستقبال.
أما النوع الثاني: من العلاقة فتتعدى مشاهدة البرنامج من جهاز التليفزيون، إلى المشاركة الفعلية داخل الأستديو أثناء التنفيذ. ويتم ذلك في بعض البرامج، التي يُعد الجمهور عنصراً أساسياً من عناصر تكوينها. فيشترك الجمهور في البرنامج بالظهور فيه، والاشتراك الفعلي في مادته، وهو يختلف عن برامج الندوات، في أن الجمهور الذي يحضر الندوة لا يكون مشاركاً في الحديث، بل قد لا يكون هناك جمهور على الإطلاق. أما هذا النوع البرامج، فيعتمد على مشاركة الجمهور أولاً وأخيراً، وهو نوع يقبل عليه الجمهور، ويحبذ كثير من الناس الاشتراك فيه بالفعل.
…وأما متطلبات هذا البرنامج فهي:
أ. مقدم برنامج.
ب. يتولى ضيف عادة تصحيح إجابات المشاهدين المشاركين (ويمكن الاستعانة بمجموعة أشخاص).
ج. مجموعة من المشاهدين مختارين على أسس معروفة، أو متطوعين، أو مختارين بالقرعة.
7. قالب المحكمة:
يهدف هذا الشكل، عادة، إلى معالجة الموضوعات أو القضايا، التي لم تُحسم بعد، ولم يتفق عليها الرأي العام. فتهتم كل حلقة من البرنامج بأحد هذه الموضوعات أو القضايا، وتجرى مناقشتها وعرض مختلف وجهات النظر حولها عن طريق محاكمة، في شكل يمثل قاعة المحكمة. وقد تنتهي المحاكمة في حلقة واحدة، أو في عدة حلقات، يصدر في نهايتها الحكم، لتبدأ بعد ذلك مناقشة قضية جديدة.
ويلزم لهذا النوع من البرامج الآتي:
أ. قاض أو مجموعة من القضاة، على غرار تشكيل المحاكم.
ب. متهم، يكون شخصاً بعينة يمثل كياناً اعتبارياً كالمجتمع مثلاً.
ج. ممثل الاتهام.
د. ممثل الدفاع.
هـ. شهود إثبات.
و. شهود نفي.
ويشترط في كاتب نص هذا النوع من البرامج، أن يكون ملماً كل الإلمام بالقواعد والنظم المعمول بها في المحاكم، وعليه أن يعرض القضية، وأن يحدد أدلة الاتهام، وأسانيد الدفاع، والنقاط التي سترد على ألسنة كل من شهود الإثبات وشهود النفي، وأن يحدد خط سير المحاكمة، والفترة الزمنية المخصصة لكل طرف منها.
8. قالب الفيلم ومقدم البرنامج:
هذا الشكل من البرامج يصلح أساساً للأطفال، وأهم أمثلته برامج سينما الأطفال، التي تناسب الكبار أيضاً. ويحتاج هذا النوع من البرامج إلى:
أ. مجموعة أفلام الرسوم المتحركة، وأفلام الرحلات، والأفلام الفكاهية القصيرة، وذلك عادة للأطفال. أما للكبار فتُعرض الأفلام التعليمية، وأفلام العلوم، والأفلام التسجيلية المختلفة، وأفلام المعرفة .. الخ.
ب. مقدم برنامج تتحدد وظيفته في شرح الأفلام وتقريبها لجمهور البرنامج، ويكون ذلك ضرورياً في حالات كثيرة، منها:
(1) صعوبة فهم الجمهور للفيلم دون شرح وتبسيط.
(2) عدم معرفة الجمهور للغة التي ينطق بها الفيلم، كما هو الحال في البرامج التي تعتمد على عرض أفلام تسجيلية أجنبية.
(3) أن يكون الفيلم من غير تعليق صوتي أصلاً.
ونظراً لأن بعض الأفلام، التي تُستخدم في هذه البرامج تعالج موضوعات متخصصة، مثل أفلام العلوم وبعض الأفلام التسجيلية، وأفلام المعرفة، فمن الأفضل أن يكون مقدم البرنامج، من المتخصصين في الموضوع. أما مُعد البرنامج فتكون مهمته هي اختيار الأفلام، ووضع الخطوط الرئيسية للتعليق عليها، وتحديد خط سير البرنامج، وترتيب إذاعة الأفلام، وكتابة حوار الربط بينها.
9. قالب المجلة:
هو برنامج يجمع بين مختلف أشكال البرامج السابق ذكرها. فيتضمن الأحاديث والمقابلات والأفلام، وفقرات وصفية وأغانٍ، وقد يضم مسابقات أيضاً. لذلك يأخذ شكل المجلة. وهذا النوع من البرامج يحظى، عادة، باهتمام المشاهدين، لأنه يجمع بين أكثر من شكل.
ولمّا كان البرنامج يتكون من مجموعة من الفقرات، ذات الأشكال المختلفة، فإن مهمة كاتبه تختلف من فقرة إلى أخرى. فقد يضطر في إحداها إلى الاقتراب من شكل النص الكامل، بينما قد لا يحتاج في بعضها سوى بعض المعلومات، أو رسم خط السير فقط، ومنها ما يحتاج فيه إلى كتابة تعليق، كما هو الحال في الفقرات التي تعتمد على عرض الأفلام.
وكل فقرة في مجلة التليفزيون، تمثل صفحة أو باباً في المجلة أو الجريدة المطبوعة. ولهذا تحتاج كل فقرة، عادة، إلى عنوان، قد يكون ثابتاً أو متغيراً. ويفترض أن هذه المجلة، مثل كل مجلة أخرى، لها أبوابها الثابتة والمتغيرة. ومن ثم فإن تحديد عناوين هذه الأبواب، سواء الثابت منها أو المتغير، يدخل ضمن مسؤوليات الكاتب، الذي ضمن مسؤولياته أيضا كتابة حوار الربط، الذي ينتقل به مقدم البرنامج من فقرة إلى أخرى.
10. قالب المنوعات:
وهو برنامج يجمع كل ما يمكن تقديمه، لتسلية الجمهور وإمتاعه. ويعتمد نجاح مثل هذه البرامج على درجة الإثارة، التي تحدثها لدى المشاهد، ومدى ما تحققه من تسلية وترويح. وهي في هذا تعتمد على عدد من الوسائل، من بينها المواقف التمثيلية القصيرة، التي تعتمد على عدد من اللقطات السريعة المسلية، بعضها فكاهي، وبعضها غنائي، وبعضها موسيقي، على اختلاف أشكال هذه الألوان الثلاثة.
وتُقدم هذه الفقرات إما داخل إطار، في موضوع يجمعها كلها معاً، أو دون أي ارتباط بينهما. فتعتمد في الربط بين الفقرات، على شخصية مقدم البرنامج، الذي قد يكون أحد نجوم الفكاهة أو التمثيل أو الغناء، ويشترط في هذا المقدم أن يكون خفيف الظل، له حضور مقبول لدى جمهور المشاهدين
وإذا كان هدف برامج المنوعات ـ عادة ـ هو التسلية والإمتاع، فإن بعضاً منها قد يعمل على إعطاء بعض المعلومات أو الأفكار، ولكن ذلك ليس هو الهدف الأساسي منها. وعلى كلٍ فينبغي أن يُراعي هذا النوع من البرامج، النشاط الترويحي والتسلية والترفيه، وبشرط ألاّ تهبط هذه البرامج إلى التهريج والتسلية الرخيصة، أو الإسفاف.
11. قالب البرنامج التسجيلي:
وهو شكل يتيح عرض موضوع خاص، باستخدام أفضل الأساليب الفنية المناسبة، التي تسمح بتحليل الموضوع، وعرض جميع عناصره، ووجهات النظر المختلفة التي تدور حوله. ويراعي في ذلك الصورة المناسبة، التي تجتذب المشاهدين، وتثير خيالاتهم.
ويعتمد الشكل التسجيلي على الصورة والتعليق والمقابلات، سواء في المواقع المختلفة أو في الأستوديو. كما يعتمد على الشرح مع وسائل إيضاح، أو الشرح على الطبيعة مباشرة. فليس هناك شكل واحد يمكن اتباعه لهذا النوع من البرامج، وإن كانت هناك صفات عامة ينبغي توافرها، أهمها:
أ. الواقعية:
فكل ما في البرنامج التسجيلي ينبغي أن يكون واقعياً، مأخوذاً من الطبيعة ذاتها، وليس تأليفاً أو محاكاة. وكذلك الحال لأشخاصه ومناظره، حيث ينبغي اختيارهما من الواقع الحي. فلا يعتمد على ممثلين محترفين، ولا على مناظر مصنوعة مفتعلة، داخل الأستوديو.
ب. التحليل والتفسير:
فليس البرنامج تسجيلاً للواقع بشكل جامد، أو تقريراً، يهدف إلى الأعلام فقط، ولكنه برنامج تحليلي يسعى إلى عرض الموضوعات بجميع عناصرها، ومختلف وجهات النظر حولها.
ج. الإنسانية:
ينبغي إعطاء اهتمام زائد للنواحي الإنسانية، في الموضوعات التي تعالجها البرامج التسجيلية. ذلك أن عرض الحقائق بحالتها "الجامدة"، مهما كانت تهم الناس، لا يكفي وحده لشد انتباه المشاهد. لذا يجب استغلال العناصر الإنسانية المثيرة للاهتمام. فإذا قُدم برنامج تسجيلي عن اختراع آلة مثلاً، فلا بد من توضيح فائدتها للناس، ومدى تأثيرها عليهم. وبمعنى آخر، يجب تقديم الموضوعات بعد إعطائها الملامح الإنسانية، المتصلة بها.
ثانيا: السيناريو الكامل (الفورمات الكاملة):
هي النصوص التي تكتب للتمثيليات التليفزيونية، أي للبرامج الدرامية. ويعني ذلك أن البرنامج يعتمد على رواية، أو قصة كاملة، لها بداية ووسط ونهاية، وكل العناصر فيها معروفة لكاتب النص التليفزيوني، ويمكنه أن يضمّنها النص بكل التفاصيل، فيكون النص التليفزيوني هنا، بمثابة إعادة صياغة للقصة في القالب التليفزيوني، أي ترجمتها وسردها على المشاهدين، بواسطة الصور والأصوات.
ويُعد السيناريو من أهم مراحل إعداد التمثيلية التليفزيونية، فاختيار القصة وإعدادها للتليفزيون، في سهرة أو في حلقات مسلسلة، أي تحويلها إلى سيناريو كامل، أو إلى عدة سيناريوهات كاملة، هو العمود الفقري الذي تقوم عليه التمثيلية أو الحلقات التليفزيونية. ويعتمد نجاحها على نجاح كاتب السيناريو، في إرضاء الجمهور.
والحقيقة أن إرضاء الجمهور كله يعد معضلة كبيرة. فالجمهور خليط من ذوى العادات والثقافات والمعتقدات والأعمار المختلفة، ومقاييس الأشياء لديه تختلف وتتعدد، وما تفضله فئة قد تنفر منه أخرى. وعلى هذا فإن مهمة كاتب السيناريو، تُعد من المهام الصعبة والشاقة. ولذلك فإن دراسة نفسية الجمهور وميوله، هما من أهم الوسائل التي على كاتب السيناريو مراعاتها، وإعطائها الكثير من اهتمامه.
ومن الضروري أن تكون الفكرة، التي يعتمد عليها السيناريو جيدة. بمعنى أن تكون القصة جيدة، وتثير إعجاب المشاهدين. ومع ذلك فإن القصة الجيدة لا تُعطي، بالضرورة، سيناريو جيداً، لأن السيناريو قصة ومعالجة، والقصة الجيدة يلزمها معالجة جيدة، حتى يكون السيناريو جيداً.
ومن الخطأ أن يُعد السيناريو قصة أدبية، تعتمد على الألفاظ والتعبيرات في شرح الحوادث، لأن هذا يُعد تجاهلاً تاماً لإمكانات التليفزيون الآلية والفنية.
إن كتابة السيناريو تعتمد، أولاً، على معالجة الحوادث في القصة، معالجة مرئية. وهذا يقتضي أن يُترجم كاتب السيناريو أحداث القصة، إلى صور متتابعة، تعبر عن كل عناصر الدراما في القصة، ويمكن تنفيذها بواسطة كاميرا التليفزيون أو السينما. وهذا يقتضي من كاتب السيناريو أن يكون ملماً بأصول الدراما وقواعدها، وكذلك ملماً بجميع المراحل الفنية للعمل التليفزيوني. كما ينبغي له أيضاً أن يلم بالأسباب والوسائل، التي تسهل للمخرج أداء عمله في حدود الإمكانات المتاحة، حتى يستطيع المخرج أن يؤدي واجبه على أحسن صورة ممكنة. فالسيناريو الجيد يسهل للمخرج عمله، ويتيح له فرصة الإجادة، مع الاقتصاد في المال والجهد والوقت.
[1] إطارات أو "فورمات" Format اصطلاح مستخدم في الطباعة لوصف مقاس الصفحة .. وتعني هنا الشكل الذي ينتمي إليه البرنامج، فنقول نموذج الحوار أو نموذج الندوة أو نموذج المسابقة…الخ.
المبحث الرابع والعشرون
أشكال التأليف الدرامي التليفزيوني
وأسلوب الحوار والعلاقة، بين الحبكة والسيناريو
أولاً: أشكال التأليف الدرامي التليفزيوني:
يُعد التأليف للتليفزيون، أو الإعداد له، من أشق ضروب الكتابة وأعقدها. فهو يستلزم من كاتبه أو معده، فضلاً عن بديهية، التمكن من أسس الدراما وقواعدها العامة. كما يستلزم كثيراً من الموهبة، والإطلاع، والمعرفة الكاملة بإمكانيات التليفزيون كوسيط، وإمكانياته وحدوده كوسيلة اتصال جماهيري، تعتمد على الصورة في المقام الأول، لمخاطبة خليط من فئات، لأعمار مختلفة وثقافات متعددة. فمشاهد التليفزيون شخص غير معروف، وغير متجانس مع غيره من المشاهدين، له ذكاؤه وقدراته، التي لا يقبل الاستهانة بها؛ كما أنه لا يقبل إلاّ ما يرغب فيه، ويرفض أشياء فوق إدراكه، ويحمل في داخله ناقداً أكثر من مشاهد محتاج للمعرفة.
وتتميز مشاهدة التلفزيون بالجو الأُسري، فطبيعة مشاهدته تفرض على قصته أن تكون أقرب إلى الطبيعة، لجذب انتباه المشاهد، الذي يجلس وسط عائلته ليشاهد التليفزيون وهو في حال استرخاء. فإذا لم يجذب العمل انتباهه من البداية، كان مجهود الكاتب ـ وغيره مما تعاونوا على إخراج العمل ـ قد ضاع هباءً.
ولابد أن يُراعي كاتب الدراما التليفزيونية، أن الأعمال الدرامية تحتل "في التليفزيون مساحة كبيرة على خريطة البرامج، حيث تبلغ نسبة البرامج الدرامية بين البرامج الأخرى 25.4 % بصفة عامة.
وعلى الكاتب التليفزيوني أن يدرك جيداً خواص التليفزيون، ويفرض عليه ذلك القدرة على سرد قصته في خط مستقيم، لا تقطعه فواصل أو استراحات في أثناء معالجة السهرة، أو المسلسل. ولذلك لابد أن يُدرك الكاتب ما يُريد، وأن ينبع إدراكه من طبيعة التليفزيون، وإمكانياته، واحتياج المشاهد وما يرغب في مشاهدته، واعتماد التليفزيون على الصورة من أجل التعبير الدرامي، حيث تقوم الصورة مقام صفحات كثيرة من الحوار. ثم بعد ذلك يدرك أي نوع من الكتابة سيكتب وأي شكل سيتخذ.
وقد أختص التليفزيون بثلاثة أنواع من الكتابة، هي: التمثيلية، والمسلسل، والسلسلة.
1. التمثيلية:
وهي قصه تجري معالجتها تليفزيونياً، وتُروى بواسطة أشخاص يشبهون شخصيات الحياة، ويتوافر فيها ما يجعلها مثيرة للاهتمام. ويجرى على ألسنة هذه الشخصيات حوار واضح، فيه سمات الحقيقة.
ولا تختلف التمثيلية التليفزيونية عن المسرح في كثير، سوى تقنية العرض وطريقة المعالجة، تبعاً لاختلاف طبيعة التليفزيون عن المسرح. وعلى الرغم من ذلك فإن كثيراً من تمثيليات التليفزيون، لا نجد فيها أدنى اختلاف عن المسرح، بل نجد في أغلب الأحيان أن هذه التمثيليات، بمثابة مسرحيات غير معدة جيداً.
ويتراوح طول التمثيلية ـ عادة ـ بين نصف الساعة إلى الساعة والنصف، وقد يزيد عن ذلك، أو قد تكون في جزئين إذا زاد الطول عن ذلك كثيراً، أو أن تكون في ثلاثة أجزاء، وهو أمر قليل الحدوث. ومن الأفضل ألاّ تتعدى تمثلية السهرة الساعة والنصف، بسبب صعوبة أن يظل الكاتب، أو المخرج، محتفظاً بانتباه المشاهد أطول من هذا الوقت.
وفي هذا النوع من العمل يتصاعد الحدث إلى أن يصل ذروته، كما هو الحال في المسرحية تماماً. ويُعد هذا النوع هو المرحلة الأولى في سبيل إعداد نص تليفزيوني، والوصول إلى طابع مميز للتليفزيون.
2. المسلسل:
ويُعد المسلسل جنيناً تليفزيونياً خالصاً، على الرغم من أن الإذاعة سبقت التليفزيون إليه. وقد تميز التليفزيون عن المسرح والسينما، بهذا النوع من الكتابة الدرامية.
ولا يختلف المسلسل في جوهره عن التمثيلية، كعمل درامي من حيث البناء، والحبكة، وخطة متدرجة تصاعدياً أو تنازلياً، وإن اختلف عن التمثيلية في المعالجة. فالتمثيلية تدور أحداثها في تواصل واستمرار منذ البداية، حتى لحظة التنوير وحل العقدة. أما المسلسل فيعتمد قالبه الفني على مجموعة من المواقف الخطرة، ويقوم أساساً على تتابع الحلقات وتواليها. بمعنى أن الشخصيات والأحداث تتطور بشكل متوالٍ، إلى أن تتصاعد وتنتهي الأحداث باخرة، بعد أن تتجمع الخيوط كاملة.
وتكون المسلسلات، عادة، ما سبع حلقات، أو ثلاث عشرة حلقة، من أجل تغطية إذاعة دورة تليفزيونية كاملة، على مدى ثلاثة عشر أسبوعاً، لو قدم المسلسل مرة في الأسبوع؛ أو خمس عشرة حلقة، أو ستة وعشرون حلقة، لتغطية دورتين كاملتين، أو ثلاثون حلقة، لتغطية شهر كامل لو قُدِّم المسلسل يومياً. إذن فمدة المسلسل تعد طويلة جداً مقارنة بمدة أي عمل تليفزيوني آخر. وعلى الرغم من ذلك يجب أن يكون عدد الشخصيات الأساسية محدوداً، إضافة إلى وجود الشخصيات المساعدة.
ويضع الكاتب شخصياته في الأحداث ويطورها، ويحل مشاكلها من خلال تطور الصّراع في مدة المسلسل كلها. فهو يواكب الشخصيات من الحلقة الأولى حتى الحلقة الأخيرة، ويجعلها تتطور درامياً من حلقة لأخرى، إلى أن تصل إلى مرحلة التأزم والانفراج.
وفي المسلسل ـ عادة ـ عقدتان، عقدة كبرى لابد أن تحل في نهاية الحلقات كلها، وعقدة أخرى، تدور في فلك العقدة الكبرى. وتُقسّم العقدة الأخرى ـ دائماً ـ إلى عقد فرعية، بعدد حلقات المسلسل، بحيث تنتهي كل حلقة بعقدة من هذه العقد الفرعية. ومن أجل ذلك لابد من إيجاد عنصر التشويق والإثارة لدى المتفرج، حتى يظل متشوقاً لمشاهدة الحلقة التالية، وهكذا إلى أن يشاهد كل حلقات المسلسل. ومن المؤلفين من يجعل العقدة في نهاية الحلقة زائفة، حيث يكتشف المشاهد في بداية الحلقة التالية، أن عقدة نهاية الحلقة السابقة لم تكن سوى زيف ووهم. وهذا النوع من النهايات الزائفة غير مفضل، فمن الأنسب أن تنتهي كل حلقة بذروة حقيقية، وليست زائفة.
وهذا النوع من المسلسلات، التي تُقدم عقدة أساسية وعقد ثانوية بعدد حلقات المسلسل، يُسمى "المسلسل الصافي". وكما يوجد نوع آخر من المسلسلات، وهو ما يسمى "المسلسلات المتحايلة"، أو "السلاسل"، نظراً لطول مدة حلقات المسلسل. وفي أغلب الأحيان يلجأ المؤلف إلى الحشو والتطويل، ليملأ المدة المقررة لكل حلقة. وهذا الحشو يفقد العمل قيمته.
3. السلسلة:
يُعد المسلسل تمثيلية طويلة، يستغرق عرضها عدة ساعات. وتقسّم المدة بعدد حلقات المسلسل، بحيث تؤدي أحداث كل حلقة إلى أحداث الحلقة الأخرى، في منطقية وتسلسل. أما السلسلة فهي خيط، أو سلسلة مفاتيح تنتظم فيها مجموعة الأشياء، أو مجموعة من الأحداث، كل حدث منها قائم بذاته، وإن ربطتها جميعاً فكرة واحدة.
ففي كل حلقة، من حلقات السلسلة، تبدو الأحداث بحيث تصلح كل حلقة منها أن تكون تمثيلية قائمة بذاتها، لها بداية وعقدة ونهاية، أي تمثيلية كاملة، خلافاً للحلقة الواحدة من المسلسل، التي لا يُمكن أن تُسمى عملاً درامياً متكاملاً.
وفي السلسلة لابد من وجود ما يربط الحلقات ببعضها. فإما أن يكون البطل واحداً في كل الحلقات، والمواقف التي يتعرض لها في كل حلقة تختلف عن الحلقات الأخرى، وهذا عادة ما يحدث. وتوجد أنواع عديدة من الحلقات الأجنبية، التي تقدم في شكل السلاسل، منها على سبيل المثال حلقات الهارب والقديس، وكولومبو ورجل بستة ملايين دولار، والمرأة الخارقة.
ويعد هذا الشكل ـ بوجه عام ـ هو المفضل لدى المشاهد، الذي نادراً ما يتمكن من متابعة جميع حلقات المسلسل، حتى يقف على مضمونه كاملاً. أما السلاسل، فيمكنه أن يشاهد حلقة، مثلاً، دون أن يتابع باقي الحلقات، لأن كل حلقة وحدة قائمة بذاتها.
ثانيا: الحوار في الدراما التليفزيونية:
من أهم خصائص الحوار في التليفزيون أن يكون شديد الإيجاز، وموجوداً بصورة أقل مما المسرحية مثلاً أو التمثيلية الإذاعية، لأن كاميرات التليفزيون والأجهزة المساعدة لها، كأجهزة الخدع الإلكترونية مثلاً، تستطيع في أحيان كثيرة، أداء مهام كبيرة بدلاً من الحوار. لذلك على المؤلف التليفزيوني أن يُدرك أنه يكتب عمله لوسيلة تعتمد، أول ما تعتمد، على الصورة، لكي توضح الموقف. ثم تعتمد على الحوار ثانياً بعد الصورة. ومن الخطأ الجسيم، الذي وقع ـ وما يزال كثير من مؤلفي التليفزيون يقعون فيه ـ أنهم جعلوا اعتمادهم الكلى على الحوار، دون مراعاة الصورة، وكأنهم يكتبون للإذاعة. وكثيراً ما يعرض التليفزيون أعمالاً درامية، يمكن للمشاهد أن يتابعها بأذنه فقط، من مكان بعيد عن جهاز التليفزيون، وسيدرك كل شئ، لأن الكاتب لا يهتم بالصورة قدر اهتمامه بالحوار. ويرجع ذلك إلى عدم تفهّم بعض مؤلفي التليفزيون، للإمكانيات الخطيرة لهذا الجهاز، وجهلهم بحرفية تقنيته، وهذا خطأ جسيم. فعلى المؤلف التليفزيوني، أو من يكتب للتليفزيون على وجه الدقة، أن يكون مُلماً ودارساً وواعياً لأصول الكتابة للتليفزيون، ومستوعباً لإمكانيات التليفزيون البصرية، وأساليب التنفيذ، وإمكانيات الاستوديوهات، والكاميرات الخفيفة المحمولة على الأكتاف، حتى يكتب عمله بصورة شبه كاملة. ولأن التليفزيون وسيلة اتصال مباشر مع المتفرج، يُعطي الإحساس بالواقعية القريبة من واقعية الحياة، كما تعرفها جماهير الناس، فلابد للحوار التليفزيوني أن يكون بمثابة وسيلة خاصة، وثيقة الصلة بين المتفرج والنص، وأكثر بساطة وواقعية، عن الوسائل الأخرى، كالمسرح والسينما.
وأفضل حوار للتليفزيون هو حوار المدرسة الطبيعية، فهو أكثر صلاحية للدراما التليفزيونية، لأنه يناسب الإطار التسجيلي للتليفزيون، الذي يوحي إلى المتفرج بأن كل ما يراه وثيق الصلة بالحياة، وموضوعات الساعة. وأهم ميزات هذا الحوار تكمن في التشابه الظاهري بينه وبين الحوار اليومي، بما فيه من تفكك وانتقال غير منطقي من موضوع لآخر، وجمل ناقصة، وكلمات حائرة وفترات صمت. ولكن على المؤلف، الذي يتبع هذا المذهب الطبيعي في معالجة الموضوعات العادية المأخوذة من الحياة، ألا ينسى أن الدراما الحقيقية هي تلك التي لها مغزى إنساني عام، ولابد أن تُحدث هذه الدراما ما يسمى بالتمثيل الدرامي، أي أن يرى المتفرج نفسه في الشخصيات الموجودة في العمل، وكذلك في الموّاقف والأحداث التي تدور أمامه. وهذا لن يتأتى إلاّ إذا كانت المواقف في العمل التليفزيوني مستمدة من الواقع، الذي يدركه المشاهد وليست بعيدة عنه، وأن تكون الشخصيات شبيهة به، وإلا ظل المتفرج بعيداً عما يشاهده، أو ظل يشاهد دون مبالاة ودون أدنى انفعال. فتفتقد الدراما بذلك خصيصة من خصائصها، وهي المشاركة الوجدانية في الموقف الدرامي.
وإذا نظرنا إلى أغلب الأعمال، التي تقدم في التليفزيون العربي ـ بشكل عام ـ سنجد أنها كثيراً ما تُقدم شخصيات ومواقف بعيدة عن المشاهد، لأن المؤلفين ـ أو على الأدق المعّدين ـ قد لجأوا إلى الأفكار الأجنبية، ببيئاتها وظروفها وأفكارها وحضاراتها وعاداتها وتقاليدها، التي تختلف تمام الاختلاف عن البيئة العربية. فكثير من الشخصيات، التي تقدم في كثير من هذه الأعمال، يرفض المتفرج العربي أن يكون مثلها، أو أن يعيش أحداثها. والمهم أن يدرك المؤلف التليفزيوني، أن التليفزيون وسيلة تعبير بالصورة قبل الصوت، حتى يشد انتباه المتفرج، ويجعله لا يترك التليفزيون، بسبب مشاهدته الصورة المناسبة التي تربطه بالأحداث والحوار. أما التمثيليات، التي يمكن أن يسمع المتفرج حوارها فقط ويدرك كل شئ فيها، فهي تمثيليات ليست تليفزيونية، لأن المؤلف لم يستغل ميزة الصورة في التليفزيون، بل جعلها صفة ثانوية وليست أساسية، وقد نجد أن أغلب المسلسلات، التي يقدمها التليفزيون العربي، مسلسلات إذاعية مصورة، لا تعتمد على ميزة أن التليفزيون صورة قبل الصوت، لأنها تعتمد على الحوار أكثر من اعتمادها على الصورة، بل كثير ما يكون الحوار أكثره ثرثرة دون داعٍ.
وليس معنى طبيعية الحوار وتلقائيته، أن ينقل فوتوغرافياً ما يدور في الحياة الواقعية، دون معنى أو قيمة أو هدف. بل يُكتب الحوار الواقعي، كما ينبغي أن يكون عليه الواقع من الناحية الفنية. فالمؤلف الذي يلجأ إلى هذا النوع من الحوار، الثرثار الممل المطول المتكرر، إنما يلجأ إليه بسبب عدم قدرته على كتابة الحوار الجيد المناسب لعمله، ولأنه لا يملك إمكانية كتابة الحوار الدرامي.
أما قضية اللغة بين العامية الفصحى، فإن الأعمال الدرامية العادية، أي التي تعالج مشاكل وقضايا اجتماعية، فيُفضّل حوارها بالعامية، بعيداً عن الابتذال والإسفاف في الألفاظ. أما إذا كانت الأعمال الدرامية دينية أو تاريخية، فلابد أن تكون بالفصحى، نظراً لمكانة التاريخ في وجدان الشعوب، وأن تكون الفصحى بعيدة عن التقصّر والصور البلاغية المتكلفة.
ثالثاً: الحبكة والسيناريو في التليفزيون:
التليفزيون وسيلة تعبير مرئية، أي أنه يشبه السينما إلى حد كبير، لذلك فكل عمل درامي تليفزيوني لابد أن يكتب من خلال السيناريو، حتى يساعد ذلك عملية التسجيل ـ سواء أكان العمل تمثيلية أم مسلسلاً أم سلسلة ـ عن طريق تصوير مشاهد من العمل الدرامي بكاميرات الفيديو الإلكترونية، خلافاً للسينما التي تستخدم الكاميرا السينمائية، وشريط من "السيلولويد".
ولأن التليفزيون، مثل السينما، يستعمل الكاميرا في تصوير اللقطات، فلا بد من وجود سيناريو. فالسيناريو في التليفزيون بمثابة تمثيلية مجسدة على الورق، وعلى المخرج وباقي الفنيين محاولة إخراج التمثيلية المجسدة من على الورق، لتصبح نابضة بالحياة على شاشة التليفزيون. وهو أمر يحتاج إلى شيء من الشرح والتفصيل، وذلك هو عمل السيناريو، تماما مثل السينما.
وإذا كان السيناريو السينمائي يمر بأربع مراحل رئيسية، قبل التصوير هي: الفكرة، والمعالجة، والسيناريو، والسيناريو التنفيذي أو سيناريو التصوير، فإنّ السيناريو التليفزيوني يُمر بثلاث مراحل فقط. ليس منها سيناريو التصوير، لأن ذلك من مهمة المخرج التليفزيوني. ولكن كاتب السيناريو السينمائي من واجبه أيضاً، أن يكتب سيناريو التصوير. ويعود ذلك إلى أن المخرج السينمائي يمكن أن يصور القطة التي يحددها له كاتب السيناريو، وكذلك يمكنه ضبط الكاميرا على الزوايا المحددة في السيناريو، لأن طبيعة الكاميرا السينمائية تعطى حرية حركة كبيرة أثناء التصوير، وإن كانت كاميرات الفيديو الحديثة المحمولة على الكتف تعطى حرية حركة كبيرة أيضاً أثناء التصوير، ولكن تبقى الغلبة لكاميرا السينما. وقد تؤدي صغر حجم الاستوديوهات أحياناً كثيرة في التلفزيون، إلى عدم تمكن المخرج من تصوير اللقطات المحددة في السيناريو. وكذلك، فإن طريقة بناء الديكورات والمناظر في التليفزيون، قد تكون في أحيان كثيرة عائقاً كبيراً للمخرج، تحد من حرية تحريك الكاميرات كيفما يريد، لأنه يكون مرتبطاً بالمساحات القليلة المتبقية من أرضية "البلاتوه"، ليحرك عليها كاميراته، بعد أن احتلت الديكورات والإكسسوارات المساحة الأكبر. وهذا قد يجعل المخرج لا يتمكن من تنفيذ اللقطات المحددة، في سيناريو التصوير. إضافة إلى أن طبيعة بناء الديكورات نفسها في الأستوديو التليفزيوني، قد تعوق - وغالباً هذا ما يحدث - عند تنفيذ سيناريو التصوير، لأن كاتب السيناريو يضع رؤيته من خلال معالجة الموضوع، وتقطيعه إلى لقطات، دون أن يعرف المساحات الخالية من أرضية "البلاتوه"، ودون أن يعرف أماكن وجود الكاميرات بين الديكورات، وكيف ستتحرك تلك الكاميرات التحرك السليم، ودون أن يعرف أماكن ديكوراته. فهو يحدد ديكوراته في التمثيلية دون أن يعرف أماكنها في "البلاتوه". فإذا كان لديه في التمثيلية ـ مثلاً ـ ثمانية أماكن للتصوير (ديكورات)، فهو لا يعرف أيهما سيكون بجانب الآخر، أو قريباً منه، لأنه يمكن أن يتخيل وجود الديكورات بصورة تتناقض مع الصورة التي يتم بها بناء الديكورات في "البلاتوه"، وهذا يؤدى إلى عدم استطاعة الكاميرات التقاط اللقطات المحددة، في سيناريو التصوير.
وعلى هذا الأساس، فمن الأفضل أن يكون سيناريو التصوير التليفزيوني من مهام المخرج، وفي الغالب لا يضع المخرج هذا السيناريو التنفيذي، إلاّ بعد أن يتم بناء الديكورات في الأستوديو. وعلى أساس مواقع الديكورات، وأماكن الكاميرات، وإمكانية تحريكها، والأماكن التي يمكن أن يتحرك فيها الممثلون، ومن خلال إدراكه لكل ذلك، يمكن أن يحدد لقطاته النهائية، التي سيصورها، مع الحركات اللازمة للكاميرات. وليس معنى هذا أن كاتب السيناريو التليفزيوني يغفل لقطاته، أو حركة الكاميرات، بل عليه أن يذكر ما يمكن أن يعُين المخرج أثناء كتابته لسيناريو التصوير، من أجل إيضاح رؤية المؤلف في العمل، ومحاولة تجسيدها. وحبذا لو تلاقت رؤية كاتب السيناريو مع رؤية المخرج، فإن ذلك سيجعل العمل يخطو خطوات مهمة على طريق الجودة.
والحبكة في التليفزيون، مثل الحبكة في السينما والمسرح والإذاعة، ولكن الاختلاف، كل الاختلاف في كيفية استغلال إمكانيات كل وسيلة، لبناء هذه الحبكة، التي تختلف من شكل إلى آخر. فحبكة التمثيلية تختلف عن حبكة المسلسل، وعن حبكة السّلسة. وإن كانت حبكة الحلقة الواحدة من السلسة، قريبة الشبه جداً من حبكة التمثيلية. فحبكة التمثيلية التليفزيونية، سواء كانت قصيرة أو تمثيلية سهرة، مثل حبكة المسرحية تماماً، ولكن الاختلاف في طريقة المعالجة، نسبة إلى اختلاف إمكانيات التليفزيون عن المسرح. وفي هذا النوع من الدراما التليفزيونية يتصاعد الحدث، إلى أن يصل إلى الذروة الرئيسية، كما هو الحال في المسرحية تقريباً.
أما حبكة المسلسل فتعتمد على عقدتين، عقدة كبرى تُحل في نهاية المسلسل، وعقد فرعية أخرى بعدد حلقات المسلسل، بحيث تشتمل كل حلقة على عقدة فرعية. وهذه العقدة الفرعية تدور في إطار العقدة الرئيسية، ويتم تطور الشخصيات والصراع منذ الحلقة الأولى حتى نهاية الحلقة الأخيرة، أي أن العقد الفرعية كلها تصب في النهاية في العقدة الرئيسية. أما في حبكة السلسة، فتختلف عن حبكة المسلسل، لأن الأحداث في المسلسل تتطور من الحلقة الأولى إلى الحلقة الأخيرة، أما في السلسلة فكل حلقة تنتهي بنهاية أزمتها، أو بحل عقدتها هي وحدها، أو بمعنى أدق، كل حلقة من حلقات السلسلة بمثابة تمثيلية مستقلة، أي لها بداية ووسط ونهاية، حيث إن الحلقة الواحدة من السلسلة تعد عملاً درامياً كاملاً، لأن كل حلقة تبدأ بداية جديدة، ليست لها علاقة بنهاية الحلقة التي سبقتها.
والعلاقة الوحيدة بين الحلقات، هو وجود شخصية رئيسية تقوم بالبطولة في كل الحلقات، أو أن الموضوع الأساسي في كل الحلقات واحد، والاختلاف في الشخصيات التي تحكي الموضوع في كل حلقة، أي أن الأبطال هم الذين يتغيرون والموضوع واحد، أو أن الشخصيات ثابتة والموضوع هو الذي يتغير، من حلقة إلى أخرى.
أما التمثيلية الواحدة أو تمثيلية السهرة، فهي أفضل الأشكال الثلاثة وأسهلها على الكاتب، لأنها قريبة الشبه بالمسرحية من حيث البناء الدرامي، ولأن موضعها مكثف دون تطويل.
أما المسلسل، فالمدة الزمنية لمجموع حلقاته، يفوق كثيراً تمثيلية السهرة، أو الفيلم. لذلك غالباً ما تكون الموضوعات، التي يعالجها كتاب هذا النوع من الدراما، لا تحتمل المعالجة على مدى حلقات المسلسل. فيلجأ الكاتب إلى الحشو والتطويل والإسهاب في الحوار، والتكرار بلا معنى، والمواقف غير المبررة، وإغفال عنصر الحتمية في تسلسل المشاهد، وبناء أحداث لا مبرر درامي لوجودها، وشخصيات زائدة لتطويل مدة الحلقة فقط. كل ذلك من أجل أن يسد الفراغ الموجود في زمن الحلقات، ولهذا تجئ أغلب المسلسلات مملة بالنسبة للمشاهد.
لابد أن يدرك الكاتب أن نصه سوف يطلع عليه كل من المخرج، والرقيب، ومصمم المناظر، ومهندس الإضاءة، وأخصائي الماكياج، وأخصائي الإكسسوار، ومدير الأستوديو، والممثلون والممثلات، ومساعدو الإخراج .. الخ، وكل منهم يقرأ النص ليستخلص منه المعلومات التي تخصه، بأقل جهد ممكن. وهذا في حد ذاته يشكل مسؤولية كبرى تقع على عاتق الكاتب التليفزيوني، فعليه أن يضع في نصه كل ما يهم، أو يخص، كل واحد منهم. لأنهم سيتعاونون معاً لتقديم النص. بمعنى أنه لابد أن يذكر، إضافة إلى الحوار، الذي يعالج به الأحداث والمواقف، والذي تنطق به الشخصيات، عدداً من التفاصيل الأخرى.
وقبل ذكر هذه التفاصيل الأخرى، يستحسن معرفة الشكل، الذي ستكتب بداخله هذه التفاصيل، أو بمعنى آخر، شكل الصفحة الواحدة من السيناريو التليفزيوني.
وهناك شكلان لهذه الصفحة: أحدهما طريقة العمود الواحد، والثاني: طريقة العمودين، وهي الطريقة الأكثر شيوعاً.
ومعنى العمود الواحد، أن يُكتب بعرض الصفحة كلها، مثل كتابة المسرحية تماماً. فإذا انتهت جملة حوار، وأراد كاتب السيناريو إثبات إرشادات خاصة بها، كتبها بعرض الصفحة.
أما في طريقة العمودين، فتقسم الصفحة إلى نصفين بطول الورقة، أو قسمين، أو عمودين. يكتب المؤلف في عمود منهما الحوار، وأي صوت آخر سيسمعه المشاهد. وفي العمود الآخر يكتب وصف الصور وتعليمات الكاميرا، أي كل ما سيشاهده المتفرج. ويسمى العمود الذي به الحوار، وأي صوت آخر (أوديو)، أما العمود الآخر، الخاص بالصورة، فيسمى (فيديو).
وكلّما ازداد المؤلف التليفزيوني خبرة، ازداد معرفة بالاستوديوهات، التي يُكتب لها، وبإمكانياتها. وكلما زادت ملاحظاته في الجزء الخاص بالصورة (الفيديو)، أعطى المخرج كل الإشارات الممكنة عن الكيفية، التي يريد تقديم عمله بها. أما الكُتاب قليلو الخبرة، فيتركون الجزء الخاص بالصورة، دون أي تعليمات أو إرشادات.
أما التفاصيل التي تكتب في صفحة السيناريو، نجد إن في التمثيلية التليفزيونية، فمثلها مثل الفيلم تماماً. تتكون من عدد من المشاهد، وكل مشهد يتكون من مجموعة من اللقطات. ويشتمل كل مشهد من المشاهد، على هذه المعلومات في البداية:
1. رقم المشهد مسلسلاً، مع باقي المشاهد.
2. هل المشهد داخلي أم خارجي، وهل هو نهار أم ليل.
3. الإشارة إلى ما إذا كان (حياً) داخل الأستوديو، أو مصوراً على فيلم.
4. إذا كان (حياً) يجب ذكر المنظر، وإذا كان فيلماً يجب ذكر الموقع، الذي سيتم فيه تصوير الفيلم. وهذه عدة بدايات مختلفة.
أ. المشهد الرابع: (داخلي - ليل) ستوديو (حي) حجرة مكتب الأب.
ب. المشهد السابع: (خارجي - نهار) (فيلم) ميدان التحرير.
ج. المشهد التاسع: (داخلي - نهار) ستوديو (حي) المطبخ.
د. المشهد العاشر: (خارجي - ليل) (فيلم) برج الجزيرة.
وفي نهاية كل مشهد يُذكر كيفية ربطه بالمشهد الذي يليه، كأن يُذكر: قطع، مزج، اختفاء تدريجي، وكل طريقة لها معناها واستخدامها الخاص. فالقطع مثلاً يستخدم لربط المشاهد ببعضها في حالة استمرار الحركة، دون أي انقطاع زمني، أي في حالة استمرار الحركة وانسيابها. أما المزج فيستخدم في ربط المشاهد، التي يوجد بينها انقطاع زمني مثلاً، ويمكن التحكم في سرعته للدلالة على الفترة الزمنية التي انقضت، أو للدلالة على الإيقاع العام للعمل. أما الاختفاء التدريجي ـ فعادة ـ يستخدم في نهاية الفصول.
وإضافة إلى المعلومات، التي ـ عادة ـ يبدأ بها المشهد وينتهي بها، لابد أن يحاول الكاتب ذكر ما يهم كل الفنيين إضافة إلى الممثلين. وعلى سبيل المثال يذكر هل بالحجرة باب أو شباك أو سرير أو منضدة، أو أي شئ آخر. أي لابد من ذكر كل المصورات، التي لابد من وجودها في المشهد، وكذلك يذكر تتبع الكاميرا للممثلين، إذا كان ذلك ضرورياً. مع ذكر حركة الممثلين.
هذا في النصف الأيمن (فيديو). أما في النصف الأيسر (أوديو)، فيذكر كلمات الحوار التي سيتفوه بها الممثلون، إضافة إلى المؤثرات الصوتية والموسيقى، في حالة وجودها.
ولابد أن يدرك الكاتب التليفزيوني، أن طبيعة التليفزيون تحتاج لمشاهد قصيرة، لأن طول المشهد أساسي جداً، والمشاهد التليفزيونية الطويلة نقص في الكتابة، لأنها أقرب إلى المسرح، وإذا دعت الضرورة لوجود مشهد طويل نسبياً، فلابد من وجود المبرر الدرامي لذلك.
رابعاً: الموسيقى والمؤثرات الصوتية والمناظر في الدراما التليفزيونية:
الواقع أن وظيفة الموسيقى والمؤثرات الصوتية والمناظر في السينما، هي وظيفتهم نفسها في التليفزيون، مع اختلاف الإمكانيات بين الوسيلتين.
ففي يوليه 1977 م شاهدت القاهرة فيلم "الزلزال"، وقد استخدمت أجهزة خاصة وضعت في دار العرض، من أجل إحداث صوت الزلزال الحقيقي، حتى يشعر المتفرج أنه في منطقة الزلزال فعلاً. أي أنهم استخدموا أجهزة للمؤثرات الصوتية الحسية المجسمة، وقد تكلفت هذه الأجهزة مبالغ كبيرة.
وعندما أذاع التليفزيون المصري الفيلم نفسه في أواخر عام 1983 م، ثم في أوائل عام 1984 م، ولم يحس لكن المشاهد التليفزيوني بالزلزال، أو بالصوت الحقيقي للزلزال في منزله، لأن التليفزيون وسيلة جماهيرية، لا يمكن التحكم في مشاهديه. فالسينما وضعت الأجهزة الخاصة بالمؤثرات الحسية في دار العرض، بينما لا يمكن وضع هذه الأجهزة في كل مكان به تليفزيون. لأنه ضرب من ضروب المستحيل. ولذلك فاستخدام الموسيقى والمؤثرات الصوتية، لا يختلف من السينما إلى التليفزيون إلاّ في التقدم العلمي، أي الإمكانيات الفنية، إضافة إلى الإمكانيات المادية، ولا يُعرف ماذا سيأتي به الغد بالنسبة للتقدم العلمي تجاه جهاز التليفزيون.
فالمهم، أنّ على المؤلف التليفزيوني أن يحدد أماكن الموسيقى، والمؤثرات في السيناريو، الذي يكتبه، بحيث يؤدى ذلك إلى خدمة فكرة العمل الذي يكتبه، وكذلك من أجل الإثراء الدرامي.
أما عن استخدام الملابس والإكسسوارات، فلا يختلف في التليفزيون عنها في السينما، ولكن الاختلاف في المناظر. فاستوديوهات التليفزيون حجمها أصغر بكثير من حجم استوديوهات السينما. ومن أجل ذلك فحرية المؤلف التليفزيوني محدودة لتعدد المناظر في تمثيليته، فلابد أن يراعى الكاتب التليفزيوني ذلك، ويحاول، بقدر الإمكان، أن يكتب من خلال إمكانيات التليفزيون، لا من خلال خياله كمؤلف.
وكذلك الحال للمناظر الداخلية والخارجية. ففي السينما تصور المناظر الداخلية داخل الأستوديو، وكذلك في التليفزيون. أما المناظر الخارجية، في السينما فيجري تصويرها خارج الأستوديو، أي يتم تصويرها في أماكنها الفعلية. أما في التليفزيون فيتم بناء الديكورات الخارجية داخل الأستوديو، فتكون المناظر أضعف منها بكثير في السينما، لأنها تكون بعيدة عن الواقع، وتقليداً مشوهاً له، وقد تستخدم الخدع التليفزيونية، كالكروما مثلاً، وفيها يتم إحضار فيلم عن المكان الخارجي، أو يتم تصويره وحده بكاميرات الفيديو، ثم يتم تصوير المشهد داخل الأستوديو، وتركيب المنظر الخارجي كخلفية للتصوير الداخلي، عن طريق جهاز الكروما، حيث تدهن خلفية الممثلين، وكذلك الأرضية التي يمثلون عليها باللون الأزرق، وبعد ضبط دقيق جداً، يمكن تفريغ اللون الأزرق من الصورة المصورة داخلياً في الأستوديو، ووضع الصورة المصورة للمكان الخارجي في الخلفية، فيأتي المشهد وكأنه صور بالفعل في مكان الأحداث الخارجية. ولكن في هذه الحالة سيكتشف المشاهد أن التصوير لم يتم في المكان الطبيعي للأحداث، حين الشخصيات كلها تتحرك ولا يوجد لها ظل على الأرض، وكأنها معلقة في السماء، لأن الظل قد تم تفريغه مع اللون الأزرق عن طريق جهاز الكروما. فيجد أن المشهد مصنوعاً وليس طبيعياً.
وقد يلجأ بعض المخرجين إلى تصوير المشاهد الخارجية في الأماكن الحقيقية، مثل السينما تماماً، عن طريق استخدام كاميرات السينما، ثم تنتقل الصورة السينمائية إلى شريط الفيديو الخاص بالتمثيلية عن طريق أجهزة التيليسين، أو تصويرها تليفزيونياً بوحدات الفيديو الخارجية. وهي تكون أكثر صدقاً عن سابقتها. ويكون العمل تلفزيونياً حقيقياً في هذه الحالة، خلافاً للعمل الذي أُقحمت فيه مشاهد صورت سينمائياً. فمن ناحية لا يمكن أن يكون العمل تليفزيونياً مائة في المائة، ومن ناحية أخرى ـ فالمشاهد المصورة سينمائياً ـ سيجد المشاهد أن درجة ضبط الصورة فيها ودرجات ألوانها وإضاءتها، تختلف عن باقي التمثيلية. فالعمل التليفزيوني لابد أن يتم فيه استغلال كل الإمكانيات الخاصة بالتليفزيون، وليس إقحام أو استعارة إمكانيات ووسائل أخرى، كالسينما مثلاً داخل العمل.
وهكذا نجد أن التليفزيون يختلف عن السينما بالنسبة للمنظر، أما وظيفة المنظر فواحدة في الاثنين.
ويقع الفنيين في التليفزيون ـ غالباً ـ في أخطاء كثيرة، عند اختيار الملابس أو المناظر المناسبة للعمل، وكذلك عند اختيار الإكسسوارات المناسبة. فقد تستعمل ملابس عصر ما في غير عصرها أو مناسبتها، وهو أمر كثير الحدوث. وفي الأعمال الدينية والتاريخية، لأن المسئولين فنياً لا يتحرون الدقة في الاختيار. وهذا أيضاً قد يحدث في السينما والمسرح. ولكن في السينما تكون نسبة الخطأ أقل، لأن إمكاناتهم أضخم بكثير من المسرح والتليفزيون، من ناحية، ولأن الفنيين يحاولون تحري الدقة أكثر من زملائهم في التليفزيون، من ناحية أخرى.
المبحث الخامس والعشرون
كتابة السيناريو للتليفزيون
تشبه التمثيلية التلفزيونية الفيلم السينمائي، من حيث إنها قصة تروى بالصور، أو هي فن سرد القصة بالصور. وتُطلق كلمة "فيلم"، عادة، على كل مادة مسجلة، تحكى بالصورة المتحركة قصة، أو موضوعاً، يعرض بوسيلة إليكترونية. وعلى هذا الأساس، استعارت التمثيلية التلفزيونية الكثير من الخصائص والقواعد والأسس، التي يقوم عليها البناء الفني والدرامي للفيلم السينمائي. وأصبح النص المكتوب للتمثيلية التليفزيونية، يكاد يتشابه كلية مع النص المكتوب للفيلم الروائي، سواء من حيث الشكل، أو في قواعد كتابته وأساليب بنائه الفني. ولذلك يطلق علي كليهما الاصطلاح الفني المعروف، وهو "السيناريو" scenario . وهي الكلمة، التي كانت، ومازالت، تستخدم بالمعنى نفسه الذي تُشير إليه في أصلها الأجنبي، ويعني "مخطط المسرحية، أو الفيلم السينمائي" أو "نص القصة المعدة للإخراج السينمائي، ويشتمل على وصف الشخصيات، والحوار، والتفاصيل الخاصة بالمشاهد، وإرشادات مختلفة" .. أي أنه النص المكتوب للقصة، التي تقدم مرئية، حيث يسردها من خلال الصور وبواسطتها، وفق خطة منظّمة ومتقنة، تتوخى الإقناع والإبداع والجمال والتشويق.
ولمّا كان السيناريو ـ على هذا النحو ـ هو خطة، أو مشروع، الفيلم أو التمثيلية، مكتوباً على الورق، أو هو رواية مكتوبة بأسلوب السينما، كان على الكاتب ـ لكي ينجح في تقديم عمل جيد متكامل ـ أن يوظف كل مهاراته، ويضع كل جهده في البناء الفني للنص، بحيث تؤدي الصورة الدور الرئيسي في نقل الأفكار، وشرح المواقف، والتعبير عن الأشخاص والأحداث، في قالب شيق مثير، يجذب الانتباه، ويستأثر بفكر المشاهد. وبطبيعة الحال، فلن يتمكن الكاتب من ذلك، ما لم يكن متمرساً قادراً على إبداع الصور وابتكارها، وبناء المشاهد، بالطريقة نفسها، التي ينتقى بها مؤلف القصة أو كاتب المقال كلماته، ليبنى بها جملاً وفقرات تُعبر عن الآراء والأفكار، وتجسد الانفعالات والمشاعر والمواقف.
ويعني ذلك ببساطة: أن السيناريو، وإن كان يعتمد على الصورة في المقام الأول، فهو صورة بطبيعة الحال، بل هو صور تصنع بدقة وعناية وحنكة، ثم يتم ترتيبها وتركيبها مع بعضها وفق خطة منظمة، تتفادى العشوائية والارتجال، وتوضع في قالب فني، يتجنب التكلف والاستطراد الممل.
أولاً: بناء القصة:
يقوم السيناريو، أساساً، على قصة لها بداية ووسط ونهاية. وتُصبح مهمة الكاتب أن يضع لهذه القصة هيكلاً، أو شكلاً، يتيح له أن يسرد من خلاله الأفكار والحوادث والمواقف، وأن يضع ذلك على الورق بالصورة والكيفية نفسها، التي سيُعرض بها العمل على الشاشة، محدداً ما يجب أن تقدمه كل صورة. ولذلك لابد أن يخضع بناء القصة، لاعتبارات ثلاثة أساسية، هي:
1. التوازن بين أجزائها.
2. التوقيت: ويُقصد به استخدام العناصر المختلفة للقصة، في موضعها المناسب، وفي اللحظات المناسبة تماماً.
3. الإيجاز والتكثيف: بحيث يأتي سرد القصة واضحاً، بحيث يقود المتفرج إلى الهدف تدريجياً، حتى لا يشرد بعيداً عن الهدف والفكرة الرئيسية، والموضوع المطروح. وبذلك يصبح السيناريو في جوهره بياناً للأحداث والمواقف، التي تظهر من خلال الأحداث. وهو مرشد يجري على هديه الربط بين الشخصيات، في إطار الحدث الرئيسي أو الموضوع، وعلى أساس منطقي معقول.
ثانياً: مادة السيناريو:
تُعد الحركة هي المادة الأساسية للسّيناريو، مثل الكلمات للمؤلف. فالحركة هي التي تضفي على الصورة مغزاها، وتكسبها خاصية التعبير عن مضمونها. وإذا كان على الكاتب أن يركز على الحركة، باعتبارها مادة السيناريو الرئيسية، فإن ذلك ينبغي أن يخضع للاختيار والانتقاء. فكما أن الكتابة أو المقال، لا يُمكن أن يتألف من أي كلمات، فكذلك الفيلم والتمثيلية لا ينبغي أن تتألف من أية حركات، بل من الحركات، التي تُعبّر عن المعنى والمغزى المطلوب. (والمعروف أن بعض الحركات قد تعبر عن الحالة النفسية، مثل نظرات الإعجاب مثلا، وهناك الحركات التي تعبر عن القصد أو النية، مثل اقتراب اللص من غرفة المكتب ونظراته التي يختلسها، وهناك الحركات التي تعبر عن الخوف أو الشك أو القلق، مثل حركات الطفل عندما يشعل الضوء ويتلفت حوله وينظر أسفل السرير) وتأتي الحركة في التمثيلية أو الفيلم، من ثلاثة مصادر هي:
1. حركة الممثلين والمرئيات، داخل القصة.
2. حركة الكاميرا وهي ثابتة في مكانها (حركة إلى اليمن أو اليسار، أو إلى أعلى أو أسفل، والكاميرا ثابتة في مكانها دون أن يتحرك حاملها).
3. حركة الكاميرا إلى الأمام أو الخلف، أو مرافقتها لغرض متحرك تتابعه في حركة.
ثالثاً: اللقطة السينمائية:
عندما تدور الكاميرا لتصور غرضاً أمامها، تكون قد بدأت في تصوير لقطة
" SHOT"، وعندما تفرغ من ذلك وتنتقل إلى كاميرا أخرى، أو يبدأ التصوير من جديد بالكاميرا نفسها، بعد توقفها، يكون قد بدأ تصوير لقطة جديدة. ويتكون سيناريو الفيلم، أو التمثيلية، من مجموعة لقطات، كما تتكون القصة من الجمل. أي أن الكلمات والجمل والفقرات عند المؤلف، تقابلها عند السينمائي أو كاتب السيناريو، الحركة واللقطة والمشهد. فالحركة هي الكلمة، واللقطة هي الجملة، والمشهد هو الفقرة. ومن هنا تصبح اللقطة هي أسلوب الكاميرا في معالجة الحركة، وهي الجملة، التي يستخدمها كاتب السيناريو في سرد القصة، فيقول من خلالها: اُنظروا إلى هذا، ثم اُنظروا إلى هذا، ثم اُنظروا ماذا يجرى .. الخ؟. وهنا يكمن الفرق الجوهري بين الجملة، التي تتألف من كلمات، وبين اللقطة باعتبارها جملة تتكون من صور للحركة. وهذا الفرق هو الذي يجعل كاتب السيناريو، يستبعد كل "جملة" لا يستطيع ترجمتها إلى حركة، لأنها في هذه الحالة لا تصلح لأن تكون مادة لسيناريو، أو جملة في النص. أما الجمل التي تصلح لأن تترجم إلى حركة، فإنها تحتاج إلى إعادة صياغة، على النحو الذي يحقق لها أن تحتفظ على الشاشة بالأثر نفسه، الذي تحدثه الكلمات المكتوبة.
فمن الجمل ما يأتي في عدد قليل من الكلمات، إلاّ أنه يستغرق وقتاً طويلاً في الواقع. فإذا قلت مثلاً "كانت الولادة متعسرة"، فإن هذه الكلمات الثلاث تشير إلى حدث استغرق ساعات، ولا يمكن في التمثيلية أو الفيلم أن تُقدم واقعة أو حدثاً يستغرق الزمن أو الوقت نفسه، الذي يستغرقه في الواقع، وإنما يُلجأ إلى الإيهام بحدوث الفعل، أي بأنه قد بدأ وانتهى.
إن هذه الجملة، التي تتألف من ثلاث كلمات، "كانت الولادة متعسرة"، تعبر عن حدث يستغرق تصويره في الواقع عدة ساعات. ولكن واقع الفيلم أو التمثيلية، يُخضع هذه الجملة المكتوبة لأن تتحول إلى صور مرئية، ومن ثم تخضع لاعتبار الإيجاز أو التكثيف. فتترجم الحدث أو الجملة المكتوبة إلى مجموعة لقطات، تحكى الحدث في عدة ثوان بدلاً من عدة ساعات .. ولنضرب مثلاً لذلك، من خلال ترجمة حدث الولادة المتعسرة إلى لقطات مرئية على النحو الآتي:
1. لقطة لسيدة محمولة على عربة مستشفي تدفعها إحدى الممرضات، وتسير بين ممرات المستشفي، ويسير إلى جوارها وخلفها بعض أفراد الأسرة، الذين يبدو عليهم الفزع والاضطراب والقلق.
2. لقطة للافتة أو باب مكتوب عليه "غرفة العمليات - طوارئ".
3. لقطة طفل صغير مع المربية والإشارة إلى أن ذلك هو منزل السيدة وهذا طفلها.
4. لقطة للطفل وهو يحاول الوقوف، ويجذب إحدى لعبه فتتهشم.
5. لقطة داخل غرفة العمليات تصور إجراء العملية.
6. لقطة للأسرة المنتظرة واستعراض الوجوه القلقة.
7. لقطة على ساعة الحائط، وحركة عقرب الثواني.
8. لقطة لباب غرفة العمليات يفتح ويخرج الطبيب مبتسماً، ومن خلفه تظهر إحدى الممرضات حاملة مولوداً يصرخ.
9. لقطة لوجوه المنتظرين، أو أفراد الأسرة، وقد ارتسمت على وجوههم علامات الارتياح والاطمئنان.
هكذا يُختزل الوقت في العمل السينمائي أو التلفزيوني، حيث يتم الإيهام بوقوع الحدث في حدود الوقت، الذي يتناسب مع اللغة التلفزيونية أو السينمائية. إلاّ أن تحويل العمل إلى لقطات لا يعنى أن المصور سوف ينتقل من مكان إلى مكان، بل يتم ذلك داخل أستوديو التليفزيون بواسطة عدد من الكاميرات، تخصص كل واحدة منها لتصوير لقطات محددة، بحيث يمكن الانتقال من لقطة إلى أخرى، ومن مشهد إلى آخر، بشكل متتابع. أما إذا كان التصوير خارج الأستوديو، فيصبح في الإمكان أن تُصور كل اللقطات المطلوب تصويرها في مكان واحد معاً، ثم يجرى ترتيبها فيما بعد، وفق ما هو محدد لها في السيناريو.
رابعاً: تحقيق التوازن في التمثيلية:
ويتحقق هذا التوازن في التمثيلية أو الفيلم، عندما ينجح كاتب السيناريو في المحافظة، على اهتمام المتفرج بجميع الشخصيات الرئيسية في التمثيلية بدرجة واحدة. وكذلك يتحقق التوازن في بعض الحالات، بإدخال بعض اللقطات والأحداث الجانبية العارضة، ومن ذلك اللقطات والمواقف المرحة، التي تُحقق التوازن مع التوتر الزائد أو، الذي استمر فترة من الوقت، أو التي تمهد للدخول إلى موقف متوتر. وفي هذه الحالات تكون المواقف الجانبية العارضة، بمثابة وقفات لالتقاط الأنفاس.
وهناك أساليب أخرى تستخدم، لإحداث ألوان من التوازن في الشكل. وفي هذا الصدد تلعب حركة الكاميرا وتكوين المناظر والمشاهد، دوراً مؤثراً وفعّالاً.
1. حركة الكاميرا:
إنّ الحركة هي المادة الرئيسية للسيناريو، وأما مصدرها في الفيلم أو التمثيلية، فينتج عن الأشياء المرئية نفسها، إذا كانت من النوع المتحرك (الناس والكائنات والأشياء المتحركة)، أو يأتي نتيجة لتحرك أو حركة الكاميرا نفسها. فالكاميرا، التي هي عين المشاهد في حقيقة الأمر، يمكنها أن "تلتفت يميناً أو شمالاً، وإلى أعلى أو أسفل، بينما هي ثابتة على حاملها، أي دون أن تسير أو تتقدم أو تتأخر. ويطلق على هذه الحركة اسم " Pan" أو الحركة الاستعراضية، فتكون الالتفاتة إلى اليمين هي Pan right، والالتفاتة إلى الشمال Pan left"، أما الالتفاته إلى أعلى فيطلق عليها Tilt up"، بينما الالتفاتة إلى أسفل يطلق عليها Tilt down".
وعندما تسير الكاميرا، أي تتحرك مع حاملها إلى الأمام أو الخلف، ويميناً أو شمالاً، ينتج عن ذلك نوع آخر من اللقطات. فحركة الكاميرا عندما تتقدم إلى الأمام مقتربة من المنظر، يطلق عليها اسم " Dolly in" والدوللي هو حامل الكاميرا ـ أما حركتها للخلف فيطلق عليها " dolly back"، أو dolly out، وتعني أن الكاميرا تتحرك إلى الوراء مبتعدة عن المنظر. وهذه الحركة نفسها هي التي يمكن تحقيقها باستخدام عدسة "الزووم" ـ وهي عدسة ذات أبعاد بؤرية متعددة، أو متعددة البعد البؤرى ـ وإن كان استخدام هذه العدسة يحقق ما يشبه الانقضاض، أو الاقتراب السريع المفاجئ من المنظر " zoom in"، " أو العكس تماماً، أي الابتعاد السريع المفاجئ عن المنظور " zoom out".
أما في حالة حركة الكاميرا عندما تسير مع المنظور متابعة له، دون الاقتراب منه أو الابتعاد عنه، فذلك ما يطلق عليه "المتابعة" أو "الشاريو" أو"التراك" " truck"، وهو "حامل الكاميرا".
وعلى الرغم من أن حركة الكاميرا، وتكوين المنظر وحجم اللقطة، وما إلى ذلك، يدخل في صميم عمل المخرج، إلاّ أن إلمام الكاتب بذلك يساعده، إلى حد كبير، على تصور ما يظهر على الشاشة من خلال عين الكاميرا وموقعها وحركتها. فحركة الكاميرا الاستعراضية، panorama يميناً أو شمالاً، وإلى أعلى أو أسفل، تستخدم لعرض ما يجرى، أو استعراضه بشيء من التفصيل. فتنتقل الكاميرا فوق وجوه المتهمين أو الشهود أو الكلمات أو الرسوم، فيما يشبه مرور العين فوق سطور الكتابة بشكل متصل حتى نهاية القراءة. وعلى هذا النحو فإن هذا النوع من اللقطات، يستغرق وقتاً طويلاً على الشاشة، ويستخدم، عادة، في التأكيد على أهمية ما يجرى، أو الرغبة في إبراز هذه الأهمية، وتركيز الانتباه على أشياء، أو أشخاص، في الوقت الذي تتغير فيه الخلفية أو تتنوع المرئيات. ولذلك فإن هذه اللقطات الاستعراضية، يمكن أن تحقق نوعاً من التوازن إذا استخدمت بعد سلسلة من اللقطات القصيرة، ولكنها لابد أن تنتهي إلى لحظة ذات مغزى. فيكون الانتقال بالقطع إلى لقطة أخرى، بمثابة رد فعل، أو إجابة على سؤال، أو مفاجأة غير متوقعة، (كأن يقف الشخص بعد الاستغراق في البحث في الأدراج والخزائن ـ يقف برهة ـ ثم يلتفت فجأة ناحية الباب، وترتسم على وجهه علامات الدهشة! هنا يكون القطع المباشر إلى ما جرى، أو ما ظهر عند الباب).
وكذلك فإن الحركة الاستعراضية من أعلى إلى أسفل، أو عكس ذلك، يمكن أن تُستخدم للربط بين لقطتين منفصلتين، في لقطة واحدة. (لصان يتحدثان تحت شجرة في حديقة المسكن، بينما هناك حارس في النافذة العليا، أو فوق الشجرة، يستمع إلى همسهما).
أما حركة الكاميرا إلى الأمام والخلف، فتشير إلى الاقتراب من شئ، أو الدخول إليه.، أو عكس ذلك. وهنا تكون اللقطة بمعنى: أصبحنا الآن هنا، أو: انظروا إلي هذا الشيء، أو: اُتركوا هذا الشيء، على عكس حركة المتابعة التي تقول: تعالوا معنا، إننا نمضي مع هذا الشيء المتحرك، لنذهب معه إلى المكان الذي يقصده.
2. زاوية الكاميرا:
إن كاتب السيناريو ليس مجبراً على أن تكون لديه معرفة واسعة بزوايا الكاميرا، ولكن يلزمه أن يُنمي عنده حاسة التفكير في المرئيات، كما تراها الكاميرا، وكما تنقلها من خلال "عيونها" أو "عدساتها". فعند الحديث عن الموقع أو الموضع أو المكان، الذي توجد فيه الكاميرا، والزاوية التي تنظر منها إلى الشيء الذي أمامها، وكيف يبدو هذا المنظور في عيون الكاميرا، وكيف يختلف شكله حسب اختلاف الزاوية، التي تنظر الكاميرا إليه منها. ويجب التأكيد على أن وضع الكاميرا ليس فقط توجيه العدسة إلى نقطة محددة، بل هي رؤية للشيء من زاوية خاصة، أو من جانب خاص، يشرح اللقطة ويفسرها من وجهة نظر السرد الفيلمي أو السرد المرئي (سرد القصة بالصورة).
فعلى كاتب السيناريو أن يتخيل دلالة ما تنقله الكاميرا من المنظور، عندما تراقبه من مكان معين، أو من زاوية معينة (عندما تكون الكاميرا في مكان مرتفع أعلى من المنظور، أو في مكان منخفض، أو عندما تكون في مستوى الرؤية نفسها) حيث ينتج عن زاوية الرؤية هذه أشكال ولقطات خاصة منها: اللقطة الرأسية وهي التي تكون فيها الكاميرا أعلى من المنظور، فيبدو المنظر أسفلها "صغيراً" أو "مغموراً" أو "متسعاً"، أو اللقطة المنخفضة، التي تكون فيها الكاميرا في مكان منخفض عن المنظور، فيبدو المنظور في وضع صاعد أو شامخ أو مرتفع، يوحي بالأهمية أو بالقوة أو بالقسوة أو البطش أو الهيبة. وهناك العديد من اللقطات، التي تنتج عن طبيعة الزاوية، التي تنظر منها الكاميرا نحو المنظور، ومن ذلك اللقطة المعكوسة، واللقطة المائلة، ولقطات المرايا .. الخ.
خامساً: حجم المنظور:
من الطبيعي أن يتغير حجم المنظر وشكله على الشاشة، وفقاً لحركة الكاميرا عندما تقترب منه، أو تبتعد عنه، ووفقاً للمكان، الذي تكون فيه الكاميرا أو الزاوية، التي تنظر منها إلى هذا المنظور، ونوع العدسة المستخدمة في التصوير.
وهناك ثلاثة أحجام رئيسية للمنظر، هي:
1. اللقطة العامة ـ المنظر العام ـ (م. ع)، وهي اللقطة التي تستوعب منظراً شاملاً بكل ما فيه من عموميات (حديقة عامة ـ جماعة من الناس ـ شارع ـ مبنى…الخ). ولا تُستخدم مثل هذه اللقطة عند الحاجة إلى إبراز التفاصيل، أو التقاط فرد واحد، أو عدد محدود من الأفراد.
2. اللقطة المتوسطة ـ المنظر المتوسط ـ (م. م)، وهي اللقطة التي تُظهر من الشخص رآسة ورقبته والكتفين وأسفل الصدر تقريباً. وتعد هذه اللقطة هي الأسلوب العادي، في سرد القصة.
3. اللقطة الكبيرة ـ المنظر الكبير ـ (م. ك)، وهي اللقطة التي تُظهر من الشخص الرأس فقط، أو تظهر الشيء المراد تصويره كبيراً واضحاً. وتستخدم هذه اللقطة في إبراز التفاصيل الصغيرة، والانفعالات البشرية، التي تظهر على الوجه، أو في حركة يد، أو اهتزاز قدم…الخ.
وإضافة إلى اللقطة العامة، أو المنظر العام، أو اللقطة الكبيرة، أو الكبيرة جداً big close up، يوجد العديد من اللقطات مثل: اللقطة العامة المتوسطة، (م. ع. م.)، والمنظر الكبير المتوسط (م. ك. م.)، وهكذا.
سادساً: علامات التّرقيم (الانتقال من لقطة إلى أخرى):
إن تتابع الصورة في التمثيلية أو الفيلم، والانتقال من لقطة إلى أخرى، ومن مشهد إلى آخر، يُعد مصدراً من أهم مصادر الحركة، وعاملاً من أهم العوامل، التي تتحكم في جعل إيقاع العمل سريعاً أو بطيئاً. والمعروف أن الإيقاع البطيء ينتج عن تتابع لقطات طويلة، بينما يحدث الإيقاع السريع من تتابع اللقطات القصيرة .. وقد يكون هناك إيقاع متوسط، أو قد لا يكون هناك إيقاع على الإطلاق، إذا تتابعت لقطات غير متساوية الطول دون نظام أو تخطيط.
إن الانتقال من لقطة إلي لقطة، في إطار السرد التليفزيوني أو السينمائي، يشبه إلى حد كبير علامات الترقيم، واستخدامها في الكتابة، كما يشبه استخدام الإظلام والإضاءة وإسدال الستار ورفعه في العروض المسرحية، عند الانتقال من مشهد إلى مشهد، أو من فصل إلى آخر.
ويجري الانتقال من لقطة إلى أخرى، ومن مشهد إلى مشهد، في التمثيلية التليفزيونية باستخدام عدد من الأساليب الفنية، هي:
1.…القطع Cut:
وهو الوسيلة العادية للانتقال، ويتم مباشرة وبسرعة، من الصورة، التي تلتقطها إحدى الكاميرات، إلى صورة تلتقطها كاميرا أخرى (ولا يحدث هذا في التصوير السينمائي حيث يجرى تقطيع اللقطات ـ أي الفيلم نفسه ـ وإعادة لصق أجزائه وفق الترتيب المطلوب، ومن هنا جاءت كلمة Cut، بمعنى قطع أو قص). وعموماً فإن الانتقال من لقطة إلى أخرى بطريقة القطع هذه، يُستخدم لإظهار المشهد من زاوية، أو من مسافة جديدة، دون تعديل في المشهد ذاته، أو للانتقال السريع من لقطة إلى أخري، أو من مشهد إلى آخر.
2. المزج dissolve:
ويعنى اندماج نهاية المنظر، الذي ينتهي في اللقطة الأولى، مع بداية المنظر، الذي يظهر في اللقطة التالية، ثم ذوبان المنظر القديم كلية، مع إيضاح معالم المنظر الجديد. وعلى ذلك يكون المزج عملية اختفاء وظهور في وقت واحد، حيث تتلاشى صورة إحدى الكاميرات، بينما تبدأ صورة الكاميرا الأخرى في الظهور. ويمثل "المزج" تغييراً طفيفاً في الوقت، أو المكان، أو فيهما معاً. كما يُستخدم، في كثير من الأحيان، لإظهار التباين أو التضاد contrast بين شيئين، كذلك يستخدم في الربط بين لقطتين متتابعتين، لإظهار العلاقة بينهما على الرغم من اختلاف مضمون كل منهما، اختلافاً كاملاً (كما يجرى عند تصوير أحلام اليقظة). أما في برامج المنوعات، فكثيراً ما تُستخدم طريقة المزج كنوع من "الإبهار"، ولفت الأنظار.
3. الظهور التدريجي fade in، والاختفاء التدريجي fade out, fade to back:
وتعني إظهار المنظر بالتدريج، كما يتلاشى المنظر الذي قبله بالتدريج، أي هي عملية تدرج في الظهور والاختفاء. وعلى هذا النحو، فإن الاختفاء التدريجي fade out، يشبه إلى حد كبير "النقطة" في نهاية الجملة، إذ يختفي المشهد تدريجياً، فيشعر المشاهد بأن الحدث قد انتهي، أو أنه قد تأجل مؤقتاً، وقد يتم ذلك في بطء شديد، أو في سرعة، حسب المعنى المقصود.
وتستخدم هذه الطريقة في الانتقال من لقطة إلى أخرى، أو من مشهد إلى آخر، للربط بين جزئين من الفيلم السينمائي أو التمثيلية. كما تُستخدم لتكثيف الإحساس بمرور الزمن. فالاختفاء البطيء جداً، الذي يتبعه ظهور بطئ جداً، إنما يُهيئ المتفرج للشعور بمرور زمن طويل في سرد القصة. أما الاختفاء السريع والظهور السريع، فيوحي بأن زمناً قصيراً قد مضى. وفي كل الحالات، لا يجوز أن يأتي الاختفاء fade out في منتصف حركة مهمة، بل يجب أن يُحتفظ به إلى اللحظة، التي نحتاج فيها إلى التعبير عن "وقفة" أو "لحظة صمت".
4. المسح wipe:
وهي طريقة تتمثل في إحلال صورة تلتقطها إحدى الكاميرات - إحلالاً تدريجياً - محل صورة تلتقطها كاميرا أخرى. ويتم ذلك باستخدام جهاز إليكتروني خاص، يمسح الصورة، لتحل محلها صورة أخرى، تظهر من أعلى الشاشة إلى أسفلها، أو من أسفلها إلى أعلاها، أو من إحدى جوانبها أو زواياها، أو من منتصفها. الخ. (يوجد ما يزيد على مائة وخمسين شكلاً، من أشكال المسح الإلكتروني).
5. البان السريع fast pan:
وهي طريقة للانتقال من لقطة إلى أخرى، باستخدام كاميرا واحدة، وهي حركة استعراضية سريعة، أو "عنيفة" للكاميرا، تجعلها تنتقل سريعاً من شئ إلى آخر وكأنها وضعت غشاوة على المنظر. وبذلك فهي تُعني بنقل المتفرج إلى شيء جديد، وكأنها تطالبه أن ينسى ما مضى، وأن يفكر فيما هو أمامه في تلك اللحظة. وعلى النسق نفسه فإنه بواسطة تحريك الكاميرا إلى الأمام والخلف، يمكن الانتقال من خلفية أحد المشاهد إلى مقدمته، أو الانتقال من اللافتات الافتتاحية، إلى المشهد الأول.
سابعاً: خطوات إعداد السيناريو التليفزيوني:
يُمكن تلخيص هذه المراحل في الخطوات الرئيسية الآتية [1]:
·…الاقتباس adaptation
·… الحوار dialogue
·… المعالجة treatment
·… الديكوباج (السيناريو النهائى)
1.…الاقتباس:
تُصاغ هذه المرحلة القصة وتُكيّف، حسب مقتضيات الشاشة، ولهذا ينبغي أن تكون الفكرة صالحة للعرض مرئية. وبعد التأكد من ذلك، يبدأ كاتب السيناريو في تلخيصها تلخيصاً دقيقاً، ويكون ذلك هو بداية العمل في السيناريو. ويعني الاقتباس تحويل كل شئ في القصة إلى حركة، تعبر عن صور ومشاعر، ترتبط وتتوإلى متتابعة مكوّنة قصة كاملة. وينبغي على كاتب السيناريو أن يكون قادراً على التخيل، بحيث يتخيل المرئيات في حركتها، وأوضاعها المختلفة. وتعد هذه المرحلة من أهم مراحل كتابة السيناريو، بل أهمها على الإطلاق.
2. المعالجة:
ويطلق عليها اسم "السيناريو الابتدائي". وفيها يبدأ الكاتب بمعالجة القصة، وتقطيعها بصورة أولية. وهذه المرحلة ليست هي المرحلة النهائية في السيناريو، كما قد يخطر لبعضهم، بل هي إعداد أولى مرئي للقصة. ويتم تقطيع حوادث القصة حسب المشاهد والمناظر، وفق ترتيبها وتسلسلها، وعلى كاتب السيناريو أن يكتب كل مشهد على حدة، فيصفه وصفاً دقيقاً، محدداً الأشخاص الذين يظهرون فيه، والملابس التي يرتدونها، ويشرح الحركة داخل المشهد، وما يظهر في المنظر من أثاث ومنقولات، ويذكر إذا كان المنظر داخلياً أو خارجياً، "أي سيصور داخل البلاتوه في الأستديو أو خارجه". كما عليه أيضا أن يحدد طريقة الانتقال من مشهد إلى آخر، وأن يضع الخطوط الرئيسية للحوار، أو يكتبه كله، أو بعض أجزائه.
ويتبع كتّاب السيناريو في إنجاز هذه المرحلة، وتسجيلها على الورق، طريقة خاصة، فتقسّم الصفحة إلى قسمين طويلين، كما هو معروف، ويخصص القسم الأيمن للمرئيات، والقسم الأيسر للصوتيات.
3. الحوار:
وهو المرحلة الثالثة من مراحل كتابة السيناريو، وهي مرحلة مستقلة بذاتها يمكن أن يقوم بها كاتب السيناريو نفسه، أو أي كاتب آخر متخصص. وأياً كان الأمر لمن سيكتب الحوار فعليه التقيد بالخطوط والخطوات الرئيسية المسجلة في السيناريو الابتدائي، وليس له أن يضيف مشاهد جديدة إلى السيناريو.
4. الديكوباج "السيناريو النهائي":
وهي المرحلة الأخيرة، التي يكون النص بعدها جاهزاً للتصوير. وفي هذه المرحلة تُقسّم المشاهد إلى لقطات، على ضوء ما تم في المرحلة الثانية، وعلى ضوء الحوار. ويصف كاتب السيناريو كل لقطة وصفاً دقيقاً موجزاً، ويوضح حركة الممثلين بداخلها، وحركة الكاميرا، وكيفية الانتقال من لقطة إلى أخرى، مستخدماً في ذلك أساليب الانتقال المعروفة "القطع والمزج والمسح .. الخ ". كما عليه أن يبين حجم كل لقطة، وفقاً للأحجام الخمسة المعروفة هي (المنظر العام - والمتوسط - والمتوسط العام - والكبير- والمتوسط).
[1] يمكن أن يضم الحوار في خطوة واحدة من السيناريو النهائى لتصبح ثلاث مراحل.
المبحث السادس والعشرون
السيناريو والتمثيلية التليفزيونية
إن التمثيلية التليفزيونية أو المسلسل أو السلاسل [1]، شكل من أشكال الدراما، ومن ثم فإن مؤلفها يسير على منهج يشبه، إلى حد كبير، ذلك المنهج المتبع في كتابة المسرحية. وتكون مهمة المؤلف "أن يقص قصة بواسطة شخصيات شبيهة بشخصيات الحياة، وأن يوفر لهذه الشخصيات ما يجعلها مثيرة للاهتمام، وأن يجرى على ألسنتها حواراً تتضح فيه سمات الحقيقة".
وبصرف النظر عما إذا كانت التمثيلية أو المسلسل أو السلسلة التليفزيونية، قد كتبت خصيصاً للتليفزيون، أو أعدت عن قصة أو رواية لم تكتب أصلاً له، أو اقتبست عن رواية أو مسرحية أو قصة محلية أو مترجمة، فإنها لابد أن تخضع، في كل الحالات، لقواعد الدراما وأصولها، بما يتلاءم وطبيعة التليفزيون وخواصه، وما يفرضه ذلك من التزامات ومتطلبات.
أولاً: كيف يفيد الكاتب من إمكانات التلفزيون؟:
لاشك أن التليفزيون يمنح كُتاب ومؤلفي الدراما إمكانات هائلة، لا تتوافر، بأي حال من الأحوال، لكُتاب المسرح، وعلى الرغم من خضوع كل من التمثيلية والمسرحية للقواعد نفسها في الكتابة. ويعود ذلك في حقيقة الأمر، إلى طبيعة التليفزيون، وما يملكه من خواص يَّسرت إمكانية الانتقال من منظر إلى منظر، ومن ممثل إلى آخر، بأسرع مما يتسنى للمسرح. فضلاً عن أن التليفزيون لا يفرض على الكاتب أن يتصدى، لمشكلة المحافظة على انتباه واهتمام الجمهور على مدى فترة طويلة، كما هو الحال في المسرح، حيث يمتد الفصل الواحد إلى ما يقرب من الساعتين، في بعض الأحيان. وكذلك فإن أهم مميزات التليفزيون، على الإطلاق تتجسد في استخدام الكاميرا، التي تحدد للمشاهد ما يراه، أو ما يظهر مرئياً أمامه من المنظر. وعلى ذلك فإن التمثيلية التليفزيونية تقدم للمشاهد، من خلال "عين الكاميرا" ووفق ما تراه من مختلف الزوايا، وتبعاً لموقعها أو حركتها. فضلاً عن أنها، وبواسطة استخدام اللقطات الكبيرة، يمكنها أن تجسد لحظات درامية خاصة في الحدث، وتؤكد عليها أسهل مما يحدث في المسرح. ونتيجة لذلك أصبحت الصورة المرئية على الشاشة، قادرة على أن تُعبِّر عن معنى لا يمكن التوصل إليه في المسرحية، إلاّ من خلال صفحات طويلة من الحوار.
ومن ناحية أخرى، فإن المؤلف التليفزيوني، يمكنه أن يتحرر ـ إلى حد كبير من قيود المكان ـ بقدر ما تتحمله إمكانات الاستديو، وبقدر ما يحتاج إليه من تصوير بعض المناظر واللقطات، خارج الاستديو، وبما يتفق مع وحدة موضوعه وترابطه. كما أن بإمكانه أن يستثمر طبيعة الشاشة الصغيرة للتليفزيون، حيث تتركز الرؤية في مساحة محددة، تظهر عليها الوجوه أكثر وضوحاً، والملامح أدق تعبيراً. إلا أنه في المقابل يكون عليه أن يختار بين الوجوه وبين الأقدام، وأن يفاضل بينهما، لأن ظهور وجه الشخص وقدميه (صورة كاملة للشخص)، لا تظهر إلاّ من خلال اللقطات البعيدة، التي تختفي فيها الملامح والتفاصيل والتعبيرات. وهنا يكون على المؤلف أن يتذكر دائما أن "ممثلي التليفزيون لا أقدام لهم، فهم لا يظهرون أقدامهم إلا إذا حتَّم النص ذلك، وعندما تظهر أقدامهم لا يتيسر إظهار وجههم، ومن ثم يكون عليه أن يفاضل بين الأقدام والوجوه".
وعلى هذا فإن كاتب السيناريو أو كاتب الحوار، لابد وأن يجمع بين الموهبة، وفهم طبيعة الوسيلة، وأصول الدراما وقواعدها. ومن ثم يكون بإمكانه أن يصوغ قصته صوراً، ويعرف كيف يقصها في خط مستقيم، وكيف يستحوذ على اهتمام المشاهدين، منذ اللحظة الأولى لبداية التمثيلية. وهذه أمور ينبغي مراعاتها بدقة بالنسبة للتمثيلية التليفزيونية، خلافاً للمسرحية، حيث يوجد متسع من الوقت أمام المؤلف ليعّرف بشخصياته، قبل أن يدفعهم ببطء إلى أعماق الحدث الدرامي. أما في الفيلم أو التمثيلية، فإن المستمع أو المشاهد، يتوقع أن تبدأ القصة فور الانتهاء من العناوين مباشرة.
ثانياً: اختيار الموضوع:
هل يمكن القول بأن هناك موضوعات تناسب التليفزيون، وتصلح لأن تكون تمثيليات جيدة، وأخرى لا تناسبه ولا تصلح لذلك؟
يرى بعض الباحثين أن أي موضوع، يمكن أن يكون صالحاً ومناسباً، إذا توافرت له المعالجة السّليمة، التي تجعل منه شيئا مهماً وجذاباً للمشاهد. ويرتبط ذلك ارتباطاً وثيقاً باختيار المؤلف لموضوع يعرفه جيداً، لأنه في هذه الحالة يكون قادراً، على تصوير الشخصيات والمواقف، وتحديد الأفعال وردود الأفعال، والتوصل إلى بناء درامي متكامل. ومن ثم تكون فرصة نجاحه أكبر، بدلاً من أن يخوض في موضوعات لا دراية ولا خبرة له بها، ويصور بيئات لا يعرفها، وشخصيات لا يمكنه رسم أبعادها، أو تحديد معالمها. ومن هذا المنطلق ينبغي التأكيد على أن معالجة المؤلف لموضوع لا يعرفه، يعنى أن يأتي هذا الموضوع مشوهاً يفتقر إلى الصدق، وتنقصه الدقة، ويصبح أشد إزعاجا للمشاهد، من أي شيء آخر.
أما الشرط الثاني، الذي يقرر صلاحية الموضوع أو عدم صلاحيته، فهو مواءمة الموضوع للقيم والأعراف والعادات السائدة في المجتمع، واحترامه لها وتوافقه معها. ولهذا السبب بالذات نجد أن كثيراً من محطات التليفزيون، تضع نوعاً من التحفظات أو "القيود الرقابية" على الموضوعات، التي تتعلق بالدين والجنس والجريمة والعنف، وهي تحفظات تنبع من الشعور بالمسؤولية عما يعرض على أفراد الأسرة في بيوتهم، وهم يمثلون جمهوراً يضم الأطفال والصغار والمراهقين والبنات والنساء والكهول وذوى العاهات…الخ.
وثمة اعتبارات حرفية أخرى، تقرر صلاحية الموضوع أو عدمه، على ضوء ملاءمته لطبيعة الوسيلة، وإمكانية إخضاعه لمتطلباتها، بحيث يمكن عرضه مرئيا على الشاشة، وتنفيذه في حدود المعقول، والتكاليف الممكنة. فهناك عدد من الموضوعات والأفكار، التي تبدو حيوية ومهمة وضرورية ومثيرة، إلاَّ أن تنفيذها يصعب أو يستحيل، من الناحية الفنية، أو قد يستغرق من الوقت، أو يحتاج من المال، ما لا قبل للمحطة له. وهناك اعتقاد سائد، لدى عدد من المؤلفين، أن التاريخ يمكن أن يمدهم بالعديد من الموضوعات، والشخصيات "الجاهزة"، التي فقط تحتاج لأن يوضع على ألسنتها حوار مناسب، لتتحول إلى أعمال جيدة. وليس هناك، بطبيعة الحال، ما يمنع من الرجوع إلى التاريخ، لاستلهام أحداثه ووقائعه وشخصياته، وتحويلها إلى تمثيليات تليفزيونية، خاصة أن بعض هذه الموضوعات والشخصيات، ربما يستهوى كثيراً من الممثلين، والمشاهدين أيضاً. إلاَّ أن ما ينبغي أن يعيه الكاتب جيداً في هذا الصدد، هو أن الإبهار في استخدام الملابس التاريخية، لا يمكن أن يكون بديلا عن البناء الدرامي السليم، للأحداث والمواقف والشخصيات، ولا يمكن أن يستر عيوب هذا البناء، أو يسد الثغرات وجوانب النقص فيه. أما الاعتبار الآخر، فهو ضرورة ألاَّ يكون الموضوع قد سبق تقديمه على نحو أفضل، أو بطريقة أكثر براعة، وفاعلية.
وفي كل الحالات، سواء كان الموضوع تاريخياً أم اجتماعياً أم سياسياً أم دينياً. أم أدبياً، فلابد أن يقول للناس شيئا مجدياً ومفيداً. وأما الموضوعات، التي تسرف في الإغراق في الرموز، بحجة أنها موجهة إلى المثقفين، أو تلك التي تجمح في الخيال، وتدور حول عالم لم يسمع به أحد، فإنها تفشل فشلاً ذريعاً، في كل الأحوال. وهنا تجدر الإشارة إلى أن الكوميديا، بكل ألوانها وصنوفها، تلقى قبولاً هائلاً لدى المشاهدين، على الرغم من أن الناس يرغبون ـ أحياناً ـ في مشاهدة شيء يؤلمهم، أو يثيرهم، أو يرفع مستوى تفكيرهم، إلا أنهم، في أغلب الأحيان، يتوقون إلى مشاهدة شيء يسليهم. ولا يفهم من ذلك أن كتابة الكوميديا عمل سهل، بل هي فن بالغ الصعوبة. أو هي، كما قال بعضهم، تشبه "الصحف"، فهي تكتسح السوق فور إصدارها، ولكنها سرعان ما تموت. ولذا يقال إنّ الكوميديا لا تعيش إلاّ في عصرها فقط، نظراً لأن عادات الناس وأساليب سلوكهم تتغير وتتبدل بسرعة كبيرة. ومصداق ذلك أنّ ما يُضحك الناس اليوم، قد يكون غداً شيئاً ثقيلا وسخيفاً، بل مملاً ومنفراً.
ومع أن التليفزيون يتهافت على الكوميديا الجيدة تهافتاً شديداً، إلاّ أن التمثيليات الهزلية (Farce) لا تصلح لأن تقدم على الشاشة، لأنها لا تعتمد على الحوار الجيد، بل تقوم على ما يطلق عليه "الإضافات الدرامية". وهي الإضافات التي يبتكرها الممثل، عادة، في حواره مع جمهور الحاضرين، الأمر الذي يتطلب وجود جمهور يحضر العرض. وكذلك الحال للميلودراما، التي لا تتفق طبيعتها المغرقة في المغالاة، مع طبيعة التليفزيون باعتباره جهازاً مقيماً، داخل البيت وبين أفراد الأسرة.
أما النوع الذي يلي الكوميديا في قائمة الأفضلية، فهو التمثيليات ذات الطابع الاجتماعي، وذات الطابع البوليسي، التي تشبه "التمرينات الرياضية العقلية"، وتدور حول الجرائم وكشف أسرارها. وهنا ينبغي الانتباه والحذر من عدم الإسراف في عرض مشاهد القوة والعنف، حتى لا يتأثر الأطفال بها، خاصة أنهم الأكثر ولعاً بمشاهدتها. وعموماٌ فإن التمثيليات، التي تعتمد على تصاعد الخط الدرامي، تكون هي الأكثر جاذبية وتشويقاً من تلك، التي ترسم جواً عاماً أو تأخذ طابع" التسطيح" والتعميم.
ثالثاً: تخطيط التمثيلية وبناؤها:
بعد اختيار الموضوع، على الكاتب أن يفكر في أمثل الطُرق والأساليب، التي يمكن أن يقدمه بها إلى المشاهد الذي يريد قصة يستمتع بها ويفهمها؛ قصة في مستوى إدراكه، لكنها ـ في الوقت نفسه ـ تحترم عقله وتقدر ذكاءه، وعلى ذلك، ولكي ينجح الكاتب في مهمته، أو لكي يأمن الزلل، على الأقل، فعليه أن يختار موضوعاً مألوفاً، وأن يبتكر له شخصيات يرى فيها المشاهد صورة من نفسه، وأن يضع على لسان هذه الشخصيات حواراً واضحاً ومفهوماً، معبراً عن الموقف وعن الشخصية. ثم عليه كذلك أن يحدد مسار قصته، بحيث تتوإلى المشاهد في ترتيب منطقي يتقدم بالقصة إلى الأمام، خطوة بعد الأخرى.
وتتمثل أهم الاعتبارات، التي على الكاتب مراعاتها عند تطبيق قواعد الكتابة الدرامية، في كتابة التمثيلية التليفزيونية (وهي اعتبارات تفرضها طبيعة التليفزيون نفسه). في الآتي:
1. الوحدة: Unity
تفرض طبيعة التليفزيون على المؤلف، أو كاتب الدراما، أن يلتزم ـ عادة ـ بوحدتي الزمان المكان، إلى حد معقول. فوحدة الزمان، تصبح في كثير من الحالات أمراً ضرورياً، تفرضه الواقعية التي يتطلبها التليفزيون، من ناحية، ويفرضها الوقت القصير المحدد للتمثيلية، من ناحية أخرى (من ستين إلى تسعين دقيقة، وقد يقل الزمن عن هذا أو يزيد قليلا)، وعلى هذا، فإن التمثيلية لا تحتمل تطور الشخصية عبر فترة طويلة من الزمن، بحيث يولد الطفل ثم يصبح شاباً ويصير كهلاً .. الخ. ومهما حاول المخرج التغلب على ذلك بالاستخدام البارع للمونتاج والماكياج، فإن إحساس المشاهد بعدم الواقعية، يقلل من تجاوبه مع التمثيلية، وانفعاله بها إلى حد كبير.
أما وحدة المكان، فتحكمها طبيعة الاستوديوهات، ومساحاتها المحدودة. فالأستوديو ـ عادة ـ لا يتسع لبناء أكثر من ديكورين أو ثلاثة، يمكن استخدامهما للمشاهد القصيرة، سواء كانت تمثل مناظر داخلية أو خارجية. فضلا عن أن بناء هذه الديكورات يتكلف نفقات باهظة، تزيد من أعباء الإنتاج.
وعلى المؤلف، في كل الحالات، أن يتيح للشخصية الوقت الكافي، الذي تنتقل فيه من مكان إلى آخر، ومن ديكور إلى آخر، وأن تبدل ملابسها أو مكياجها، إذا كانت طبيعة الموقف تتطلب ذلك. ويمكن تحقيق ذلك من خلال الانتقال بالحوار إلى شخصيات أخرى، أو من خلال إدماج الفيلم السينمائي.
2. الشخصيات Characters:
إن الحجم الصغير لشاشة التليفزيون، لا يتيح للكاتب، بطبيعة الحال، أن يظهر عدداً كبيراً من الممثلين، في وقت واحد. ولذا، عليه أن يُعالج موضوعه، بحيث لا تظهر على الشاشة أكثر من ثلاث أو أربع شخصيات في وقت واحد. أما إذا احتاج الأمر إلى عدد أكبر، فله أن يظهرهم في مشاهد مختلفة، ولكن عليه أن يتذكر أن أقوى مشاهد التمثيلية التليفزيونية تأثيراً، هو ما تشترك في أدائه شخصيتان…، لأن المجموعات الكبيرة لا يمكن تصويرها إلاّ بواسطة اللقطات العامة أو البعيدة، ومن ثم يضعف أو ينعدم التركيز على الوجوه والملامح والتعبيرات، ردود الأفعال والانفعالات.
3. الحوار Dialogue:
يأتي الحوار في المرتبة الثانية بعد الصورة، في تمثيليات التليفزيون. وليس معنى ذلك أنه يمكن الاستغناء عنه، بل يعني أن الصورة يمكن أن تتكلم وتحكى وتصف، وتكشف عن الكثير، مما تعبر عنه القصة أو الرواية مكتوبة أو مسموعة أو حتى على المسرح.
ونحن في الحياة، لكي نكشف عن الزمان والمكان والشخصية، والعمل الذي تؤديه في لحظة ما، نحتاج إلى كلام كثير يستغرق عشرات الصفحات، ليصف ذلك كله، أو يكشف عنه. أما في التمثيلية فيكفي أن ترى الشخص يرتدى ملابس طبيب، ويكشف على مريض، لكي تُدرك مهنته.
وعلى ذلك، فعلى الكاتب أن يترك الصورة، تتكلم وتحكى وتصف وتكشف، وأن يأتي الحوار كاملاً وشارحاً ومفسراً لما تقوله الصورة، وموضحاً المعنى وما وراء المظهر من أسرار وخلفيات. وهكذا تتحول الكلمات إلى صور بديلة للكلام، ويصبح الحوار هو أداه الكشف عن العلاقة، بين الشخصيات ومغزى الأحداث.
4. الديكور Setting decor:
هو خلفية المنظر، وما يضمه من محتويات وأثاث. ويؤدى وظيفة مهمة في بعض التمثيليات، وإن كانت بعض التمثيليات، يمكن إخراجها دون الاستعانة بديكورات على الإطلاق. فيعتمد المخرج على الإضاءة والستائر وبعض مكملات المناظر "الاكسسوار"، للحصول على التأثير الفني المطلوب. والديكور في التمثيلية التلفزيونية ـ عادة ـ هو "المكان"، الذي يجرى فيه الحدث (منزل ـ غرفة نوم ـ مقهى ـ مكتب…الخ).
5. استخدام الفيلم في التمثيلية:
قد يضطر المؤلف في بعض الحالات، أن يضمن النص بعض المشاهد، التي لا يمكن تصويرها داخل الاستديو (مثل شاطئ البحر، أو السفر بالطائرة، أو العودة من السفر، أو حادث قطار). فيصبح من الضروري تصوير المشاهد المطلوبة في مواقعها الأصلية، وليس من خلال ديكور داخل الاستديو. وليس هناك، بطبيعة الحال، ما يمنع من استخدام الفيلم السينمائي، أو التصوير الخارجي بمقدار في التمثيلية التليفزيونية، التي تصور مشاهدها داخل الاستديو، بحيث لا تزيد المادة المستخدمة (المصورة على فيلم) عن ست أو سبع دقائق، تدمج هنا وهناك. وعلى الكاتب، في هذه الحالة، أن يعمل جاهداً على أن تكون هذه المشاهد خالية من الحوار قدر الإمكان، لأن ذلك يساعد كثيراً على اختصار الوقت والتكاليف، وسهولة التخطيط والتنفيذ.
6. العرض: Exposition
إِنّ قصر الوقت المحدد للتمثيلية، لا يتيح ـ عادة ـ للكاتب أن يقدم المادة الكافية، التي تُلقي الضوء على الشخصية وتعرِّف بها، وتكشف عن طبيعة الموضوع والموقف، بطريقة تتسم بالحذق والمهارة، بحيث يأتي ذلك من خلال العرض، أو كجزء من الحدث نفسه.
ولمّا كان وقت التمثيلية لا يسمح للكاتب، باستعراض الشخصيات والموضوع، استعراضاً متأنياً، ترتب على ذلك أن يبدأ الصراع منذ بداية التمثيلية. فيجد الكاتب نفسه مُرغماً على أن يبدأ عرض الشخصيات والموضوع، خلال المشاهد الأولى للتمثيلية، وبأسرع ما يمكن، وبأكبر قدر من الإيجاز والتكثيف.
إن المشكلة التي تواجه الكاتب التليفزيوني، في هذا المجال، هي أن المُشاهد ـ غالباً ـ لا تكون لديه معلومات، أو "فكرة" مسبقة عن التمثيلية، التي سيشاهدها، خلافاً لمُشاهد السينما والمسرح، الذي يتوجه ـ غالباً ـ لمشاهدة الفيلم أو المسرحية، وهو يعرف الكثير عن القصة والموضوع والأبطال والشخصيات وآراء النقاد. وكذلك الأمر في مسلسلات التليفزيون، حيث يكون بوسع المشاهد أن يعرف شيئا كثيراً عن المكان والشخصيات والموضوع، من خلال الحلقتين أو الحلقات الثلاث الأولى من المسلسل.
7. الإعداد: preparation
لا يختلف إعداد التمثيلية التليفزيونية، عن إعداد المسرحية. فعلى الكاتب أن يُهيأ الجمهور لمتابعة الموضوع، من خلال عرض متدرج ومتتابع، لمواقف تتفاعل فيها الشخصيات مع الأحداث في القصة، بطريقة تجعل من وقوع الأحداث شيئا طبيعياً ومنطقياً، وليست شيئاً عارضاً يأتي بمحض الصدفة، أو يقع فجأة دون مقدمات تبرر ذلك. وينبغي أن يجد الجمهور نفسه عقب كل حدث، قادراً على تصديقه والاقتناع به، إما من خلال الأداء الجيد للممثل، وإما لوقوع الحدث من خلال ظروف حتمت ذلك، ولا يمكن تجنبها.
رابعاً: كتابة التمثيلية:
لن يكون بوسع الكاتب أن يكتب عملاً درامياً كاملاً للتليفزيون، ما لم يكن قادراً على كتابة السيناريو السينمائي، أي النص الذي يقوم على الصورة والحركة، ويسرد القصة من خلال هذه الصورة، التي تقدم "الفعل"، ثم يأتي الحوار والمؤثرات والموسيقى لتعطيها دلالات ومعان، وتأثيراً خاصاً.
…إن كتابة النص الدرامي للتمثيلية التليفزيونية، أو ما يطلق عليه "السيناريو الكامل Complete Script"، فنُ يقوم على أسس ومبادئ، ويحتاج إلى إعداد وتدريب ومهارات خاصة. ومن ثم فإن كتابة التمثيلية، تحتاج إلى شرح وإيضاح وتفصيل مستقل.
[1] المسلسل عبارة عن تمثيلية مقسمة إلى عدة حلقات (من 7 - 13 حلقة) مدة كل منها نصف ساعة تقريباً وتقدم متتالية بحيث تؤدى كل حلقة منها إلى الأخرى. وأهم ما يجب أن يراعى عند كتابة المسلسل هو أن يتوافر لها عنصر التشويق بحيث تحمل المشاهدين على التساؤل والتخمين المستمر عقب كل واقعة، ولا بد كذلك من ذكر تلخيص في بداية الحلقتين الثانية والثالثة يشير إلى ما سبق من أحداث المسلسل. أما السلسلة فهي خيط يضم مجموعة من الأحداث، كل منها قائم بذاته وإن كانت تنظمها جميعاً فكرة واحدة، أو شخصية مفردة أو مجموعة من الشخصيات .. وغالباً ما تؤلف السلسلة ليؤدى أدوارها ممثلون بعينهم.
المبحث السابع والعشرون
السيناريو والفيلم التسجيلي التليفزيوني
(التعريف والخواص ـ الإعداد ـ كتابة التعليق)
أولاً: التعريف والخواص:
يُطلق اصطلاح الفيلم التسجيلي على تلك الأفلام، التي تصور عناصر الطبيعة. وهذا هو أهم ما يميزها عن غيرها من أفلام. فكل مكان، وأي مكان، تصور فيه الكاميرا شيئاً في موقعه الحقيقي، كما هو في الواقع، يعد فيلماً تسجيلياً. ومن ثم يدخل في نطاق هذا المصطلح، تلك الأفلام الإخبارية، التي يُطلق عليها الجرائد أو المجلات السينمائية، والأفلام العلمية والتعليمية، والأفلام التي يُطلق عليها "أفلام المعرفة"، أو أفلام المعارف العامة والمحاضرات. وكل نوع من هذه الأفلام يخدم هدفاً معيناً، ويتناول موضوعه من وجهة نظر خاصة، وأسلوب مختلف. وعلى ذلك فالجرائد الأخبارية، ليست إلاّ مجموعة من اللقطات السريعة، التي تسجل أحداثاً أو مناسبات معينة. ومن ثم تعتمد على أسلوب الملاحظة السريعة، والمهارات الصحفية المعروفة، والمعالجة الخاطفة السطحية للموضوع. وكذلك فإن أفلام "المعرفة"، لا تقوم، عادة، على البناء الدرامي المؤثر، ولا تأبه بمعالجة موضوعاتها بهذه الطريقة، بل تكتفي بالوصف والعرض، من خلال تعليق يصاحب اللقطات، التي تم ترتيبها على نحو معين، يستهدف وصول النتائج، أو المعلومات المطلوبة، إلى المشاهدين. كما تتولى نقل التجارب وصنع التراث، والمحافظة على التاريخ وتوثيقه.
وفي كل الحالات، فإن المنطلقات الأساسية للأفلام التسجيلية، وأهم ما يفرق بينها وبين الأفلام الروائية ـ يتمثل في الحقائق الأساسية الآتية:
1. تملك السينما القدرة على الانتقال إلى أنحاء كثيرة في العالم، ومن ثم يصبح في إمكانها مراقبة ما يجرى في الحياة ذاتها، وانتقاء ما يناسبها منه، وتقدمه في شكل فني جذاب ومؤثر. وبذلك تعرض عالماً حقيقياً على الشاشة، بدلاً من تصوير قصص مختلفة، تدور أحداثها وسط مناظر وأماكن شُيّدت صناعياً.
2. إن استخدام "الشخص الفعلي"، أو "الشخص الحقيقي"، وليس الممثل، واستخدام المنظر الطبيعي وليس الصناعي، يساعد على تقديم أفلام تفسر العالم والحياة، وما يجرى فيهما. ومن ثم يتيح للسينما فيضاً زاخراً من الأفكار والقضايا والموضوعات والأحداث المدهشة، التي تفوق كل خيال بشري.
3. إن ما تنقله الكاميرا من قصص الواقع ومشاهده، يكون ـ عادة ـ أكثر دقة وواقعية من الأحداث، التي يعاد تمثيلها. وعلى النحو نفسه يأتي التعبير العفوي التلقائي، للأشخاص في حياتهم العادية وأعمالهم، أكثر صدقاً لأنه ينبعث من القلب. ومن ثم يكون أشد تأثيراً من أداء الممثلين، مهما بلغ هذا الأداء حدود الإتقان والروعة.
وعلى الرغم من أن هذه "المنطلقات" المتقدمة، تحدد "واقعية" الفيلم التسجيلي، كأبرز خاصية من خصائصه، إلاّ أن ذلك لا يعني أن يفتقر الفيلم التسجيلي إلى الإبداع الفني، والجمال الخلاق، والجاذبية المؤثرة.
وعلى الرغم من أن هذا النوع من الأفلام، يستخدم المناظر الحقيقية، والقصص الحقيقية، والناس الحقيقيين، إلا أنه يملك مقومات هائلة للإبداع الفني تختلف كل الاختلاف عما هو سائد في مجال السينما الروائية. فالدراما في الفيلم التسجيلي هي الدراما الحية، الموجودة في الواقع، بكل ما يحفل به من صراعات وتناقضات ومواجهات وتكيف. وتبقى مهمة إبراز ذلك، أو إمكانية الوصول إليه والإحساس به، مرهونة بالفنان الذي يعمل في هذا المجال، ومدى ما يملك من إمكانات وملكات ثقافية وإبداعية. فهذا الفنان، الذي يتخذ مادته من المدن والشوارع والأزقة والمصانع والأسواق والقرى الصغيرة جداً والنائية، مطالب بأن يقدم ذلك في إطار من الجاذبية والإبداع الفني الخلاق والمؤثر، وليس فقط سرد متراكم للمعلومات، أو الحقائق.
وقد يسأل بعض الناس: أين يكمن الإبداع والجمال الخلاق، وسط الماكينات في المصانع، وبين الناس والحيوانات في الحقول، وفي وزحام الطرق ومحطات السكك الحديدية، والعالم المختنق داخل المناجم؟
ويرى "جريرسون" أنّ هناك الكثير من الأفلام، التي استطاع صانعوها أن يتوصلوا إلى أسلوب مكنهم من بناء مشاهد ممتعة، تتألف من مجموعة من اللقطات الواقعية العادية. وهم يجيدون استخدام الإيقاع المتغير، بين السرعة والبطيء. كما يلجئون إلى استخدام المؤثرات الخاصة، على نحوٍ متكامل طول الفيلم. وبذلك يجذبون اهتمام الأعين، ويؤثرون في الأذهان، بالطريقة نفسها، التي يؤثر فيها قرع الطبول، أو الاستعراض العسكري. فمع أنهم يركزون اهتمامهم في الجماعات والحركة، إلا أنهم يتخلون عن مهمة الخلق والإبداع الفني الأكثر عمقاً. إن مثل هؤلاء يستمتعون بذوق فني تصويري، ويستهويهم، إلى حد كبير، منظر العجلات والمكابس في حركتها الرتيبة، كلّما أرادوا وصف الآلات، إلا أنهم لا يذكرون إلاَّ القليل عن الرجال الذين يديرون هذه الآلات، أو المنتجات التي تقذف بها باستمرار.
ويُسمّي جريرسون هذا الأسلوب "الأسلوب السيمفوني"، ويقول إنه "أسلوب خطر"، وإن كان يقدم أشكالاً وأنواعاً جديدة من الجمال، إلا أنها لا تقدم أفكاراً جديدة مقنعة. فهو أسلوب يسعى إلى إحداث التأثير الدرامي، من خلال تجميع اللقطات المفردة في إيقاع منسق، وتتابع عاطفي خاص، وتكثيف الإحساس بالحركة. وذلك ليس كافياً - وحده - لأن يُقدم فيلماً مقنعاً، لأن أحداث الحياة اليومية البسيطة، مهما عُرضت بأسلوب سيمفوني جميل، لا تكفي وحدها لأن تقدم فيلماً مقنعاً. فلابد من أن يغوص الفيلم، خلف هذه الأحداث والمظاهر، ليقدم إبداعاً فنياً، يبلغ مراحل الفن العليا. ولا يعني الإبداع الفني تصوير أشياء بعينها، بل يُقصد به إبراز المغزى، الذي يكمن خلف هذه الأشياء. ولبلوغ هذا المستوى الرفيع من التأثير، لابد أن يتوافر للفنان السينمائي الطاقة الشعرية، أو القدرة على توقع المستقبل وأحداثه. وإذا لم تتح له إحدى هاتين القدرتين أو كلتيهما، فلابد من أن يتوافر له - على الأقل - الإحساس الاجتماعي، الذي ينبعث منه الشعر، ويُكسب المرء القدرة على توقع المستقبل.
وعلى ضوء ما تقدم، يمكن القول إنّ الأفلام التسجيلية، أو السينما التسجيلية، إنما ترتكز على ثلاث قواعد رئيسية:
أولها: أنها تستمد مادتها من واقع المكان، الذي يجرى تصويرها فيه، حيث يتناول مظاهر الحياة المختلفة في واقعها الفعلي الحقيقي، ومن ثم فإنه يتعامل مع عناصر واقعية حقيقية غير مؤلفة أو متخيلة، وتتكون لقطاته ومشاهده من الحدث الواقعي، وتكون القصة هي المكان، والمكان هو القصة.
ثانيها: يجري تنظيم المادة على ضوء فهم الواقع، فهماً ناضجاً ودقيقاً، عقب دراسة وافية ومتأنية. وبذلك يوظِّف الفيلم التسجيلي عناصر الواقع، لتفسير الموضوع أو الحدث.
ثالثها: تُقدم المادة في قالب جذاب، يعتمد البناء الدرامي كأساس فني، ولا يقف عند حدود الوصف السطحي للموضوع.
ثانياً: وظائف الفيلم التسجيلي، ومجالات استخدامه:
يُستخدم الفيلم التسجيلي في عدد من المجالات، ويؤدى عدداً من الوظائف المختلفة، التي من أهمها:
1. الإعلام: حيث يقدم المعلومات الدقيقة، من خلال مراقبة الأحداث والتعليق عليها، وتوفير المعلومات اللازمة لإشاعة الفهم بين الناس، والتعريف بالبيئة المحيطة، والتنبيه إلى الأخطار التي تهدد المجتمع.
2. الدعاية: في هذا المجال يقدم الفيلم التسجيلي، على المستوى الداخلي، دوراً مهماً في إظهار عمل الحكومة ومنجزاتها، وبيان خططها وأهدافها، ومن ثم تكوين رأي عام مؤيد ومتعاطف مع هذه الخطط والأهداف والمشروعات. أما على المستوى الخارجي، فتستخدم الأفلام التسجيلية استخداماً فعالاً، في الدعاية السّياحية والاقتصادية والسّياسية.
3. التعليم: استخدمت الأفلام التسجيلية استخداماً فعالاً في هذا المجال، خاصة مع استثمار التقدم الكبير في حرفية التصوير السينمائي، الذي أمكن بموجبه إنتاج الحركة البطيئة أو السريعة على الشاشة، والتحكم في زمن الفيلم. وقد استخدمت الأفلام الوثائقية كوسائل إيضاح في فصول الدراسة، وفي تعليم المهارات الفنية في مجالات الصناعة. كما استخدمت في الأغراض التعليمية في الجامعات، فضلاً عن نقل المعارف بشكل عام، وأغراض التدريب المختلفة.
4. التسجيل والتوثيق: ومن هذه المهمة، أو المسؤولية، استمد هذا النوع من الأفلام صفته، وهي تسجيل الأحداث والوقائع، كما حدثت، لتصبح وثيقة تاريخية؛ تسجل مولد الحدث، وتُسهم في نقل التجارب والخبرات، وتصنع التراث، وتحافظ على التاريخ وتوثقه.
ثالثاً: إعداد الفيلم وكتابة التعليق:
يمر إعداد الفيلم التسجيلي بعدد من الخطوات، أو المراحل الأساسية. تبدأ بتحديد الفكرة أو الموضوع، ثم جمع البيانات والمعلومات. وعلى ضوء ذلك يضع الكاتب أو "المعد" مشروع التصوير، محدداً الأماكن والمواقع والأشياء المطلوب تصويرها. ويُعد ذلك في شكل لقطات ومشاهد، يحدد فيها نوع اللقطة وحجمها، لتأتى بعد ذلك مرحلة ترتيب اللقطات، أو "توليف الفيلم"، ثم كتابة التعليق المصاحب للصورة، وتسجيله صوتياً مع المؤثرات الصوتية الأخرى.
وتكتمل هذه العملية، في عدد من الخطوات، أو المراحل، على النحو الآتي:
تحديد الموضوع وجمع المعلومات.
إعداد السيناريو أو مشروع التصوير، الذي يحدد الأشياء، التي ستُصور، ومواقعها، وأسلوب تصويرها.
التوليف، أو ترتيب اللقطات على نحو معين، لإحداث تأثيرات معينة، وتوصيل الحقائق والمعلومات، بأكبر قدر من السّهولة والفاعلية.
كتابة التعليق المصاحب للصورة، وتسجيله مع المؤثرات الصوتية الأخرى، والموسيقى التصويرية.
1. تحديد الموضوع، وجمع المعلومات:
تبدأ هذه المرحلة، أو "العملية"، بتحديد فكرة الفيلم التسجيلي أو موضوعه، على ضوء الأهداف المنشودة. فقد يكون الهدف هو التوعية الصحية، أو تعديل سلوك معين، أو رفع الروح المعنوية، أو اكتشاف الواقع وتزويد الناس بالمعارف، عمّا يدور حولهم. أو قد يكون الهدف هو الدعاية السياسية، أو الدينية، أو التجارية .. الخ. فالمهم أن تحديد الفكرة، أو اختيار الموضوع، لابد أن يتم على ضوء الهدف المطلوب تحقيقه لجمهور معين. فقد يكون الجمهور المستهدف هو الشباب في مجتمع ما، أو طلاب الجامعة، أو العمال، أو النساء. كما قد يكون جمهوراً عاماً، في داخل البلاد أو خارجها.
وبعد الانتهاء من تحديد الفكرة، أو اختيار الموضوع، تبدأ عملية جمع المعلومات، أو البيانات الأساسية. وتُعد هذه الخطوة من أهم الخطوات والمراحل، لأن تلك البيانات والمعلومات، هي التي تشكل البناء الرئيسي للفيلم التسجيلي، شكلاً ومضموناً. فعلى ضوء هذه البيانات والمعلومات، تتحدد مواقع التصوير، وأنواع اللقطات، وأحجامها، وترتيبها، فضلاً عن إعداد مادة التعليق الصوتي، المصاحب لهذه اللقطات.
ولا شك أن مصادر هذه البيانات والمعلومات، تتعدد وتتنوع وتختلف، من موضوع إلى آخر. فقد يكون مصدرها ـ لموضوع ما ـ هو موقع الحدث أو المكان، الذي هو في الوقت نفسه موضوع الفيلم وقصته (الحقول ـ أو المصانع أو الغابات ـ أو شوارع المدينة ـ أو المعامل والمختبرات .. الخ). وفي هذه الحالة، ينبغي على معد الفيلم أن يعايش الواقع، في المكان الذي ولدت فيه الأحداث، أو الذي هو موضوع الفيلم وقصته. ففي ذلك المكان، له أن يرى ويسأل ويسمع ويّدون، ويضع اللّبنات الأساسية لبناء فيلمه. ولكن ذلك لا يعنى أن "المعايشة" أو الانتقال إلى موقع الحدث، هما المصدر الوحيد للمعلومات. فإلى جانب المشاركين في الحدث، أو أبطاله الحقيقيين وشهود العيان، توجد الوثائق المكتوبة والصوتية والصور. وعلى هذا النحو تتسع أوعية المعلومات لتشمل الكتب والمذكرات ودوائر المعارف والصحف والتسجيلات الصوتية والمرئية .. الخ.
2. إعداد السيناريو"مشروع التصوير":
من خلال البيانات والمعلومات، يمكن للكاتب، أو "المعد"، أن يضع مشروع التصوير للفيلم، حيث يحدد مواقع التصوير وأماكنها والأشياء التي سيجرى تصويرها، محدداً أحجامها وأشكالها، في قالب فني تتحرك الكاميرا على أساسه.
وتستطيع الكاميرا أن تقدم عملاً، يتجاوز فقط إعادة تقديم حركة معدة أمامها. ذلك أنها أداة خلاقة، إذا أُحسن استخدامها. ومن ثم لم تعد الشاشة مسرحاً فقط لقصة تمثيلية، بل أصبحت نافذة تطل على الحقيقة. فمن خلال اللقطات الكبيرة، وبواسطة العدسات المتنوعة، وزوايا التصوير، أصبح في الإمكان السيطرة على التفاصيل والدقائق والأبعاد، وزيادة قوة التأثير الدرامي.
3. التوليف المبدئي (ترتيب اللقطات):
هو ما يعرف بـ "المونتاج"، ويعنى الترتيب الزمني، أو الواقعي، لمجموعة من اللقطات المتنوعة، بطريقة تجعلها تعبّر عن معان ودلالات معينة، وتُحدث تأثيراً وجدانياً وعاطفياً خاصاً. أو بمعنى آخر، "تجعلها تحكي موضوعاً، وتقول شيئاً".
ويشير "جريرسون" إلى الإمكانات الفنية الهائلة، التي حققها ويحققها المونتاج، ذلك أنه بواسطة هذه العملية الفنية "أصبح في إمكاننا أن نتحكم في رتابة الأحداث ونموها، وذلك بالإيقاع السريع أو البطيء، حسب طبيعة الموضوع. وكذلك أصبح بوسعنا أن نجمع التفاصيل مع بعضها، في تشكيلات جماعية، أو نسجل اللقطات المتقاطعة المتداخلة، في شارع أو مصنع أو مدينة. كما نستطيع أن نُبدع صوراً لتهيئة الجو المناسب للحركة، أو الشاعرية في التعبيرية. ومن ناحية أخرى، نستطيع بوضع اللقطات المتناقضة، أن نفجّر الأفكار في أذهان النظارة، كما نستطيع ترتيب اللقطات المتناقضة، بصورة تحقق الأثر الدرامي المطلوب".
وفي غرفة التوليف، يجد الكاتب فرصته في أن يستعرض قدراته وموهبته، في ترتيب لقطات الفيلم، على نحو يحقق الأثر الدرامي المطلوب، وهنا تكمن القوة الحقيقية للصورة، عندما يتم اختيار اللقطات وترتيبها بعناية، في التوقيت المناسب. فإذا ضربنا مثلاً بلقطة لمنطقة سكنية تتسم بالفخامة والضخامة، فإنها تعكس هذا المعنى فقط، ولكننا إذا ألحقنا هذه اللقطة بلقطة أخرى لمنطقة سكنية تتسم بالفاقة والإهمال والقذارة، فإن تجاور اللقطتين، على هذا النحو، جدير بأن يوحي بمعنى جديد، لا تُشير إليه أي من اللقطتين إذا عرضت كل منهما وحدها. وعلى هذا يمكن القول، إِنّ معنى الفيلم إنما يتحدد تحديداً كاملاً، بمثل هذه المجاورة للقطات، كما أن ترتيبها وتركيبها على هذه الكيفية يُعد نوعاً من الصياغة، ولهذا فإن كلمة Cutting تشير إلى قص المناظر، أو قص اللقطات وإعادة ترتيبها على نحو معين، وهو ما يعرف "بالتوليف" أو "المونتاج".
ولمّا كان من الضروري أن يلم الكاتب بقواعد هذا العمل، باعتباره المسؤول عن عملية التوليف هذه، وهو الذي يصدر تعليماته للفني لينفّذها حرفياً، فإن هناك عدداً من القواعد والاعتبارات، التي ينبغي أن يلم بها إلماماً تاماً وهي:
أ. الإلمام بأنواع اللقطات ووظائفها.
ب. الإلمام بقواعد الانتقال من لقطة إلى أخرى، وكيفية تنفيذها.
ج. عند توليف المشهد يجب أن يترك الفيلم، ليحكى من القصة ما يستطيع.
د. يُفضّل أن يبدأ المشهد وينتهي، بلقطة موسعة.
هـ. تزداد درجة المشاركة العاطفية بزيادة نسبة لقطات رد الفعل، كلّما تتابعت المشاهد.
و. تؤدي اللقطات المقربة المتتابعة إلى استغراق المشاهد في الموضوع، وزيادة مشاركته. والعكس صحيح تماماً في حالة استخدام اللقطات الشاملة المتعاقبة، فهي تقود إلى التشتت والابتعاد عن الموضوع.
ز. تؤدي العناية باختيار اللقطات الفيلمية إلى ضغط الوقت، عند إجراء عملية التوليف.
4.…كتابة التعليق:
على الرغم من أن "الصورة" هي الأساس في الفيلم التسجيلي، وتعد المصدر الأصلي للمعلومات، وعنصر الجاذبية وإثارة الاهتمام، وعاملاً أساسياً من عوامل المشاركة والتعاطف والاستغراق لدى المُشاهد، إلا أن "الكلمة" رغم ذلك ـ قد تكون ضرورية في كثير من الأحيان، لاستكمال المعلومات والمعاني، التي لا يمكن أن تتضمنها الصورة.
ومن هنا نشأت الحاجة إلى كتابة التعليق، أي المادة الكلامية، التي تصاحب الصورة في الفيلم التسجيلي، باعتبارها وسيلة، أو أداة، "لدعم المحتوى الإعلامي المصور"، أو لتقوية وشرح وتفسير ما تقدمه الصورة، وتأكيد معناها وإضافة ما قد يكون خافياً على المشاهد، من معلومات أو معانٍ.
وعلى هذا الأساس ينبغي التأكيد، على أن التعليق ليس مجرد وصف للصورة، بل هو شرح وتفسير وتوضيح لمغزاها وما يجرى فيها. فضلاً عن أنه إضافة، تجيب على ما قد يتبادر إلى ذهن المتلقي من تساؤلات.
وبصفة عامة، يمكن القول إِنّ التعليق الصوتي، باعتباره المادة الكلامية، التي تصاحب الصور في الفيلم، يؤدي عدداَ من الوظائف في هذا الصدد، هي:
أ. عرض الفكرة الرئيسية للفيلم، وتوضيح هدفه.
ب. تأكيد الصورة وتعميق مضمونها، وزيادة تأثيرها، وتوضيح معناها ومغزاها.
ج. الكشف عن المكان، الذي تجرى فيه الأحداث، التي تتضمنها لقطات والفيلم ومشاهده.
د. الكشف عن الزمن، الذي تجرى فيه الأحداث والوقائع.
هـ. الربط بين فقرات والفيلم مشاهده.
ولكي تحقق كتابة التعليق على الأفلام، وظيفتها والهدف منها، فهناك العديد من القواعد والاعتبارات والأسس، التي توصل إليها الخبراء والباحثون والعاملون في هذا المجال، أهمها: الربط بين فقرات والفيلم مشاهده.
أ. إذا كانت الصورة معبرة عن المعنى المطلوب، فإنها لا تحتاج لأي تعليق صوتي مصاحب، ويمكن الاكتفاء، في هذه الحالة، باستخدام المؤثرات الصوتية، أو الموسيقى التصويرية، التي تساعد المشاهد على المزيد من التركيز والتفاعل، مع المادة التي يشاهدها.
ب. لابد أن يتطابق مضمون التعليق مع الصورة. ولا يُقصد بالتطابق تكرار المعنى، أو إعادة ترديد ما تقوله الصورة بكلمات منطوقة، بل المقصود بالتطابق التوافق، بين ما يُعرض من صور وما يقال من كلمات، بحيث ينصب الكلام على الصورة المعروضة، فيكمل كل منهما الآخر. وقد كشفت إحدى الدراسات، التي أجراها باحث ألماني في هذا الموضوع، عن نتيجة مهمة مؤداها أنه عندما يتفق مضمون النص مع مضمون الفيلم، فإن المشاهد يزداد فهماً واستيعاباً للمعلومات المقدمة، والعكس صحيح تماماً. فكلما اختلف مضمون النص عن مضمون الفيلم، انخفضت درجة الفهم والاستيعاب بشكل ملحوظ.
ويعود السبب في ذلك إلى أن المشاهد ـ في حالة اختلاف مضمون النص مع مضمون الفيلم ـ يضطر لأن يجهد نفسه كثيراً لكي يظل متنبهاً. فيبقى موزعاً بين ما يسمعه وما يراه، وهي مسألة لا يمكن أن تستمر طويلاً، مهما كانت قدرة المتلقي. كما كشفت دراسات أخرى عن أن التعليق الصوتي بالكلمات، إذا جاء مختلفاً، (ولو إلى حد ضئيل، أو بنسبة طفيفة) عن الصورة، فإن المشاهد يميل إلى تصديق الصورة، وعدم الوثوق بالكلمة. ولا يمكن الاستثناء، إلاّ إذا كانت الصورة غامضة إلى حد كبير.
ويُطرح هنا سؤال مهم، هو: هل معنى ذلك أن يقف التعليق عند حدود "المصادقة" على الصورة؟ والإجابة على ذلك هي النفي، بطبيعة الحال، لأن القصد من استخدام الكلمات أي التعليق في الأفلام - في جانب من جوانبه - هو تحويل الانتباه عن الصورة والقول: "إن القصة لم تكن هكذا فقط .. بل هناك أيضا كذا وكذا". وبذلك يُسهم التعليق في الانتقال من فكرة إلى فكرة، في إطار الموضوع الواحد.
ج. أن يتزامن التعليق مع الصورة، أي أن يتلاءم مع إيقاعها وسرعتها. وهنا لابد من التأكيد على ضرورة أن يُكتب النص، مع تصور دقيق لمضمون المشهد وحركته، فإذا كانت هناك حركة مثيرة (من أي نوع) مثلاً، فإن التعليق، في هذه الحالة، يجب أن يسبق الحركة ويمهد لها، ويدخل إليها شارحاً دلالتها قبل حدوثها، أو أن يتبعها بالتعليق عليها، ويشرح مغزاها.
د. تجنب الإطناب لأنه من أخطر ما يهدد الأفلام القصيرة والتسجيلية بالفشل، إذ الفيلم شئ تراه العين أساساً، ومن ثم فإن المشاهد لا يعير اهتماماً كاملاً للتعليق الصوتي المصاحب، ولا يتذكر إلا بعضه، بينما ينصب اهتمامه وتركيزه كاملاً على المشاهَدة، حيث تنتقل الأفكار، وتزداد ترسيخاً عن طريق البصر. وينبغي وفي كل الحالات ألا يزيد التعليق على ثلثي الوقت المحدد للفيلم، أو الذي يستغرقه عرضه.
هـ. الالتزام بالزمن المحدد تماماً لكل لقطة من لقطات الفيلم، أو مجموعة لقطات مترابطة.
و. الالتزام بقواعد التحرير الإذاعي، التي تسعى إلى إبراز المعنى بشكل مباشر، وذلك باستخدام الكلمات البسيطة السهلة، والجمل القصيرة، وتجنب الصيغ البيانية والبلاغية المقعرة، والكلمات المهجورة، والمصطلحات التي يستخدمها المتخصصون فقط. وفي هذا الصدد ينبغي التأكيد على ضرورة أن تتغير أطوال الجمل، بحيث لا تأتي على وتيرة واحدة فتصبح رتيبة، وتؤدى إلى الإحساس بالملل.
ز. يُفضل استخدام الزمن الحاضر"الفعل المضارع" في كتابة التعليق بوجه عام، لأنه أكثر حيوية من الزمن الماضي، الذي يؤدى إلى الإحساس بفجوة بين التعليق والصورة. أما إذا كانت هناك ضرورة قوية، أو حاجة ماسة، لاستخدام الزمن الماضي، فلا بأس من استخدامه في حدود الضرورة.
ح. ضرورة ترك مساحات زمنية صامته على الفيلم دون تعليق، وهي ما يراه بعض السينمائيين بمثابة "تهوية" أو "فراغ"، يُملأ بالمؤثرات الصوتية، أو الموسيقية بدلاً من الكلام. وذلك حتى يرتاح المشاهد، ويستعين على المزيد من التركيز والاستيعاب.
ويلعب الصمت دوراً آخر في التعليق على الأفلام، عندما يتضمن الفيلم ذروة إخبارية مثيرة، كانفجار قنبلة، أو انهيار منزل أو عمليات شغب عنيفة. ففي هذه الحالة لابد أن يمهد التعليق لهذه الذروة، ثم تحدث فترة صمت طوال مدة عرض الذروة الإخبارية، سواء كانت مصحوبة بأصوات الحدث، أو غير مصحوبة، ثم يتتابع التعليق بعد ذلك مُكملاً الحدث أو معلقاً عليه. وهناك من الكتاب من يفضل عدم التمهيد للذروة الإخبارية، فيتركها لتفاجئ جمهور المشاهدين، ثم يأتي التعليق بعد ذلك موضحاً وشارحاً.
ط. يمكن استخدام الحوار ـ إلى جانب التعليق ـ في بعض مشاهد الفيلم ومواقفه، وذلك لإضفاء الإحساس بالواقعية.
ولابد من التأكيد، ثم التأكيد، على ضرورة أن يكون التعليق للتوضيح والشرح والتفسير، وتقديم المعلومات والمعاني التي لا تقولها الصورة، ولا يكون وصفاً للصورة بأي حال من الأحوال. فلا بد أن يعرض الفيلم الحدث الفعلي، وأن تروي الصور والمقابلات، الجانب الأكبر منه، بل أكثر ما يمكن روايته عن الحدث، وأن يظل التعليق الصوتي بمثابة استكمال للانطباع، الذي تحدثه الصورة، وسداً للثغرات، التي قد توجد في الحدث أو الموضوع نفسه. وبذلك يكون التعليق إضافة إلى الموضوع، وليس طغياناً عليه.
رابعاً: القالب الفني للنص:
لا توجد طريقة خاصة لكتابة النص للفيلم التسجيلي. فكما هو الحال في كتابة النصوص التليفزيونية عامة، يجري تقسيم الصفحة إلى قسمين، يخصص الجزء الأيمن منهما (ويشغل حوالي ثلث الصفحة تقريباً) لكل ما يتعلق بالمادة المصورة، ويتضمن وصفاً دقيقاً لمحتوى اللقطة وحجمها أو نوعها، بينما يخصص الجزء الأيسر من الصفحة للمادة المسموعة المصاحبة للمشهد، وهي كل ما يتعلق بالصوتيات (كلمات التعليق والمؤثرات الصوتية والموسيقى)، على نحو ما يوضحه الشكل التالي:
المادة المصورة…
الصوتيات
·…موسيقى مناسبة
·…في هذه اللحظة، ومع بزوغ ضوء نهار جديد، تدب الحياة على سطح البحيرة الهادئة.
·…تبدأ حركة الصيادين، استعداداً للانطلاق
·…في قواربهم الصغيرة حيث تتصاعد أناشيد
الصباح، أناشيدهم التي هي تضرعات تحمل الرجاء والدعاء….…
·…لقطة عامة للبحيرة، وتبدو قوارب الصيادين راسية على الشاطئ
·…تقترب الكاميرا تدريجياً من القوارب. حيث حركة الرجال استعداداً للانطلاق داخل البحيرة
·…لقطة استعراضية للقوارب الراسية.
·…لقطة طفل (صياد صغير) يصعد صاري أحد القوارب.
·…لقطة لصياد يرفع المرساة
وهناك من يرى تقسيم الصفحة إلى ثلاثة أقسام، يخصص الجزء الأيمن للمرئيات، والجزء الأوسط للتعليق الصوتي (الكلمات المنطوقة)، والجزء الثالث للمؤثرات الصوتية والموسيقى التصويرية، فيكون النص كما يوضحه الشكل أدناه:
الصورة…
الصوت…
المؤثرات الصوتية
·…أصوات الماكينات أثناء دورانها يبدو في خلفيات التعليق، بحيث يكون التعليق الصوتي مسموعاً بوضوح.…
·…حركة دائبة دائمة .. وإنتاجا
·…ذاك هو العمل، وذلك هو العامل في بلادنا.
…وهذه العلاقة الحميمة بين الإنسان والآلة .. تترجم في النهاية إلى عطاء وفير.…
·…لقطة عامة لأحد عنابر المصنع، حيث تدور الماكينات. . وينهمك العمال في تشغيلها وإداراتها.
·…لقطة كبيرة لترس ماكينة يدور
بسرعة.
·…قطع إلى مكبس إحدى الماكينات يهبط.
·…لقطة لذراع + ماكينة يرتفع.
الأشكال
نتيجة العمل وحل العقدة
بناء وخلق الشخصية
مفهوم الشخصية
المصادر والمراجع
أولاً: المصادر العربية
الكتب:
1. أحمد كامل مرسى، ومجدي وهبه، "معجم الفن السينمائي"، المعهد العالي للسينما، القاهرة، 1978.
2. آرثر سونيس، "التأليف التليفزيوني"، ترجمة إسماعيل رسلان، الدار المصرية للتأليف والترجمة، القاهرة،1966.
3. أشرف الألفي، "مبادئ السيناريو"، أكاديمية الفنون، المعهد العالي للسينما، القاهرة،1992.
4. أكرم شلبي، "فن الكتابة للراديو والتليفزيون"، دار الشروق، جدة، 1987.
5. أنجا كار تينوفا، "كتابة السيناريو"، ترجمة أحمد الحضري، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1989
6. أندرو يوكانان، "صناع الأفلام من السيناريو إلى الشاشة"، ترجمة أحمد الحضري، دار العلم، القاهرة،1980.
7. أوزويل بليكستون، "كيف تكتب السيناريو"، ترجمة أحمد مختال الجمال، مطبعة مصر بالفجالة، القاهرة، 1985.
8. ابن جني، "الخصائص"، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة،1986، الجزء الأول.
9. بفريدج جيمس، "كتابة النصوص للأفلام القصيرة"، ترجمة اتحاد إذاعات الدول العربية، القاهرة، 1973.
10. بيتر مايير، "الكتابة السينمائية"، ترجمة قاسم المقداد، القاهرة، 1987.
11. جان بول توروك، "فن كتابة السيناريو"، مؤسسة هنري فريير، باريس، 1986، ترجمة قاسم المقداد.
12. حسين حلمي المهندس، "دراما الشاشة بين النظرية والتطبيق"، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1989، الجزء الأول.
13. د. شفيق مجلي، "خصائص الدراما التليفزيونية"، مجلة المسرح، العدد 18، القاهرة، يونيه 1965.
14. دادلي أندرو، "نظريات الفيلم"، ترجمة فؤاد الرشيدي، دار مصر للطباعة، 1965.
15. دوايت سوين، "كتابة السيناريو للسينما"، ترجمة أحمد الحضري، الألف كتاب (62)، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1988.
16. زكريا إبراهيم، "مشكلة الحرية"، مكتبة مصر، القاهرة، 1976.
17. سد فيلد، "لغة السينما"، ترجمة أحمد بلال، نيويورك، 1984.
18. سد فيلد، "السيناريو"، ترجمة سامي محمد، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1989.
19. عادل النادي، "مدخل إلى فن كتابة الدراما"، مؤسسات عبد الكريم بن عبد الله، تونس، 1978.
20. فوريست هاردي، "السينما التسجيلية عند جريسون"، ترجمة صلاح التهامي، دار الشعب، القاهرة، 1965.
21. لاجوس أجري، "فن كتابة المسرحية"، ترجمة دريني خشبة، القاهرة، 1992.
22. مارسيل مارتن، "اللغة السينمائية"، ترجمة سامي محمد، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1994.
23. محمد بسيوني، "دراسة في مبادئ السينما والإخراج"، أكاديمية الفنون، المعهد العالي للسينما، القاهرة.
24. محمد لطفي، "بناء السيناريو"، المعهد العالي للفنون المسرحية، القاهرة، 1997 - 1998.
25. محمد كامل القليوبي، "مصادر السيناريو"، المعهد العالي للسينما، القاهرة، 1998 - 1999.
26. مورين جرين، "أخبار التليفزيون"، مكتبة النهضة، القاهرة، 1972.
27. محيي الدين القابسي، "الموسوعة السينمائية"، كيف يُصنع الفيلم، مكتبة المعارف، بيروت، 1960، الجزء الثاني.
28. د. محيي الدين عبد الحكيم، "الدراما التليفزيونية للشباب الجامعي"، دراسة ميدانية، دار الفكر العربي، القاهرة، 1984.
29. هشام أبو النصر، "البناء السينمائي"، أكاديمية الفنون، المعهد العالي للسينما، القاهرة، 1987.
30. يوجين فال، "فن كتابة السيناريو"، ترجمة مصطفى محرم، القاهرة، 1992.
دوريات:
·…دويدار الطاهر، برامج التليفزيون كاملة النص، مجلة الفن الإذاعي، اتحاد الإذاعة والتليفزيون، العدد 70، يناير 1979.
·…صلاح أبو سيف، السينما فن، دار المعارف، العدد 21 من سلسلة كتابك، القاهرة، 1977.
ثانياً: المصادر الأجنبية
1.… Burack A.S, Television Plays for Writeres, Writer Inc , Boston, 1974.
2.…Baddely W. Hygh, The Technique of documentry film production, Hastings House, N.Y,1975.
3.…George Bueston , Novels into Film, New york, 1951.
4.…Herman Lewis , Practical Guide to Scenario Writng, New york,1955.
5.…Herman Lewis, Practical manual Screen play writing for theatre and Television Film, New American Library, N.Y,1974.
6.…John Heward Lawson,Theory and Technique of play writing and screen writing , Hill and wang , N.y 1960.
7.…Jean Paul Torok, Le Scenario, L'art D'ecrire un Scenario Artefact, Editions Henri Veyrier, France,1986.
8.…Michael Cousin, Writing A television Play, Writer INC,1975.
9.…Pieirre Millot, L'ecriture Cinema Graphique, Meridens Klinghsiek, Paris,1996.
10. Ruik Wolf.p, the writen and the screen, William Morrow, N.y,1974.
11. Richard Averson and David M. white, Electronic drama , Television plays of the Sixties, beacon press, Boston,1971.
12. Raymond Spoitood, Film Making and its Artisitic Origin, Chigago, 1963.
13. Sam Smiley, paly writing ,The Structure of Action, Printice Hall, 1971.
14. Willes edgar, writing Television and Radio Programs, Holt rinehart,N.Y.1967.
15. William Kaufnian, Great Televisiion, Play Dell, N.Y,1972.
16. R.Gidding and K.selby, Screening The novel , New york,1954.
17. Yorofkin.S, Film techniques and acting , London, 1959
السيناريو غير الفني
…
مقدمة
المبحث الأول: مفهوم السيناريو غير الفني
المبحث الثاني: استخدام السيناريو في التخطيط المستقبلي
المبحث الثالث: بناء السيناريو المستقبلي
المصطلحات الفنية
الملاحق
المصادر والمراجع
مقدمة
…يُعد علم الدراسات المستقبلية، من أهم الإفرازات والخبرات، المكتسبة من الحرب العالمية الثانية، التي استقر رأي أطرافها الكبرى، على ضرورة تعرُّف مستقبل الأحداث؛ لتجنب التورط في حرب عالمية أخرى. وارتأت أن يكون نمط الدراسة نابعاً من واقع الحركة، السياسية والاقتصادية والإستراتيجية، في خلال فترة سابقة؛ ليمكن الوقوف على الاتجاهات الأساسية، التي تحكم التطورات المستقبلية، من واقع ما تكشف عنه نتائج المقدرة، كماً؛ وكذلك التعمق في العلاقات المستقبلية، وقياسها بين مختلف الأنشطة والقطاعات؛ لتحسّب ما يمكن أن تصل إليه مستقبلاً؛ فضلاً عن تلافي الصراعات، أو الاستعداد للتصدي لأي أزمات مفاجئة أو غير متوقعة.
…ولقد بدأ علم المستقبليات بالتبلور، في أواخر الخمسينيات من القرن العشرين، حينما شرع علم "التفكير من خلال النظُم" Systems Thinking ، يأخذ طريقه إلى الدراسات، السياسية والإنسانية. ثم تطور فأمسى علم "ديناميكية النظُم" Dynamics System، الذي طبقته، أول مرة، الأمم المتحدة، في "نادي روما" Club of Rome لدراسة نمو الموارد العالمية، في أوائل الستينيات؛ وظهرت أهميته، آنئذٍ، في التحديات التي يفرضها على نماذج التفكير المعتادة لدى الفرد أو المجموعة؛ وفي مواجهة القصور، الذي تعانيه السياسات، في كافة المجالات، بالمقارنة بالتقدم في المجالات العلمية الأخرى. وهذا العلم يُعَدّ، اليوم، النظام الخامس لِما يسمَّى "المؤسسات الذكية " Fifth Discipline of Learning Organizations.
… وربما كانت السنوات الأولى من عقد الستينيات، وعام 1962 بالتحديد، هي التي شهدت طفرة كبيرة في علم المستقبليات، ذلك أنه منذ ذلك العام، وفي أعقاب انتهاء أزمة "خليج الخنازير" (أزمة الصواريخ السوفيتية في كوبا)، أعلن روبرت ماكنمارا، وزير الدفاع الأمريكي، وقتئذٍ، "أن هذه الأزمة، آذنت بنهاية عصر الاستعدادات العسكرية، وبداية عهد جديد، يسمى إدارة الأزمات"؛ ما حفز إلى التعمق في الدراسات الإستراتيجية، لخلق تصوّر كامل للأزمات المستقبلية، وكيفية مواجهتها بالإمكانيات المتاحة، أو بتوفير إمكانيات إضافية. وقد شكلت تلك الدراسات منظومة، أطلق عليها "سيناريوهات الأحداث"، أو "سيناريوهات التخطيط المستقبلي"، لمواجهة الأزمات والسيطرة عليها. وفى الوقت نفسه، ظهرت ضرورة الاعتماد على حسابات دقيقة، في مجال العمل المستقبلي، والوصول إلى معرفة أسلوب بناء المستقبليات البديلة المحتملة، وارتباطها بعمليات التخطيط الإستراتيجي طويل المدى، وتصوّر الأزمات من خلالها.
…ولقد تميز عقْدا الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين، بما يسمَّى بحوث "المستقبليات" Futurology، المبنية على توقعات لتطورات، علمية أو تكنولوجية، محددة. وتميزاً بإيجاد الحقائق الثابتة، مع الخيال العلمي. ورافقت هذه "المستقبليات" بحوث ودراسات علمية، مؤسسة على نماذج رياضية، يعالجها الحاسب الآلي.
…وخلال عقدَي الثمانينيات والتسعينيات، تطور علم "المستقبليات"، ليشمل دراسات مستقبلية المحتوى، ومحددة الموضوع والإطار والمدى الزمني والمنهج العلمي؛ تساير عالم اليوم، الذي يتصف بتسارع معدلات التغيير.
مبادئ الدراسات المستقبلية
1. السعي إلى التعمق في التاريخ، واستخلاص دروسه؛ فضلاً عن دراسة أهم التطورات، الدولية والإقليمية، ذات التأثير الشامل في الدولة، وما تتيحه من فرص، وما تفرضه من قيود، وما ينجم عنها من تهديدات أو أخطار؛ استهدافاً للتحديد المشترك للصورة المستقبلية.
2. وضع تصوّر مستقبلي، لعقدَين أو ثلاثة عقود مقبلة، يتحدد خلالها الغايات والأهداف والمصالح؛ ويكون مُفصّلاً ما أمكن تفصيله، وتستخدم فيه النماذج الرياضية المتاحة.
3. البُعد عن أي هوى وتحيز فكري؛ والانطلاق من مسلمات وفرضيات، تلقى قبولاً من مختلف الاتجاهات العلمية والفكرية والعقائدية والتكنولوجية.
4. توضيح القدرات المطلوبة لإنجاز كلِّ مسار مستقبلي، وما يقتضيه من نفقات وأخطار. وتحديد ما يلزم من آليات، للتغيير والتطوير والارتقاء بالمسارات المستقبلية، التي لا بدّ أن تشمل أهدافاً معروفة علمياً، في مجال التنظير وتنمية القدرات والمنهج المستقبلي؛ إضافة إلى تنمية المهارات العلمية في التعامل مع المشكلات المعقدة.
5. الارتكاز على عوامل التطور في المجالات المختلفة، وبما يحقق الأهداف والغايات القومية تحقيقاً فاعلاً.
6. الاعتماد على سيناريوهات مختلفة، تُعَدّ مسبقاً، وتطاول كلَّ الاحتمالات الممكنة، في جوانب الأمن القومي بعامة؛ وتُخزن في حاسبات آلية، يستعين بها متخذ القرار، طبقاً للموقف/ الأزمة المستقبلية. وتسهم العوامل الآنفة في تحديد نمط الدراسات المستقبلية، من أنماطها الأربعة الرئيسية:
أ. النمط الحدسي Intuitive
يستند إلى الخبرة الذاتية. ويفتقر إلى القاعدة الموضوعية، من البيانات والمعلومات. وينبثق من رؤية حدسية، تعكس ذاتية المرء وخبراته الخاصة. ويقوم على محاولة تعرُّف التفاعلات، التي تسفر عن حالة معينة، يتوقعها الباحث، ولا يدعي تأكيدها، والحدس، في هذه الحالة، ليس إلهاماً؛ وإنما تقدير، يراه الباحث ملائماً لبعض الحالات المستقبلية.
ب. النمط الاستطلاعي Exploratory
يستشفّ المستقبل المحتمل، أو الممكن تحقيقه، من خلال نموذج واضح للعلاقات والتشابكات.
ج. النمط الاستهدافي أو المعياري Normative
يُعَدّ هذا النمط تطويراً للنمط الحدسي، إلا أنه يتجاوزه؛ مستفيداً من شتى الإضافات النهجية، التي استحدثتها العلوم، التطبيقية والرياضية.
د. نمط المعطيات العكسية للاتساقات الكلية Feedback Models
ويركز هذا النمط في مجمل المتغيرات، في إطار موحد، يجمع بين النمطَين السابقَين، في شكل تغذية عكسية Feedback، تعتمد على التفاعل المتبادل بينهما؛ فلا يهمل الماضي الظاهر، ولا يتجاهل الأسباب الموضوعية، التي سوف تفرض نفسها، لتغيير مسارات المستقبل. كما يجمع بين البحوث الاستطلاعية، التي تستند إلى البيانات والحقائق الموضوعية، والبحوث المعيارية، التي تُوْلي أهمية خاصة القدرات الإبداعية، والتخيل والاستبصار. ويمثل هذا النمط خطوة متقدمة، في المسار المنهجي للبحوث المستقبلية المعاصرة.
المبحث الأول
مفهوم السيناريو غير الفني
…مصطلح "السيناريو"، أصبح كلمة شائعة، ارتبطت بالعمل الفني بعامة، سواء كان للسينما أو المسرح أو التليفزيون أو غيرها. وهي في مفهومها العام، تمثل الحبكة المأسوية للقصة أو الرواية، بتسلسل أحداثها، والتصرفات المصاحبة لكل حدث، والمشاهد التي تبرز الحدث، والمفهوم أو الدرس المطلوب توصيله إلى الجماهير.
…وكلمة "سيناريو" لفظة إيطالية، مشتقة من كلمة "سينا" Scena، بمعنى النظر. وقد شاع استخدام تلك الكلمة، في أوروبا، في القرن التاسع عشر؛ وانتقلت إلى باقي العالم، بعد ذلك. وظل استخدامها مقصوراً على العمل الفني، حتى ظهرت علوم المستقبل، في النصف الثاني من القرن العشرين؛ ولم تستطع أي كلمة، أن تعبّر عن معنى التخطيط المستقبلي، إلا كلمة "السيناريو".
تعريف السيناريو الفني
…تشمل كلمة سيناريو، في السينما، كلَّ الجوانب السينمائية الرئيسية، من روائية أو تسجيلية أو جمالية؛ وليس الجانب الروائي فقط. ولعل ذلك ما حمل على ابتداع كلمة "سكرين بلاي" Screen Play، وقصرها على السيناريو الروائي؛ ثم كلمة "سكريبت" Script، ومعناها الحرفي النص الكتابي. وهناك العديد من التعاريف بالسيناريو الفني، يمكن حصر بعضها في الآتي:
1. عرّفه "لويس هرمان" Lewis Herman بأنه "خطة وصفية، تفصيلية، مكتوبة في تسلسل، يجمع بين كلٍّ من الصورة والصوت. وتقدم هذه الخطة إلى المخرج، الذي يعمد إلى تنفيذها، أي تحويلها إلى واقع مرئي مسموع".
2. وعرف "ريموند سبويتووك" Spoitook، السيناريو، من خلال تحليله لطبيعة دور الكلمة المستخدمة في كتابه، فقال: "إن السيناريو، هو تسجيل المعاني المصورة، باستخدام الكلمات، التي يمكن ترجمتها، فيما بعد، بانطباعات مصورة بوساطة الكاميرا والمخرج. وعلى ذلك، فإن السيناريو، على الرغم من اعتماده على الكلمة، في كتابته، فإنه ينشأ من الصورة أولاً".
3. وعرّفه "يوروفكين" Yorofkin " أنه فيلم المستقبل، أو بعبارة أخرى، هو الفيلم المكتوب على الورق".
4. وبعد استعراض كلِّ ما تقدم، يمكن الوصول إلى تعريف آخر للسيناريو، قد يجمع بين كلِّ مميزات التعاريف السابقة، أو يغطي نقصاً، قد يشوب أحدها، وهو: السيناريو، هو التأليف أو الصياغة السينمائية لموضوع الفيلم، في شكل كتابي، يوضح تفاصيل وتسلسل الصور البصرية/ الصوتية، التي ستظهر في فيلم المستقبل.
السيناريو غير الفني
…وهو يختص بفرع رئيسي من علوم المستقبل. وتتحدد وظيفته في وصف احتمالات الأحداث المختلفة، والتصرف فيها. ويطلق على وصف الحالة المستقبلية وأسلوب إدارتها، من واقع كونها قصصاً، أو خطوطاً عامة لقصص حول مستقبلات ممكنة؛ أو أنها قصص حول المستقبل، وعادة ما تتضمن قصصاً حول الماضي والحاضر. كما يقال إن السيناريو وصف لمستقبل ممكن، أكثر من كونه عرضاً لتنبؤ محتمل، أو لمستقبل فعلي. يعرَّف السيناريو، أحياناً، بأنه تتابع مفترض لأحداث مستقبلية، أو أنه صورة متسقة داخلياً لمستقبل ممكن؛ ومن هنا، فإن التعريف العلمي المقترح لسيناريو الأحداث، هو: أنه وصف لوضع مستقبلي ممكن، أو محتمل، أو مرغوب فيه؛ مع توضيح لملامح المسار أو المسارات، التي يمكن أن ينجم عنها هذا الوضع المستقبلي؛ وذلك انطلاقاً من الوضع الراهن، أو من وضع ابتدائي مفترض.
…ويعرَّف كذلك بأنه منظومة عمل، تبرمَج من خلال جدول "برنامج"، لمواجهة الأحداث والتطورات الرئيسية المستقبلية، في إطار التخطيط المستقبلي للدولة أو المؤسسة؛ وبما يحقق نجاح الأهداف المستقبلية".
الفرق بين السيناريو الفني وغير الفني
1. كلا السيناريوهَين، يمثل عملاً/ حدثاً مستقبلياً؛ وإن اختلفا في الهدف.
2. كلاهما يتطلب خاصية الإبداع الفكري والتخيل العميق، في صياغته.
3. السيناريو الفني، يعتمد على المصداقية والجذب؛ بينما يعتمد السيناريو الخططي على الأسلوب العلمي الدقيق، للوصول إلى الحقائق.
4. السيناريو الفني، ينطلق من فكرة؛ بينما ينطلق السيناريو الخططي من أحداث، أو معطيات رئيسية، تعتمد على واقع فعلي.
5. التسلسل المأسوي للسيناريو الفني، يعتمد على خيال واضعه ورؤيته في نهاية القصة؛ بينما يعتمد السيناريو الخططي على تحقيق الغاية القومية، أو الهدف السياسي العسكري/ الاقتصادي للدولة، "أو الوصول إلى أقرب ما يمكن من هذا الهدف".
6. السيناريو الفني، يعتمد على فكرة واحدة، أو موقف واحد متسلسل؛ بينما يشمل السيناريو الخططي الواحد، ما يراوح بين موقفَين وأربعة مواقف، يصاغ كلٌّ منها في سيناريو كامل.
7. السيناريو الفني، يكون قابلاً للتداول، بعد صياغته؛ بينما يتأسس السيناريو الخططي على قدر كبير من السرية، ويخزن في أجهزة حاسبة؛ ولا يتعامل معه إلا المختصون بمجال السيناريو.
8. المشاركون في وضع السيناريو الفني، يكونون، عادة، من الكتاب المحترفين أو الفنانين؛ بينما يعتمد السيناريو الخططي على حشد، من العلماء والخبراء، يستعينون بالوثائق المتعلقة بالعمل.
وجْها السيناريو الخططي
ينقسم السّيناريو، في المجال الخططي، إلى قسمَين:
ـ صنع الأزمة
وهو يمثل السّيناريو الإيجابي لفرض الإرادة، من خلال اختلاق أزمة معينة، يستهدف إرغام طرفها الآخر على قبول قرار ما. ويتميز هذا السّيناريو بإجراءات إيجابية فاعلة، ويفرض مواقف محددة على قيادة الطرف الآخر للغوص فيها؛ ومن خلال ذلك، تتحقق الإجراءات الفاعلة لفرض القرار المستقبلي. وقد شهد العقد الأخير من القرن الماضي العديد من صور هذا السيناريو، سواء في الخليج، أو مناطق أخرى من العالم.
ـ مواجهة الأزمة
تتمثل في الإجراءات، السّلبية (الدفاعية)، والإيجابية (الهجومية)، الناشطة لمواجهة الأحداث، خارجية أو داخلية؛ فضلاً عن تسخير الإمكانيات، وتحديد الأسلوب، وتجنيد الأشخاص/ المنظمات، الذين سيتصدون للأزمة في مراحلها المتطورة. ويُعَدّ هذا السيناريو، هو السّائد، ولا بدّ منه لاستمرارية الحفاظ على كيان الدول/ النظم/ المؤسسات، وعدم تعريضه لهزات عنيفة.
ويشتمل هذا السيناريو جميع المجالات الأخرى، مثل: دراسات الجدوى، والخطط المستقبلية. وقد يشمل الأسلوب، الذي يتيح تطوير الأزمة السلبية إلى أزمة إيجابية؛ لتحقيق الهدف المستقبلي.
مقومات السّيناريو
للسيناريو ثلاثة مقومات رئيسية، هي:
1. وصف وضع مستقبلي
قد يعني وصف خصائص ظاهرة، كالتطور التكنولوجي لمؤسسة ما، خلال عقدَين من الزّمان؛ أو وصفاً لنظام حكم، عام 2015، وما يتمتع به من قدرات وتأثير، إقليمي وعالمي؛ أو وصف تنظيم عسكري، يطّرد تطوُّره. وهو ينقسم إلى قسمَين:
أ. السيناريوهات "الاستطلاعية" Exploratory
يمثل فيها الوضع المستقبلي، محل الاهتمام، وضعاً مستقبلياً ممكناً Possible، أو محتمل الحدوث Probable Potential.
ويستند مخطِّط السّيناريو إلى الاتجاهات والمعطيات العامة القائمة، في محاولة لاستطلاع ما يمكن أن تسفر عنه الأحداث والتصرفات، المحتملة أو الممكنة، من تطورات، في المستقبل. ولهذا، يمكن وصف السيناريو، في هذه الحالة، بأنه " تنبؤ مشروط"، ينبثق منه عدد كبير من الاحتمالات، الناجمة عن استخدام الخيال الواسع. كما يطلق عليه، في أحيان أخرى، "السيناريو المتوجه إلى الأمام" Forward Scenarios.
ب. السيناريوهات "الاستهدافية" Normative أو "المرّجوة" Anticipatory
وهى السيناريوهات، التي تشمل، في البدء، مجموعة أهداف، ينبغي تحقيقها، مستقبلاً، وتتخذ صوراً مستقبلية متناسقة. ويعتمد مخطِّط السيناريو الأوضاع الحاضرة، لكي يكتشف المسارات الممكنة، لتحقيق الأهداف المرجوة، مستقبلاً؛ محدداً النقاط الحرجة، التي تتطلب اتخاذ قرارات أو تصرفات مهمة. ويطلق على هذه العملية "التصور العكسي" Back Casting. كما يمكن وصف السيناريو الناتج منها بأنه " سيناريو راجع/ مرجعي". كذلك يمكن الحديث عن عملية "تخطيط للسيناريو" Design Planning، بمعنى "السيناريو الخططي"؛ وليس كتابة سيناريو فقط.
2. وصف مسار، أو مسارات مستقبلية
ويتمثل في وصف المسارات، التي يمكن أن تسفر عن الوضع المستقبلي. ويقصد بذلك وصف التتابع المفترض، أو التداعيات المتصورة للظواهر محل البحث، عبر الزمن؛ وذلك انطلاقاً من الوضع الابتدائي الفعلي أو المفترض، في حالة "السيناريوهات الاستطلاعية"؛ أو من الصورة المستقبلية المرجوة، في حالة "السيناريوهات الاستهدافية". ومن المهم التمييز بين الأحداث Events، والتصرفات Actions، التي ينتج عن وقوعها وتفاعلها بشكل محدد للمسار المستقبلي [1].
3. الوضع الابتدائي
هو نقطة الانطلاق، التي تمثل مجموعة البيانات، أو "الشروط الأولية" Initial Conditions، التي تحدَّد بدقة؛ لأنها تمثل الخلفية الرئيسية لتتابع الأحداث، عبر الزمن، في السيناريو؛ وتنتهي إلى الصورة المستقبلية، في حالة "السيناريوهات الاستطلاعية".
كما أنها تمثل نقطة الأصل، التي يتعين الرجوع إليها من الصورة المستقبلية المبتغاة، عبر مسارات بديلة، في حالة "السيناريوهات الاستهدافية". ومن المهم تمييز نوعَين من العوامل داخل الشروط الأولية للسيناريو، هما: الوقائع والقوى الفاعلة [2]. وقد يعبِّر الوضع الابتدائي عن مجموعة من الظروف الفعلية، يمكِّن تحليلها، والبحث عن احتمالات تغيُّرها، من رسم المسار الممكن عبر الزمن المستقبلي. إن عملية بناء السيناريو، هنا، تتمثل في السعي إلى الإجابة عن أسئلة، من نوع: ماذا يمكن أن يحدث، لو حدث كذا؟ What Would Happen If.
أنواع السيناريوهات
…يفرض الغموض، الذي يكتنف الدراسة المستقبلية، إعداد مجموعة سيناريوهات لاحتمالات المستقبل، تفضي معالجتها، على صعوباتها وتعقيداتها، إلى مسارات مستقبلية متعددة.
…ويميل معظم المشتغلين بالدراسات المستقبلية، إلى تحديد عدد السيناريوهات، في كل حالة، بما يراوح بين سيناريوهَين وأربعة سيناريوهات. وحتى لا يُشتت الفكر بكثرة السيناريوهات، وتتعذر المقارنة الجيدة بين السيناريوهات البديلة؛ فإنه من المفضل العمل على عدد قليل منها، يساعد على تذكُّر ملامحها، ويعين على تبيّن الفوارق بينها، ويتيح تركيز الانتباه في العلاقات السببية، ونقاط اتخاذ القرارات؛ كما أنه ييسر المقارنة بين آثارها ونفقاتها ومنافعها.
…وفي كل الأحوال، إن السيناريو الواحد للموقف مرفوض؛ لأنه يصبح قراراً مسبّقاً في شأنه، لا يراعي تطور أحداثه؛ فيفتقد السيناريو مبرره، إذ هو يُعد ليغطي مدى زمنياً طويلاً، لا يقلّ عن عشر سنوات. كما أنه يقضي، والحالة هذه، على الفكرة البديلة، وليدة علم المستقبليات ..
حدد العالم "سلافتر" Slaughter أربعة أنواع من السيناريوهات، هي:
ـ السيناريو المرجعي، أو سيناريو استمرار الوضع القائم Status quo Scenario.
ـ سيناريو الانهيار Collapse Scenario: وهو يمثل عجز النسق عن الاستمرار، أو فقدان قدرته على النمو الذاتي، أو بلوغ تناقضات النظام حدّاً، يفجره من داخله.
ـ سيناريو العصر الذهبي الغابر، أو السيناريو السّلفي، أو سيناريو الحالة المستقرة Return or steady state Scenario: وهو مبني على العودة إلى فترة زمنية سابقة، يفترض أنها تمثل الحياة المستقرة.
ـ سيناريو التحول الجوهري Transformation or Fundamental Change Scenario: وهو ينطوي على حدوث نقلة نوعية في حياة المجتمع، سواء كانت اقتصادية، أو تكنولوجية أو سياسية أو اجتماعية.
أمّا العالم "جوديه" Godet M، فقد حدد أنواع السيناريوهات بثلاثة، هي:
ـ سيناريو مرجعي: يعبِّر عن الوضع الأكثر احتمالاً، لتطور الظاهرة، محل البحث.
ـ سيناريو متفائل: يعبِّر عن الأمل، في مسار تطور الظاهرة.
ـ سيناريو متشائم: يعبِّر عن النقيض للسيناريو الثاني، في حالة عدم توافق الظروف، والاتجاه بالحال إلى كارثة، أو موقف صعب.
…وهناك العديد من أنواع السيناريوهات، تمخضت بها اجتهادات العلماء، بمدارسهم المختلفة؛ ولكن يبقى مُقترح سيناريوهات "جوديه"، هو الأكثر استخداماً.
أهداف السيناريو
على الرغم من تباين الرؤى، بين المشتغلين بالدراسات المستقبلية، إلا أنهم يُجمِعون على أن الأهداف والفوائد، التي تسعى السيناريوهات المستقبلية إلى تحقيقها، تتحدد بالآتي:
1. عرض الاحتمالات والإمكانيات والخيارات البديلة، التي تنطوي عليها التطورات المستقبلية، كما تكشف عنها السيناريوهات المختلفة.
2. عرض النتائج المترتبة على الخيارات المختلفة في السيناريو. وتركيز انتباه متخذي القرار في الفاعلين الرئيسيين وإستراتيجياتهم، وفي العمليات أو العلاقات السببية، والنقاط الحرجة.
3. تمكين الجماهير من التفكير في كل الأمور المتعلقة بالمستقبل، واستثارة النقاش فيها، واستدعاء ردود الفعل في شأنها.
4. التوصل إلى توصيات (في بعض الحالات الخاصة ـ وخصوصاً في مجال الاقتصاد) في شأن الخيارات والقرارات، التي ينبغي اتخاذها، من الآن، للوصول إلى الوضع المستقبلي المرغوب فيه، بعد فترة زمنية محددة.
…يبرز ذلك عند بناء السيناريوهات المستقبلية، التي تتضمن الأحداث، المقبولة والممكنة، التي توافق الرصد المستقبلي، أو من المنطقي توقع حدوثها؛ ويتوقف معناها الحقيقي على توجهات جهود التخطيط، ومدى رؤيتها المستقبلية، وتوقعاتها للأحداث والأزمات المستقبلية. والمثال السائد لاستخدام هذا الأسلوب، هو رسم التاريخ المستقبلي للسيناريو، والذي يعتمد على محاولة كتابة الأحداث، من الآن وحتى "هدف السيناريو"؛ ويكون ذلك بطرح مخططي السيناريو بعض الأسئلة ومحاولة الإجابة عنها. وهناك مثال مطروح لتطوير مجالات الأمن القومي في جمهورية مصر العربية، حتى عام 2015، شمل الأسئلة التالية:
أ. ما شكل التوازنات، السياسية والإستراتيجية والعسكرية، في هذا التوقيت، عالمياً وإقليمياً؟
ب. ما شكل التحالفات، السياسية والإستراتيجية والعسكرية؟
ج. ما الشكل، الذي سوف تكون عليه وزارة الدفاع، وباقي الوزارات الأخرى، المرتبطة عملياً بقضية الأمن القومي؟
د. ما نُظم التسليح، التي ستوجد في ذلك الوقت؟ وما حجم التصنيع المحلي؟ وما تأثير ذلك في سياسة الدفاع والإستراتيجية العسكرية؟
هـ. كيف سيكون الهيكل التنظيمي للقوات المسلحة؟ وما حجم التّجمعات الإستراتيجية، وأسلوب التوزيع الإستراتيجي، والنقل الإستراتيجي، والفتح الإستراتيجي للقوات المسلحة، في عام 2015.
و. ما المهام الإستراتيجية، في ذاك التوقيت؟
ز. ما حجم العدائيات المؤثرة؟
ح. كيف سيكون الوضع العربي بعامة؟
ط. ما علاقة القوى الكبرى بالمنطقة وحجم مصالحها فيها، التي تدفع إلى التدخل المباشر في الأزمة؟
ي. أي أسئلة أخرى، يراها المخططون الإستراتيجيون.
مواصفات السيناريوهات الجيدة
…حتى تكون السيناريوهات قابلة للتطبيق، ومُحددة لرؤية مستقبلية واقعية، فعليها أن تتميز بالآتي:
1. أن تكون ممكنة الحدوث Possible، وليس محض خيال. لذلك، يجب أن تتصف السيناريوهات بـ"المعقولية " Possibility، بمعنى أن تسرد قصة الانتقال، من الوضع الابتدائي إلى الوضع المستقبلي، بطريقة منطقية منظمة.
2. أن تكون سهلة الفهْم، حتى يمكنها المساعدة على التعلم، والتواؤم، وتعديل التصرفات، والأولويات لاتخاذ القرار الملائم؛ وأن يساعد عرضها على تيسير المقارنات، واستخلاص النتائج في شأن المشكلات ذات الأولوية.
3. أن يكون بين السيناريوهات، مهما يكن عددها، قدر واضح، وملموس، من الاختلاف والتمايز؛ بما يسمح بإطلاق طاقات الخيال والإبداع للمتلقِّي.
4. أن يتصف كلُّ سيناريو بالاتساق الداخلي، أي تناسق مكوناته؛ وهذا لا يتعارض مع وجود تناقضات داخلها، بل يُعَدّ هو محرك السيناريو.
5. يتصف بالقدرة على الكشف عن الانقطاعات، أو نقط التحول، في المسارات المختلفة؛ والقدرة على توقع الأحداث، المثيرة للاضطرابات داخل السيناريو، أو المفضية إلى انحرافه عن مساره الطبيعي.
[1] …الأحداث: وقائع غير مقصودة، ولا يمكن لمتخذ القرار التحكم فيها خلال الفترة الزمنية التي يغطيها السيناريو (مثل التغير عقدي الأحوال الجوية/ الكوارث الطبيعية/ الاكتشافات التكنولوجية ... الخ). والأحداث بصفة عامة تعتبر متغيرات خارجية في عملية بناء السيناريو. التصرفات: تغيرات مقصودة أو متعمدة في الظواهر الداخلة على السيناريو، ومن ثم فهي تخضع لقرارات متخذ القرار، أو لتصورات تصميم السيناريو (مثل التغير في الهيكل الاقتصادي/ الاجتماعي ... الخ) ويمكن استقراء التصرفات من خلال فهم مصالح الفاعلين، أو نوعية الأهداف المرجوة.
[2] …يقصد بالوقائع: حقائق الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والتكنولوجيا والسياسية والمؤثرات الخارجية، والاتجاهات العامة السائدة، والاتجاهات المغايرة البازغة. ويقصد بالقوى الفاعلة Actors: القوى الحكومية وغير الحكومية، صاحبة الأثر الأكبر في تشكيل الأحداث، سواء بالفعل أو برد الفعل، ويُعد تحديد هذه القوى وتحليل سلوكها والوقوف على مشروعاتها وخططها وإستراتيجيتها المستقبلية، من الأمور بالغة الأهمية في بناء السيناريو.
المبحث الثاني
استخدام السيناريو في التخطيط المستقبلي
…تطبيق علم المستقبليات في مجال التخطيط، هو أهم التطبيقات الرئيسية، التي تستخدمها الدول المتقدمة في وضع الخطط المستقبلية الدقيقة، التي تبني عليها سياستها ونُظُمها؛ رامية إلى تحقيق التوازن بين أركان الأمن القومي للدولة، على المدى البعيد، من دون حدوث أي ثغرات، تسفر عن انهيار الخطط الموضوعة. ومن المعروف، أن التخطيط ورسم السياسات، هو أحد العلوم المستقبلية، التي تحرص عليها قيادات الدولة؛ حيث تحرص تلك القيادات بتكليف خبراء لوضع خطط مستقبلية مستقرة، تحقق أهداف الدولة. وإذا كان التخطيط المستقبلي، قد اعتمد على العقول والوثائق، مما كان يستلزم جهداً كبيراً؛ فإن إدخال الحاسبات الآلية، في هذا المجال، جعل من التخطيط المستقبلي، باستخدام السيناريوهات، مادة في متناول أجهزة الدولة، التي تصل إلى القرار السليم، باستخدام أعداد كبيرة من الخيارات، في زمن محدود، وبجهد ملائم.
مفهوم التخطيط المستقبلي
…هو علم حشد الطاقات وتنظيم استخدامها، من أجل تحقيق الهدف. ويقصد به، في المعنى العام: كلّ محاولة لوضع خطة شاملة، تعمل المؤسسة على تنفيذها، خلال فترة زمنية محددة. أمّا في المعنى الخاص، فيقصد به: "وضع الخطط الوطنية، في المجالات المختلفة، بحيث تخطو الأمة، في هذه المجالات، على هدى وبصيرة، مدركة من أين تبدأ، وإلى أين تنتهي؛ وبحيث تلحق بركب التطور، في أقلّ فترة زمنية ممكنة، وتتجاوب مع المتغيرات السريعة المتلاحقة، في حقول العلم والتكنولوجيا؛ وبحيث تسبق الأحداث، فلا تؤخذ على غرة". والركائز الرئيسية لضمان نجاح التخطيط المستقبلي، باستخدام السيناريو، هي:
1. أن يكون شاملاً، ويراعي كلّ المتغيرات المحتملة مستقبلاً؛ وينفذ على مراحل، في فترات زمنية محددة.
2. أن تتبناه، وتتولى تنفيذه قيادة واعية، تتوافر لها الإمكانيات والطاقات، ولديها القدرة على تذليل الصعاب، والمرونة على تقويم التخطيط طبقاً للمتغيرات، من دون أن تحيد عن الهدف الرئيسي.
3. أن يكون المنفذون على دراية كاملة بأهداف الخطة ومراحلها، وعلى اقتناع كامل بها؛ ويمتازون بملكة الإبداع في وضع السيناريوهات.
4. أن يكون هناك تأييد للخطة، واقتناع كامل بضرورة تنفيذها؛ لِما ستعود به على الدولة والمواطنين، عند اكتمال تحقيق أهدافها.
5. أن تكون سيناريوهات الخطة مرنة، وقابلة للتقويم، عند حدوث متغيرات حادة؛ وبما يسمح بالوصول إلى الهدف، في النهاية.
…ويعتمد التخطيط باستخدام السيناريوهات، على أنظمة آلية، تحقق يسر الحصول على المعلومات الرئيسية وتخزينها وبرمجتها وتحديثها باستمرار، طبقاً للمتغيرات السريعة، والمتلاحقة؛ مع الاستفادة من شبكات المعلومات، التي جعلت العالم كله مثل كتاب مفتوح.
…والمعروف عن آلية القيادة، أنه كلما كانت المداخل دقيقة وصحيحة، ومكتملة، كان التخطيط دقيقاً والسيناريوهات سليمة.
مطالب التخطيط المستقبلي
التخطيط المستقبلي، لا بدّ أن يبنى على أُسُس خاصة، منها:
1. توافر المعلومات وتحديثها باستمرار.
2. تحديد الهدف النهائي، والأهداف المرحلية.
3. الإمكانيات الحقيقية المتاحة، والمنتظر توافرها.
4. المدى الزمني للتخطيط.
5. حجم القيود المحتملة، التي ستتعرض لها الخطة.
…والتخطيط، بمفهومه الحديث، يعتمد على أنظمة آلية، تحقق سهولة الحصول على المعلومات الرئيسية، التي يرتكز عليها التخطيط المستقبلي، والتي تتكون من مئات، بل آلاف المنظومات المعلوماتية، التي يجب تحديثها، باستمرار، طبقاً للمتغيرات السريعة، والمتلاحقة في العالم.
…والتخطيط، بمفهومه الشامل، يجب أن يشمل جميع أركان الخطط الوطنية، ولا يختص بمجال دون آخر؛ لأن مجالات الأمن الوطني وركائزه، منظومة متكاملة، تتأثر بأي متغيرات، تطرأ على أي منها. وهناك مجموعة متواليات مترابطة، تحدد العلاقة بين "القدرة العسكرية"، في مجال الأمن الوطني، وباقي قدرات الدولة الأخرى، يمكن اتخاذها مثالاً على أهمية التخطيط الشامل. وعوامل المثال تنطبق على أي مجال آخر، ويتلخص في الآتي:
1. القدرة السياسية للدولة، تتطلب الاعتماد على قوات مسلحة قوية، لتحقيق هدفها السياسي، وفرض إرادتها، وتأكيد قوتها السياسية؛ من خلال التلويح بالقوة، أو التدخل الفعلي.
2. القدرة الاقتصادية للدولة، تتطلب قوات مسلحة قوية، تحميها من الطامعين، أو من الراغبين في إضعاف هذا الاقتصاد أو تحييده. ويُذكَر أن العديد من الحروب - وخصوصاً الحرب العالمية الثانية، كانت عواملها اقتصادية.
3. القدرة الاجتماعية للدولة، تتطلب قوات مسلحة قوية، تحمي قِيمها وتراثها وعقائدها، وتتصدى للتدخلات الخارجية، التي تحاول فرض قِيمها أو عقائدها عليها، أو إحداث تغيير في نُظُمها الاجتماعية. ويُذكَر أن الاستعمار القديم، كان يتجه، أول ما يتجه، إلى الإخلال بالنُظم الاجتماعية للدولة المستعمَرة؛ حتى يضمن البقاء فيها.
4. القدرة العلمية للدولة، تتطلب قوات مسلحة قوية، تحافظ على المستوى الحضاري والتكنولوجي، الذي وصلت إليه الدولة، وتحمي منشآتها، العلمية والصناعية، من أيّ اعتداء، أو غزو خارجي. ويُذكَر أن الهدف العسكري لقوات التحالف، في حرب تحرير الكويت، تركَّز في تدمير البنية الأساسية للعراق، حتى لا يتمكن المعتدي من إطالة زمن الحرب.
القوات المسلحة، إذاً، توازي قوّتها، أو ضعفها، قدرة القوى الشاملة في الدولة:
أ. فإذا كانت القوات المسلحة ضعيفة، انعكس ضعفها على سياسة الدولة، التي تفقد أهميتها وهيبتها، وتصبح غير مؤثرة، إقليمياً أو دولياً.
ب. وإذا كانت القوات المسلحة ضعيفة، فإن الاقتصاد الوطني، لن يتمكن من تحقيق أهدافه؛ ويكون دائماً مهدداً بأطماع الآخرين.
ج. وإذا اعترت الدولة متناقضات اجتماعية حادة، انعكس ذلك على قواتها المسلحة، تفتتاً وتمزقاً؛ بل تناحراً (الحرب الأهلية في لبنان 1975 - 1989).
د. وإذا أصاب الضعف القوى البشرية للدولة (الكوادر العاملة)، العلمية والفنية، فإن بناء قواتها المسلحة لن يكون على أُسُس حديثة، فتبقى متخلفة، عرضة للمطامع الخارجية.
…من هذا المنطلق، يجب الحرص على أن يكون التخطيط المستقبلي شاملاً، لأركان الأمن الوطني في الدولة برمّتها، فتتضافر جهود القوى الرئيسية، على تحقيق الغاية الوطنية، أو الهدف الوطني.
وهناك مثال، يحقق العلاقة ما بين قوى الدولة الشاملة، عند وضع سيناريو خططي، ويوضح تسلسله المنطقي، لاحتمال تدخّل القوات المسلحة في أزمة ما. وهو يعتمد على المبادئ الآتية:
أ. تدخل القوات المسلحة، لن يكون تصدياً لعمل عسكري معادٍ فقط، بل يتعداه إلى التصدي لردود فعل، سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو علمية أو بيئية، تمس أمن الدولة، كلية أو جزئياً.
ب. القوات المسلحة، لن تكون أول من يتصدى لهذا العمل المعادي؛ وإنما سيكون تدخّلها في مرحلة لاحقة؛ إذ ستتصدى له، قبلها، قوى أخرى، سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو أمنية؛ محاولةً حصر الأزمة احتواءها؛ أو على الأقل، سيتصديان له معاً، في توقيت واحد.
ج. ضرورة أن لا يقتصر التصدي للعمل المعادي، على القوات المسلحة وحدها؛ وإنما هي طليعة قوى الدولة الشاملة، وداعمتها حتى يتحقق الهدف الرئيسي، بإزالة الآثار الناتجة من العمل العدائي، بتكاتف جهود الدولة كلها جمعاء.
د. تحقق جزء كبير من قدرات القوات المسلحة وإمكانياتها، بتعبئة إمكانيات الدولة المختلفة.
هـ. استمرارية عمل القوات المسلحة، تتطلب جهود القوى الأخرى ومساعداتها (سياسية - إعلامية - علمية - اقتصادية - تأييد شعبي ... ).
…عمل القوات المسلحة، إذاً، هو جزء رئيسي من العمل السياسي الشامل، بمعنى أن بداية العمل ونهايته، يجب أن تكونا سياسيتَين. وتشترك في إدارته السلطتان: التشريعية والتنفيذية.
دور قوى الدولة الشاملة في سيناريو الأحداث
1. وزارة الخارجية (ممثلة القدرة السياسية)
يتمثل نشاطها في:
أ. توفير المعلومات المسبقة عن الأهداف والمصالح، المحتمل تهديدها.
ب. إدارة الأزمة، الدبلوماسية والسياسية، بكل أبعادها، قبل وأثناء وبعد تدخّل القوات المسلحة.
ج. تكوين رأي عام عالمي حليف.
د. تأمين رعايا الدولة في الخارج ورعايتهم.
هـ. التنسيق الدبلوماسي مع الدول، الصديقة والحليفة.
و. توفير أفضل ظروف دولية، لشرعية تدخّل القوات المسلحة.
2. وزارات الداخلية والإدارة المحلية والنقل (ممثلة القدرة الداخلية)
أ. فرض السيطرة الأمنية، وتحقيق الأمن الداخلي، وتأمين الأهداف الإستراتيجية…داخل الدولة.
ب. توفير أفضل الظروف، لتعبئة الموارد، وتأمين تحركات القوات المسلحة.
ج. تنظيم شبكة إنذار، لمواجهة أي تهديدات ضد الأهداف الحيوية.
د. حشد الجهود الأمنية، لدعم القوات المسلحة.
3. المرافق الاقتصادية (ممثلة القدرة الاقتصادية)
أ. التخطيط لمواجهة الأزمة الاقتصادية.
ب. إدارة الاقتصاد الوطني بما يوائم الأزمة، والحفاظ على مصالح الدولة الاقتصادية…في الخارج.
ج. التخطيط لتحويل الاقتصاد إلى "اقتصاد حرب".
د. توفير الاحتياجات الإستراتيجية الرئيسية، للشعب والقوات المسلحة.
4. وزارة الإعلام (معاونة القدرات الشاملة للدولة)
أ. خلق رأي عام، داخلي وخارجي، مؤيد للقضية.
ب. إدارة الأزمة إعلامياً في مصلحة القوات المسلحة.
ج. إجراء قياسات الرأي العام، وتحويلها في مصلحة القضية.
د. متابعة الحملات الإعلامية المضادة، وتحييدها.
5. الهيئات التشريعية في الدولة
يتمثل دورها في سن القوانين، التي يتطلبها الموقف؛ إضافة إلى التصديق على إجراءات السلطة التنفيذية، فيما يتعلق بالاعتمادات، إبرام الاتفاقيات، المعاهدات.
التخطيط المستقبلي، على المستوى الإستراتيجي، باستخدام السيناريوهات
…ينقسم التخطيط المستقبلي، باستخدام السيناريوهات، إلى عدة مستويات، طبقاً لمطالب الدولة وتوجهاتها الإستراتيجية، وسياستها لبناء القوة.
…وتتحدد سياسة بناء القوة بالغايات القومية للدولة. وتتضمنها إستراتيجية وطنية، تلتزمها كلّ مؤسساتها، التي تعمل، بالتنسيق فيما بينها، لوضع سياسة بناء القوة، في المجالات المختلفة.
…التخطيط المستقبلي، إذاً، تبادر إليه القيادات، السياسية والعسكرية والاقتصادية، حينما تعمد إلى تخطيط متكامل للدولة، في مجالاتها المختلفة؛ وحصر المشاكل والأزمات المتوقعة، وصياغة سيناريوهات متكاملة لمواجهتها.
…يشمل التخطيط المستقبلي، على المستوى الإستراتيجي، باستخدام السيناريوهات، الآتي:
1. الخطط المستقبلية
تحرص قيادة الدولة على وجودها والأخذ بها وتطويرها. وتتمثل في:
أ. الغايات الوطنية العليا للدولة: تختص بوضعها الهيئة التشريعية العليا في الدولة. وتتضمن الأهداف القومية، وما تسعى إلى تحقيقه، في المجالات المختلفة؛ طبقاً للثوابت والمتغيرات. ويراوح مداها الزمني بين 20 و 30 عاماً. والسيناريوهات، هنا، تتضمن جميع أركان الدولة وقدراتها، والمؤثرات الداخلية والخارجية، والمتغيرات المنتظرة، إقليمياً وعالمياً وداخلياً، حتى تتضح الصورة متكاملة؛ وتتحدد من خلالها المحظورات، التي تتجنبها الدولة، والقوى التي تتقارب معها، مباشرة أو تدريجاً، وأساليب التغلب على العوائق الكبرى، لو حدثت في إحدى المرحلة.
ب. الإستراتيجية الوطنية: تتضمن استغلال الدولة للطاقات، المادية والمعنوية، بما يحقق الغايات الوطنية. وهي تنقسم إلى العديد من الإستراتيجيات (السياسية ـ الأمنية ـ الاقتصادية). ولكل منها السيناريوهات الخاصة بها، التي يجب أن تتكامل مع السيناريوهات الأخرى.
ج. الخطط التفصيلية: تنقسم الإستراتيجية إلى العديد من المجالات، التي تتكامل لتحقيقها؛ فالإستراتيجية في المجال السياسي، مثلاً، تشمل تأكيد الثقل السياسي للدولة؛ وإستراتيجية التعامل مع الأزمات السياسية، الإقليمية والعالمية؛ وإستراتيجية التعامل مع المنظمات، الإقليمية والعالمية، وهكذا. ولكلٍّ من تلك الإستراتيجيات، سيناريوهات خاصة بها، يتضمّنها جميعاً السيناريو العام للإستراتيجية السياسية للدولة.
د. خطط مواجهة الأزمات: تشمل جميع مجالات العمل في الدولة، وتتعدد بتعدد التهديدات، واحتمالات وقوع الأزمات. وهي تنقسم إلى:
(1) أزمات سياسية: تتدرج من توتر في العلاقات، إلى احتمالات المواجهة. وتقسم إلى مجموعات، طبقاً لمصالح الدولة واهتماماتها السياسية، والتحديات، وأسلوب معالجة الأزمة والتغلب عليها.
(2) أزمات داخلية: تتدرج من حادثة إرهابية إلى الكوارث، إلى الأزمات المعيشية الحادة، أو أزمات الحياة.
(3) أزمات عسكرية: وتتدرج من تلويح باستخدام القوة إلى الردع، إلى احتمال خوض حرب حقيقية.
(4) ويشمل التخطيط المستقبلي، باستخدام السيناريوهات، جميع المجالات الأخرى.
2. سيناريوهات الأحداث/ الأزمات الطارئة
تشمل الأحداث غير المتوقعة، التي لم تشملها السيناريوهات الخططية الدائمة. وتُخطَّط من خلال الخبرات السابقة، وقيم الدولة ودستورها، وفق نمط السيناريوهات الدائمة نفسه.
…وتعتمد الدول المتقدمة على مراكز بحوث خاصة بالعمل في هذا المجال. وباستقراء تاريخ توقيع اتفاقيات السلام العربية مع إسرائيل، كمثال لأحداث طارئة، يتضح أن الإدارة الأمريكية، كلفت مركزاً، أو عدة مراكز، برسم سيناريو، للوصول إلى أفضل الاتفاقيات، التي يمكن أن يتفق عليها الأطراف؛ مع أسلوب طرح الخيارات، وتصاعد عملية الطرح، وحسابات المكسب والخسارة لكلِّ جانب؛ ودور الولايات المتحدة في تعويض الجانب الخاسر، والحصول على ثمن "المكاسب" من الطرف الآخر. وهو ما حدث في اتفاقيتي كامب ديفيد، الأولى والثانية [1] وكذلك في اتفاقيات السلام الأخرى، بين إسرائيل وكلٍّ من الأردن والفلسطينيين؛ وفى المفاوضات مع سورية.
العوامل السلبية المؤثرة في التخطيط المستقبلي، باستخدام السيناريوهات
هناك العديد من المؤثرات، التي يجب أن يتداركها أطقم التخطيط باستخدام السيناريوهات؛ لأن الوقوع فيها يفضي إلى اتخاذ قرار غير متكامل، أو تشوبه الأخطاء. وأهم هذه السلبيات:
1.التحريض على سرعة اتخاذ القرار
عند تحريض متخذي القرار على سرعة الموافقة، من دون تحقيق دراسة كافية لطبيعة المشكلة وتطورها المستقبلي، وأسلوب بناء السيناريو لمواجهتها؛ فإن الخطأ الشائع، في مثل هذه الحالة، يتمثل في التقديرات الهزيلة للنتائج المتوقعة، والأخطاء المرتبطة بالرد المحتمل.
2. تبني وجهة نظر محدودة
وهو ما ينفى فكرة علم المستقبليات البديلة. ويكون ذلك عندما يستعرض المخططون وجهات نظر ومواقف، لا تغطي جوانب المشكلة بالكامل، أو عدم بحث الخيارات والاحتمالات المتعلقة بها.
3. عدم الجرأة على اتخاذ القرار
تهيُّب صانعي القرارات صياغة سيناريوهات حقيقية، لمواجهة موقف صعب، ومؤثر؛ ويكون هدفهم إرضاء جهة معينة، أو عدم استثارة الجماهير.
4. خيانة الأمانة
ويكون ذلك من وراء متخذي القرار، وعدم إدراك القادة لجذور الموقف، وعدم اهتمامهم بدراسة الموقف الموحد، الذي اتفق عليه المستشارون، وكيفية الوصول إليه، وثقتهم الخاطئة بالمستشارين، الذين لم يكن لديهم وازع من تخطيط سيناريوهات معينة، تخفي الحقائق عن صانع القرار؛ ولا سيما تلك التي تباين رغبته.
5. القصور في المعلومات
اعتماد مخططي السيناريو على قناة واحدة للمعلومات، أو تجميعها من مصادر غير موثوق بها؛ وما يبنى على خطأ، فهو خطأ.
6. انتقائية رؤية معينة
تزيين مؤيدي خطة أو برنامج ما لصانع القرار، الافتراضات والمبادئ والأسُس والتقديرات لبناء السيناريوهات، بما يخدم هدفهم النهائي.
7. انتقائية متخذ القرار
مطالبة صانعي القرارات مساعديهم، بإبداء المشورة والرأي في "خطة مفضلة" لديهم فقط، من دون عناء أو دراسة متكاملة للموضوع، وفحص جميع وجهات النظر، الإيجابية والسلبية، للخطة.
8. عدم الأخذ بالمتغيرات التاريخية
ميل متخذ القرار إلى "صنع قرار"، شبيه بقرار تاريخي سابق، بزعم الاستفادة من العِبر التاريخية؛ بينما لا يُقَدّر المتغيرات، التي تجعل حلول المشكلة القديمة، لا تنطبق على المشكلة الحالية، نتيجة المتغيرات المحيطة.
المدخلات الرئيسية للسيناريو الخططي (الوضع الابتدائي/ وصف الوضع الراهن)
…الهدف من السيناريو الخططي، مساعدة متخذ القرار على الحصول على غير رؤية للمطلب الواحد (الخيارات)؛ فتتعدد الرؤى، بما يتيح إيجاد أفضل الحلول للعديد من المسائل المعقدة. السيناريو الخططي، إذاً، هو وسيلة لطرح الخيارات المختلفة، التي تسهل عملية اتخاذ القرار الملائم.
…وهناك سبعة مداخل رئيسية، تشكل، بتفاصيلها الدقيقة، العمود الفقري للسيناريو. وتتمثل في الآتي:
1. الهدف الإستراتيجي النهائي (السياسي/ الاقتصادي/ العسكري)
يشمل هذا الهدف التخطيط، الذي تضعه الجهة المخططة للسيناريو، للوصول إلى حلول لمسألة إستراتيجية (رئيسية) محددة. وقد يكون الهدف قاطعاً، فينفذ كما خُطِّط له، وتُحَدَّد الخيارات طبقاً للمتغيرات المتوقعة. وقد يكون "مرناً"، على أساس وجود خيارات للهدف؛ على أن يحدد البديل الأدنى الممنوع تخطِّيه، والبديل المرجو الوصول إليه؛ وتكون الخيارات، في هذه الحالة عديدة، يجري اختصارها في أقلّ عدد ممكن.
2. حصر مجموعة التهديدات
وهي، في الغالب، تشمل تهديدات مادية، قد تتعرض لها الدولة أو المؤسسة. كما تشمل تهديدات معنوية، تتعلق بقدرة الدولة وتأثيرها، وموقف الحكومة أمام شعبها، وأمام الخصوم التقليديين والحلفاء. وتتطلب مجموعة التهديدات حصراً دقيقاً لاحتمالات المواجهة، المادية والمعنوية، وإمكانيات الخصوم في إدارتها، والتأثيرات في الدولة/ المؤسسة، نتيجة ذلك.
3. حصر مجموعة التحديات/ القيود المفروضة [2]
تنشأ تلك التحديات والقيود عن علاقات الدولة/ المؤسسة، ومدى قدرتها على التعامل التكنولوجي مع الآخرين، ومدى ما تحققه الاتفاقيات/ التحالفات للدولة/ المؤسسة، لتنظيم إمكانياتها؛ فضلاً عمّا تحدده من خطوط حمراء، يجب أن لا تتعداها في تعاملاتها مع الآخرين. لذلك، فإن مجموعة التحديات، يجب أن تعامل معاملة مجموعة التهديدات نفسها، عند تخطيط السيناريو.
4. حصر إمكانيات الدولة/ المؤسسة
يجب أن يكون الحصر، في هذه الحالة، دقيقاً؛ يخضع لمعاملات الكفاءة النوعية، وليس الكمية. وتُراعى فيه القدرات الإضافية المنتظرة، خلال مرحلة استمرار السيناريو؛ ومقدار التوازن، إنْ لم يمكن الحصول على تلك القدرات.
5. مجالات العمل
تشمل جميع المجالات، التي تخدم السيناريو بالتفاصيل الدقيقة. فلو كان مجال العمل هو امتلاك سلعة إستراتيجية (سلاح مثلاً) لوجب أن يشمل السيناريو: إمكانيات مراكز البحوث والتطوير؛ والمصانع القادرة على التصنيع؛ وميادين التجارب؛ العنصر البشري والتأهيل الفني؛ والدول الصديقة والحليفة، التي يمكن الاستفادة من خبراتها؛ ودراسة جدوى الشراء أو التصنيع. وإذا كان المطلوب بناء خطة في مجال ما، فيشمل السيناريو: مجال التخطيط والهدف المستقبلي، والمدد الزمنية، وتوقيت البدء والإمكانيات المتاحة.
6. الفترات الزمنية ومراحل التنفيذ
تحددها القيادة السياسية/ الإستراتيجية، عند تحديد الهدف الإستراتيجي؛ إذ يجب أن يقترن الهدف الإستراتيجي بالمدى الزمني اللازم لتحقيقه. وبتحديد المدى الزمني والهدف النهائي، يمكن تحديد المراحل الزمنية للتنفيذ.
7. مجالات دعم القرار
تُعَدّ جميع المجالات، التي يتطرق إليها القرار الإستراتيجي، هي المجالات التي تدعمه، مثل:
أ. مجالات البحوث والتدريب، واستخدام خبراء، أو إرسال متدربين إلى الخارج.
ب. حدود خطة الإعلام المصاحبة للقرار.
ج. قياسات الرأي العام.
د. مجالات العمل النفسي، الإيجابي والسلبي.
هـ. مجالات الإشراف والمتابعة.
و. أي مجالات أخرى.
…ومن قاعدة البيانات هذه، يمكن الخروج بعشرات السيناريوهات. ولكن، طبقاً لما سبق ذكره، فإن السيناريوهات الخططية، المطلوبة بعد عمليات الفرز المختلفة، تشتمل على ثلاثة سيناريوهات فقط، كلٌّ منها خطة مستقلة بذاتها.
السيناريوهات الخططية، الناتجة من عمليات الفرز
1. السيناريو الأول
عندما تسمح الظروف تماماً بتنفيذ الخطة، لتحقيق الهدف المنشود.
2. السيناريو الثاني
في حالة وجود عوائق. وتحدد هذه العوائق، والمراحل الزمنية لظهورها. وتحدد الحلول لقيادة السيناريو، للوصول إلى الهدف المنشود، باتخاذ الخطوات البديلة، في حالة ظهور كل عائق.
3. السيناريو الثالث
عندما تتعارض كلُّ الظروف، ويستحيل تنفيذ الخطة. ويوضح فيه الخيارات المطروحة لتحقيق الهدف المنشود. علاوة على ذلك، فإنه في حالة بناء السيناريوهات الخططية لمواجهة الأزمات، تضاف إلى تلك المدخلات، عوامل أخرى؛ منها:
1. الوضع الابتدائي الراهن، الذي تنشأ من خلاله الأزمة. ويشمل:
أ. المناخ المحيط بالأزمة، داخلياً وإقليمياً وعالمياً.
ب. كيف تبدأ الأزمة، وذلك من خلال بوادر الأزمة، والمؤشرات إلى حدوثها. ويجب أن يشمل ذلك جميع المؤشرات، حتى لو كانت محدودة.
ج. الفاعلون الرئيسيون في الأزمة، وتوجهاتهم، وتوقيتات تدخلاتهم الرئيسية.
د. حصر المصالح والتباينات للأطراف الفاعلة، وربط ذلك بعلاقاتها بالأهداف المحققة.
هـ. مسار الأزمة وتطوُّرها، بمعنى أسلوب تفاقهمها، خلال المراحل المختلفة؛ مع توضيح تلك المراحل، وأسباب حدوثها وتطوُّرها، وهدف كلٍّ مرحلة من تصعيد الأزمة، ونقاط التغيير الرئيسية في الأزمة، وأسلوب مواجهتها.
و. المدى الذي تصل إليه الأزمة، بمعنى الوصول إلى قمة الصراع في الأزمة.
ز. احتمالات نهاية الأزمة، سلباً وإيجاباً.
2. إجراءات مواجهة الأزمة، وتشمل:
أ. أسلوب اكتشاف الأزمة وتتبعها، أو صنعها: ويذكر صراحة الأجهزة المختصة بالإنذار، والأجهزة المنوط بها تحليل بوادر الأزمة ومتابعتها.
ب. المراكز التي تدار منها الأزمة: وهو إجراء رئيسي، لتحديد المسؤولين عن تلك الإدارة.
ج. القيادات والكوادر المنوط بها إدارة الأزمة.
3. آليات مواجهة الأزمة: وهي تشمل جميع الآليات المستخدمة لمواجهة الأزمة، طبقاً لطبيعتها.
4. إزالة الآثار الناتجة من الأزمة: وهي تشمل الإجراءات المستقبلية، التي يجب أن تعاد الأوضاع، من خلالها، إلى ما كانت عليه قبل حدوث الأزمة.
5. أسلوب التدريب على إدارة الأزمة: وهو إجراء مهم، يحقق كفاءة إدارة السيناريوهات، عند وقوع الأزمة فعلاً.
دروس وخبرات، في مجال التخطيط المستقبلي
…قد يكون من المفيد استعراض خبرات الآخرين بالتخطيط المستقبلي، باستخدام السيناريوهات؛ لتتضح مميزاته وكيفية نشوء الفكرة، وتبلورها؛ فضلاً عن الأخطاء الشائعة فيه وكيفية تلافيها. وتفي بالغرض أمثلة من الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل.
1. المثال الأول: من الولايات المتحدة الأمريكية، من واقع التقرير، الذي قدمته وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) إلى الكونجرس، في أعقاب عملية "عاصفة الصحراء"، والذي أورد جميع إيجابيات وسلبيات العملية، والتوصيات المستقبلية المطلوبة. وتعكس فقرة مختصرة منه، نشأة فكرة التخطيط المستقبلي لقضية ما، تستوجب ضرورة معالجتها. وقد تضمنت تلك الفقرة النقاط الرئيسية الآتية:
أ. العجز عن التنبؤ بزمان نشوب الصراع المقبل ومكانه؛ وأن الأحداث العالمية، ليست شيئاً، يسهل التنبؤ بحدوثه أو توقعه.
ب. إزاء محدودية التنبؤ بأحداث الخمسة عشر عاماً المقبلة، لا بدّ من الاحتفاظ بقوات على مستوى عالٍ من الكفاءة والفاعلية؛ لمواجهة العدوان، أو حماية المصالح الأمريكية، في مختلف أنحاء العالم، بالقوة، إذا لزم الأمر.
ج. الاستفادة في حرب الخليج من خبرات وجهود الخمسة وعشرين عاماً الماضية، تعني أن القرارات، التي تتخذ اليوم، ستحدد القدرات والإمكانيات، التي سوف تمتلكها القوات خلال العشرين عاماً المقبلة، ومن الآن، يجب الحرص على نجاح القوات الأمريكية المستقبلية في مهامّها؛ وتميّزها، عام 2015، بالتفوق الحالي نفسه على سائر الجيوش. ولإيجاد هذه القوات "الفائقة التفوق" Super Power، مستقبلاً، يجب التخطيط والاستعداد لذلك، من الآن.
…ولم تتوانَ القيادة الأمريكية في التخطيط الإستراتيجي، طبقاً للدورات العلمية العسكرية [3]. واستفادت من خبرات حرب الخليج، في تطوير إستراتيجياتها، وطبقتها في حرب البلقان. وها هي الولايات المتحدة الأمريكية، تصر على تنظيم "الدرع الصاروخي"، الذي يضمن لها التفوق المطلق، إستراتيجياً؛ واستكملت كذلك، خطة لتطوير منظومات أسلحتها الحالية، من الآن وحتى عام 2015.
2. والمثال الثاني من إسرائيل: أشار تقرير، أعده معهد استوكهولم الدولي للسلام، "سيبرى" Sipri، إلى الخطة "ميركام" Merkam لتسليح إسرائيل، حتى عام 2010، والتي وضعت في ضوء "أهداف السياسة العامة؛ وتقدير التهديدات المحتملة، والأوضاع الاقتصادية، وتوازن القوى في المنطقة؛ ومستوى الإمداد بالسلاح والتكنولوجيا للدول المعادية؛ والتطورات السياسية في المنطقة ... ". وقد اشتركت ثلاث جهات في وضع هذه الخطة، هي: وزارة الدفاع وقيادة الجيش (رئاسة الأركان) ومؤسسة الصناعات الحربية في إسرائيل، بجناحَيها: العام والخاص. وقد استندت تلك الخطة إلى عدة أُسُس:
أ. امتلاك أسلحة الردع التقليدية: "طائرات F-15 - I"؛ صواريخ أريحا طويلة المدى؛ غواصات بعيدة المدى، قادرة على إطلاق صواريخ أريحا، مثل الغواصات دولفين الألمانية. وبذلك يمكن إسرائيل التأثير في المساحة الكاملة للوطن العربي، ودول المحيط المناوئة مثل: إيران وباكستان [4].
ب. تطوير منظومات التسليح، ليمكنها تطبيق الإستراتيجيات الحديثة، التي تعتمد على خواص: آلية القيادة والكثافة النيرانية ودقة الإصابة والقتال عن بعد ... وهي الإستراتيجيات نفسها، التي طبقتها الولايات المتحدة الأمريكية في حرب البلقان، عام 1999.
ج. امتلاك القدرة على الاكتفاء الذاتي، والتصنيع المحلي لمعظم أنظمة التسليح، من خلال التعاون التكنولوجي مع الولايات المتحدة الأمريكية خاصة، والغرب عامة.
د. امتلاك إسرائيل التفوق التكنولوجي على سائر دول المنطقة، وتوسيع الفجوة التقنية، لتحول دون تمكُّنها من اللحاق بها لموازنتها.
…وقد تميزت الخطة بالمرونة، فجُعلت سيناريوهاتها قابلة للتعديل، الذي طاولها في خلال العامَين الأولَين؛ للاستفادة من الخبرات المكتسبة من حرب البلقان. واستهدف تعديلها زيادة القدرة العسكرية لإسرائيل، والحفاظ على تفوقها المطلق، الرامي إلى تجاوز المدى الزمني، الذي سوف يمتلك الخصم خلاله السلاح الجديد.
ولئن اتُّخذت الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، مثالَين إيجابيَّين للتخطيط المستقبلي؛ فإنه يمكن اتّخاذهما مثالَين له سلبيَّين، كذلك.
1. المثال الأول من الولايات المتحدة: وهو استرجاع لفقرة من كتاب "سنوات البيت الأبيض"، الذي ألّفه الدكتور هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأمريكية الأسبق؛ حيث يطرح أن خيارات القرار السياسي، طبقاً للسيناريوهات، التي يُتخذ القرار في ضوئها ـ قد يتعمد المخططون، أن تكون خيارات "صوَرية"، تدفع المقرِّر إلى اختيار البديل الذي فرضوه. ويذكر: "لقد أعدت بناء المؤسسات الحكومية، لاختيار تبني وتطور السياسات المرغوب فيها، وليس لاختيار تطور وتبني إمكانيات محتملة. وعندما تضطر المؤسسة الحكومية إلى طرح خيارات أخرى، مع إصرارها على تنفيذ البديل الذي تفضله؛ فإنها تختار بعامة بديلَين هامشيَّين، وعديمَي الجدوى، لاختيار يبدو البديل، الذي تفضله، منذ البداية، أقوى وأمتن مما هو عليه في الحقيقة. وحتى لا تترك مجالاً لمتخذي القرار سوى اختيار هذا البديل، تجعلهم يفتقرون إلى الحد الأدنى من المعلومات في القضية التي يتناولونها، حتى يؤدوا واجبهم عن طريق الاختيار الأعمى للبديل، الذي يبدو في صورته الظاهرية أفضل البدائل الثلاثة المطروحة".
2. المثال الثاني من إسرائيل: ويسوقه يهودا بن مائير، في شأن صناعة قرارات الأمن الوطني. يقول: "عند اتخاذ قرار القيام بعمل عسكري، مضاد للأعمال الفدائية المعادية، في أعقاب شن المنظمات الفلسطينية، أو أي جهة أخرى، عملاً عدائياً ضد إسرائيل؛ ولبلورة الرد الملائم؛ تعقد اللجنة الأمنية في الحكومة اجتماعاً، لمناقشة الحدث. وتوطئة لانعقاد هذا الاجتماع، يحدد رئيس الأركان ماهية وطبيعة العملية، التي يجب تنفيذها، رداً على الحدث. وبعد أن يأخذ موافقة وزير الدفاع ورئيس الحكومة عليها، يقدم أوراقه، في اجتماع اللجنة، لمناقشتها وإقرارها. وفي الحقيقة، إن هيئة الأركان الإسرائيلية، في كلِّ مرة، تضع إلى جانب البديل الرئيسي (القرار المتخذ) بديلَين صُوريَّين. ينص البديل الأول على عدم الرد (أي بديل سلبي عسكري). وينص الثاني على شن عملية عسكرية واسعة النطاق، على أهداف غير مقبولة؛ وقد تسفر عن حرب واسعة النطاق؛ الأمر الذي لا يترك أمام اللجنة الحكومية سوى اختيار البديل الرئيسي المدروس، والذي يبدو مقبولاً، في ظل البديلَين الآخرَين".
يظهر هذان المثالان، أن هناك ضرورة حيوية، لاستخدام رقابة فوقية على التخطيط المستقبلي، تكون مهمتها التنسيق والرقابة، في آن واحد، وضمان العمل بشفافية كاملة، من دون اللجوء إلى تسوية، تغلب عليها المصالح الخاصة، أو الرؤية المحددة (تسوية نوعية).
[1] كامب ديفيد الأولى، تحددت في المباحثات بين مصر وإسرائيل، ووقعت في 28 سبتمبر 1978، أما كامب ديفيد الثانية فكانت بين إسرائيل والفلسطينيين خلال شهر يوليو 1999. وكلاهما كان برعاية أمريكية.
[2] التحديات والقيود، هي درجة أقل من التهديدات مادياً ومعنوياً، وهى تنبع أساساً من التعامل مع الأصدقاء طبقاً للعلاقات المؤسسة، كذلك تنبع من إمكانيات الدولة/ المؤسسة في إدارة الأزمة، طبقاً للقدرات المادية والمعنوية المتاحة.
[3] هي الفترة الزمنية، التي يمكن خلالها للقوات المسلحة، لدولة ما، استيعاب مفهوم إستراتيجي/ عقيدة قتالية جديدة، يتحقق خلالها الارتقاء بالقدرة العسكرية والقتالية، وتحديث الأسلحة، وتطبيق/ تطوير نظم تسليح جديدة، وعادة ما تحاول الدول الاستفادة من خبرات القتال المكتسبة، من عمليات حربية، أو صراعات مسلحة، لإجراء هذا التطوير. وتستغرق الدورة العلمية العسكرية في الولايات المتحدة ست سنوات، وفى إسرائيل حوالي عشر سنوات. لذلك، نجد أن المنظومات القتالية الأمريكية، التي استخدمت في عاصفة الصحراء. قد تطورت كثيراً في `ثعلب الصحراء` ضد العراق عام 1998، وفى حرب البلقان عام 1999.
[4] علماً بأن الغواصات الألمانية مزودة بوسيلة إطلاق صواريخ عيار 523 مم، وهى تمثل قطر الصاروخ أريحا، وذلك تعديلاً لمواصفاتها الأولية، حيث كان قطر المواسير أقل من ذلك لإطلاق صواريخ الهاربون.
المبحث الثالث
بناء السيناريو المستقبلي
…السيناريو المستقبلي، هو أحد إفرازات العلوم الحديثة، التي تُبنى، أساساً، على دراسة الجدوى؛ بمعنى تأكيد الخطة وتدقيقها، وإمكان استمراريتها، والوفاء بالتزاماتها المادية، وتوفير الكوادر الفنية، وتذليل العقبات الخارجية، وعدم وجود عوائق، قد توقفها في مرحلة ما، وأخيراً عوائدها، وإمكانية الاستمرار أو عدمه، من خلال الخطط التالية، في مواكبة التطور العالمي، في هذا لمجال.
…وأي سيناريو، لا يأتي من فراغ؛ ولكن يعتمد، أساساً، على منظومة معلومات هائلة، مبرمجة، ومخزنة؛ وتجدد باستمرار، طبقاً للمتغيرات، في جميع النواحي.
طرائق بناء السيناريوهات المستقبلية
…هناك ثلاث طرائق متعارف عليها، لبناء السيناريوهات، هي:
1. الطريقة الحدسية (اللانظامية)
قوامها "الحدس" Intuition و"التفكير الكيفي" Qualitative، والتخيُّل. إنها بداية التفكير في بناء السيناريوهات، باستخدام مجموعة الشروط الابتدائية، في كتابة مواصفات المسار المستقبلي، وصولاً إلى تصور الوضع المستقبلي النهائي. وهي تُعَد عملية إبداعية، شأنها شأن الأعمال الأدبية والفنية. والطريقة الحدسية، غير شائعة الاستخدام، حالياً؛ ويفضل عليها الطريقتان الأخريان، اللتان تعتمدان على الحسابات الرياضية، والنماذج، إلى جانب التصور الحدسي.
2. الطريقة النظامية (النموذجية)
تعتمد على الطرائق الحسابية الكمية بعامة، وعلى النماذج بخاصة؛ فيمكنها التعامل مع عدد كبير من المتغيرات، وتنسيق سلوكها، وحساب نتائج الخيارات المختلفة، وتقدير ما يصاحبها من نفقات ومنافع. والسيناريو، بهذه الطريقة، يمكن تعريفه بأنه: "المنتج النهائي لدراسة مستقبلية"، أو "السيناريو الخططي". ويعيب هذه الطريقة، أنها تُعَدّ آلية بحتة، فلا بدّ لها من مجموعة الشروط الابتدائية للسيناريو، وعوامل الحدس والتخيل، إلى جانب المعلومات والوقائع النظرية؛ حتى يستكمل بناء السيناريو، " كمّاً وكيفاً".
3. الطريقة التفاعلية (التفاعل بين الحدسية والنموذجية)
وهي الطريقة العملية، التي أمكن من خلالها الجمع بين مميزات الطريقتَين السابقتَين؛ إذ تجمع ما بين الحدس والخيال والكيف، في الطريقة الحدسية؛ والأساليب الكمية، في الطريقة النموذجية؛ باستخدام أسلوب " المحاكاة" Simulation، للحصول على سيناريوهات جيدة. والطريقة التفاعلية، هي الأكثر استخداماً في بناء السيناريوهات، في الوقت الحالي. وتتميز بالآتي:
أ. الجمع ما بين أساليب مختلفة، في القياس والتنبؤ والبحث المستقبلي؛ وهو أسلوب منهجي في الدراسات المستقبلية.
ب. خاصِّيَّة التفاعل، ليس بين أساليب الحدسية والنموذجية فقط؛ وإنما بين المجموعات المشتغلة ببناء السيناريوهات، كذلك، وبينها وبين الأطراف الأخرى، التي تشارك في تقديم الخبرة والاستشارات وردود الفعل.
ج. زيادة احتمالات الإنجاز السريع لأهداف المشروع؛ وتفادي التورط في دراسات ونقاشات، قد تستمر فترات طويلة.
الفريق المخصص ببناء السيناريوهات
…يحتاج بناء السيناريوهات إلى كوادر فنية متخصصة، في جميع المجالات؛ إذ إن السيناريو لا بدّ أن يكون متكامل الأركان. ويضم فريق بنائه لجنة رئيسية، تنقسم إلى ثلاث جماعات عمل رئيسية، مهمتها التنسيق ووضع النماذج، والتخيل، والوصول بالسيناريو إلى تصوره النهائي؛ ويتفرع منها العديد من اللجان، منها: اللجنة العلمية، ولجنة التخطيط، واللجنة المالية، واللجنة الإدارية، ولجان تخصصية طبقاً لنوع السيناريوهات، ثم لجنة إدارة الحاسبات، ولجنة الاتصالات ولجنة القياسات ... وربما تضم كل لجنة منها العشرات من الخبرات، لإعداد سيناريو دقيق.
…وطبقاً للطريقة التفاعلية في إعداد السيناريوهات، فإن الفريق ينقسم إلى:
1. الجماعة الأولى: هي الفريق المركزي، المكوَّن من مجموعة الخبراء المتخصصين بوضع السيناريوهات، وإعداد صياغتها الأولى.
2. الجماعة الثانية: هي الجماعة الفنية، المكونة من الخبراء والمستشارين، الذين يتولون فحص السيناريوهات، بعد إعدادها الأولى، وإجراء القياسات عليها، وإعداد النماذج الخاصة بها؛ ومناقشتها مع الجماعة الأولى، وكشف نقاط قوّتها وضعفها، وإعدادها في صورتها النهائية.
3. الجماعة الثالثة: هي الجماعة الاستشارية، التي تتكون من مفكرين وخبراء وممثلي القوى السياسية والشعبية؛ ومهمتهم الرئيسية، هي مناقشة السيناريوهات وإقرارها.
خطوات إعداد السيناريو، بوساطة الفريق المخصص
1. الخطوة الأولى: وصف الوضع الراهن، والاتجاهات العامة للسيناريو
تتمثل في مبادرة الفريق المركزي، إلى وضع الصياغة الأولى لملامح السيناريو، باستخدام الطريقة الحدسية؛ ودراسة الوضع الراهن، بقصد:
أ. استعراض العوامل الأساسية في الوضع الراهن، وبيان نقاط القوة والضعف في كلّ عامل؛ وكذلك تحديد الاتجاهات العامة البازغة، أو إرهاصات التغيير، التي قد يكون أثرها محدوداً، أو حتى غير محسوس، في الوقت الراهن؛ ولكنها تنبئ بتحولات مهمة، في المستقبل.
ب. استخلاص القضايا الرئيسية، التي يتعين بحثها وإيجاد حلول لها في السيناريو. ويمكن الاستعانة، ريثما يوصف الوضع الراهن بدقة، بجدول مختصر، يحصر فيه جميع المجالات/ العوامل الداخلية في السيناريو بدقة، وتُصنَّف طبقاً لتوجهه؛ ثم يقيَّم كلُّ عامل من تلك العوامل؛ ثم يكوَّن انطباع سريع عن طبيعة الوضع الراهن، والاتجاهات العامة للسيناريو. (انظر ملحق جدول الوضع الابتدائي "الراهن").
2. الخطوة الثانية: فهْم ديناميكية النسق والقوى المحركة له
يتخذ هذه الخطوة، كذلك، الفريق المركزي. ويؤكدها، فيما بعد، الفريق الفني. والهدف منها اكتشاف المجالات الأكثر تأثيراً في غيرها؛ والقوى المحركة في مسار السيناريو؛ بما يساعد على تخطيطه وتوجيهه؛ وتحديد نقاط التأثير "والتحول"، التي يجب وضع حلول لها، من الآن، أو إيجاد مسارات أخرى للسيناريو، عند حدوثها، فجأة، في مرحلة إدارته. ويمكن الاستعانة بجدول رئيسي، وعدة جداول فرعية، على تحديد ديناميكية النسق والقوى المحركة له، من أجل تأكيد الثقة في خطة التطوير، وتحديد مسؤوليات المستوى الإستراتيجي، في إدارة عملية التطوير بأركانها المختلفة، وتتم تلك الخطوة من خلال ثلاثة مصفوفات للآثار المقطعية، توضح الإمكانيات الحالية، بمعنى الشق الإستراتيجي العسكري، والثانية القيود على التطوير، وتمثل الشق السياسي/ الاقتصادي، والثالثة ديناميكية تطور التسليح، وتمثل الشق العسكري. (انظر ملحق مصفوفة ديناميكية النسق والقوى المحركة).
ومن خلال تلك المصفوفة، يمكن تحليل نتائجها، بوساطة جداول أخرى، لتوضيح:
أ. المجالات التي تؤثر تأثيراً قوياً في غيرها، ولكن تأثير العوامل الأخرى فيها ضعيف، أو معدوم. وهذه هي العوامل الناشطة، أو القوى المحركة للنسق في مجموعته.
ب. المجالات التي تؤثر تأثيراً قوياً في غيرها، ولكنها تتأثر، كذلك، تأثراً كبيراً بواقع ضغوط غيرها عليها.
ج. المجالات ذات الأثر الضعيف في غيرها، وتأثير غيرها فيها ضعيف.
د. المجالات ذات التأثير المنخفض في باقي المجالات، ولكن للمجالات الأخرى تأثيراً كبيراً فيها.
…والميزة الرئيسية لهذا التحليل، هو أنه يؤدى، في النهاية، إلى ترتيب متغيرات مسار السيناريو، وفقاً للآثار المباشرة وغير المباشرة؛ وأنه ينجز هذه المهمة، وفق منهجية واضحة المعالم. (انظر ملحق جدول الآثار الإجمالية للمجالات المؤثرة).
* جدول إستراتيجية الفاعلين
يضطلع الفاعلون الرئيسيون، بدور محسوس، من السيطرة أو التحكم، بشكل مباشر أو غير مباشر، في المتغيرات الرئيسية لنسق السيناريو. وعادة ما يحدِّدهم الحدس، اعتماداً على ما هو متوافر من المعلومات، وخصوصاً المتغيرات الحاكمة. كما يسهم في تحديدهم التحاور بين فريق السيناريو، والاستعانة بالخبراء، إذا استلزم الأمر.
وتحديد إستراتيجية الفاعلين، وتحليل أهدافهم وسلوكياتهم، يمليهما تأثيرهم المباشر في المسار المستقبلي للسيناريو، وتحقيق هدفه النهائي. ويمكن تحديد تلك الإستراتيجية من خلال الخطوات الآتية:
التصرف المؤثر في الفاعل جـ…
التصرف المؤثر في الفاعل ب…
التصرف المؤثر في الفاعل أ…
التصرفات
تصرف الفاعل أ، للتأثير في الطرف جـ…
تصرف الفاعل أ، للتأثير في الطرف ب…
الهدف:
المشاكل:
الوسائل:…
تصرف الفاعل
أ
تصرف الفاعل ب، للتأثير في الطرف جـ…
الهدف:
المشاكل:
الوسائل:…
تصرف الفاعل ب، للتأثير في الطرف أ…
تصرف الفاعل
ب
الهدف:
المشاكل:
الوسائل:…
تصرف الفاعل جـ، للتأثير في الطرف ب…
تصرف الفاعل جـ، للتأثير في الطرف أ…
تصرف الفاعل
جـ
أ. تكوين جدول إستراتيجيات الفاعلين، أي رصد خطط كلّ فاعل ودوافعه والقيود على حركته، من خلال تحديد هدفه، والمشاكل التي يواجهها في المسار، والوسائل التي يتبعها لتخطِّيها.، ثم يتحدد في الجدول نفسه التصرفات المؤثرة في الأطراف الأخرى.
ب. حصر القضايا والأهداف، التي تمثّل معارك يتقابل فيها الفاعلون.
ج. تحديد موقف كلّ فاعل من الأهداف المحدَّدة، وموافقتها ومباينتها من أهدافه. ويمكن ذلك من خلال جدول، يحوي محوره الرأسي الفاعلين، ومحوره الأفقي الأهداف المختلفة. ويكون التقييم من خلال تحديد التأثير، الموجب أو السالب، أو عدم تأثير الفاعل في الهدف.
د. موافقة أهداف الفاعلين أو مباينتها، تشير إلى احتمالات التحالف أو التصادم، أثناء مسار السيناريو.
هـ. تحليل إستراتيجيات الفاعلين، بتقييم علاقات القوة، وصياغة توصيات إستراتيجية لكل منهم بما يتسق مع أولوياته، وأهدافه، والموارد المتاحة له.
و. طرح أسئلة رئيسية في شأن المستقبل، من أجل تكوين افتراضات حول الاتجاهات العامة والأحداث، التي قد يشهدها تطور ميزان القوى بين الفاعلين، في المستقبل.
3. الخطوة الثالثة: تحديد الخيارات والسيناريوهات البديلة
وهى مسؤولية تشترك فيها الجماعتان: المركزية والفنية. والغرض منها حصر الخيارات الممكنة، بالنسبة إلى العوامل المختلفة، في كل مجال من مجالات التأثير، التي كانت قد دُرست في الخطوة السابقة. وتتيح معرفة العوامل الرئيسية وضع لبِنات السيناريوهات البديلة. (انظر ملحق جدول حصر القضايا الهامة لبناء السيناريو).
4. الخطوة الرابعة: فرز السيناريوهات البديلة، واختيار عدد محدود منها
هذه المهمة تضطلع بها جماعات السيناريو الثلاث: المركزية والفنية والاستشارية. وغايتها تقليص عدد السيناريوهات، وانتقاء عدد محدود منها، يستوفي الآتي:
أ. أن يكون من السيناريوهات الممكنة.
ب. أن تكون السيناريوهات متمايزة تمايزاً واضحاً.
ج. أن يتحقق في كلّ سيناريو درجة عالية من الاتساق الداخلي.
وهناك طريقتان لهذا التقليص:
(1) الأولى: تعتمد على المناقشة، واستعمال الخيال والحدس، في سيناريوهات محدودة نسبياً؛ وذلك بعد استبعاد تلك غير المتسقة، والإبقاء على المتمايزة والمتسقة منها؛ ثم تصفيتها، مرة أخرى، لاختيار ما بين اثنين وأربعة منها.
(2) الثانية: تعتمد على إجراء " تحليل متسق " Consistency analysis، في حالة وجود عدد كبير من السيناريوهات؛ وذلك من خلال تكوين جدول، يوضح فيه العوامل الشارحة للمجالات، التي قد يأخذها أي عامل، في المستقبل؛ وإيجاد العلاقة بينها. ويُعالج الحاسب الآلي، باستخدام برامج مخصوصة، تحسب كلّ الخيارات الممكنة نظرياً؛ ثم تختار من بينها السيناريوهات، التي تتصف بأعلى درجة ممكنة من الاتساق.
5. الخطوة الخامسة: كتابة السيناريوهات المختارة
تنشط إليها لجنة البناء الكامل للسيناريو. ويقتضي ذلك:
أ. استيفاء مدخلات السيناريوهات المختارة من المعلومات، سواء بإضافة عوامل أو تفاصيل معينة، أو بدمج تطورات مستقبلية أخرى في تلك السيناريوهات.
ب. تعرُّف ردود الفعل المحتملة، لكل الأطراف المعنية بالتطورات، التي يشتمل عليها كلّ سيناريو.
ج. سرد كلّ سيناريو سرداً، يشتمل على الشروط الابتدائية، التي بُني عليها؛ والمسار المستقبلي، بمحدداته المختلفة؛ والوضع المستقبلي النهائي، في نهاية فترة الدراسة المستقبلية.
6. الخطوة السادسة: تحليل نتائج السيناريوهات
وهى عملية تحليلية، لاستخلاص القضايا الموضوعية أو المنهجية، التي تخضع للتحليل أو التطوير، في الخطوات التالية من عملية إعداد السيناريوهات؛ كل سيناريو ونفقاته، التي تجعله مفضلاً على سواه. وهو السيناريو الذي سوف يشكل ملامح الإستراتيجية، أو الخطة الطويلة المدى، الواجب الالتزام بها، عند وضع السيناريو المفضل موضع التطبيق.
ويلاحظ أن تلك الخطوات المتتالية، يُؤخذ بها، عند توافر الوقت والموارد، وتفرغ اللجان لهذا العمل. أمّا في حالة الافتقار إلى الوقت والإمكانيات، فيمكن اختصار الخطوات، واستخدام نتائج الخطوة الثانية أو الثالثة، في بناء سيناريوهات بديلة؛ سواء مع الاحتفاظ بالسيناريوهات الأصيلة أو استبعاد بعضها " الخارج عن حيز الإمكان، وفقاً لمعيار خاص أو محدد".
المصطلحات الفنية
Systems Thinking…
1. علم التفكير من خلال النظم
استحدث هذا العلم فريق من العلماء، بقيادة جاي فورستر " Jay Forrester " وقد بُني على أساس أن الرؤية البعيدة لأي نظام متكامل، تختلف عن تلك التفصيلية للمكونات الرئيسية، التي يقوم عليها النظام.
Dynamics System…
2. ديناميكية النظام
هي الدراسة التي تهتم بدراسة المتغيرات وأسبابها.
Fifth Discipline of Learning Organizations…
3. النظام الخامس للمؤسسات التعليمية
هو النظام التعليمي، الذي ظهر، في أوائل الستينيات، في الدراسات السياسية والإنسانية؛ لمواجهة القصور، الذي تعانيه، مقارنة بالتقدم في المجالات التعليمية الأخرى.
Futurology…
4. علم دراسة المستقبل/ علم المستقبليات
هو ذلك العلم المختص بدراسة أحداث المستقبل، ورسم صورة لما يمكن أن يحدث مستقبلاً.
Intuitive…
5. بديهي ـ وجداني ـ حدسي
القدرة على فهْم أو استنباط أو معرفة شيء، من دون التفكير.
Exploratory…
6. استكشاف ـ تنقيب ـ تجسس
عملية البحث أو التنقيب لكشف الأشياء المختبئة أو المدفونة وغير الظاهرة.
Normative…
7. معياري
الشيء الذي يرجع إليه لضبط المقاييس ـ الكميات.
Feedback Models…
8. المعطيات العكسية
المعلومات التي يُعاد استخدامها، لضبط أداء نظام/ جهاز، أو للمقارنة بالمعلومات الجديدة.
Screen Play…
9. العرض على الشاشة
عرض الأفلام على شاشة التليفزيون/ شاشة عرض.
Anticipatory…
10. المرجوة/ المستهدفة
ما يوضع كهدف مطلوب تحقيقه، أو الوصول إليه مستقبلاً.
Design Planning…
11. التخطيط المدروس
هو التخطيط الذي يُبنى على أُسُس مدروسة.
Back Casting…
12. التصور العكسي
سيناريو راجع أو مرجعي مبني على الأوضاع الحاضرة، لتحقيق الأهداف المرجوة مستقبلاً.
Initial Conditions…
13. الشروط الابتدائية
وهي الشروط المحددة مسبقاً، قبل بدء النشاط أو التشغيل؛ ويبنى عليها التغيرات.
Return Steady State Scenario…
14. سيناريو الحالة المستقرة/ السلفي
وهو السيناريو المبني على العودة إلى فترة زمنية سابقة، يفترض أنها تمثل الحالة المستقرة.
Transformation…
15. تحولات
عملية الانتقال من حالة مستقرة، إلى أخرى مستقرة.
Fundamental Change…
16. التغيرات الجوهرية
ويقصد بها ما ينطوي على نقلة نوعية في حياة المجتمع، سواء تكنولوجية/ اقتصادية/ اجتماعية.
Possible…
17. ممكن
وهو ما يمكن قبوله منطقياً، أو ممكن حدوثه.
Possibility…
18. إمكانية
وهي القدرة على تحقيق أمر مطروح.
Simulation…
19. محاكاة/ تقليد
أسلوب تمثيل النظُم تنظيماً مطابقاً للواقع، أو أقرب ما يكون إليه. ويستخدم في تدريب من سيوكل إليهم تشغيل هذه النظم وإدارتها.
الملاحق
جدول الوضع الابتدائي "الراهن"
مصفوفة ديناميكية النسق والقوى المحركة
·…جدول الآثار الإجمالية للمجالات المؤثرة
جدول حصر القضايا الهامة لبناء السيناريو
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق